- التحرير -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
إن العالم الذي نعيش فيه تصطرع فيه العقائد والأفكار، وتتصادم المبادئ
والآراء، وقد اقتضت سنة الله في هذا الكون أن يكون الصراع بين الخير والشر
صراعاً مستمراً ما استمرت الحياة، وإن الإسلام الذي هو خير كله، ولذلك اختاره
الله ديناً للبشرية، لن يترك من قبل قوى الشر، ولا تزال شياطين الإنس والجن
تواجهه بشتى الأسلحة منذ أن بُعث محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- إلى
يوم الناس هذا.
وإن أخطر الأخطار التي تهدد هذا الدين ما كان داخلياً نابعاً من صفوف
متبعيه، فالذي يتتبع حركة هذا الدين في التاريخ يجد مصداق ذلك، فكل أنواع
الإخفاق والانهزام التي مني بها أصحابه كانت أسبابها الرئيسية ترجع إلى تراخٍ في
التمسك بهذه العقيدة، أو عدم وضوح التصورات والأهداف يعتري الناس، أو غفلة
عن مبدئية هذا الدين في خضم تصارع القوى والأفكار حوله. وكل العلامات
المضيئة في مسيرته التاريخية ترجع إلى انتباه المسلمين إلى ما يملكون من رصيد
مادي ومعنوي حيث يعتزون بدينهم, ويشعرون بفداحة الأخطاء التي تهددهم من
خلال استهداف الأعداء دينَهم فيجتمعون على هدف موحد، ويسيرون إليه بخطاً
واثقة يستهدفون كتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ويستلهمون معاني
القوى والاعتزاز وكراهية الظلم بشتى أشكاله من ذلك الرصيد العظيم وقد اقتضت
حكمة الله أن يكون العلماء هم الرواد الذين يحملون النور في الظلمات الحالكة، وأن
يكون علمهم هو الهادي للمسلمين حين تطبق عليهم الخطوب وتفدحهم المصائب،
فيبثون بهذا العلم الثقة في النفوس المهزومة ويبعثون الأمل الضاحك في القلوب
المقهورة، ويشخصون الداء ويصفون الدواء بحكمة الطبيب النطاسي.
ومنذ أواسط القرن التاسع عشر المسيحي بدأ المسلمون بالتنبه لواقعهم الذي
آلوا إليه: تراجع في القوى، وتشتت وتفرق، وملوك وولاة أنهكوا شعوبهم بظلمهم
وعسفهم واستبدادهم، وأماتوا فيهم عوامل الوثوب والمقاومة، حتى غدوا جهلاء
فقراء إلى جانب أمم الغرب التي استعدت عليهم، وبدأت تهددهم، وأخيراً قضت
على آخر كيان سياسي كان يتكلم باسم هذا الدين وهو الدولة العثمانية، وتمكنت من
أن تسيطر على بلدانهم وثرواتهم، وتجعلهم وبلدانهم غذاءً لمصانعها وبطونها،
وسوقاً لمنتجاتها، وقبل كل ذلك وضعت الخطط والبرامج من أجل تغيير عقائد هذه
الشعوب، وقطع صلتها بتشريعها وقيمها وأخلاقها، وإحلال عقائد ومناهج الغرب
الكافر محلها، فتقترب العقول من العقول، وتردم الهوة السحيقة التي تفصل بين قيم
وقيم، وعادات وعادات، فيسلس لها قياد هذه الشعوب، ويسهل لها تحقيق مطامعها
في بسط الهيمنة ورفع الحضارة الغربية المسيحية الوثنية، وتدمير المعاني
الإسلامية الربانية.
ومنذ ذلك الحين إلى الآن قامت دعوات ونهض أفراد، يرفعون رايات
الإصلاح ويبينون مكامن الأخطر كل حسب رأيه وقدراته ومنازعه الثقافية.
وكان دعاة الإصلاح - وما زالوا - كل له رأيه في الإسلام، فكان أن جعلته
طائفة أساساً لعملها، وطائفة تجاهلته، وطائفة اختارت منه أشياء ورفضت
واستبعدت أشياء يدفعها إلى ذلك التحكم المحض تارة، أو الانهزام أمام الأفكار
الوافدة تارة أخرى، أو الغرور مرات كثيرة.
على أن الأمر الذي آثار - ويثير - البلبلة في الأفكار، وخاصة أفكار الشباب
هو أن أغلب رواد الإصلاح كانوا يرفعون راية الدين، ويدعون أنهم على الجادة
التي ترك محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عليها، مع أن أغلب
أولئك الرواة قد شابت مسالكهم الشوائب، وخالطت منهاجهم أمور غريبة كانت
نتيجة تصور غير صافٍ للمنهج الإسلامي الأصيل.
وهذه الدراسة التي نقدم لها تتناول هذه القضية الخطيرة، قضية التجديد
والإصلاح، وتصب في صميم تحديد المنهج الذي يجب أن ينتهجه المسلمون، حتى
يخرجوا مما هم فيه من الضعف العقائدي، ويرتفعوا عن وهدة الذل والهوان التي
صاروا إليها.
وقد طرح هذا الموضوع الحساس على بساط البحث قديماً وحديثاً، وتناولته
طائفتان من الكتاب:
1- طائفة يمكن أن نطلق عليها اسم (هواة الكتابة) ، حيث وجدوا هذا
الموضوع مستطرفاً، فتناوله إشباعاً لهواية الكتابة عندهم لا انطلاقاً من شعور مُلِحَ، وإحساس تفاعلي بينهم وبين الواقع.
2- وطائفة من العلماء الأعلام تعرضت له تعرضاً خفيفاً حسب ما يقتضيه ما
هم بصدده من بيان المراد بالجملة لا بالتفصيل، وشرح لمضمون حديث (المجدِّد)
حينما يعرض في دواوين السنة.
وهذه أول دراسة علمية - فيما نعلم - لموضوع التجديد والمجددين،
مستوعبةً له، مقصورة عليه، دفع إليها الإحساس بالحاجة إليه في هذا الوقت الذي توالت فيه المحن والشدائد على حَمَلَةِ هذا الدين، وقلَّ العلم وكَثُرت الدعوة،
وتعددت اللافتات المرفوعة.
وسيجد القارئ أسباب اعتبارنا هذه الدراسة واعتدادنا بها مبثوثة في ثنايا
البحث الذي سننشره على حلقات في هذه المجلة - إن شاء الله -، ومن أبرز هذه
الأسباب: الحرص على الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله، مع بيان مبلغ
حديث من الصحة عند الاستشهاد ونقل أقوال العلماء المحققين، وتقديم دراسة
تاريخية لأبرز المجددين، مع ربط هذه الأمور بواقع عصرنا.
وسيكون من خطة المجلة أن تتبنى كتباً أو أبحاثاً مسلسلة ثم يصار إلى طبعها
في كتاب يكون موازياً للمجلة.