محمد بن أحمد سيد أحمد
خلق الله ـ تعالى ـ الخلق ليعرفوه ويعبدوه، ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على كبريائه ليهابوه، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه، ليسارعوا إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.
والمتأمل في أحوال الناس اليوم يجد أن بعضهم عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها، ومنهياته فاستباحوها، ومأموراته فاجتنبوها ونبذوها، وقطعوا الأسباب بينهم وبين خالقهم ورازقهم، وعادوا بمُر الشكوى من تغير الأحوال والأزمان، وانتزاع البركة من الأرزاق والآجال، وهم مع ذلك معتمدون على رحمة الله وعفوه وكرمه، ونسوا أن الله ـ تعالى ـ يغار على أوامره أن تجتنب، ومحارمه أن ترتكب، وأنه ـ تعالى ـ شديد العقاب لا يردُّ بأسه عن القوم المجرمين، توعد عباده الذين يخالفون أمره، ويعرضون عن مراقبته، وينصرفون عن عبادته وذكره، ويجترئون على معاصيه، بشديد غضبه وعظيم سخطه، وحذرهم بأسه وانتقامه.
إن التعدي على حدود الله وانتهاك حرماته من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وهي تورث الذل والهوان على الله أولاً، ثم على الخلق ثانياً. قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14] ، وقال ـ سبحانه ـ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، قال ابن الأثير: الانتهاك: المبالغة في خرق محارم الشرع وإتيانها. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ محذراً من انتهاك حرمات الله: لم يقدِّر الله حق قدْره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذِكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم من طاعته، فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، هواه مقدم في ذلك كله، المهم أنه يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه، وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، يستحي من الناس ولا يستحي من الله، ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد، وبذل له من ماله ما يستحي أن يواجه به مخلوقاً مثله. فهل قدَّر الله حق قدْره مَنْ هذا وصفه، وهل قدَّره حق قدْره مَنْ شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذلّ والخضوع والخوف والرجاء؟» (1) .
g ومن صور انتهاك حرمات الدين:
1 - القتل بغير حق، وترويع الآمنين:
إن القتل من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب وأشد الآثام، بل هو أغلظها جميعاًَ بعد الإشراك بالله؛ ولذا نهى الله ـ عز وجل ـ عن القتل بغير حق وترويع الآمنين. قال ـ سبحانه ـ: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] .
وقال ـ سبحانه ـ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
إن جريمة القتل تعكير لأمن الحياة واستقرارها، وهدم لعمارة الكون.
ولقد جاء في السُنَّة المباركة كثير من الأحاديث التي تنهى عن القتل وتحرمه وتجرمه، وتنهى عن ترويع الآمنين وإخافتهم وإدخال الذعر والهلع إلى قلوبهم؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سُنَّةً جاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» (2) ، وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أول ما يُقضى بين الناس في الدماء» (3) .
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً» (4) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبه فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني، ولست منه» (5) ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (6) .
2 - الإلحاد في الحرم والظلم فيه:
قال ابن عباس: الإلحاد أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك، من قتل مَنْ لم يقتل، وظلم مَنْ لم يظلم. وقال النيسابوري في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، قال: ومن يرد فيه مراداً ما، جائراً عادلاً عن القصد ظالماً فتدل هذه الآية على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه بمكة وإن لم يعمله، وهذه من خصائص الأرض الحرام.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: لو همّ رجل بقتل رجل وهو في هذا البيت ـ يعني البيت الحرام ـ وهو بعدن أَبْيَن ـ مكان بأقصى اليمن ـ لعذبه الله.
قال النيسابوري: وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله ـ سبحانه ـ على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة» (7) .
ومن الأحاديث التي تنهى عن الإلحاد في الحرم وغيره من الأراضي المقدسة قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ستة لعنهم الله وكل نبي كان: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليعز بذلك من أذل الله، ويذل من أعز الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي» (8) .
وعن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لأَعلَمَنَّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله ـ عز وجل ـ هباءً منثوراً» قال ثوبان: يا رسول الله! صفهم لنا؛ جَلِّهم لنا أن لا نكون منهم، ونحن لا نعلم، قال: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» (9) .
وعن أبي شريح العدوي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير! أحدثك قولاً قام به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للغد من يوم فتح مكة، فسمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرتْه عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن مكة حرَّمها الله ولم يحرِّمها الناس؛ فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة؛ فإن قال أحد ترخص لقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقولوا له: إن الله أذن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» (1) .
وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: «ألا أي شهر تعلمون أعظم حرمة؟ قالوا: ألا شهرنا هذا. قال: ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا بلدنا هذا. قال: ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا يومنا هذا. قال: فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد حرَّم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. ألا هل بلغت «ثلاثاً» ؟ كل ذلك يجيبونه: ألا نعم. قال: ويحكم أو ـ ويلكم ـ لا ترجعُنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» (2) .
وعن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يُقبل منه صرف ولا عدل» (3) .
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح» (4) .
3 - ترويع الآمنين وتخويف المسالمين:
إن الأمن نعمة عظيمة امتن الله بها على عباده قال ـ تعالى ـ: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] .
إن الأمن لا يتحقق ولن يتحقق إلا بتحقيق الإيمان والعمل الصالح قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
وقال الشاعر المسلم (محمد إقبال) :
إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
لقد رهَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحذَّر وأنذر من ترويع الآمنين؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار» (5) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه» (6) .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُتعاطى السيف مسلولاً» (7) .
فعلى كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة أن يعظم حرمات الله، وتعظيم الحرمات هو العلم بوجوبها والقيام بحقوقها، وقيل تعظيم الحرمات يعني اجتناب المرء ما أمر الله باجتنابه في حال حله وإحرامه تعظيماً منه لحدود الله أن يواقعها، وحُرماته أن يستحلها، قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 32] ، وقال ـ سبحانه ـ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] قال عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يوماً بعد أن نظر إلى الكعبة: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمنون عند الله أعظم حرمة منك!
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: بقدر إجلال العبد لله يجله الله عز وجل، وبقدر تعظيمه قدره واحترامه يعظم قدر العبد وحرمتُه، وكم من رجل أنفق عمره في العلم حتى كبرت سنه، ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق، ولم يلتفتوا إليه مع غزارة علمه! وأما من راقب الله ـ عز وجل ـ في صبوته؛ فقد يكون قاصر الباع بالنسبة للصنف الأول، ومع ذلك عظَّم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير» (8) .
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنب هذه البلاد خاصة وبلاد المسلمين عامة كل سوء ومكروه، وأن يحفظ على جميع بلاد المسلمين أمنها واستقرارها، وأن يحفظها من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن يصلح شباب المسلمين، وأن يرد العاصين منهم ردّاً جميلاً، وأن يهديهم سُبُل الرشاد، إنه أعظم مسؤول وأكرم مأمول، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.