مجله البيان (صفحة 5076)

الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار

(1 ـ 2)

أ. د. ناصر بن سليمان العمر

` أولاً: مقدمات:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فلا يخفى على كل مسلم بصير ما تعيشه أمة الإسلام من شتات وفرقة، واختلافات أوجبت عداوة وشقاقاً؛ إذ تجاذبت أهلها الأهواء، وتشعبت بهم البدع، وتفرقت بهم السبل، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، وحزبية فكرية، وتبعية غربية أو شرقية.. والنتيجة يخبر عنها قول المولى ـ عز وجل ـ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .

وإذا كان المسلمون اليوم يلتمسون الخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلاّ بالاعتصام بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، مجتمعين غير متفرقين، متعاضدين غير مختلفين.

ويكون ذلك بتوحيد الهدف والغاية مع حسن النية وسلامة القصد. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة» (?) .

والاختلاف موضوع الحديث هو: «نقيض الاتفاق» . جاء في اللسان ما مفاده: اختلف الأمران لم يتفقا. وكل ما لم يتساوَ فقد اختلف. والخلاف: المضادة. وخالفه إلى الشيء: عصاه إليه، أو قصده بعد أن نهاه عنه. ويستعمل الاختلاف عند الفقهاء بمعناه اللغوي وكذلك الخلاف» . وبعض الفقهاء فرق بين الاختلاف والخلاف باصطلاحات خاصة. أما « (الافتراق) (والتفرق) (والفرقة) فبمعنى أن يكون كل مجموعة من الناس وحدهم؛ ففي القاموس: الفريق القطيع من الغنم، والفريقة قطعة من الغنم تتفرق عنها فتذهب تحت الليل عن جماعتها. فهذه الألفاظ أخص من الاختلاف» (?) .

فليس كل اختلاف افتراق، وكل افتراق اختلاف، وليس شرطاً أن يكونا مذمومين على ما سيأتي بيانه، وإن كان الغالب ذم أهل الفرقة والاختلاف.

` أقسام الاختلاف:

الاختلاف ينقسم إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة يتباين الحكم عليها. فمنها:

انقسام الاختلاف باعتبار حقيقة المسائل المختلف فيها. فمنه:

1- اختلاف صوري، ومن قبيله اختلاف التفاوت؛ كالذي يكون في الكلام، فيكون بعضه بليغاً وبعضه دون ذلك، ومنه كذلك اختلاف التلاؤم الذي يكون في الكلام، ومن قبيله كذلك اختلاف التنوع، وهو أن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثال ذلك تفسير قوله ـ تعالى ـ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. وقيل: السابق المحسن بالصدقة، والمقتصد بالبيع، والظالم بأكل الربا. واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة، وفي الاستحباب أخرى: فالأول مثل: أن يجب على قوم الجهاد، وعلى قوم الصدقة، وعلى قوم تعليم العلم. وهذا يقع في فروض الأعيان كما مثل. وفي فروض الكفايات، ولها تنوع يخصها، وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره: فقد تتعين في وقت، أو مكان، وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء. قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات. وقد نظر الشاطبي في المسألة، وحصر الخلاف غير الحقيقي في عشرة أنواع:

منها: ما تقدم من الاختلاف في العبارة. ومنها: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد. ومنها: اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد، والرجوع عما أفتى به أولاً. ومنها: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كل من العملين جائزاً، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرؤوا بما قرؤوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحته؛ فهذا ليس في الحقيقة باختلاف؛ فإن المرويات على الصحة لا خلاف فيها؛ إذ الكل متواتر. وهذه الأنواع السابقة تقع في تفسير القرآن، وفي اختلافهم في شرح السنة، وكذلك في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم. وهي أنواع ـ وإن سميت خلافاً ـ إلا أنها ترجع إلى الوفاق (?) .

تنبيه: الاختلاف الصوري: منه المذموم وهو ما وقع في باطل.

2 - اختلاف حقيقي: ومنه اختلاف التضاد، وهو قسمان: سائغ، وغير سائغ. ولعله تأتي الإشارة إليهما (?) .

ومن أقسام الاختلاف انقسام الاختلاف باعتبار ما يوجبه فمنه:

1 - اختلاف يقتضي عداوة وشقاقاً، ويقع في الاختلاف الحقيقي، كالاختلاف في الأصول المجمع عليها.

2 - اختلاف لا يقتضي عداوة وشقاقاً، ويقع في عامة الاختلاف الصوري، وقد يقع في الاختلاف الحقيقي كالاختلاف في كثير من الفروع باجتهاد سائغ.

ومن أقسام الاختلاف انقسام الاختلاف باعتبار أثره فمنه:

1 - اختلاف مؤثر في الأحكام والأعمال المترتبة.

2 - اختلاف نظري ذهني لا ينبني عليه شيء في أرض الواقع.

فالأول اختلاف مؤثر في العمل، ومنه السائغ الذي لا يضر، ومنه غير السائغ، والآخر من قبيل اختلاف السفسطائية: هل البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة؟ قال شيخ الإسلام: «وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته؛ فإن الله نصب على الحق فيه دليلاً؛ فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، وفي مقدار سفينة نوح وما كان خشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحو ذلك؛ فهذه الأمور طريق العلم بها النقل؛ فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كاسم صاحب موسى أنه الخضر؛ فهذا معلوم. وما لم يكن كذلك، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن إسحق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب؛ فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة» (?) وقال: «وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً.. (?) .

من أهم أقسام الاختلاف التي تحتاج إلى تحرير: انقسام الاختلاف باعتبار مدح أصحابه وذمهم:

وقد حرر ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الصواعق؛ حيث قال: «الاختلاف في كتاب الله نوعان:

أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين، وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا الله ـ سبحانه ـ عن التشبه بهم في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] ، وهم الذين تسوَدُّ وجوههم يوم القيامة، وهم الذين قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] ، فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد، وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي، وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين، ويوقع التحزب والتباين.

والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمود ومذموم؛ فمن أصاب الحق فهو محمود، ومن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه، وهو محمود في اجتهاده معفو عن خطئه، وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم.

ومن هذا النوع المنقسم قوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} [البقرة: 253] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] .

والاختلاف المذموم، كثيراً ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق فلا يقر له خصمه به، بل يجحده إياه بغياً ومنافسة، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه، وهذا شأن جميع المختلفين؛ بخلاف أهل الحق؛ فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به، فيأخذون حق جميع الطوائف، ويردون باطلهم؛ فهؤلاء الذين قال الله فيهم: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] ، فأخبر ـ سبحانه ـ أنه هدى عباده لما اختلف فيه المختلفون.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .

فمن هداه الله ـ سبحانه ـ إلى الأخذ بالحق؛ حيث كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه فهو ممن هدى لما اختُلف فيه من الحق، فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلاً وأقومهم قيلاً، وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا؛ فاختلافهم اختلاف رحمة وهدى يقر بعضهم بعضاً عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم بالتناظر والتشاور، وإعمالهم الرأي وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب، فيأتي كل منهم بما قدحه زناد فكره وأدركته قوة بصيرته؛ فإذا قوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة، وعرضت على الحاكم الذي لا يجور، وهو كتاب الله وسنة رسوله، وتجرد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله، فقلَّ أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه؛ والخطأ، وما هو أقرب إليه، فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه. ومراتب القرب والبعد متفاوتة، وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة ولا افتراقاً في الكلمة، ولا تبديداً للشمل؛ فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة، وعتق أم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي الخلية والبرية والبتة، وفي بعض مسائل الربا، وفي بعض نواقص الوضوء وموجبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها، فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كان كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغناً، ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم، بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له، ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه؛ فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر، وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق» (?) .

وهذا النوع من الاختلاف بهذا المسلك الذي ذكره يراه بعض أهل العلم كالشاطبي ـ رحمه الله ـ يرجع في الحقيقة إلى وفاق، «فإن الاختلاف في بعض المسائل الفقهية راجع إما إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإما إلى خفاء بعض الأدلة، أو إلى عدم الاطلاع على الدليل. وهذا الثاني ليس في الحقيقة خلافاً؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله؛ فلذا ينقض لأجله قضاء القاضي. أما الأول فإن تردده بين الطرفين تحرٍّ لقصد الشارع المبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباعٌ للدليل المرشد إلى تعرف قصده. وقد توافقوا في هذين القصدين توافقاً لو ظهر معه لكل واحد منهما خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه. وسواء قلنا بالتخطئة أو بالتصويب؛ إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره، وإن كان مصيباً أيضاً؛ فالإصابة ـ على قول المصوبة ـ إضافية. فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار؛ فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون. ومن هنا يظهر وجه التحابّ والتآلف بين المختلفين في مسائل الاجتهاد؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فلم يصيروا شيعاً، ولا تفرقوا فرقاً» (?) .

فلو نظرت هذا النوع من الاختلاف الذي حمده الشاطبي وابن القيم وغيرهم من أهل العلم، وجدت الحمد منصبّاً على اتفاق المختلفين في مراعاتهم قصد الشارع، وطلبهم لمراده، واتباعهم الدليل الذي ظهر منهم؛ ومن هذه الجهة جاء مدح مثل هؤلاء المختلفين.

ويتبع للتقسيم الذي سبق نوع آخر من الاختلاف:

وهو وفاق في الحقيقة، وهو اختلاف في الاختيار والأَوْلى بعد الاتفاق على جواز الجميع؛ كالاختلاف في أنواع الأذان والإقامة، وصفات التشهد والاستفتاح، وأنواع النُّسُك الذي يحرم به قاصد الحج والعمرة، وأنواع صلاة الخوف، والأفضل من القنوت أو تركه، ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها، ونحو ذلك؛ فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة» (?) .

والأصل ذم الخلاف وتجنبه، ما دام اختلافاً حقيقياً قد يسبب فرقة ويوقع في تعارض، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين؛ ففي السنة جاء النهي عن «الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء؛ كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها، وقال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» سداً لذريعة الفتنة والفرقة، ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم؛ كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن» (?) .

وأدلة القرآن كثيرة ومنها:

قال الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 103 - 104] .

وقال ـ سبحانه ـ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] .

وقال ـ عز وجل ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 13 - 14] .

وقال ـ سبحانه ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] .

بل عمل الخير إذا قصد به التمييز والتفريق بين المؤمنين كان لصاحبه نصيب من الذم، قال الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107 - 108] .

فالاختلاف ما دام اختلاف تعارض ينقض بعضه بعضاً شر لا يسلم منه إلاّ من كان معه الصواب؛ فإذا توزع الصواب بين المختلفين كان معهم من الخير والبعد عن الذم بمقدار ما معهم من الحق، ومع ذلك قد يُعذر فيه المجتهد المخطئ، بل يثاب لإرادته الخير وقصده، ولهذا يسلم من آثار الاختلاف المذموم المجتهدون الذين استفرغوا وسعهم في معرفة الحق والعمل به.

` الاختلاف بين المشيئة الكونية والشرعية:

الاختلاف سنة كونية، وقدر واقع لا محالة بمشيئة الله الكونية. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119] .

والقدر الكوني إن كان شراً فيجب أن يسعى الإنسان للخروج منه وعدم الوقوع فيه، كالكفر فهو قدر كوني حكم الله بوجوده كوناً، ومع ذلك واجب على كل إنسان أن يجتنبه وكذلك المعاصي، وكل ذلك مقدر شاء الله وقوعه كوناً بناء على علمه باختيار الإنسان؛ فالله ـ عز وجل ـ وهب خلقه مشيئة واختياراً خاضعة لمشيئة الله مع علمه باختيارهم وكتابته له وتقدير كونه منهم.

فالخلاف قد يكون قدراً كونياً فيه شر ولا يخلو من خير ـ فالله لا يخلق شراً محضاً ـ فلا يستسلم له العبد، بل يقاومه بالقدر، فإن لم يزله خفف من آثاره وخرج بأقل أضراره.

` مسألة هل الاختلاف رحمة وخير، أم عذاب وشر؟

رُويت في ذلك أحاديث لا تثبت مثل حديث: «أصحابي كالنجوم؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم» (?) ، وحديث: «اختلاف أمتي رحمة» (?) .

ومع عدم ثبوت نص تباينت أقوال السلف في المسألة فأثر: «عن عمر بن عبد العزيز قوله: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم؛ فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة» .

وعن يحيى بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا.

وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع ـ لا مطلق الاختلاف ـ من آثار الرحمة؛ فإن اختلافهم توسعة للناس. قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر.

وهذه القاعدة ليس متفقاً عليها؛ فقد روى ابن وهب عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه قال: «ليس في اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سعة، وإنما الحق في واحد» .

وقال المزني صاحب الشافعي: «ذم الله الاختلاف، وأمر بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة» .

وتوسط ابن تيمية بين الاتجاهين، فرأى أن الاختلاف قد يكون رحمة، وقد يكون عذاباً.

قال: «النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفْضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم. والحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون خفاؤه على المكلف - لما في ظهوره من الشدة عليه - من رحمة الله به، فيكون من باب {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] . وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوباً، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالاً لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم. فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة. والرخصة رحمة. وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد» (?) .

` عمل أهل العلم على الخروج من الخلاف:

لكون الاختلاف مذموم من حيث الجملة؛ فقد راعى كثير من أهل العلم الخروج من الخلاف في تعليل كثير من الأحكام، ومن ذلك قول بعض فقهاء الحنابلة بكراهة الطهارة بالماء المتغير بمجاورة أو بملح مائي مع أنه طهور، ولكنهم يعللون بمخالفة غيرهم لهم فيما اختاروا، فاستحبوا الخروج من الخلاف بكراهة استعمال ذلك الماء (?) .

ومنه كذلك قول بعض فقهاء الأحناف بالندب للإشهاد على الرجعة خروجاً من الخلاف (?) .

ومنه قول بعض فقهاء المالكية بطواف القدوم بنية الركنية خروجاً من الخلاف (?) .

ومنه قول الشافعية باستحباب عدم القصر لسفر أقل من مسيرة ثلاث أيام للخروج من الخلاف (?) .

ويكاد يطبق أرباب المذاهب الأربعة على التعليل بالخروج من الخلاف في اختياراتهم الفقهية.

ولكنهم وضعوا لذلك ضوابط من أهمها ما قرره العز بن عبد السلام؛ حيث يقول: «والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد عن الصواب فلا نظر إليه، ولا التفات عليه؛ إذ كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلاً شرعاً» (?) ، ثم قال: «وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف؛ بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد؛ فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذراً من كون الصواب مع الخصم؛ والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات» .

فالخلاف إذا كان له حظٌّ من النَّظر، والأدلَّة تحتمله، فالمحققون يكرهون ويستحبون لأجل الخروج منه؛ لا لأنَّ فيه خلافاً؛ بل هو من باب «دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك» ، ويتأكد هذا، بل قد يتعين حتى مع الخلاف الضعيف إن خشي ترتب مفسدة أعظم على الخلاف.

أما إذا كان الخلاف لا حَظَّ له من النَّظر فلا يُمكن أن نعلِّلَ به المسائل؛ ونأخذ منه حكماً.

فليس كلُّ خلافٍ جاء مُعتَبراً إلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظرِ

ولأنَّ الأحكام لا تثبت إلاّ بدليل، ومراعاة الخلاف غير المعتبر لا تصلح دليلاً شرعياً، فيقال: هذا مكروه، أو غير مكروه بناء عليه، إلاّ إن خشي ترتب مفسدة أعظم جرَّاء الفرقة، فتقدر حينها الأمور بقدرها؛ وذلك لأمر خارج عن مجرد الخلاف غير المعتبر، مع العمل على إعادة الحق إلى نصابه وإقرار المصيب على صوابه.

` حكم الاختلاف في العمل الإسلامي؟

حكم الاختلاف على أنواع:

«النوع الأول: أصول الدين التي تثبت بالأدلة القاطعة، كوجود الله ـ تعالى ـ ووحدانيته، وملائكته وكتبه، ورسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، والبعث بعد الموت، ونحو ذلك. فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف، من أصاب الحق فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر.

النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين، مثل مسألة رؤية الله في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج الموحدين من النار، وما يشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشافعي؛ فمن أصحابه من حمله على ظاهره، ومنهم من حمله على كفران النعم.

النوع الثالث: [الأمور] (?) المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس، وحرمة الزنا، فهذا ليس موضعاً للخلاف. ومن خالف فيه فقد كفر.

النوع الرابع: الفروع الاجتهادية التي قد تخفى أدلتها؛ فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة، ويعذر المخالف فيها لخفاء الأدلة أو تعارضها.. فأما إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطلع عليه المجتهد فخالفه، فإنه معذور بعد بذل الجهد، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذاً بالدليل الصحيح الذي تبين أنه لم يطلع عليه. فهذا النوع لا يصح اعتماده خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنه اجتهاد لم يصادف محلاً، وإنما يعد في مسائل الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة» (?) .

أما واقع العمل الإسلامي فإذا كان الاختلاف من قبيل التنوع كأن يتخصص كل فريق أو جماعة في عمل، فهو اختلاف صوري وهو مطلوب، أما إذا كان الاختلاف اختلاف تحزب وتعصب يمنع التعاون والتعاضد وسماع النصيحة من الآخر فهو اختلاف مذموم، وكثير منه يقع في مسائل اجتهادية أو فرعية المخالف فيها معذور، ومثل هذا الخلاف لا ينبغي أن يخرج بالناس إلى ساحة احتراب وتناحر، بل لأصحابه في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة؛ فمع مخالفة بعضهم لبعض بقي إقرارهم بفضل ذوي الفضل وتوقيرهم، مع عمل كل برأيه وسعيه لنشره.

والذي ينبغي هو أن يكون اختلاف المسلمين في العمل الإسلامي من هذا القبيل إن لم يكن من قبيل اختلاف التنوع، ولا سيما مع كثير من الشعارات المرفوعة؛ فالهدف الأسمى واحد، ومجالات العمل متنوعة، والساحة تَسَعُ الجميع، بل تحتاجهم.

ولكن الواقع من الناحية العملية وجود التناحر والتحزبات والعصبيات التي تشبه عصبيات عصور التعصب المذهبي، ولئن سأل بعض المقلدة المتعصبة قديماً عن حكم صلاة الحنفي خلف المالكي أو العكس، فإن بعض جهلة الحزبيين اليوم يسألون عن حكم الصلاة خلف بعض إخوتهم المسلمين.

وكما أن أهل العلم ذموا التعصب للمذهب وأنكروه؛ فإن علينا أن نذم التعصب للجماعات أو الأفراد وننكره، وكما أن الذم لا يتوجه للمذاهب المعتبرة وأئمتها عند أهل التحقيق؛ فإن الذم قد لا يتوجه إلى الجماعات ورؤوسها طالما كانت ملتزمة بالسنة في الجملة وإن خرج بعض رجالاتها عن ركب السنة باجتهادات شخصية لم تؤثر على دعوة الجماعة كحال بعض رجالات المذاهب الفقهية المتبوعة.

وقد يتوجه الذم إلى الجماعة جملة وتفصيلاً إن كان التحزب والتقوقع أساساً من أسسها، أو كان من أسسها القول بمذاهب شاذة أواجتهادات غير سائغة عند أهل العلم.

` ثانياً: أسباب الافتراق:

الأسباب كثيرة ويمكن أن نقسمها إلى خمسة عوامل رئيسية تندرج تحتها أنواع عدة، وبعض هذه الخمسة يتعلق ببعض، ولكن أفردته لأهميته، وهذه العوامل هي:

أولاً: تفاوت الناس في الطبائع والميول وتفاضلهم في العقول.

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم..» (?) .

ولعل أثر تباين الطبائع والمدارك جلي في كثير من أشكال الاختلاف الواقع؛ فانظر إلى اختلاف أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في شأن أسرى بدر، تجد كل واحد منهما نزع إلى ما يقارب طبعه؛ فأبو بكر الرقيق الشفيق مال إلى المن أو الفداء، وعمر القوي الشديد جنح إلى الإثخان، وهو الذي جاء به القرآن.

فالطبيعة الخَلْقية والظروف الاجتماعية والبيئية الخاصة بالشخص أو العامة في المجتمع كلها تؤثر على نمط التفكير، فيجنح كل طرف إلى ما لا يجنح إليه الآخر.

وفي بعض الأحيان يتطلب الحكم موازنة بين أمور تحتاج إلى قوة العقل وحضوره؛ والناس متفاوتون في ذلك، ولا يعني هذا أن الأكمل عقلاً هوالأرجح اختياراً، أو هو الذي ينحو نحو الصواب دائماً؛ وذلك لما يرد على الأفراد من أحوال وأوقات يتعكر فيها المزاج مع ازدحام الأشغال، أو يذهل فيها المرء لمؤثرات أثرت عليه دون الآخر سواء كانت هذه المؤثرات منبعثة من البيئة الخارجية أو عوامل نفسية خاصة بالشخص، فيؤدي ذلك لأن يخطئ الصواب وإن كان هو الأرجح عقلاً والأحضر ذهناً من حيث الجملة. ولعل من ذلك قصة عمر ـ على أن في ثبوتها مقالاً (?) ـ مع المرأة في الميراث يوم قال: «أصابت امرأة، وأخطأ عمر» .

وربما تفاضل الناس في إدراك الصواب، واختلفوا لتبيان عقولهم ونفوسهم ضعفاً وقوة في جوانب مختلفة؛ فبعض الناس قد يحسن النظر في مسائل لاتساع معارفهم وتمرين عقولهم عليها، ولا يحسنون الخوض في مسائل أخرى، وكم من إنسان تكلم في غير ما يحسن فأضحك الناس، وشواهد هذا كثيرة.

ولهذا ذكر الأستاذ محمود الزحيلي أن أسباب الخلاف تنحصر في سبعة وذكر أولها:

الاختلاف في الأمور الجِبِلّية: إذ إن الأئمة والعلماء يتفاوتون في ملكاتهم وطبائعم وعقولهم، وهذا أمر طبعي ينتج عنه في بعض الأحايين اختلاف الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية.

ولعله قدم هذا لما له من أثر على البقية.

ومن هذا القبيل الاختلاف في الحكم بسبب النسيان:

ومن قبيله ما يروى من أن علياً ذكَّر الزبير ـ رضي الله عنهما ـ يوم الجمل شيئاً عهده إليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره، فانصرف عن القتال. قلت: فيكون الناسي معذوراً بفتواه.

ومنه كذلك عندما همَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يأخذ عيينة بن حصن، فذكّره الحُر بن قيس بقول الله ـ عز وجل ـ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، فأمسك.

ثانياً: من أسباب الاختلاف تفاوت الناس في العلم والمعرفة.

فأصل حدوث الاختلاف المذموم والتفرق في الأمة هو الجهل بالدين، ولهذا قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ: «الاختلاف في القواعد الكلية لا يقع بين المتبحرين في علم الشريعة، الخائضين في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها؛ والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني» (?) .

ولهذا «روي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ خلا يوماً، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وسأله، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنما نزل القرآن علينا، فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي؛ فإذا كان ذلك اختلفوا (?) .

قال الإمام الشاطبي معلقاً: وما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قُصد بها، فلم يتعدَّ ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجهاً، فذهب كل إنسان مذهباً لا يذهب إليه الآخر.

فإذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، وتصدَّر للتدريس والفتيا كل من وجد من نفسه زيادة فهم وفضل ذكاء وذهن مع أنه لم يأخذ العلم عن أهل التخصص والصناعة إذا كان ذلك كذلك وقع الافتراق والاختلاف.

وقد عد أهل العلم أن من البلايا «أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ولم يبلغ تلك الدرجة فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً.. فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها، وعليه نبه الحديث الصحيح: (لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (?) .

وأمثال هؤلاء أبكوا قديماً ربيعة الرأي. قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبةٌ دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. وقال ربيعة: ولَبَعْضُ مَنْ يفتي ههنا أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق (?) .

وإذا كان هذا في عصور التابعين والأئمة المرضيين؛ فماذا نقول في زمن الغربة بعد أن أصبح مجاهيل الإنترنت مشايخ يؤخذ عنهم العلم في كثير من الساحات، ويفتون في المدلهمَّات، والله المستعان.

ثم من أهم أسباب الاختلاف بسبب تباين العلوم والمعارف الاختلاف في العلم بنصوص الوحيين أو دلالتهما وهو ثلاثة أنواع (?) :

أحدها: عدم اعتقاده أن النبي قاله، أو لم يثبت عنده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله.

الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.

الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.

وهذه الثلاثة تتفرع عنها أسباب عدة، ولعل في النماذج السابقة شيء من البيان، ويمكن أن نجملها فيما يلي:

1 - قد يكون النص لم يبلغ بعض المخالفين فعمل بظاهر آية أو حديث آخر، فمن لم يبلغه النص لم يكلف أن يكون عالماً به، بل يكتفي المخالف أحياناً بظاهر آية، أو بحديث، أو بموجب قياس، أو بموجب استصحاب (?) . قال شيخ الإسلام: «وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث؛ فإن الإحاطة بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تكن لأحد من الأمة» (?) ، ومن أمثلة ذلك:

أولاً: حكم أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في الجدة بأنها لا ترث مطلقاً؛ فعن قبيصة بن ذؤيب قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال: فقال لها: ما لك في كتاب الله شيء، وما لك في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاها السدس فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر» (?) .

ثانياً: خفاء سنة الاستئذان على عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فعن أبي سعيد الخدري قال: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار؛ إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) ، فقال: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال أُبَيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم؛ فكنت أصغر القوم؛ فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك» (?) ؛ فهذه سُنَّة قد خفيت على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مع سعة علمه وفقهه في دين الله تعالى، وليس في هذا مذمة لعمر رضي الله عنه؛ فإن الله ـ تعالى ـ يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ؛ فمهما بلغ الإنسان من العلم فلا شك أنه لن ينتهي، ولهذا قالوا: «العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك فاتك كله» .

والأمثلة كثيرة، منها خفاء الحكم على كثير من الصحابة في نزول الطاعون ببلد (?) ، ومنها حكم عمر بمنع الحائض من النفرة قبل أن تطوف طواف الإفاضة ثم رجوعه لَمَّا بلغه الخبر (?) ؛ فهذه أمثلة على خفاء بعض نصوص الشريعة على من شهدوا الوحي وعاينوا التنزيل؛ فخفاء بعض الأصول على من بعدهم أوْلى وأحرى، ولا يجوز لمن أتى بعدهم «أن يدعي انحصار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها» (?) .

ومن هذا القبيل أيضاً:

أن يكون النص قد بلغ المخالف، لكنه منسوخ، بنص آخر ولم يعلم المخالف بالناسخ (?) .

ومن أمثلة ذلك اللَّبْس الذي حصل أول الأمر في رِبا النسا، ونكاح المتعة وغيرهما مما استقر الإجماع عليه بعد.

2 - أن يكون النص قد بلغه ولكنه لم يثبت عنده؛ إما لأن محدثه مجهول أو سيئ الحفظ أو متهم، ولا يعلم أن له طرقاً أخرى، ولهذا علق كثير من الأئمة العمل بموجب الحديث على صحته؛ فكثيراً ما يقول الإمام: قولي فيه كيت وكيت، وقد روي فيه حديث بخلافه فإن صح فهو قولي.

3 - اعتقاد ضعف النص باجتهاد خالفه فيه غيره، كتضعيفه لراو وثقه غيره، ومن ذلك أن بعض الأئمة كان لا يرى قبول حديث أصله غير حجازي (شامي أو بصري..) وبعضهم رأى هذا الرأي ثم رجع. ومما أثر في ذلك كلمة الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله! إذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شامياً كان أو عراقياً. ولعل من ذلك مخالفة الأحناف لغيرهم في القهقهة؛ فالإمام أبو حنيفة أخذ بحديث القهقهة في الصلاة، وجعل القهقهة من نواقض الوضوء، ومن مبطلات الصلاة (?) ، مع أن الحديث الذي استدل به ضعيف عند الأئمة.. لكنَّ عُذرَه في ذلك ظنُّه أن الحديث صالح للاحتجاج به، وهذا ليس فيه مذمة له ـ رحمه الله ـ بل هو في العلم والفضل من هو، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن، وإما بهوى؛ فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر (?) مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس (?) ، لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما» (?) .

4 - اشتراط بعضهم في قبول النص شروطاً يخالفه فيها غيره؛ كاشتراط بعضهم كون الراوي فقيهاً إذا روى ما يخالف القياس، واشتراط بعضهم ظهور الحديث وانتشاره إذا كان فيما تعم به البلوى، وربما وقع الاختلاف في بعض قواعد علوم الآلة ومنها المصطلح، ومن ذلك توثيق ابن حبان لمن لم يعرف بجرح، في مقابل طريقة ابن حزم في الرمي بالجهالة، وكتشدد أبي حاتم في نقد الرجال، وتساهل الحاكم في توثيقهم، واشتراط بعضهم للصحة اللقيا، واكتفاء آخرين بالمعاصرة، وغير ذلك.

5 - أن ينسى بعضهم حديثاً أو آية؛ كما ذهل عمر ـ رضي الله عنه ـ عن قول الله ـ تعالى ـ: {إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] لمّا مات نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

6 - عدم معرفة دلالة لفظ النص: ومن الركائز الأساسية في هذا العلمُ باللغة العربية. قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ: «الله ـ عز وجل ـ أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه؛ بمعنى أنه جارٍ في ألفاظه وأساليبه على لغة لسان العرب، قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] .. وكان المنزل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد، وهو محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان الذين بُعِثَ فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم ... وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله ـ تعالى ـ إلاّ من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها» (?) ، ولهذا قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: «ما جهل الناس ولا اختلفوا إلاّ لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس» (?) ، وقال السيوطي معلقاً بعد أن ذكره: «أشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية، وغير ذلك من البدع وأن سببها الجهل بالعربية والبلاغة الموضوعة فيها من المعاني والبيان والبديع» ، ومما يؤكد هذا أن عمرو بن عبيد (?) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء التميمي (?) يناظره في وجوب عذاب الفاسق، فقال: يا أبا عمرو! هل يخلف الله وعده؟ فقال: لن يخلف الله وعده، فقال عمرو: فقد قال، وذكر آية وعيد، فقال أبو عمر: من العجمة أتيت، الوعد غير الإيعاد ثم أنشد:

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي منجز له وعدي (?)

ولهذا قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: «إنما أهلكتهم العجمة يتأولونه على غير تأويله» (?) ، ولو نظرت في كثير من أهل البدع التي فرقت المسلمين لوجدت أصولاً لا تنم عن أصالة في اللسان العربي؛ فغيلان الدمشقي أول من تكلم في القدر وقال بخلق القرآن كان مولى لآل عثمان بن عفان، والجعد بن درهم كان مولى لبني الحكم، وجهم بن صفوان كان مولى لبني راسب، وعمرو بن عبيد مولى لبني تميم، وواصل بن عطاء مولى لبني مخزوم أو لبني ضبة على خلاف في النسبة.

ولعل من أظهر عوامل الاختلاف بسبب عدم فهم دلالة النصوص عاملان:

- الأول إما لكون اللفظ غريباً، نحو لفظ المزابنة والمحاقلة والمنابذ، ومن هذا القبيل اختلافهم في تفسير: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» ففسره كثير من الحجازيين بالإكراه، وفسره كثير من العراقيين بالغضب، ومنهم من فسره بجمع الطلاق في كلمة واحدة؛ باعتبار أنه مأخوذ من غلق باب الطلاق جملة.

- أو لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حمله على معناه عند الإطلاق (الحقيقة) أو حمله على معناه عند التقييد (مجاز) كاختلافهم في القرء ومعناه.

7 - معرفة دلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لا يتفطن لدخول هذا الفرد المعين تحت اللفظ: إما لعدم تصوره لذلك الفرد، أو لعدم حضوره بباله، أو لاعتقاده أنه مختص بما يخرجه عن اللفظ العام.

8 - عدم اعتقاد وجود دلالة في لفظ النص على الحكم المتنازع عليه، وهذا له أربع حالات:

- أن لا يعرف مدلول اللفظ في عرف الشارع، فيحمله على خلاف مدلوله في العرف الشرعي.

- أن يكون له في عرف الشارع معنيان فيحمله على أحدهما، ويحمله المخالف على الآخر.

- أن يفهم من العام خاصاً أو من الخاص عاماً، أو من المطلق مقيداً، أو من المقيد مطلقاً.

- أن ينفي دلالة اللفظ؛ مع أن اللفظ تارة يكون مصيباً في الدلالة وتارة يكون مخطئاً؛ فمن نفى دلالة قول الله ـ تعالى ـ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] على حِل أكل ذي المخلب والناب أصاب، ومن نفى دلالة العام على ما عدا محل التخصيص غلط، ومن نفى دلالته على ما عدا محل السبب غلط.

9 - اعتقاد أن دلالة النص عارضها ما هو مساو لها فيجب التوقف، أو عارضها ما هو أقوى فيجب تقديمه، ولهذا أقسام متعددة (?) ، ومن أمثلة ذلك:

أولاً: لما حدَّث ابن عباس عائشةَ بحديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (?) ، أنكرت ذلك وقالت:"إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، يرحم الله عمر، لا والله ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط: إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: «إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذاباً، وإن الله لهو {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] » (?) ، فظنت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن هذا النص يخالف ما ثبت عندها من كلامه -صلى الله عليه وسلم-، بل يخالف مقتضى القرآن الكريم (?) .

ثانياً: اختلاف العلماء في الجمع بين قوله - تعالى -: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، وبين قوله ـ تعالى ـ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] ؛ فالآية الأولى تحرم على المسلمين نكاح المشركات، والآية الثانية تحلل نكاح الكتابيات، وقد اختلف العلماء في نكاح الكتابيات؛ فالجمهور على جوازه، استناداً لآية المائدة، وقال بعض العلماء: لا يجوز نكاح الكتابيات استناداً لآية البقرة، وظناً منهم أن آية المائدة معارضة بآية أصرح منها وهي آية البقرة (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015