الافتتاحية
هل هناك أمل في صلاح حالنا؟
-التحرير-
للإجابة على هذا السؤال لا بد أولاً من الإشارة إلى هذه الحال التي نطلب لها
الصلاح: هل هي سيئة ومضطربة وتحتاج إلى إصلاح؟ والجواب: نعم إن
حالنا- نحن المسلمين - قد بلغت من السوء حداً لا يرضى عنه مخلص، ركود
وكل شيء من حولنا يتغير، وجمود وكل ما نراه تحت أقدامنا يتحرك، وعدم مبالاة
بعظائم الأمور، واهتمام بسفسافها، وفي حين تبدو بوارق أمل هنا وهناك في أنحاء
متفرقة من عالمنا الإسلامي؛ لكن هذه البوارق سرعان ما تنطفئ فكأنها لمعة برق
في ظلام متراكم أو سراب بقيعة!
هناك من لا يرى أملاً في حاضر ولا مستقبل، ينظر من حوله فيرى الحياة
مُسَمّمة، فساد تضج منه الأرض والسماء، غش وخداع يقدم بصورة إخلاص وتفانٍ، وجبن متحكم تقدمه وسائل الإعلام المحترفة على أنه الشجاعة والنخوة، معارك
مختلفة يخرج منها نكرات أبطالاً، ومعارك حقيقية يغفل دور مديريها، محاباة
للأقارب والمحاسيب ولو كانوا سفلة معتوهين، وإقصاء للأكفاء الأحرار الذين
يعانون الكبت والتجاهل، أو يدفعون دفعاً لخدمة الأمم الأخرى التي تقف بالمرصاد
للمواهب التي لا يعرف أهلها لها قيمة. ليل مطبق بظلمات بعضها فوق بعض من
أخرج يده فيه لم يكد يراها..
هذا ما تراه العين، أما ما غاب عنها فيحتاج إلى مواهب أدبية جبارة لتصفه
بصدق. وتحيط بخطوطه ودهاليزه.
إن سوء الأحوال الاجتماعية يزداد طرداً بتناقص أثر الدين في المجتمع،
وعلى الرغم من أن المسلم يعتقد أن الله حافظ دينه، وناصر أولياءه؛ وأنه لا يخلي
الأمة من قائم بالحق داع إليه إلا أنه ليس من الحكمة ولا من تمام الوعي أن يتجاهل
الهجمة الشرسة التي تشتد على الإسلام يوماً بعد يوم بل ساعة بعد ساعة.
ومع أن الإسلام يكسب كل يوم حجة جديدة، ويؤيده الله بمؤيدات عديدة، إلا
أن حكمته تعالى اقتضت أن هذا الدين كلما تأكدت حججه وتبلجت أمام الأنظار
براهينه؛ ابتلى الله أتباعه بصنوف جديدة من الابتلاء، وعرضهم لأساليب من
الكيد قد لا يكون جربها فيما سبق نمرود إبراهيم وفرعون موسى.
إن أساليب المكر والقهر التي تجرب على دعاة الحق في البلاد الإسلامية
إن اختلفت في صورها وأشكالها، فهي تلتقي مع الأساليب القديمة - التي
عومل بها الدعاة إلى الله على مدار القرون - في نتائجها وآثارها. مهما اختلفت
الأساليب: بين صلب وقتل وتعذيب، بين تجويع وتضييق وتنكيل، بين وضع
الصخور على الصدر والظهر في الرمضاء الملتهبة أو بين استعمال الوسائل الحديثة
التي تفتقت عنها العقول الشيطانية، أو تعذيبه عذاباً نفسياً كالإهانة والإذلال واقتحام
الخصوصيات وافتراء الفضائح وإلصاقها به ...
لكن النتيجة هي هي: الموت أو النفي أو الجوع أو الإذلال أو الحبس.
ما موقف المسلم من هذا كله، من اشتداد وطأة التعذيب والمطاردة وافتراء
الأكاذيب وتشويه الحقائق وليّ الوقائع؟ هل يتخلى عن دينه؟ وهل يتنازل عن
أوليات عقيدته وأساسيات يقينه ابتغاء السلامة، وإيثاراً للعافية، وموافقة لدعاة
الفتنة؟ !
كلا، كلا.
إن المسلم سيظل يقرأ القرآن ما دام هناك قرآن. وسوف يمر في قراءته على
هذه الآيات من سورة العنكبوت [الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ
لا يُفْتَنُونَ ولَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ أَمْ
حَسِبَ الَذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإنَّ
أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ومَن جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ
العَالَمِينَ] [العنكبوت: 1-16] .
وسوف يظل يتساءل في نفسه:
من هؤلاء الناس؟
وما الفتنة؟ وكيف تكون؟
من المؤمن الصحيح؟ ومن المؤمن الكاذب؟
من الذين يجترحون السيئات ويحادون بها الله؟
من المجاهد؟
ثم هل لهذه المصطلحات مقابل في هذه الأزمان؟
هل هناك أناس يؤمنون إيماناً قولياً وآخرون يؤمنون إيماناً عملياً؟
هل هناك من يتعرض للفتنة؟ من هم، ما مواصفاتهم؟
من الفاتنون؟ ما حقيقتهم من يمثلهم؟
هل في الأرض الإسلامية من يحارب الله بالمعصية ويتجرأ على شرع الله
بالهزء والسخرية؟
هذه الآيات - وغيرها كثير في القرآن الكريم - تطرح أسئلة كثيرة تتطلب
من المسلم التالي للقرآن أجوبة، وهذه الأجوبة موجودة سواء عالن بها المسلم أم لم
يعالن، وهي أجوبة ينبني عليها موقف لا بد له منه شاء أم أبى.
إن حياة الأمة الإسلامية مرتبطة بهذا القرآن فهماً وتطبيقاً ومواقف، فإذا
حملت الأمة هذا الكتاب بقوة، وفهمت وقاست واقعها عليه كانت أمة إسلامية حقاً،
وإذا رضيت أن يتلى في المساجد فقط تلاوة لا روح فيها، أو يحمل للبركة أو يتلى
على الأموات فقد فقدت عنصر الحيوية فيها كأمة إسلامية متميزة وانخرم من
إسلامها بمقدار ما انخرم من فهمها لما يمثله القرآن في بنائها.
إن المسلم التالي للقرآن لا يفقد الأمل أبداً، يلمح سنة الله في تصارع الحق
والباطل؛ فيعلم أن الباطل مهما تضخم وانتفخ وتجبر لا بد أن يذهب مخلفاً وراءه
اللعنة عليه وعلى دعاته وحراسه، وأن الحق هو القاعدة التي بني عليها الكون،
والباطل هو الشذوذ.
وإن أشد حالات الباطل سوءاً ضرب العبودية على الشعوب والجماعات،
ونصب الأفراد المغتصبين ما ليس لهم من صفات وحقوق آلهة يُسَبَّحُ بحمدها بكرة
وعشياً، وجعلها مصدر النعمة والإلهام لجموع عريضة من البشر، واحتكارها
المنافع، وادعائها ما لا تعرف من الفضائل ... إن الجموع التي تقاد بهذه الطواغيت، وتساس بمثل هؤلاء المفلوكين جموع بطن الأرض خير لها من ظهرها، هذا إذا
لم تنفض عنها غبار الذل المضروب والعبودية الباطلة.
بعض الناس الذين يتملمون من وقع الظلم في ديارنا مشغولون بعقد المقارنة
بين ما عايشوه وما بين ما عايشته شعوب أوربا الشرقية. ويفركون أيديهم توقعاً
للنهاية التي حلت بطواغيت شرقي أوربا أن تحل ديارهم، والرياح التي هبت هناك
فكنست ممن كنست؛ أن تواصل مسيرها حتى تصل إليهم فتفعل ما يتمنون!
ولا نستطيع أن ننكر وجوه المشابه بين ما عندنا وما عند غيرنا من أشكال
العسف والجَبَرية، ولكن كم هو مفيد أن نتذكر أن هناك اختلافات لا بد من وضعها
في الحسبان حتى لا نستعجل في التوقعات.
ومن ذلك:
1 - إن أجهزة الإعلام الغربية لعبت دوراً لا يستهان به في سقوط رموز
الشيوعية، وهيأت الرأي العام في تلك البلاد ليضغط ضغطاً بعيد الأثر. أضف إلى
ذلك دور الكنيسة (الكاثوليكية) بوجه خاص. في حين ليس لنا صحافة حرة فاعلة،
والإعلام الغربي يقف على الحياد، ويصمت صمتاً مشبوهاً تجاه قضايا العدالة
والحرية في العالم الإسلامي، وكذلك ليس عندنا جهاز مستقل له أثر كالكنيسة
الكاثوليكية، يعبر عن ضمير الأمة الإسلامية.
2- قيض الله لأكبر دولة ابتليت بالسيطرة الشيوعية رجلاً أوتي الجرأة أن
يعترف بمفاسد هذا النظام، وما جره على محكوميه من نكبات (ولسنا معنيين بما إذا
كان غورباتشوف مخلصاً للدعوة الشيوعية أو غير مخلص؛ يريد أن يهدم هذا
النظام من أساسه، أو يبحث عن دور تاريخي عن طريق إصلاح الشيوعية) فلما
وجد هذا الشخص وجهر بما جهر به تبينت تلك الشعوب أنه يمكن تحدي تلك
الأنظمة غير الأصيلة التي تستمد قوتها من ذلك النظام المنخور الذي لم يعد بإمكان
أحد أن يدافع عنه.
أما نحن فإن سوء أحوالنا لم يسببه استمدادنا الشرعية لا من (غورباتشوف)
ولا من (بوش) بل إن الطغيان الذي يمارس علينا عميق الجذور بعيد الغور،
طغيان متوارث مرد عليه وارثوه، ومرنت عليه المخلوقات التي يطبق عليها.
إن ما يسود في بلادنا ليس شيوعية حتى إذا تأثرت الشيوعية تأثرنا، ولا
اشتراكية حتى إذا ما عدلت الاشتراكية عدلنا، ولا رأسمالية شبيهة برأسمالية الغرب، إن ما يسود في بلادنا هو خليط عجيب فيه من كل نظرية خرقة ومن كل فلسفة
مزقة، ومن كل واد عصاً، وإذا ما ذهبنا نقيس ما عندنا على ما عند غيرنا أعيانا
القياس وأصابتنا الحيرة.
وفي الجملة إن ما أصاب شعوبنا الإسلامية من تردي أحوالها، وضربها
بالتفرق، وإذكاء نار العداوة بينها، وتسليط لئام الخلق يتحكمون بها، ويجرون
عليها سياساتهم ومخططاتهم، وغير ذلك من أنواع البلاء ... كل ذلك بسبب
إعراضها عن الله، وتضييعها المنهج الذي يعصمها من ذهاب الريح، والضلال
عن الحقيقة. ولن يكون هناك أمل في إصلاح، وانتقال من التيه والضياع إلى
الطريقة الواضحة الموصلة إلى ما ترجو إلا بعثورها على هذا المنهج وتمسكها به.
وليس من طريق إلا الإسلام ولا من منهج إلا القرآن الكريم وسنة المصطفى -صلى
الله عليه وسلم- «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا
الله»