مجله البيان (صفحة 5078)

التناقض بين العبادة والسلوك

د. أسامة مشعل

من نظر في حياة المسلمين في جانبيها العبادي والسلوكي وجد تناقضاً واختلالاً بين ما يجب أن يكون متلازماً ومتناغماً.

ففي الجانب العبادي: المساجد تغص بالمصلين، والصائمون في رمضان أكثر من المصلين، ومؤسسات استقبال الزكاة كثيرة ومتنوعة، وعدد الحجاج يزيد عن ثلاثة ملايين كل عام.

وفي الجانب السلوكي: انتشر الكذب والغيبة والنميمة والغش وقول الزور، وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين، والتعامل بالربا، وتكشُّف النساء ... إلخ.

ونظراً لما للتلازم بين العبادة والسلوك من أثر في إصلاح الفرد الذي هو اللبنة الأولى في إصلاح المجتمع وبنائه؛ ولما لذلك من علاقة في تغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة والمؤسسات قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} [الرعد: 11] ؛ ولأن هذا التلازم كذلك يتعلق بجهاد النفس المقدم على جهاد العدو، والمسلم إذا لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمِرت به، وتترك ما نُهيت عنه، ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، وبإصلاح الفرد بدأ الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

من أجل ذلك وغيره فإن دراسة ظاهرة التناقض بين العبادة والسلوك في غاية الأهمية.

إن التساؤلات حول هذه الظاهرة كثيرة، ومن أبرزها: ما معنى هذا التناقض؟ وما هي أهمية هذا الموضوع؟ وما هي حقيقة العلاقة بين العبادة والسلوك؟ وما أدلتها؟ ما النماذج والصور الواقعية التي توضح هذا التناقض؟ ما الأسباب الرئيسية لهذا التناقض؟ ماالعلاج لهذا التناقض؟

` أولاً: معنى التناقض بين العبادة والسلوك:

التناقض لغة (?) : الإفساد أو الهدم أو الإبطال أو المخالفة والمعارضة.

العبادة لغة (?) : الشعائر التعبدية: كالصلاة والصيام والزكاة والحج.

السلوك لغة (?) : سيرة الإنسان: تصرفات الإنسان القولية والفعلية.

وبناء على ذلك يصبح معنى التناقض بين العبادة والسلوك: مخالفة الأصل الذي هو التلازم والانعكاس المتبادل بين العبادة والسلوك سلباً أو إيجاباً، وإبطال السلوك السلبي لأجر أو قبول عند الله.

` ثانياً: أهمية موضوع التناقض بين العبادة والسلوك:

تعود أهمية هذا الموضوع إلى أسباب اختياره، ومن أبرزها:

1 ـ انتشار هذا التناقض في حياة كثير من المسلمين.

2 ـ جهل كثير من المسلمين بأثر هذا التناقض على الشعائر التعبدية.

3 ـ اقتناع كثير من المسلمين بعدم وجود علاقة بين العبادة والسلوك.

4 ـ نوضيح أسباب هذا التناقض، وأن الأصل هو التوافق.

5 ـ تقديم مقترحات لعلاج هذا التناقض.

` ثالثاً: حقيقة العلاقة بين العبادة والسلوك:

إن حقيقة العلاقة بين العبادة والسلوك هي علاقة توافق سلباً وإيجاباً، وذلك وفق الآتي:

ـ إن العبادة التي تؤدى على الوجه الأكمل تنتج سلوكاً إيجابياً في الغالب.

ـ وإن العبادة التي لا تؤدى على الوجه الأكمل تنتج سلوكاً سلبياً في الغالب، أو على الأقل تنتج سلوكاً فيه نقص أو خلل.

ـ وإن السلوك الإيجابي يدل على أن العبادة تؤدى على الوجه الأكمل.

وإن السلوك السلبي يدل على أن العبادة لا تؤدى على الوجه الأكمل.

ولعل من المفيد الإشارة إلى أن البحوث الإعلامية تعبر عنها بالعلاقة بين متغيرين (متغير العبادة ومتغير السلوك) أي زيادة الانضباط في العبادة يؤدي إلى زيادة الانضباط في السلوك، وأن الخلل أو النقصان في العبادة يؤدي إلى خلل أو نقصان في السلوك الإيجابي، كما أن الانضباط في السلوك يشير إلى الانضباط في العبادة، والخلل في السلوك يشير إلى الخلل أو النقصان في العبادة.

وتظهر هذه الموازنات والمتغيرات كثيراً في علاقة عبادة الصلاة بالسلوك لتكررها اليومي، ثم الصيام؛ لأنه شهر مفروض في كل عام، وتكون أقل في الظهور في الزكاة لارتباطها بتوفر نصاب من المال، وتقل هذه الموازنات أكثر في الحج لكونه مرة في العمر على القادر والمستطيع.

والوجه الأكمل للعبادة هو: أن تكون خالصة لله عز وجل، وأن تؤدى وفق ما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شكلاً ومضموناً، وأن يخلو المؤدي لأي شعيرة من الشعائر التعبدية من موانع القبول وفي مقدمتها البعد عن المنهيات والمحرمات، وعن أمراض القلوب.

وإن السلوك الإيجابي هو: التخلق بأخلاق الإسلام المتعلقة بالقلب واللسان والجوارح.

وإن الأخلاق المتعلقة بالقلب هي ملء القلب بالإيمان وبذكر الله، وسلامته من أمراض القلوب المعنوية مثل: الحقد، والحسد، والعجب، والكبر، والغرور ... ، ومن العقائد والأفكار المخالفة للدين.

وإن الأخلاق المتعلقة باللسان هي: قراءة القرآن، والذكر، والصدق، وقول الحق، والدعوة إلى الله والنصح للمسلمين، والبعد عن آفاق اللسان، مثل الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والدعاية للأفكار والمبادئ الهدامة، والترويج للبضائع المحرمة، والإخلال بالمقصود والعهود والمواثيق، واستخدامه في الضروريات والحاجيات والمباحث.

وإن الأخلاق المتعلقة بالجوارح (اليد والرجل والفم والسمع والبصر والبطن والفرج ... ) هي: استعمال الجوارح فيما أمر الله به أو أباحه، وتجنيبها ما نهى الله عنه أو حرمه.

` أدلة العلاقة الترابطية بين العبادة والسلوك:

تشير كثير من النصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية إلى العلاقة الترابطية بين الشعائر التعبدية والسلوك القولي والفعلي، وسأكتفي بذكر بعضها وفق الآتي:

1 ـ أدلة الترابط بين الصلاة والزكاة والسلوك من الكتاب والسنة:

ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك الوفاء بالعهد والصبر:

قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 177] .

ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] .

ـ الترابط بين الصلاة وسلوك الانتهاء عن الفحشاء والمنكر:

قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون} [العنكبوت: 45] .

ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك النصح:

عن جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: «بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة والزكاة والنصح لكل مسلم» (?) حديث صحيح حسن.

ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك صلة الرحم:

عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تعبدُ الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم» (?) .

ـ الترابط بين الصلاة والصيام وسلوك تحريم الحرام وإحلال الحلال:

عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النعمان بن نوفل ـ رضي الله عنه ـ جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وحرمت الحرام، وأحللت الحلال ولم أزد على ذلك شيئاً أفأدخل الجنة؟ قال: نعم! فقال: والله لا أزيد على ذلك شيئاً» (?) .

ـ الترابط بين الصيام والبعد عن سلوك قول الزور:

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه» (?) حديث حسن صحيح.

ـ الترابط بين الحج والبعد عن سلوك الرفث والفسوق والجدال:

قال الله ـ تعالى ـ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِ} [البقرة: 197] .

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من حج ولم يرفث ولم يفسق غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» (?) حديث حسن صحيح.

ـ وإن من أبلغ الأدلة على هذا الترابط أن السلوك السلبي لا يشير إلى أن العبادة لا تؤدى على الوجه الأكمل فقط، بل ينقل ثواب العبادة إلى المتضرر من السلوك السلبي، ويُدخل صاحبه النار، أو يبعده عن الله.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتدرون ما المفلس؟

قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار» (?) .

وعن أبي هريره ـ رضي الله عنه ـ قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! إن فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل، وتتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا خير فيها هي من أهل النار» (?) .

ويقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً» (?) .

` رابعاً: نماذج وصور واقعية توضح التناقض بين العبادة والسلوك:

إن واقع المجتمعات المسلمة الظاهر، والممارسات الاجتماعية والاقتصادية في الغالب تدل على هذا التناقض، ويجد المتأمل أمثلة واقعية كثيرة قولية وفعلية، ومن ذلك انتشار التعامل بالربا، وكثرة الكذب والغيبة والنميمة والغش والخداع والظلم، وعقوق الوالدين، وعدم الوفاء بالعقود والعهود ... ، وتقليد غير المسلمين والتشبه بهم دون أي تمييز بين الحسن والقبيح، وعدم التزام الطالب بمدرسته أو جامعته أو المحافظة على أثاثها ومقتنياتها، وكذلك المدرس وأستاذ الجامعة والموظف.

وهذه بعض الصور والنماذج الواقعية التي توضح ذلك:

ـ امرأة تصف زوجها فتقول: إنه حريص على الصلاة في أوقاتها بالمسجد وعلى الصيام في رمضان وعلى أداء الزكاة وعلى الحج والعمرة، ومعاملته حسنة مع الناس، ولكنه يأكل الربا، ويسافر للخارج للزنا وشرب الخمور وفعل المنكرات، وإذا دخل المنزل يخلع ثلاثة أشياء: حذاءه، وثيابه، وأخلاقه؛ فهو فظ غليظ سبّاب فاحش مع زوجته وأولاده، ولا يجلس معهم، بل يقضي وقته في مشاهدة البرامج والأفلام الخليعة في الفضائيات والإنترنت.

ـ جار يصف جاره فيقول: جاري حريص على الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج في كل عام، ويلقي أحياناً دروساً في المسجد، ولكنه لا يتورع عن الكذب والغيبة والنميمة واحتقار بعض أقاربه وجيرانه، وسبَّاب وفاحش ولعَّان لزوجته وبناته وأولاده، ويربيهم على الحقد وعلى حب المال، ويقول: معك ريال فقيمتك ريال.

ـ صديق يتحدث عن صديق: صديقي حريص على الصلاة بجماعة في المسجد وعلى أداء السنن الرواتب بدقة وعلى بقية الشعائر التعبدية، ولكن بناته سافرات؛ فواحدة منهن تعمل مديرة لشركة في أوروبا بمفرها ولم تتزوج بعد، وواحدة تدرس دون مرافق محرم في بلد أوروبي، فهذه النماذج يغيب فيها السلوك الحسن والخلق الفاضل عن بعض المتدينين.

ـ من أبرز أركان العقود المتفق عليها في الشريعة الإسلامية: الإيجاب والقبول والصيغة؛ فعندما يتقدم الطالب بطلبه للقبول في الجامعة فإن ذلك يعتبر إيجاباً من طرفه وموافقة على نظام الجامعة إن قبلته، وإذا تم القبول فقد اكتملت أركان العقد، ووجب الالتزام به، قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .

ويتألف نظام الجامعة في الغالب من آداب وشروط أو ضوابط، وتشتمل الآداب على علاقة الطالب بأساتذته وبزملائه وبالإداريين، وببناء الجامعة ومرافقها، وبالفصول الدراسية وأثاثها، وأما الشروط والضوابط فتتعلق غالباً بالالتزام في الحضور إلى المحاضرات في أوقاتها المحددة وفي حضور الامتحانات بأنواعها، وفي الحصول على الحد الأدنى من الدرجات التي تسمح للطالب بالاستمرارية إلى نهاية المرحلة التي هو فيها.

إن غالب طلاب الجامعات يؤدون الشعائر التعبدية، وإن كثيراً منهم لا يلتزمون بالمطلوب منهم في نظام الجامعة، وهذا تناقض بين العبادة والسلوك.

ـ عندما يتقدم الطالب بطلب إلى الجامعة للابتعاث للخارج فإن هذا الطلب هو إيجاب من الطالب أي موافقة من الطالب على أن ترسله الجامعة للحصول على التخصص الذي تحتاجه، ولهذا الابتعاث نظام معروف، وإذا قبلته الجامعة فقد تم العقد وعلى الطالب الوفاء بمضمونه.

ونظام الابتعاث يتضمن آداباً وشروطاً وضوابط منها العودة للعمل في الجامعة ضمن نظام يتعلق بأعضاء هيئة التدريس يجب أن يلتزم به العائد من الابتعاث، وفي هذا النظام كذلك شروط وضوابط وآداب، ومنها: تدريس ما يُكلَّف به، والحضور في المواعيد المحددة، والعلاقة بطلابه وزملائه والإداريين، ومباني الجامعة ومرافقها وأثاثها.

والمتأمل يرى أن بعض أعضاء هيئة التدريس من المؤدين للشعائر التعبدية لا يلتزمون بالمطلوب منهم في نظام الجامعة، وهذا تناقض بين العبادة والسلوك.

إن خلق الشعور بالمسؤولية والوفاء بالالتزامات التي يقطعها الإنسان على نفسه يعتبر من أعظم الأخلاق التي تدل على رقي صاحبها، وعلو مكانته، ومستواه الاجتماعي، ومن أهم العوامل التي تؤدي إلى نجاح الإنسان في مجتمعه.

فالوفاء بالعهد مسؤولية سيناقَش عليها الإنسان الحساب. قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91] ؛ ولذلك يجب الوفاء بالعهد مهما كانت الظروف. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُون} [الصف: 2 - 3] .

فالإخلال بالعقد والعهد من المقت السيئ الكبير الذي يكرهه الله لعباده المؤمنين.

إن حسن إسلام المرء تؤكده العبادات فقط، بل لا بد من تأكيد ذلك بالقول والفعل من خلال سلوكه وتصرفاته.

` خامساً: الأسباب الرئيسة للتناقض بين العبادة والسلوك:

ويمكن إجمالها في ستة أسباب رئيسة:

1 ـ الفهم غير الصحيح للإسلام:

ويعود ذلك بشكل رئىس إلى عدم فهم القرآن الكريم على وجهه الصحيح؛ حيث أصبحت قراءته لدى كثير من الناس دون فهم وتدبر وتطبيق، ويرجع هذا إلى عوامل عديدة من أبرزها:

أـ بُعد المسلمين عن العلم الشرعي وعلمائه.

ب ـ ضعف المسلمين باللغة العربية الفصحى.

ج ـ فشوُّ العامية.

لقد كان القرآن الكريم كل شيء في حياة المسلمين بدءاً من رسولهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويبدو ذلك جلياً عندما سألت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن خُلُقه -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: «كان خلقه القرآن» (?) ، ويظهر ذلك أيضاً في قول سيدنا عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «كنا لا نتجاوز حفظ عشر آيات حتى نعمل بما فيهن» (?) .

ومنذ نزول القرآن الكريم أدرك كفار قريش أن السبيل لمحاربته هو أن يبعدوا تأثيره عن قلوب المسلمين، وأن يصدوا الناس عن سماعه والإقبال عليه. قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون} [فصلت: 26] ، وما فتئ أعداء الإسلام منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا يبذلون كل طاقاتهم لصد الناس عن القرآن الكريم بمختلف الطرق والأساليب.

وعندما لم تستطع أوروبا أن تثبت أقدامها في العالم العربي بعد الحروب الصليبية بقوة السلاح بدأت تبحث عن العوامل التي حالت دون ذلك، وفي الوقت ذاته ظهر الاستشراق الذي كان من أول أهدافه أن يبحث لأوروبا عن سلاح غير أسلحة القتال، وبَعْد الدراسة والبحث تبين للمستشرقين: أن العامل الرئيس في قوة المسلمين هو القرآن الكريم؛ ولذلك فلا بد من العمل على إزالته.

وفي العصر الحديث وفي مجلس العموم البريطاني رفع (غلادستون) المصحف قائلاً: «إنكم لن تستطيعوا أن تحكموا المسلمين إلا إذا نزعتم هذا منهم» . ولكنهم بعد استعمارهم لبلاد المسلمين توصلوا إلى أنه لا يمكن نزع القرآن الكريم من حياة المسلمين إطلاقاً، ولكن من الممكن نزع تأثيره؛ ويصبح شكلاً دون مضمون، أو جسداً بلا روح، ولا يمكن نزع تأثيره إلا بإضعاف أدوات فهمه وتدبره، وفي مقدمتها: اللغة العربية الفصحى، والعلم الشرعي وعلمائه.

وهنا قرروا العمل بهذا الاتجاه، والذي يؤكد ذلك كثير، ومنه ما ورد في تقرير لجنة العمل المغربي الفرنسي: «وإن أول واجب هذ السبيل ـ مقاومة الإسلام ـ هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها؛ بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمالي أفريقية حتى لا يفهم المسلمون قرآنهم، ويمكن التغلب على عواطفهم» (?) .

وقد أدرك هؤلاء أن اللغة العربية تعتبر من أهم عناصر قوة الأمة الإسلامية؛ لأنها لغة القرآن والعنصر الرئيس في توحيد الأمة الذي يرتفع فوق العصبيات والقوميات، ولم يكن هذا الأمر وليد الساعة، بل تنبه إليه الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ وإليه أشار سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: «تعلموا العربية فإنها من دينكم» (?) . وأشار إليه كذلك الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عندما قرر أن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله.

وعندما جاء الاستعمار الحديث إلى البلاد العربية، وقامت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة (نابليون بونابرت) ، وقد تم اختيارها ـ مصر ـ؛ لأنها بلد العلم ومصدر إشعاعه في العالم الإسلامي، ورافق المستشرقون الحملة ليضعوا أسس إضعاف تلك الأدوات ـ اللغة العربية، والعلم الشرعي وعلمائه ـ وتهميشهاً؛ ولتحقيق ذلك اصطحبت الحملة معها كتباً كثيرة، وفتحت مراكز للثقافة، وتوجهت إلى الأزهر ورجاله ودور العلم والمكتبات، وعاثت فيها فساداً من كل جوانبها.

وبعد أن خرج الفرنسيون صار أمر مصر إلى محمد علي باشا (الألباني) عام 1805م، وسيطر قناصل أوروبا على مرافق البلاد، وفي مقدمتها التعليم، وركزوا على عدة أمور من أبرزها: إضعاف مناهج اللغة العربية، وتدعيم نشر العامية، وإبعاد الناس عن العلم الشرعي؛ وذلك برفع مستوى دخل المختص في غير العلوم الشرعية، وتشويه صورة العلماء في نفوس الناس.

وانطلاقاً من تلك الأمور وغيرها أرسلت البعثات العلمية إلى فرنسا عام 1826م، وكان ممن رافق البعثات الأولى إماماً ومرشداً لها الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي، وبدلاً من أن يكون عامل وقاية للبعثة من التأثر بالأفكار الفرنسية تأثر هو بها، ولما عاد إلى مصر ألَّف عدة كتب، منها: «أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني اسماعيل» يدعو فيه إلى العامية، ومما قال فيه: «نعم! إن اللغة المتداولة المسماة باللغة الدارجة التي يقع بها التفاهم في المعاملات السائرة لا مانع أن تكون لها قواعد قريبة المأخذ تضبطها ليعرفها أهل الإقليم حيث نفعها بالنسبة إليهم عميم، وتصنف فيها كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية» .

وبعد ذلك أُلفت كتب كثيرة في مصر وغيرها تدعو إلى العامية، وتقعّد لها، وتهاجم الفصحى، ومن تلك الكتب: (قواعد اللغة العامية في مصر: ولهلم سبيتا) و (اللهجة العامية في مصر: كارل فورلرس) و (قواعد اللهجة اللبنانية السورية: رافائيل نخلة) و (في متلو هلكتاب: مارون غصن) و (معجم الألفاظ العامية في اللهجة اللبنانية: أنيس فريجة) .

وتكاثر دعاة العامية، وأغلبهم من النصارى: عيسى إسكندر المعلوف، ولويس عوض، وسعيد عقل، وسلامة موسى.

واللغة العربية من أهم أدوات فهم القرآن، فإذا ما اضعِفت أو هُمِّشت لم يعد يُفهم القرآن على وجهه الصحيح، ونجحوا في ذلك، فلم يعُد المسلم يفهم القرآن، ومن ثم ما عاد يتدبره ويطبقه؛ وبذلك تحقق في المسلمين قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] .

2 ـ حب الدنيا واتباع الشهوات:

أصبح المسلم اليوم حريصاً على دنياه ومتبعاً لشهواته. قال الله ـ تعالى ـ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] .

لقد شُغل قلب المسلم وعقله وفكره بحب الدنيا وكيفية تحصيلها بأشكالها وأنواعها حتى أصبحت أكبر همه، واحتلت الشهوات المكانة الأولى في اهتماماته، ولم يعُد يفكر في الموت وما بعده، بل صار يكره الموت، وهذا ما عبّر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» (?) .

3 ـ خلوُّ الشعائر التعبدية من الخشُوع والخضوع الحقيقي:

لقد أصبحت الصلاة ـ مثلاً ـ لدى الكثيرين جسداً (شكلاً) دون روح (مضمون) ، فلم تعد تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يعد المصلي يستشعر بين يدي مَنْ يقوم، ومَنْ يواجه.

ويصوم المسلم عن الطعام والشراب، ولا تصوم جوارحه؛ فلا يكف لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب ... ، ولا عينه عن النظر للعورات، ولا أذنيه عن سماع المحرمات.

ويؤدي المسلم الحج، ولكنه لا يتغير فيه شيء لا قَبْل الحج ولا بَعْده.

وبذلك تحقق في المسلمين: «يأتي على الناس زمان تصبح فيه الصلاة عادة، والصوم جلادة، يحج أغنياؤهم للنزهة، وفقراؤهم للتكسُّب، وقراؤهم للرياء والسمعة» (?) .

4 ـ ضعف الإيمان، وبخاصة في جانب مراقبة الله ـ عز وجل ـ والموت والرزق:

لم يعد المسلم يستشعر أن الله يراه في كل وقت وحين؛ لذلك صار يقع في المخالفات الشرعية، وأيضاً لم يعد عمله يدل على أنه موقن بالموت، فصار لا يتوقف كثيراً للتدقيق في قضايا الحلال والحرام، وتحقق قول عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ: «ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت، ثم لا يستعدون له يعني كأنهم فيه شاكون» (?) .

ولم يعُد المؤمن يؤمن تمام الإيمان بأن الرزق تكفل به الله في كتابه الكريم: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُون} [الذاريات: 22 - 23] ؛ ومن هنا وقع المسلم في الكسب الحرام، وسلك مسالكه.

5 ـ الجهل بخطورة هذا التناقض على العبادة:

ويعود ذلك بشكل رئيس إلى بُعْد المسلمين عن العلم الشرعي وعن التلقي عن العلماء الذي تولَّد منه عدم الاكتراث بقبول العبادة أو عدمه. ومن جانب آخر ضعف الشعور بالمؤاخذة على أعمال الجوارح، بل برزت الاستهانة بأفعالها، حتى انطبق عليهم قول الله ـ تعالى ـ: {إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] .

6 ـ الأفكار المستوردة:

ويعود انتشار الأفكار المستوردة إلى عوامل عديدة، من أبرزها:

الاستعمار في الماضي، عودة كثير من المبتعثين الذين يحملون الأفكار التغريبية، البعثات التنصيرية ـ في الماضي ـ إلى بلاد العرب والمسلمين، التدفق المعلوماتي والإعلامي عبر الوسائل الحديثة: الإنترنت والفضائيات ... ، وغيرها.

وتأتي فكرة فصل الدين عن الحياة في مقدمة الأفكار المستوردة التي كان لها أثر كبير في حياة المسلمين، وأصبح المسلم كالنصراني في نظرته لعلاقة الدين بالحياة والتي تقوم على: «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله ... » .

` سادساً: علاج التناقض بين العبادة والسلوك:

إذا استطاع الطبيب أن يشخص أسباب المرض بدقة فإنه يتمكن في ـ الغالب ـ من إعطاء العلاج الناجع لهذا المرض، وإذا لم يستطع التشخيص التدقيق فإنه يعطي للمريض مسكنات للألم حتى يقيِّض الله له دواء شافياً.

وبعد سبْر حقيقة ظاهرة التناقض بين العبادة والسلوك أمكن حصر غالب أسبابها التي ذكرت آنفاً، وبالدراسة تبين أن العلاج الناجع لهذه الظاهرة يتلخص في النقاط الآتية:

1 ـ العودة إلى دراسة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته ـ رضي الله عنهم ـ والتعمق في فهم الجوانب المتعلقة بالتلازم بين العبادة والسلوك.

2 ـ العمل على إيجاد قدوات حقيقية في المجتمع المسلم يتمثلون تعاليم الإسلام بدقة وحذر، ويخشون أن يؤتى الإسلام من قِبَلهم.

3 ـ إبراز مكانة العلم الشرعي وعلمائه في الأمة.

4 ـ العودة إلى فهم الإسلام وتعاليمه على يد العلماء العاملين الثقات.

5 ـ تعليم اللغة الفصحى، وإبراز مكانتها في الدين، وضرورتها في فهم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

في الختام: لا أزعم أن هذه العجالة كاملة مستوعبة إنما هي بداية لدراسة متعمقة إن شاء الله. وأؤكد: أنه لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

وخير ختام ما قاله نبي الله شعيب فيما حكاه القرآن الكريم: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيب} [هود: 88] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015