الافتتاحية
- التحرير -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله هي مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم هي ...
مهمة أتباعهم عبر القرون، فما بعث الله نبياً قط إلى قومه إلا بادأهم بهذه الكلمة المدوية: [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ] ، ثم ينطلق في تغيير جميع الانحرافات السياسية أو الاقتصادية أو السلوكية أو غيرها، من منطلق العقيدة.
ومنذ وجدت البشرية على الأرض، والصراع بين الحق والباطل، والخير والشر قائم لا ينقطع، والصدام بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ... دائم لايزول، فريق نصب نفسه داعية للنوازع الأرضية، والشهوات النفسية والجسمية، ورهن حياته من أجل إرساء كل ما له علاقة بتقديس الذات، ... وبعث غرائز الأثرة والتسلط والقهر لغيره ممن يستضعفهم، وفريق - وهو ... ... القلة والصفوة - نصبوا أنفسهم للوقوف في وجه تيار المفاسد المندفعة التي تحط من قيمة الإنسان- كمخلوق كرمه الله- وأنفقوا حياتهم وما يملكون من أجل أن يصعدوا بهذا الإنسان إلى القمة، وينقذوه من الضلال عن منهج الله، ومن الشهوات وعواقبها التي تتمثل بالشقاء الناتج عن فقدان الطمأنينة والأمن عندما يعجب الإنسان بعلمه ورأيه ويكتفي بذلك منقطعاً عن توجيه الله وهدايته. ...
هذا الفريق هم الأنبياء والرسل والمصلحون الذين ساروا على طريقهم ...
واتخذوهم قدوة ومثلاً أعلى لهم.
وإن جوهر دعوة الرسل وأتباعهم واحد لا يتعدد، وكل ما أمروا به من صالح
العمل وما نهوا عنه من فاسده مرتبط بهذا الجوهر ارتباط النتيجة بالسبب، وجوهر
هذه الدعوة هو إثبات وجود الله عز وجل، وإفراده بالعبادة:
[ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ
هَدَى اللَّهُ ومِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] . (النحل 36) .
[ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] . (الأنبياء 25) .
ولقد كانت الوظيفة الأساس للدعاة والمصلحين هي تبليغ الناس وإرشادهم ... إلى هذه الطريق التي سلكها أنبياء الله ورسله، وكانت هذه الوظيفة نتيجة تفاعل حي بين هذا الركب الكريم وبين المجتمعات التي عاشوا فيها، فقد برزت عناصر الدعوة متمثلة بنماذج واقعية للعمل الصالح.
ورسالة الإسلام ليست بدعاً بين الدعوات، بل هي الرسالة المتضمنة لكل ما في الرسالات السابقة من عناصر ليست مرتبطة بزمن معين وجماعة ... محددة، فجاءت رسالة الإسلام حينما بلغت البشرية سن الرشد، لتكون شاملة ... للنشاط البشري برمته من جميع زواياه، سواء من جهة العقيدة أو السلوك أو التشريع.
وإن الذي ينبغي أن يتنبه إليه الدعاة من المسلمين هو هذه الحقيقة البسيطة
الواضحة في معناها، والكبرى في دلالتها، وهي أن الإسلام هو الحق، وأن ... ما عداه هو الباطل وقد حسم الله في كتابه هذه الحقيقة فقال:
[ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِين َ] (آل عمران 85) .
[وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوه ُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام 153) .
وقد أناط الله كلمة إنقاذ البشرية بهذه الأمة فقال:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُون َ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... ] (آل عمران110) .
وإذا لم تكن هذه الأمة على مستوى المسئولية التي أنيطت بها، والأمانة التي أسندت إليها، فإن هذا نذير لها بالضعف والاضمحلال.
غير أنه من فضل الله على هذه الأمة أنه لا يخليها من طائفة قائمة بالحق تدعو إليه لا يضرهم من خالفهم أو من خذلهم حتى تقوم الساعة
وهم على ذلك.
هذه الطائفة هي الدعاة إلى الله، الذين امتلأ بهم تاريخ هذه الأمة،
وحفلت بأخبارهم صفحاته المجيدة، وهم ورثة الأنبياء الذين يحملون هذه الدعوة جيلاً بعد جيل، ويبلغونها بكل أمانة، لا يعبأون بالصعاب التي تعتضهم، ولا بالشياطين والطغاة الذين ينصبون لهم شتى أنواع العداوة والكيد والإرصاد.
وإن مهمة الدعاة الأولى هي التبليغ ودعوة الناس إلى هدي الله، وهذه المهمة العظيمة لا بد أن يرافقها وعي دائم ومتجدد بحاجات الناس ... وتغير أساليب مخاطبتهم.
وفي هذا العصر نجد أن الدعوات الهدامة قد استخدمت كل الوسائل المعروفة في مخاطبة الناس والتأثير على عقولهم، بل استحدثت وسائل ... ... جديدة هدفها الهيمنة على حرية التفكير والاختيار، في الوقت الذي تدعي فيه تَبَنِّي هذه الحرية والعمل من أجلها في الوقت الذي لا تزال فيه أساليب ... الدعاة مقتصرة على الوسائل التقليدية، ولا يزال الجهد الأكبر للدعاة منصباً ... على الخطب والمواعظ التي تستهلك الجهد، وتستنفذ الوقت بعيداً عن التخطيط والإعداد ودراسة حاجات كل مجتمع على حدة، وعناصر تكوينه ومحاولة ... الكشف عن أنجح الوسائل التي تفيد في جعله أكثر استجابة.
ونحن لا نريد التهوين من شأن الخطب والمواعظ، ولكننا نقصد التنبيه إلى
أن الاقتصار على هاتين الوسيلتين فيه هدر للطاقة، وتضييع للجهود وتخلف عن
ركب العصر وعدم تلاؤم القضايا المطروحة - مهما كانت مهمة ومصيرية - مع
تفكير الناس وشعورهم إذا ما اقتصر عرضها على مثل هذه الوسائل.
ونظرة فاحصة إلى حصاد الدعوة الإسلامية في العصر الحديث؛ ترينا كيف
أن تخلف الدعاة في استخدام الوسائل الفعالة نتج وينتج عنه تخلف في تحقيق
الأهداف.
وبينما نجد إعلام الكفر بشتى أشكاله إعلاماً منظماً مدروساً؛ يؤسفنا أن نرى
الإعلام الإسلامي إعلاماً قائماً على الفوضى، مستغلاً في بعض جوانبه من أجل
خدمة أهداف لا علاقة لها بجوهر الدعوة، وفي أحسن أحواله إعلام يصدر عن
نوايا حسنة ولكنه بعيد عن كل تخطيط أو دراسة.
في هذه الأجواء، ومن خلال هذه الظروف تصدر «البيان» :
1- لتكون صوتاً من أصوات الحق في الأرض، ولساناً معبراً عن الإسلام
كرسالة خاتمة تخاطب الناس - كل الناس - في الأرض - كل الأرض.
2- ولتكون بياناً يتضمن توضيح الأهداف والغايات التي يتطلع إليها الدعاة
والمخلصون ويساعد في البحث عن الوسائل الصحيحة التي غرق في دوامتها كثير
من الكتابات الإسلامية في عصرنا هذا.
وهي إذ تعتمد هذا السبيل فإنها تسترشد بالبيان القرآني، وأدب التعبير النبوي
الذي وازن موازنة دقيقة بين دقة الخطاب وعمقه ووضوحه وبين سمو تعبيره وأخذه
بمجامع القلوب والعقول معاً.
3- ولتكون منبراً للمنهج الأصولي الذي مثله جيل السلف الأول، الذي كان
امتداداً لمنهج الأنبياء والمرسلين، وسار عليه التابعون لهم بإحسان، وتمسكوا به
حين ذر قرن الفتنة، ولم ينصرفوا عنه في ظلمة الفرقة، ولم يتيهوا عنه في ظلام
الفتن.
4- و «البيان» منبر من منابر أهل السنة والجماعة تعبر عن منهجهم،
وتدعو إلى أصولهم، وتذكر بطريقتهم السليمة من الغلو والانحلال، وهي - مع
هذا - ليست منبراً لحزب، ولا دعوة إلى طائفية، ولا إلى إقليمية تخاطب قطيعاً
من الناس حدد له أعداء الإسلام حدود حظيرته وقُضي عليه منهم أن لا يتجاوزها.
5- وهي مجلة كل مسلم، مهما كان لونه أو جنسه، وأياً كان موقعه، هي بهذا لا تدعي أنها صوت المسلمين الوحيد، ولا تزدري الأصوات ... الأخرى التي تقف معها في ساحة العمل الإسلامي، ولا تنظر بمنظار ذي جهتين، يكبر لها نفسها، ويصغر لها الآخرين، كما أنها لا تدعي - ولن ... تدعي - الوصاية على الدعوة، ولا تحتكر -ولن تحتكر - معرفة الحق، بل تضم صوتها إلى جانب كل صوت يدافع عن القضايا الإسلامية بصدق وإخلاص، وسوف تبتعد -بإذن الله- عن كل ما يجعلها تتورط في مشادات عقيمة ومهاترات رخيصة تلهيها عما نصبت صفحاتها من أجله.
وهي مجلة تعتقد أن ساحة العمل الإسلامي تتسع لكل الجهود، وهي ساحة
مشرعة لا يضيق صدرها بعمل صادق، وجهد مشكور.
وسوف تتوسل المجلة - في سبيل أداء رسالتها - بقراء التاريخ قراءة متأنية
هادفة والاستفادة من دروسه وعبره، والاستفادة من رصيد التجارب التي مرت بها
الدعوة الإسلامية عبر مسيرتها الطويلة، والتعرف على سنن الله في الأنفس
والمجتمعات والتعامل مع القواعد الشرعية المستخلصة من المنهج القرآني.
وإننا عبر هذه المجلة نرى أن الخطأ غير المقصود صفة ملازمة للإنسان ولا
يتعارض ذلك مع التقوى التي هي الصفة الأساسية للمؤمنين، ولا نقول بعصمة أحد
ما خلا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ولكن الذي يخل بالتقوى ويخلخل الصف
والمسيرة هو الإصرار على الخطأ، وعدم مراجعة النفس، والاستنكاف عن التوبة.
وإن من أعظم القواعد الإسلامية التي تركنا العمل بها، فوقعنا في براثن
الاعتداد بالرأي والإعجاب بالنفس، والاستبداد الذي يدمر عناصر الإبداع على كل
صعيد بينما وجدت لها تطبيقاً عريضاً في المجتمعات الغربية فآتت أحسن النتائج
والثمار القاعدة العمرية الإسلامية: «الرجوع إلى الحق خير من التمادي في
الباطل» .
لقد تركنا العمل بهذه القاعدة العظيمة - مع الأسف الشديد - ونحن أحق بها
وأهلها، فتحكم بعضنا في بعض، وأسلسنا قيادنا لمن لا يصلح لذلك، ولم نستفد من
التجارب علي تكرارها وكثرتها.
وأخيراً فإن من أهم السمات التي نرجو أن تتسم بها هذه المجلة:
1- البعد عن الغلو فهماً وتطبيقاً، والالتزام بالوسطية، وقوفاً عند قوله تعالى: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً ... ] (البقرة 143) .
2- الالتزام بالدليل الشرعي فيما نذهب إليه، والبعد عن انتحال أهل الباطل
وتأويلات الجهلة التي لا تستند إلى دليل صحيح.
[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] .
والحمد لله رب العالمين.