مجله البيان (صفحة 5077)

الخطاب الوعظي لخطبة الجمعة خصائص وتنبيهات

د. أحمد العمراني

تعيش الأمة الاسلامية اليوم زمناً اختلطت فيه المفاهيم والتبست، وكثرت فيه التوجيهات عبر وسائل الإعلام المختلفة سواء منها المكتوبة أم المرئية أم المسموعة.

ومما وقع فيه الخلط الشديد، وأصبح محط جدال ونقاش خطاب خطيب الجمعة: كيف يجب أن يكون؟ وما هي خصائصه؟

` أولاً: مكانة خطيب الجمعة في الأمة:

إن أول ما يجب أن يوضح في هذا الأمر بإيجاز شديد: موقع خطبة الجمعة، ومكانة الخطيب في الأمة.

فالخطبة ـ وهي واحدة من وسائل الدعوة إلى الله التي وضع أسسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ شرعت مرة كل أسبوع لتذكير الناس بأمور دينهم وحسن توجيههم وتوعيتهم وتثقيفهم.

وعلى هذا؛ فالخطيب داعية إلى الله، ومهمة كل داع إلى الله النيابة عمن بعثهم الله لعباده؛ إذ الدعوة في أصلها رسالة الرسل والأنبياء، وبعد غيابهم ورثها عنهم العلماء لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الْعُلَمَاءُ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ـ وَرَّثُوا الْعِلْمَ ـ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (?) .

والعالم هو وارث علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته، يبين الحلال والحرام، ويميز الفاسد من الصحيح، وهو قائم في الأمة مقام الأنبياء، وسراج الأمة وضياؤها بلا مراء، يبين لهم الأحكام، ويخرجهم من الآثام بإذن ربهم، ويوضح لهم شرائع الإسلام.

وهو كالعين العذبة نفعها دائم، وكالغيث؛ حيث وقع نفع، وكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل زمانه وعصره، وكالسراج من مر به اقتبس.

وكل من يعتلي منبر الخطابة فهو يعتلي منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخصوصاً في جانبه الدعوي التوجيهي، لهذا وجب على الخطيب أن يسد ثغرة خطيرة، ويتخصص في جانب مهم من أمور الدين يمنع به ما قد يؤذي المسلمين.

وربنا يقول: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «يحملُ هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عدولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (?) .

إضافة إلى كل ما ذكر؛ فمخاطبة الناس ـ زيادة على ما تستلزمه من شروط ينبغي توفرها في الخطيب ـ تتطلب موهبة خاصة يهبها الله ـ سبحانه ـ لمن اعتلى منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهناك من يُفتح له في هذا المنبر وهو بذلك يستحق اعتلاءه، وهناك من لا يُفتح له فيه فيجب بالضرورة أن لا يعتليه.

فقد روي عن إمامنا مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه قال مجيباً العمري العابد لما كتب له يحضه على الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم؛ حيث قال له: «إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق: فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخَر فُتح له في الجهاد ولم يُفتح له في الصيام؛ ونشرُ العلم وتعليمه من أفضل البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه دون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قُسِمَ له. والسلام» (?) .

فأمور الدين أخطر مما يمكن تصورها؛ لهذا يجب أن يتولاها أهلها المستحقون لها، وقد حذر النبي الكريم من عكس هذا فقال: «لا تبكوا على الدين إذا وَلِيَهُ أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وَلِيَهُ غير أهله» (?) .

كما يجب أن يكون خطاب الخطيب للناس خطاباً يسير وفق الأصل النبوي في خطابه، خطاباً مبنياً على حُسن البيان، والاختصار والإفهام، وهادياً ومحبباً الإسلام إلى الناس.

وهو ما أشار إليه الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ في قوله: «إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله، ولم يؤمِّنهم من عذاب الله، ولم يَدَعِ القرآنَ رغبةً إلى غيره» (?) .

فرواد الجمعة هم كل المجتمع: فيهم الأمي والمثقف، والجاهل والعالم، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والمتحزب وغيره. وكلهم مندرجون في أقسام أربعة وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ رحمه الله ـ حيث قال: «الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فارشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه» (?) .

وكلهم يحضرون بقصد الاستفادة من توجيه الخطيب، والتعلم من العلم النافع الذي يخدم مسيرة كل واحد منهم في حياته؛ فمنهم من يأتي للاستفادة، ومنهم من يجب إيقاظه من غفلاته وسهواته، ومنهم من يرغب في الإرشاد، ومنهم من يستحق التنبيه والتحذير.

والمتفحص في نصوص شريعتنا يستخلص خصائص مهمة للخطاب الديني الذي يجب على خطيب الجمعة الالتزام بها، والحرص على تنفيدها للإسهام في توجيه مسار الأمة نحو الخير والوسطية التي جاء بها ديننا الحنيف، باعتبار أن الخطيب هو واحد من علماء الأمة الذين يوجهون للناس خطابهم الأسبوعي دون مناقشة أو استفسار، وينصتون إليه بكل شغف وشوق ويعطونه آذانهم دون كلل أو لغو، ويحرصون على الاستفادة من خطابه لحسن معاشهم ومعادهم؛ وخصوصاً أن نص الحديث يحيط بهم بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ؛ فَقَدْ لَغَوْتَ» (?) .

` ثانياً: خصائص الخطاب الجمعي:

على خطيب الجمعة أن يراعي في خطابه جملة من الخصائص تتمثل في:

1 - أن يكون خطابه عقائدياً:

فعليه أن يحرص في خطابه على دعوة الناس إلى توحيد الله وعبادته وحده وعدم الإشراك به؛ فالأصل في بعثة الأنبياء والرسل الدعوة الى عبادة الله وحده، وتصحيح عقيدة الناس التي انحرفت؛ وخير مثال لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث مُعَاذاً ـ رضي الله عنه ـ عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ …» (?) .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَارِزًا يَوْماً لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ. قَالَ: مَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شيئاً..» (?) .

فالله ـ سبحانه ـ أخبر بأن المغفرة تشمل كل الخطايا والذنوب بقوله: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] .

كما حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منه بقوله فيما رواه عن ربه: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (?) .

لهذا يبقى خطاب الدعوة العقدي أصل الخطاب الذي لا ينبغي أن يغيب، ولا بأس بتكراره، وبطرق ووسائل تبليغية تواكب مستجدات الشرك ومستحدثاته، كما تبدع في وسائل الخطاب الذي يحاربه، وبلغة سهلة ميسرة تصل الى القلوب قبل الأسماع.

2 - أن يكون خطابه هادياً:

أي يحرص في خطابه على هدي الناس إلى البر، مع تجنب الجباية أو طلبها بخطابه؛ فالهادي ضد الجابي، والله في عون كل من رغب في هداية الناس إلى الخير ويوفقه ويجازيه خير الجزاء، ويكفي في بيان أجر ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» (?) .

فأحب العباد إلى الله من يحبب الناس إليه ويقربهم، وهو ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه: «إن أحب عباد الله الى الله الذين يحببون الله إلى الناس» (?) .

والخطيب إن تمثل الحكمة في خطابه كان من أفضل المحببين الناس لربهم، وهذا بالتركيز على أن الهداية بيد الله، وأن مهمة الخطيب لا تتجاوز التذكير؛ لأن من هو أسمى من كل خطيب قد وُجِّه إليه هذا الخطاب؛ حيث قال ـ تعالى ـ: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] .

3 - أن يكون خطابه اجتهادياً:

أي ليس توقيفياً؛ فالمطلوب من الخطيب الاجتهاد في خطابه، والإعداد الجيد لمواضيعه، والإبداع المستمر لما يقدمه للناس، مع تجاوز المكرور من الخطاب حتى لا يمل الناس فيملوه.

فالخطبة موعظة، والموعظة كلها توفيقية؛ فليس هناك نمط واحد لا يتغير في الأسلوب الذي يمكن مخاطبة الناس به، بل لا بد من التجديد والابتكار دون الخروج عن الأصول والثوابت؛ فألوان الخطاب كلها وسائل يستعان بها لحسن التبليغ، لكن الوسيلة في شرعنا غير مسوَّغة بالغاية، بل لا بد من إخضاعهما معاً لشرع الله.

4 - أن يكون خطابه متدرجاً:

وهذا أمر بدأ به أمر الدين وخُتم؛ فكل ما حُرِّم على الأمة حُرِّم تدريجياً وعلى مراحل، وما أمر الخمر والربا في تنزيلات القرآن بخاف على المسلم.

فعلى الخطيب إن قصد بخطابه توجيه النصح أو الرغبة في تغيير ما يستحق التغيير أن يعرف كيف يعالج الأمر، وأن يستلهم منهجه ذلك من منهج رسول الإنسانية والرحمة المهداة للعالمين، ويكفي لبيان ذلك حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية (أو قال بكفر) لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحِجْر» . وفي رواية: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحِجْر؛ فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة» (?) .

5 - أن يكون خطابه متفاعلاً مع الواقع:

أي أن يكون خطاباً يعترف بالواقع ومشاكله، ويعرف كيف يُخرِج الناس من مشاكل الحياة وصعوباتها، ويقدم لهم الحلول المناسبة التي تهدئ النفوس وتطمئن القلوب، وهذا يقتضي من الخطيب حسن التفقه في الدين وحسن التعرف على الواقع، والأخطر من ذلك حسن التفقه في كيفية تنزيل النص الشرعي على الواقع.

كما يقتضي من الخطيب أن لا يتقوقع أو يدعو إلى القوقعة في مواضيعه التوجيهية فيما لا يعود بالنفع على المسلمين، بل لا بد أن يعيش واقع الناس ويوجههم للمشاركة الإيجابية في المجتمع، وعلى مخالطة الناس بالتي هي أحسن، ويعلمهم أن الأصل والأفضل هو المخالطة وليس الانعزال؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (?) .

6 - أن يكون خطابه جامعاً لا مفرقاً:

فالخطيب لا لون له ولا توجُّه له؛ فهو أب للجميع ومعلم الجميع، مثل شجرة الزيتون «لا شرقية ولا غربية» ينير ضوؤه طريق كل الناس، بمختلف ألوانهم وأشكالهم، يحترم الجميع ويسعى لهدايتهم وتعليمهم دون تحيز أو ميل، يجمع ويوحد، يصلح ولا يفسد، مفتاح للخير مغلاق للشر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير؛ فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» (?) .

ويبني عمله وخطابه هذا على قول الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 103 - 105] .

وهذا يقتضي استخدام الكلمة المسؤولة استخداماً أميناً، مع جمال التعبير والعرض، والتذرع بأخلاق أهل الإيمان التي تنفر من الحقد والوقيعة وسوء الظن، كما تنفر من الجهر بالسوء، لتصل إلى الحوار المنصف، والخطاب الصحيح السليم، مع تجنب التعيين والوصف والتشنيع؛ لأنه لم يثبت عن سيد الخطباء أنه عيَّن يوماً في خطابه أو خطبه أحداً باسمه، بل كان خطابه دائماً عاماً، لا يعدو أن يقول فيه: «ما بال أقوام، أو ما بال أحدكم» . وهلم جرّاً.

كما امتاز خطابه بالصدق وقول الحق في كل الأحوال، وعدم تهويل الأمور وإعطائها أكثر من حجمها الذي تستحق.

` ثالثاً: تجنب التعيين أثناء الخطاب:

لتغيير المنكر وتصحيح الأخطاء أساليب ووسائل أساسية استعملها القرآن الكريم تعليماً لنا بقوله ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وأثبتها التعليم النبوي في خطاباته ودروسه ونصائحه، وجعلها لنا منهجاً ونبراساً نقتدي بها في خطابنا ودعوتنا وتعليمنا.

فالمتأمل في الحديث النبوي ودعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتغييره للمنكر وتصحيحه للأخطاء التي كان يقع فيها الصحابة في مختلف مسؤولياتهم، تتضح له جملة أمور، من بينها:

أن النبي الكريم في كل مواقفه التغييرية لم تنبس شفتاه باسم المخطئ، أو بتعيين المسيء تجنباً لفضحه وستراً له أمام غيره.

وليتبين لنا ذلك نورد هذه النصوص التي يتجلى فيها بوضوح هذا الخطاب:

1 - ما بال عامل أبعثه:

- عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ ـ قَالَ عَمْرٌو وَابْنُ أَبِي عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَة ـ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. قَالَ: فَقَام رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى المنبر فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «مَا بَالُ عَامِل أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُم وَهَذَا أُهْدِي لِي؟ أَفَلاَ قَعَدَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ لاَ يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئاً إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَو بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطِيْهِ، ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ هَلْ بلغتُ» (?) . وقد ورد نحو ذلك عدة أحاديث بألفاظ: «ما بال أقوام» ، «ما بال أحدكم» ، «ما بال رجال» (?) .

وعلى هذا النهج سار سلفنا الصالح؛ حيث تمثلوا خطاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واستلهموا من مواعظه وطريقة كلامه ما يوجه خطابهم ومن ذلك:

1 - من كلام عمر بن الخطاب:

عن أَبُي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الجمعة إذْ دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ؛ فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ، فَقَالَ عُمَر: وَالْوُضُوءَ أَيْضاً؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِل؟» (?) .

2 - من كلام معاوية بن أبي سفيان:

عنْ أَبِى قِلاَبَة قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فِى حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، فَجَاءَ أَبُو الأَشْعَثِ قَالَ: قَالُوا: أَبُو الأَشْعَثِ أَبُو الأَشْعَثِ. فَجَلَسَ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ! قَالَ: نَعَمْ! غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ، فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً أَنْ يَبِيعَهَا فِي أُعْطِيَاتِ النَّاسِ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِى ذَلِكَ؛ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقَامَ فَقَال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْناً بِعَيْنٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيباً فَقَالَ: أَلاَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُون عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ، ثُمَّ قَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ ـ أَوْ قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ ـ مَا أُبَالِي أَنْ لاَ أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ» (?) .

هذه بعض الإشارات والتنبيهات وردت في خطاب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وفي خطاب بعض من صحبه واستفاد منه، لعل خطباء الأمة يستفيدون منها، فيتوجهون بخطابهم العام إلى تصحيح السلوكات، والقضاء على الانحرافات بحسن توجيههم ودقة تعبيرهم، مع نبذ التصنيف والتعيين.

` رابعاً: تجنب تلقي الشائعات والترويج لها:

يعتبر خطيب الجمعة مرآة تنعكس عليها هموم الأمة ومشاكلها، إليه يلجأ كل المصلين ليسترشدوا ويتعلموا، كل واحد منهم ينتظر جواباً عن سؤال أرَّقه، أو مشكل أهمَّه، أو حادث ملأ سمعه ويريد تبين صدقه أو كذبه.

وحيث إن الخطيب واحد من أفراد الأمة الذين حباهم الله سعة صدر بمخالطة الناس والسماع لمشاكلهم، والسعي المتواصل من أجل إيجاد الحلول الملائمة لهم، غالباً ما يكون من أوائل من يصل إلى سمعهم ما يكون في الغالب قد وصل إلى أسماع الناس، سواء تعلق الأمر بظاهرة تحتاج إلى تشريح وعلاج، أم بقضية أثارت زوبعة في الساكنة، أم خبراً صحافياً تم تناوله من زاوية مثيرة.

وكثيراً ما يطلق أناس شائعة غالباً ما تضاف إليها إضافات وزيادات، فتصبح كأنها حقيقة لا مراء فيها، لكن عند أول سؤال في محاولة تبين حقيقتها ومصدرها، تجد الكل يتبرأ منها وينسبها إلى غيره أو إلى قائل مجهول.

ولمعالجة هذه الظاهرة وجب على الخطيب تمثل ما يلي:

1 - ضرورة التبين: لقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] .

فأول ما يجب أن ينتبه إليه الخطيب هو أن يسلم هو أولاً من الوقوع في خطر الشائعة سواء بالتصديق أم بالتكذيب، ولا يقع فيما وقع فيه الناس؛ لأن وقوع الناس في ترويج الشائعة والتحديث بها أمر مقبول مستساغ عند العامة، لكن وقوع الخطيب فيه أمر غير مقبول وغير مشفوع.

2 - تعليم الناس البعد عن الإمعية:

فمن العار على أمة اقرأ أن تبقى رهينة ترويج الشائعات وتناقل الأخبار الكاذبة، وترتع في براثن التخلف وتجر أذيال الشعوذة والخرافات، بل وتقع فيها راتعة، بينما الأمم الأخرى تبني الحضارات. فعلى الخطيب أن يرتقي في خطابه للناس؛ بحيث يوصل إلى أسماعهم وقلوبهم ما يرقى بفكرهم، ويكسبهم قدراً من العلم والفقه يميزون به الصحيح من الكذب والغث من السمين.

فالمؤمن ليس إمعة؛ فهو كيِّس فَطِن، وقد نبه الرسول الكريم من الوقوع في التقليد الأعمى، فقال: «لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن حسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا» (?) .

3 - تحذير الناس من خطورة الكلمة:

ولعل من أخطر ما ينخر كيان الأمة في عمقها، أصغر جرم فيها، وكيف لا وقد قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: «من ضمن لي ما بين لحييه وفخذيه ضمنت له الجنة» (?) .

فخطر اللسان عظيم؛ لأنه أعظم آلة للشيطان في استغواء الإنسان؛ حيث لا تعب في إطلاقه ولا مؤونة في تحريكه، وبألفاظ قليلة منه يستبين الكفر من الإيمان؛ لذا وجب تعليم الناس ضبطه وإمساكه وعدم التلفظ بكل صغيرة وكبيرة إلا بعد تبين حقيقتها ومعرفة حكم الشارع فيها. ومما يعين على ذلك:

أ - تعليم الناس عدم التحايل على إخوانهم أثناء التحديث:

وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- وحذر من الكذب، بل اعتبر من أكبر الخيانة أن تكذب على من يثق بك، ويصغي إليك بقلبه وأذنه وأنت تكذب عليه، فقال: «كَبُرَتْ خيانةً أن تحدث أخاك حديثاً هو به مصدق وأنت له به كاذب» (?) .

ب - توجيههم لعدم التحديث بكل المسموع:

وما أكثرها، ومنها الحديث بكل ما يسمع، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حذر من هذا، فقال: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع» (?) .

نسأل الله لنا ولخطبائنا التوفيق لحسن الاستماع، وحسن القراءة، وحسن القول والفعل. آمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015