مجله البيان (صفحة 513)

فاعتبروا يا اولى الابصار

في إشراقة آية

[فاعتبروا يا أولي الأبصار]

د. عبد الكريم بكار

هذه آية جليلة الشأن في الكتاب العزيز سرت مسرى المثل، وذاعت على

الألسنة والأقلام؛ لأنها تعني وجوب الاستفادة من تراكم الخبرات البشرية، وأخذ

العظة والعبرة من أحوال الأمم السابقة، والمعاصرة، وتوفيراً للجهد، واختصاراً

للطريق، وفراراً من عذاب الله تعالى ...

وقد قص الله تعالى علينا في سورة الحشر قصة جلاء بني النضير من المدينة

إلى خيبر والشام مبيناً وقوع ما ليس في الحسبان، فقال تباركت أسماؤه: [هُوَ

الَذِي أَخْرَجَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن

يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ

فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] [الحشر: 2] .

لقد كان خروج بني النضير في تلك الصورة المهينة الذليلة حدثاً بعيداً عن

أذهان بني النضير وأذهان المسلمين لأن الأسباب المادية التي أخذ بها القوم كانت

على درجة من الإتقان والإحكام تحول دون تصور ما وقع..

ولكن العزيز الجبار الذي لا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه أتاهم من حيث لم

يحتسبوا أتاهم من الداخل، فألقى في قلوبهم الرعب، فخارت عزائمهم، وأدركوا

أن قوتهم ما عادت تغني عنهم شيئاً.

وما أشبه الليلة بالبارحة ‍‍‍! !

فهذه هي النظرية الشيوعية تنهار اليوم في أسرع مما كان يدور في خلد البشر، وهذه هي مئات الألوف من الكتب والمجلدات التي سطرت في فلسفة النظرية

وترويجها وتكييف البشر معها تغدو رماداً تسفوه رياح التغيير العاتية في وجوه

السدنة والكهنة والمرتزقة والأذناب وأشباه الأذناب..

لقد كان سقوط النظرية الشيوعية أمراً لا مفر منه، ولكن المذهل هو انهيار

البناء الذي أنفق فيه ثلاثة أرباع القرن من الزمن مع ملايين الأنفس وما لا يحصى

من الآلام والعذابات وصنوف المعاناة الإنسانية في أسرع من لمح البصر.

قد كانت أفكار (كارل ماركس) رد فعل لحرمان طويل ومعاناة شخصية قاسية. والناموس العام لردود الأفعال البعد عن الموضوعية وفقدان الاتزان. وقد قبل

أفكار (كارل ماركس) في البداية صنفان من البشر:

صنف طحنه الظلم والحرمان، وتقلب دهراً في التعاسة، وطرق كل باب

للخروج من نفق الظلمات الذي ولد فيه فإذا بنظرية تعده بجنة على الأرض تنسيه

طعم كل ما مضى من العناء والبلاء، فهبَّ إلى اعتناقها والترويج لها على أنها

الحل الأخير والمخرج الوحيد.

والصنف الآخر - وهم الكثرة من الأشياع - وجد في السلطات المطلقة التي

تركزها النظرية في قبضة الحزب الشيوعي والدولة الماركسية ما يلبي من خلاله

كل طموحاته الشخصية من الجاه والمال والتسلط، وما يتفرع عن ذلك من شهوات

وملذات ومصالح..

ولم يمض وقت طويل حتى أدرك الذين كانوا يحلمون بالفردوس أن الخبر

غير الخبر وأن المحصول غير المأمول..

ولكن إدراك الشعوب كثيراً ما يأتي متأخراً بعد فوات الأوان..

فقد ركزت الحكومات البلشفية المتعاقبة على صناعة السلاح دون باقي

الصناعات حتى تتمكن من كسر شوكة أي معارضة محتملة للثورة على حين أنها لم

توفر لشعوبها أحذية جيدة تنتعلها..

وجمعت إلى ذلك تجنيد عشرات الألوف من المخبرين السريين الذين يحصون

أنفاس الشعوب ويعدون نبضات قلوبهم.

ولجأت الشعوب إلى سلاحها الماضي وحيلتها الأخيرة، فشرعت في المقاومة

السلبية، وأدارت ظهرها لخطط التنمية المتعاقبة التي كانت تضعها الحكومات

الشيوعية. ومن البدهي أن الحكومة تخطط وأن الشعب ينفذ فإذا لم ينفذ الشعب

كانت الخطط حبراً على ورق أو صرخة في واد، وهذا ما جرى لقد كان كل عام

يمر يعنى مزيداً من الفروق المعيشية والحضارية بين أتباع الشيوعية وأتباع

الرأسمالية، وحين انهار جدار (برلين) أدرك الألمان الشرقيون - الذين كانوا يُدلُّون

بأنفسهم على أشياعهم من أبناء أوربا الشرقية- الفجوة الضخمة التي تفصلهم عق

الألمان الغربيين، فالدخل عند الغربيين عشرة أضعاف الدخل عند الشرقيين،

والهواتف عشرة أضعاف وأعداد السيارات مضاعفة وهكذا على هذه اللازمة..

وفى اعتقادي أن الأحزاب الشيوعية انهارت بهذه الصورة؛ لأنها عجزت عن

بناء حضارة مناسبة للعصر تغني شعوبها عن تكفف الآخرين وتوجد الثقة بالأسس

النظرية التي قامت عليها، وأسباب أخرى من هذا القبيل لا نقصد هنا إلى تعدادها.

هل من معتبر؟

كانت الأحزاب الشيوعية والحكومات التابعة لها بحاجة إلى نوعين من

المراجعة:

الأول: مراجعة أصول النظرية وقواعدها الأساسية والتي أثبتت السنين أنها

خيالية ومتناقضة.

الثاني: قياس آراء النظرية من خلال الواقع الذي أفرزته التجربة الطويلة،

لمعرفة مكامن الخلل ومواضع الداء في النظرية والتطبيق. ومع أن (برجنيف) كان

يقول: إذا لم نستطع كشف الأخطاء قتلتنا، فإن سدنة الأحزاب الشيوعية بدءاً بقائل

هذه الحكمة لم يستطيعوا الكشف عن أي خطأ ذي شأن فضلاً عن القدرة على

الإصلاح. وكان الشغل الشاغل هو التبرير والدفاع والثناء بالجملة على الوضع

القائم.

وفى عالمنا الإسلامي اليوم الكثير الكثير من الأخطاء وأصناف القصور على

المستويات كافة. ووجود الأخطاء أمر طبيعي؛ ذلك لأن حركة الزمن تدع الكثير

من الجديد بالياً، وتوجب استمرار الاجتهاد والتكييف بين المبدأ والمصلحة، وبين

الوسائل والغايات، وبين الأساليب والأهداف. وخلال عمليات التكييف هذه تحصل

مفارقات تحسب للأمة تارة وعليها تارة أخر ى.

والأمة الحية اليقظة لا تكف أبداً عن عمليات المراجعة وقياس أداء المناهج

والأساليب والأصول، كما لا تمل من بحث المعوقات وطرح الحلول لها.

وإذا كان الآخرون يحتاجون إلى نوعين من المراجعة فإننا بحمد الله نسير في

طريق لاحبة رسمها الأصفياء الأولون من رسل الله وأوليائه، ومن ثم فإننا بحاجة

إلى نوع واحد منها، وهو التأكد من موافقة خطانا لروح الشريعة الغراء ونصوصها

ومدى توفر الشروط النفسية والاجتماعية التي يجب توفرها في حياة خير أمة

أخرجت للناس.

وتتشخص هذه المراجعة في المفردات التالية:

1 - امتلاك الشجاعة الكافية للاعتراف بالأخطاء وأنواع التقصير في مسيرتنا

الحياتية.

2 - التفريق الدقيق بين الأمراض وأعراضها حتى لا نعالج مظاهر المرض

وأعراضه ونترك حقيقته، فيكون العلاج مؤقتاً.

3-البحث في البنى التحتية لتلك الأخطاء للوقوف على عللها الأولى وأسبابها

الحقيقية اهتداء بقوله تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ]

[العنكبوت: 20]

4- التغيير في برامجنا وأساليبنا بما يتناسب مع نتائج تلك المراجعات.

5- وضع صمام الأمان الذي يحول دون تكرار الوقوع في تلك الأخطاء.

6- غرس روح تحمل المسؤولية في أفراد الأمة والتربية على الشجاعة

الأدبية الباعثة على محاصرة الخطأ والنقد البناء، وتنمية روح المبادرة الفردية

لديهم.

وإذا فعلنا هذا فإنا نكون قد ضمنّا استمرار الثقة بأصولنا الاعتقادية والفكرية،

وأوينا إلى ركن شديد يعصمنا من الأعاصير العاتية والانهيارات المدمرة.

وليس هذا على وارثة تراث الأنبياء والمكلفة بتبليغ الكلمة الأخيرة بعزيز.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015