التحرير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فإن فريضة الحج التي فرضها الله على عباده من أعظم شعائر الإسلام، ومشهد رفيع عالي القدر من مشاهد الأمة المكرمة المفضلة التي فضلها الله على سائر الأمم، ومشهد عظيم من مشاهد الأمة الواحدة الموحدة التي جمع بين أجناسها الدين، رغم اختلاف الألسن والألوان؛ حيث يجتمع مئات الألوف من المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها في صعيد واحد، عليهم ملابس الإحرام، ملابس الطهر والنقاء، ولهم جؤار عظيم، وهم يرددون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فهذا مشهد عظيم مهيب يأخذ بالنفس، ويذهب بها في آفاق السمو والعلو، فتتذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة من حوله قد قَدِموا إلى البيت العتيق بيت الله الحرام بعد أن أعزهم الله ـ تعالى ـ ومكن لهم في الأرض. ولكن المسلم يفيق من مظاهر هذا المشهد العظيم على المشاهد التي تعصر فؤاده ألماً وحسرة؛ حيث يجد أمته في مؤخرة الأمم قد تقدمت عليها في مجال المعرفة والتقنية والاقتصاد أمم لا تعبد الله ولا توحده، كما يلتفت فيجد الكثير من أراضي المسلمين وقد نزل بساحتها الكفار؛ فهذه فلسطين بلد المسجد الأقصى، وهذه أفغانستان، وهذه العراق بلد الخلافة العباسية، وها هي كشمير والفلبين، وغيرها كلها صارت في أيدي المحتلين الغاصبين من اليهود والنصارى والوثنيين، يأكلون خيراتها، ويقتلون رجالها وشبابها، ويذلون نساءها وأطفالها، ويحكمون فيها بحكم الطاغوت، ويتساءل المسلم باحثاً عن جواب لهذا الوضع الأليم: أليس كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يقولون: لبيك اللهم لبيك، ونحن نقولها كما يقولون؟ لكن الإيمان ليس قولاً فقط، بل هو قول وعمل؛ فتلبية الأمة في وقتنا الحاضر وإن شابهت في اللفظ تلبية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لكنها باينتها في الحقيقة والمعنى؛ إذ تلبية الأمة المعاصرة ما هي إلا مجموعة من الحروف المتراصة جنباً إلى جنب التي تصدر في النهاية صوتاً كصوت التلبية، لكنها تلبية جامدة لا حياة فيها، ولا أثر لها في الواقع، تلبية صوت لا تلبية عمل، تلبية شكل ومظهر لا تلبية حقيقة ومخبر؛ فماذا تعني التلبية في حقيقتها ومخبرها؟ إنها تعني التوحيد الذي حرك القلوب فأخرج أصحابها من الظلمات إلى النور، وحوّلهم من مجموعات متناثرة من القبائل المتفرقة إلى أمة عظيمة، هي كما قال عنها ربها وخالقها وخالق الناس أجمعين: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تفسيرها: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله عز وجل» (?) . قال جابر ـ رضي الله عنه ـ في صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» (?) ؛ فالتلبية هي إعلان بالتوحيد وإظهار له «فإن لبيك مأخوذة من ألَبّ بالمكان إلباباً: أي أقام به ولزمه، ولَبَّ لغة فيه، قال الفراء: ومنه قولهم: «لَبَّيْك» : أي أنا مقيم على طاعتك، وثنَّى: (لبيك اللهم لبيك) على معنى التأكيد: أي إلباباً بك بعد إلباب، وإقامة بعد إقامة» . ويقول ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (التلبية هي: إجابة دعوة الله ـ تعالى ـ لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلُبته، والمعنى: إنّا مجيبوك لدعوتك، مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة لا نزال على ذلك) (?) ؛ فـ (لبيك) تعني أننا طائعون لك يا ربنا، وأننا مقيمون على هذه الطاعة التي هي طاعة خالصة لك إقامة متواصلة ليس لأحد فيها شيء؛ فنحن نعبدك وحدك ولا نعبد أحداً سواك، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو عبداً صالحاً، أو غير ذلك، ولا نطيع في معصيتك أحداً، سواء كان والداً أو رئيساً أو أميراً، ونحن نتبع شرعك الذي جاء في كتابك، أو بلَّغه لنا رسولك في سنته: نحل ما أحل ونحرم ما حرم، نعتقد صواب ما جاء به وبطلان ما خالفه؛ فنحن نتابع يا ربنا رسولك في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق والسلوكيات، وفي السياسة والاقتصاد وفي القضاء، وفي كل شؤوننا وأمورنا، لا نبتغي به بدلاً، نوالي من والى ونعادي من عادى، ونحن مقيمون على ذلك لا نغادره طرفة عين؛ لأنه ديننا الذي تصلح به أمور الدنيا، ويفوز العبد به بالرضوان في الآخرة؛ فأين نجد حقيقة هذه التلبية أو أثرها في حياة أو دنيا أمة التوحيد في عصرنا الحاضر؟
إن دلائل الشرك ومظاهره تعددت وتنوعت في أمة التوحيد، سواء منها ما كان على المستوى الفردي أو كان على مستوى المجتمع؛ فها هي القوانين الوضعية (التي وضعها الطاغون مخالفين بها شرع الله ومناقضين له) ضاربة بأطنابها في مجتمعات المسلمين ُيحكم بها بين الناس في الدماء والأعراض والأموال، بينما حكم الله العلي الكبير الذي جاء في كتابه المبين، أو في سنة رسوله الأمين المفروض على المؤمنين بمقتضى إيمانهم قد نُحّي جانباً، وأُبعد حتى صار مهجوراً، وقد قال الله ـ تعالى ـ في كتابه: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50] ، وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في التوجه إلى الله ـ تعالى ـ بالخوف والرجاء، ونحن نجد فئاماً عظيمة من الناس قد تعلقت قلوبها بغير فاطرها وبارئها، تدعوه في الشدائد والملمات ترجو عونه ولطفه، وتتوجه إليه في السراء تشكره وتثني عليه؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في معاداة الكافرين وقد صارت اليوم موالاة أعداء الله خوفاً منهم واتقاءً لشرهم، أو مسارعة فيهم ورغبة في التقرب إليهم والحصول على بعض المنح أو الهبات ديدناً للكثيرين، حتى إن الكثير من قوات الصليب التي قامت باحتلال بعض بلاد المسلمين لم تصل إليهم إلا عن طريق بلاد إخوانهم من المسلمين؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في موالاة المؤمنين وقد قام فريق من أهل العلم في بعض البلاد يفتون المسلمين العاملين في جيش الكفر بجواز مقاتلة المسلمين إخوانهم، واحتلال ديارهم طاعة لرؤسائهم من الكافرين ومحافظة على ولائهم لبلدانهم الكافرة؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في تعظيم الشرع المنزل واتباعه، وقد جعل فريق من المسلمين كل همه وجهده أن يروِّج لأفكار الأعداء في تغريب الدين، وإجراء التعديلات في أسسه وقواعده باسم «التجديد» ، حتى يتحول إلى صورة قريبة من صورة النصرانية عند النصارى؛ حيث يتم الفصل بين الدين والحياة؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في تصرفات بعض قومنا ونحن نجد من يؤلف الكتب ويفتتح المنتديات في شبكة المعلومات من أجل الدعوة لعلمنة الإسلام؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها ونحن نرى من وقف حياته على تمجيد حضارة الغرب، تلك الحضارة المادية الجامدة القاسية التي لا أثر للدين فيها، والتي تقوم على العنصرية واستعباد الناس واحتلال بلادهم ونهب خيراتها بلا مسوغ غير مسوغ القوة الطاغية التي يمتلكونها والتي تمكنهم من هذا الظلم المبين؟
لقد خلت التلبية في أيامنا هذه عند الكثيرين من أهم مقوماتها، ولم يبق منها غير الحروف والألفاظ، ففُرِّغت من الجوهر والحقيقة، وبقي المظهر والشكل الأجوف، ومع ذلك يتساءل بعضنا وهو يرى حال أمته وموقعها من العالمين: (أنَّى هذا؟) ، ويأتي الجواب من رب العالمين: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ، فإن الله ـ تعالى ـ لا يخلف وعده، كما قال: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [آل عمران: 152] ، وقد وعدنا بقوله: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] ؛ فمن أراد النصر والعز والتمكين فليحقق شرطه وهو (الإيمان) . والإيمان هو القول والعمل؛ إذ لا فائدة ترجى من قول لا يتبعه عمل، ومن العمل الداخل في الإيمان الالتزام بقوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ، ومنه أيضاً الأخذ بالأسباب التي جعلها الله ـ تعالى ـ موصلة لنتائجها مع عدم الالتفات إليها أو التوكل عليها؛ فإن التوكل لا يكون إلا على الله تعالى. قال بعض أهل العلم: (الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع) (?) ، ومعنى الالتفات إلى الأسباب اعتماد القلب واستناده عليها، وقد أعاد الله علينا من رحمته موسم الحج بخيره وبركته، وهي فرصة عظيمة للأمة في مجموعها وأفرادها أن يحققوا معنى التلبية في النفس والواقع والحياة، والتي لن يكون للأمة إفاقة من غفوتها أو قومة من كبوتها إلا بتحقيق التلبية قولاً وعملاً. اللهم اجعلنا ممن يقول: لبيك اللهم لبيك حقاً وصدقاً، قولاً وعملاً ... آمين.