تمهيد:
الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد أوجد الله تبارك وتعالى الخلق على ظهر هذه البسيطة - بحكمته البالغة -
ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؟ واقتضت حكمته سبحانه أن يجعل فطرتهم الاستقامة
والصلاة والميل عن الشرك إلى التوحيد.
فأوجد البشر - أول ما أوجدهم على الحنيفية، قال تعالى: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً] [1] .
وقال: [ومَا كَانَ النَّاسُ إلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا] [2] .
وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل: «كل مال نحلته [3] عبداً حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين، اجتالتهم [4] عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً ... » [5] الحديث.
وجعلهم -سبحانه- يولدون حين يولدون على فطرة الإسلام السليمة ... ...
المستقيمة، كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة - رضي الله ... عنه -:
«ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو
يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» ، ثم يقول
أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِِ
اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] [6] .
قال الإمام البخاري - رحمه الله -: (والفطرة: الإسلام) [7] .
ويشهد لذلك أن في بعض ألفاظ الحديث: «ما من مولود إلا على هذه الملة،
حتى يبين عنه لسانه» [8] .
ولأن الله تعالى أراد ابتلاء البشر وامتحانهم ليتحقق في واقع الحياة ما علمه
عنهم بسابق علمه سبحانه؛ فقد جعلهم قابلين لسلوك كلا الطريقين: الخير أو الشر، ففي مقدورهم الاستمرار علي الفطرة الأولى، وفي مقدورهم الانحراف عنها
والميل إلى طريق الضلال.
وزودهم بالوسائل والمدارج التي يتمكنون باستعمالها من معرفة الحق وإدراكه- في الجملة - ويسَّر لهم من الدلائل والبينات في الآفاق وفي أنفسهم ما يقوي عنصر الخير ويمكنه.
وبعث لهم الأنبياء والرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- مبشرين ومنذرين بحيث لم يعد للناس على الله تعالى حجة.
كما ابتلاهم - سبحانه بحكمته - بالشهوات والشبهات لتكون محكاً حقيقياً
يكشف عن توجه الإنسان ومقصده، والشياطين تزكي هذه وتلك وتؤز الإنسان للشر
والمنكر أزاً.
وهكذا يبدأ الصراع بين الحق والباطل:
- داخل النفس البشرية بين قوة الخير، تؤيدها الرسالات السماوية وتشهد لها
الأدلة الكونية والعقلية، وقوة الشر، تؤججها الشياطين المسلطة على ابن آدم.
- ثم في مجال الحياة البشرية - بشكل أوسع - حيث يتميز المؤمنون أتباع
الرسل، عن المجرمين أتباع الشياطين.. ثم تتصارع هاتان الفئتان للسيطرة على
الحياة البشرية وتوجيهها وقيادتها.
ولقد تعاهد الله تعالى البشرية بالمرسلين - عليهم الصلاة والسلام -، الذين
كانوا يقودون خطاهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فكان منهم من يأتي بشريعةٍ
إلهيةٍ جديدةٍ، ومنهم من يأتي لتجديد ما اندرس من شريعة نبي قبله، حتى ختم الله
الرسالات برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانقطع بموته - عليه الصلاة
والسلام - الوحي الذي كان يتنزل من قبل على الأنبياء والمرسلين.
* * *
وإن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن، ويطرأ عليها بمرور الزمن
ما يكدر صفائها، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عوامل
الانحراف تتسرب إليهم شيئاً فشيئاً تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال..
ولا يلبث نقاء العقيدة أن يشوبه شيء من ذرائع الشرك ووسائله وأسبابه ثم
تظهر بعد حين النتائج المخوفة من وراء تلك الذرائع والوسائل والأسباب.
ولقد كان ناس من الناس ينحرفون في أعظم الأمور وأخطرها - في قضايا
الاعتقاد - حتى في حياة رسلهم - عليهم الصلاة والسلام -، فكيف وقد ختمت
الرسالات، وأغلقت أبواب الوحي فلا يتنزل بعد؟ ؟ وكيف بما دون تلك القضايا
من أمور التشريع؟
وإذا كان المنافقون والضالون يجدون من يستمع إليهم ويصغي إلى وسواسهم
رغم وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يمثل القيادة السليمة والقدوة
الصالحة، ويكشف عن مُحَيا الحق حُجب الباطل فيسفر كالشمس ليس دونها سحاب، فكيف يكون الأمر إذا ضاعت السبل، وتفرقت الأهواء وكثرت الأصوات
المضللة، وخفت صوت الحق، والتبست معالمه فلم يعد الناس يميزون بين
الأصوات، ولا بين الألوان؟ ؟
إن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب بروز قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة
أمر دينها، وتجلي الحقائق الملتبسة، وتحيي الفرائض المعطلة، وتزيل ما علق
بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة.
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين
وإحيائه بشَّر الحديث النبوي الشريف.
حديث المجدِّد:
قال الإمام أبو داود - رحمه الله تعالي - (في سننه) : حدثنا سليمان بن داود
المُهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا سعد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد
المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، فيما أعلم: عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال:
«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» .
قال أبو داود: (رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني، لم يجز به
شراحبيل) [9] .
وهذا الحديث أخرجه أيضاً: الحاكم في مستدركه عن طريق الربيع بن
سليمان بن كامل المرادي، عن ابن وهب به [10] .
ورواه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) عن طريق عثمان بن صالح، عن
ابن وهب [11] .
ورواه ابن عدي في (الكامل) من رواية عمرو بن سواد، وحرملة بن يحيى،
وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن وهب [12] . ومن طريقه - طريق ابن عدي - أخرجه البيهقي في (معرفة السنن والآثار) [13] .
وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عن حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد [14] .
ومن طريقه أخرجه البيهقي في (مناقب الشافعي) [15] . وعزاه السيوطي والسخاوي باللفظ السابق إلى الطبراني في (معجمه الأوسط) [16] .
كما عزاه السيوطي إلى أبي نعيم، والبزار، ولعله لا يقصد الحديث بلفظه
السابق، بل يقصد اللفظ الآخر الآتي قريباً إن شاء الله.
كما عزاه الألباني لعمرو الداني في (الفتن) 45/1، والهروي في ذم الكلام (ق/111/2) وانظر اللفظ الآتي بعد قليل [17] .
ورواه ان عساكر في (تبيين كذب المفتري) من طريق أبي داود ثم من طريق
ابن عدي [18] .
وقول الراوي: (فيما أعلم) ليس شكاً في رفع الحديث، وإنما هو من قبيل
التحرز في الرواية، والتشدد في الأداء، المعروف عند السلف.
وعلى فرض وقف الحديث فهو في حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي
المجرد؛ بل بالتوقف إذ هو إظهار عن أمر مستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبي داود: (ورواه عبد الرحمن بن شريح لم يجز به شراحيل) ، فهو
يعني أن عبد الرحمن قد أعضل الحديث فأسقط من إسناده أبا علقمة وأبا هريرة.
وطريق سعيد بن أبي أيوب المتصلة هي الراجحة وإن كان كلاهما ثقتين لأنها
من باب زيادة الثقة، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارضها ما هو أثبت منها، وهذا
الحاصل هنا، فيتعين قبولها، والمصير إليها.
وقد صحح الأئمة هذا الحديث حتى نقل بعضهم الإجماع على تصحيحه.
1- وسكت عنه الحاكم ثم الذهبي كما في مطبوعه (المستدرك) ونقل غير
واحد تصحيح الحاكم له منهم: السيوطي [19] ثم المناوي [20] .
2- وقال ابن حجر - بعد سياق أقوال الأئمة في المجدِّد -:
(وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهوراً في ذلك العصر، ففيه تقوية للسند
المذكور، مع أنه قوي لثقة رجاله) [21] .
3- وقال السيوطي: (اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح.. «ثم قال:
وأما المتقدمون فكلهم لهجوا بذكر هذا الحديث» [22] .
ورمز لصحته في (الجامع الصغير) [23] .
4- وقال الزين العراقي: سنده صحيح [24] .
5- وقال السخاوي: سنده صحيح، ورجاله كلهم ثقات [25] .
6- وقال المناوي: بإسناد صحيح [26] .
7- وقال الألباني: والسند صحيح، ورجاله ثقات، رجال مسلم [27] .
وبالجملة فقد اعتمده العلماء: الزهري، وسفيان بن عيينة، وأحمد، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، والنووي، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني،
والحافظ الذهبي، والحافظ زين الدين العراقي، والحافظ ولي الدين العراقي، وابن
الجزري، وابن كثير، وابن الأثير، والسيوطي، والسخاوي، والمناوي، ومئات
غير هؤلاء، كلهم اعتمدوا الحديث، واشتغلوا في تحديد من ينطبق عليهم الحديث.
ولم نعثر خلال البحث عمن ضعَّف الحديث أو تكلم فيه، فالحمد لله رب
العالمين.
ألفاظ أخرى للحديث:
ورد الحديث بألفاظ أخرى مختلفة قليلاً أو كثيراً عن اللفظ المسوق من قبل.
فرواه النحاس عن سفيان بن عيينة قال: (بلغني أنه يخرج في كل مائة سنة
بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ يقوي الله به الدين، وإن يحيى
بن آدم عندي منهم) [28] .
وبنحوه أجره البزار [29] .
وروى عنه بلفظ: «إن الله يمنُّ على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل
من أهل بيتي، يبين لهم أمر دينهم» [30] .
وألفاظ أخر غير هذه كثيرة تلتقي كلها عند الإمام أحمد، وهي روايات معلقة
لم توجد موصولة في موضع آخر ولم يوقف على إسناده في شيء من الكتب ولا
الأجزاء الحديثية - كما قال السيوطي [31]- ولذا لا يعول على المعاني التي
انفردت بها هذه الروايات مثل: كون المجدِّد فرضاً، وكونه من أهل بيت النبي -
صلى الله عليه وسلم-، وكونه على رأس المائة بعد موت النبي -صلى الله عليه
وسلم- كما هو ظاهر لفظ ابن عيينة - رحمه الله -.
3- بعض المعاني المستخرجة من الحديث:
إن هذا الحديث العظيم إحدى البشائر التي وعد الرسول -صلى الله عليه
وسلم- فيها أمته، وإنه ليمنح المسلم المصدق بما جاء به الرسول - عليه الصلاة
والسلام - طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين، ويمنحه - فوق هذا -
دفعة قوية للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظاً من أجر المجدِّدين. ... وسنقف في هذه الفترة مع بعض المعاني التي نستلهمها من الحديث:
1- فأ ول ما يستوقف المتأمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «يبعث
لهذه الأمة» إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فحسب، بل تجاوز ذلك ليعيش
«لهذه الأمة» وسواء كان المقصود أمة الدعوة -على ما رآه قوم- أو أمة الإجابة -
على ما رآه آخرون -؛ فإن هذا المجدد تعدى نطاقه المحدد إلى الأفق الأوسع ليؤثر
في مجريات الأمور والأحداث من حوله وليقود خطوات الأمة المسلمة في معركة
الحياة، ومن ثم يحدث التوازن في مسيرة الحياة البشرية كلها، ويأخذ الإسلام ... دوره في الوجود.
وهو بهذا مجدّد للأمة الإسلامية بإيقاظها، وإعادة ثقتها بدينها، وردها إلى
المنهج الصحيح.
وهو مجرد للبشرية كلها، البشرية المتلهفة إلى العدالة والإيمان.. المحتاجة
إلى العقيدة أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء.
إن هذا المجدد ليس ممن يقنعون باليسير، ويرضون بالدون، فيكتفي أحدهم
بحفظ نفسه ومن تحت يده - إن استطاع - ثم يترك أمر الناس للناس! ... بل قد تعظمت همته واشتدت عزيمته فصار لا يطيق صبراً على الفساد
والانحراف، وأقلق قلبه تسلط الظالمين والمفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون، فآلى على نفسه أن يزاحمهم ما استطاع، ويشق الطريق للأخيار حتى يأخذوا
دورهم في الحياة من جديد.
إن الذين تتحرك في نفوسهم الآمال والتطلعات كثيرون، ولكنهم يتناقدون
ويتساقطون واحداً بعد الآخر كما تقدمت بهم الطريق وازدادت التحديات وكثرت
المتاعب.
ومن أجل ذلك تميز فرد أو أفراد بأنهم المجددون؛ لأنهم صابروا العقبات
وغالبوها حتى غلبوها؛ لأن همتهم كانت أعظم من تلك العقبات: كانت تجديد الدين
لهذه الأمة، وإعطاء المسلمين دورهم القيادي بين الأمم، مع تحقيق معنى انتمائهم
للإسلام.
لذلك فهم يمارسون دورهم العالمي من خلال دورهم الإسلامي، ويمارسون
دورهم الإسلامي من خلال فئتهم الخاصة التي هي النواة الأولى للإصلاح المرتقب.
2- أما «البعث» المذكور أنه يكون على رأس المائة، فإن البعث هو
الإثارة والإرسال، فيكون المعنى: (إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة
مجدداً، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام، وينتصب لنشر
الأحكام) [32] .
فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة، بل تجديده. ولذلك استغرب الإمام
المناوي فهم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن وقال: (وموته
على رأس القرن أخذ لا بعث) [33] .
قال ابن الأثير: (وإنما المراد بالذكر من: انقضت المائة وهو حي، عالم
مشهور مشار إليه) [34] .
وقال الكرماني والطيبي مثل ذلك [35] .
وقال السيوطي في منظومته التي سماها: (تحفة المهتدين بأخبار
المجدِّدين) [36] :
والشرط في ذلك أن تمضي المائة ... وهو على حياته بين الفئة يشار بالعلم إلى مقامه ... وينصر السنة في كلامه [37]
وكذلك لا نعلم دليلاً في اشتراط كون وفاة المجدد في بداية القرن التالي أو بعده
بقليل، كما يلحظ في منهج كثير ممن تصدوا لتعيين المجددين؛ حيث يستبعدون
بعض الأئمة محتجين بأن وفاته تأخرت إلى العشرين مثلاً أو الثلاثين بعد المائة ... مثلاً [38] .
وسواء كان بعث المجدد في نهاية القرن السابق، أو في بداية القرن اللاحق
فليس ثمة ما يدل على ضرورة اشتراط وفاته في تلك الفترة.
وهذا كله على اعتبار أن المجدد فرد واحد، وسيأتي الحديث عن هذه المسألة
مفصلاً بعد قليل - بإذن الله -.
3- أما المقصود بـ (الرأس) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «على
رأس كل مائة سنة» ، قد قال بعضهم: يعني في أولها، وقال آخرون: بل في
آخرها [39] .
وأصل مادة «رأس» في اللغة تدل على التجمع والارتفاع [40] .
وتستعمل هذه المادة في الوجهين في أول الشيء وفي آخره؛ فتقول: أعد
على كلامك من رأسٍ، وأنت على رئاس أمرك، بمعنى: أوله [41] .
ومثله: رأس المال، أي: أصله وأوله [42] .
وتقول: القافية رأس البيت، بمعنى: آخره [43] .
وجاء في الشرع الوجهان: فمن الأول: رأس الأمر الإسلام [44] ، بمعنى:
أوله ورأسه.
ومن الثاني: قد كانت إحداكن ترمي البعرة عند رأس الحول [45] ، يعني:
في آخره.
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أرأيتم ليلتكم هذه؟ على رأس مائة
سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدِ» [46] .
وحين نعود إلى تحديد الأئمة للمجددين نجده محتملاً للوجهين، فهذا عمر بن
عبد العزيز الذي أطبقت عليه الأمة تولى سنة 99 هـ، وتوفي - رحمه الله -
سنة 101 هـ.
ثم من بعده الشافعي، توفي - رحمه الله - سنة 204 هـ، ولعل القضية
تقريبية لا تحتمل الحسم القاطع بحيث لو وجد من تنطبق عليه صفات المجدد ثم
مات قبل تمام المائة بخمسة أيام يكون مجدداً! ..
ولعل ما يلتحق بهذا معرفة مبدأ المائة: من أين يكون؟ أمن مولده -صلى
الله عليه وسلم -؟ أم من بعثته؟ أم من هجرته؟ أم من وقت نطقه بذلك الحديث؟ أم من وفاته؟ .
ولا نحب أن ندخل في جدل حول هذه الأمور- وإن كان الترجيح بينها ممكناً - ولكننا نقول:
إن بداية أي قرن تتصل بنهاية القرن الذي قبله، ومما لا يتلاءم مع طريقة
الشرع اعتبار الفصل بينهما بصورة قاطعة؛ ذلك أن الشرع حتى في الأمور
العبادية كالصلاة والصيام والحج وغيرها علق ذلك على أمور ظاهرة مدركة
لجمهور الناس.. فكيف بما ليس كذلك ولا يدخل فيه تعبد؟
الظاهر- والله أعلم- أن عدم تحديد المقصود بالرأس، وعدم تحديد المبتدأ..
كل ذلك أمرٌ مقصود فيه أن المجدد يظهر كلما دعت الحاجة إليه لبعد الناس عن عهد النبوة، أو لبعدهم عن عصر المجدد السابق.
وهذا ينسجم مع الأحداث التاريخية كلها؛ فإنها تسير بقدر الله تعالى على دفع
ما تقتضيه الأسباب - غالباً - غير مقيدة أو محددة بفترات معينة.
ومما يبين ذلك ويجليه أن الأحداث والمصائب النازلة بالمسلمين في دينهم
ودنياهم، والتي يفتقر المسلمون خلالها إلى ذلك المجدد هي غير مسلسلة ولا موقوفة
بأزمنة خاصة.
وفي تلك النكبات تتجلى رحمة الله بأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - حيث
ينقذها بفضله من الهلكة بمن يبعثه يحمل النور في ظلمة الديجور.
كما أن هذا المجدد ينبغي أن يُتَصوَّر أن له من التأثير الممتد زماناً ومكاناً ما
يجعله حياً في الأجيال التالية بعلمه وعمله، وإن كانت حياته الدنيوية المحدودة قد
انتهت.
وإن من شأن هذا التصور الذي عرضناه، وهذا الرأي الذي اخترناه أن ترد
الأمور إلى نصابها فبحسب من أحيا للأمة ما اندرس من أمر دينها إحياءً ظاهراً
ملموساً للعيان من المجددين دون أن يعكر على ذلك كون وفاته تقدمت أو تأخرت
عن رأس القرن.
4- أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من يجدِّد لها دينها» .
فيثور حوله سؤال ذو أهمية كبيرة:
هل المقصود بذلك فرد أو رجل كما صرحت به الروايات التي رويت عن
الإمام أحمد وسفيان؟ أم إن المقصود ما هو أوسع من ذلك؟ .
فأما لفظ «مَنْ» فمما لا يخفى أنه يطلق على المفرد وعلى الجماعة -
من حيث اللفظ -، ومن حيث المراد بها في الحديث قال بعضهم: المقصود بها
فردٌ، وحملوا «مَنْ» في هذه الرواية على لفظ (رجل) ، أو (عالم) في الروايات الأخرى التي سلف لك بيان شأنها [47] .
واختار هذا الرأي عدد من العلماء، ونسبه السيوطي إلى الجمهور فقال:
وكونه فرداً هو المشهور قد نطق الحديث، والجمهور [48]
ونسبه غيره إلى (العلماء) [49] .
واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والذهبي،
والمناوي، والعظيم آبادي، وغيرهم، وسيأتي بسط كلامهم.
وقبل الدخول في محاولة الترجيح نرى التقديم بحديثين فيهما بشريان أخريان
لهذه الأمة:
أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي على
الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» [50] .
وهذا الحديث عظيم مشهور، بل يصلح أن يدعى فيه التواتر، فقد ورد من
طرق كثيرة جداً عن عدد من الصحابة منهم:
عمران بن حصين، وثوبان، وقرة بن إياس، والمغيرة بن شعبة، وجابر
بن سمرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، وسعد
بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأبو عتبة الخولاني، وعمر بن الخطاب، وأبو
أمامة الباهلي، وزيد بن أرقم، ومرة البهزي، وسلمة بن نفيل [*] السكوني،
وشرحبيل بن السَّمْط الكندي [*] .
قال الترمذي: (وفي الباب عن عبد الله حوالة، وابن عمر، وزيد بن ثابت،
وعبد الله بن عمرو) [51] .
فهؤلاء إحدى وعشرون نفساً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رواه عنهم عدد لا يحصون كثرة من التابعين، مع أننا لم نسلك مسلك الاستقصاء.
وفيه إشارة إلى ما يصيب الأمة من الانحراف والضعف والوهن والاختلاف
حتى لا يبقى إلا هذه الطائفة القائمة بالحق المقاتلة دونه، القاهرة لعدوها، الصابرة، فلا يضرّها من خذلها، ولا من ناوأها، إلا ما يصيبها من اللأواء حتى يكون
آخرهم مع عيسى ابن مريم يقاتلون الدجال.
وقد قال الإمام البخاري في ترجمته على الحديث: (باب قول النبي - صلى
الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وهم أهل ... العلم) [52] .