موضوعه ـ تطوره ـ مكانته
د. عبد الحميد محمود غانم
يُمثل القرآن الكريم منبعاً ثرّاً، وفيضاً غزيراً لفنون وعلوم، وفتوح انبثَّت في نظمه، وهديه، ورسمه ليبقى المعجزة الخالدة الدالة على الحق، والمدد الأسمى لمن أخلص الطلب، وتجرد للفهم والعمل؛ في ثناياه جلال من كل وجه، وفي منحه عطاءات لكلّ عصر، ولعل أدق علومه علم المناسبات القرآنية، ذلك العلم الذي يربط بين السور، والآيات، والكلمات؛ فإذا هي حبات عقد واحد، وأعضاء كائن حي، وأجزاء بنيان متصل؛ فعليه يتوقف إدراك الهدايات في أعلى صورها، وتتضح المناسبات بين أجزائها، وتبدو المرامي وأغراضها، والمقاصد التي سيق كل ذلك لأجلها.
- المناسبة في اللغة:
المقاربة والمشاكلة والمماثلة، يُقال: فلان يناسب فلاناً أي: يقرب منه ويشاكله. ومنه: النسيب هو القريب المتصل كالأخوين وابن العم، ونحوه. ومنه: المناسبة في العلة من باب القياس أي: الوصف المقارب للحكم؛ لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم، ولهذا قيل: المناسبة أمر معقول إذا عُرِضَ على العقول تلقته بالقبول (?) .
- المناسبة في الاصطلاح:
يقال للمناسبة الرابطة بين شيئين بأي وجه من الوجوه، ويعنى بها في كتاب الله ـ تعالى ـ: إدراك أوجه الارتباط بين السور وما قبلها وما بعدها، وبين الآية وما قبلها وما بعدها (?) . فالمناسبة علم تعرف منه علل الترتيب بين أجزاء القرآن وهي سر البلاغة في أدائه، وتحقيق مطابقة المقال لما اقتضاه الحال (?) .
- موضوع علم المناسبة:
هو أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الوقوف على طرق الترتيب وعلله (?) .
- ثمرة علم المناسبة:
ثمرته الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب تعلقه بالكل، وارتباطه بما وراءه وما أمامه ارتباطاً كلُحمة النسب؛ بحيث تبدو أجزاء الكلام وقد أخذ بعضها بأعناق بعض. وتتوقف معرفته، وثمرته، والإجادة فيه على إدراك مقصود كل سورة في كل جملها القرآنية؛ ومن أجل ذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة.
` تحقيق ظهوره وتطوره، وأقوال أهل العلم فيه:
اشتهر بين أهل العلم أن كتب التاريخ، وعلوم القرآن الكريم لَمْ تحمل لنا خبراً عن نشأة علم المناسبات القرآنية قبل نهاية القرن الثالث الهجري حيث عرفت بداياته في بغداد على يد (أبي بكر النيسابوري) المتوفى 324هـ. وفي ذلك يقول الشيخ أبو الحسن الشهراباني (?) :
«أول من أظهر ببغداد علم المناسبة ـ ولم نكن سمعناه من غيره ـ هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري (?) ، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، كان يقول على الكرسي إذا قُرئت عليه الآية: لِمَ جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يُزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة» (?) .
والواقع أن في ذلك نظراً؛ فقد صرح (البقاعي) أيما تصريح بقدم علم المناسبات القرآنية، وانتشاره بين الصحابة والتابعين، واعتمادهم إياه في فهم آي الكتاب الحكيم، فقال في كتابه (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور) : «وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا بما في سليقتهم من أفانين العربية، ودقيق مناهج الفكر البشرية، ولطيف أساليب النوازع العقلية، ثم تناقص هذا العلم حتى انعجم على الناس، وصار إلى حد الغرابة كغيره من الفنون. قال (أبو عبيد) في (كتاب الفضائل) : حدثنا معاذ بن عوف عن عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه، قال: إذا حدثتَ عن الله حديثاً فقف حتى تنظر ما قبله، وما بعده. وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن الأعمش عن إبراهيم قال: قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: إذا سأل أحدكم صاحبه كيف يقرأ آية كذا وكذا، فلْيَسَلْه عما قبلها (?) . يريد ـ والله أعلم ـ أن ما قبلها يدله على تحرير لفظها بما تدعو إليه المناسبة. وروى الحارث بن أبي أسامة عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أنه حدّث أن قوماً يدخلون النار، ثم يخرجون منها، فقال له القوم: أوَ ليس الله ـ تعالى ـ يقول: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37] ؟ فقال لهم أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ: اقرؤوا ما فوقها: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36] ، وفي تفسير: أن أعرابياً ـ لم يكن قرأ القرآن ـ سمع قارئاً يقرأ آية: {فَإن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] ، فأبدله القارئ بأن قال: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 192] ، فقال الأعرابي مصوباً: «إن الحكيم لا يَذكر الغفران عند الزلل؛ لأنه إغراء عليه» (?) .
ثم لم يجد ذلك العلم ما يليق به من العناية، فشكا القاضي أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) في كتابه (سراج المريدين) قائلاً: «ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسعة المعاني، منتظمة المباني؛ علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله ـ عز وجل ـ لنا فيه، فلما لم نجد له حَمَلَة، ورأينا الخلق بأوصاف البَطَلَة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه» (?) .
وكان الزمخشري (ت 538هـ) قد تعرض له في تفسيره (الكشاف) فأبان عن مناسبة بعض الآي (?) .
ثم أكثر الفخر الرازي (606 هـ) النظر فيه، فقال: «أكثر لطائف القرآن مودعه في الترتيبات، والروابط» (?) وقال: «من تأمل في لطائف نظام السور، وبديع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معحز بحسب فصاحة ألفاظه، وشرف معانيه، فهو أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا: (إنه معجز بسبب أسلوبه) أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين مُعرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار، وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار صورته والذنب للطرف لا للنجم في الصغرِ (?)
وزاد: «علم المناسبات علم عظيم أُودِعَت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه» (?) .
وشرع في كتابة سِفْر بعنوان: (أسرار التنزيل) لكنه توفي قبل أن يتم جزأه الأول (?) .
وتنبه ولي الدين الملوي شيخ الزركشي لذلك العلم فقال: «والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها، أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسباتها لما قبلها؛ ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها، وما سيقت له» (?) .
وقال بدر الدين الزركشي (794هـ) : «من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض، لئلا يكون منقطعاً، وهو مبني على أن ترتيب السور توفيقي، وإذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة؛ لما خُتمت به السور قبلها، ثم هو قد يخفى تارة، ويظهر أخرى» (?) .
ثم إنه عقد فصلاً بتمامه في كتابه (البرهان في علوم القرآن) تحت عنوان: (معرفة المناسبات بين الآيات) تعقب فيه هذا العلم الجليل من جهة التعريف، والنشأة، والمصادر، ومن كتب فيه. ثم أطال النفس في عرض أمثلة على المناسبات القرآنية بين السور المتجاورة، وبين الآيات في السورة الواحدة (?) .
وسار (الشيخ كمال الدين الزملكاني) (?) سيراً حثيثاً في الخروج بعلم المناسبات إلى حيز الظهور، فعقد دروساً لتبيانه وشرحه، وربط بين السورة وافتتحاحيتها، وأبان عن مناسبات الاستهلال، فذكر مناسبة افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح، وافتتاح سورة الكهف بالتحميد، وربط بين فاتحة كل سورة وموضوعها، وأثرها في ترتيبها المصحفي، وأن علة ذلك تكمن في أن التسبيح حيث جاء مقدمٌ على التحميد؛ فأنت تقول: سبحان الله والحمد لله. وقال: «إن سورة بني إسرائيل افتتحت بحديث الإسراء، وهو من الخوارق الدالة على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمشركون كذبوا ذلك وقالوا: كيف يسير في ليلة من مكة إلى بيت المقدس؟ وعادوا وتعنتوا فقالوا: صف لنا بيت المقدس! فرُفع له حتى وصفه لهم. والسبب في الإسراء كان أولاً لبيت المقدس ليكون ذلك دليلاً على صحة قوله بصعود السماوات، فافتتحت بالتسبيح تصديقاً لنبيه فيما ادعاه؛ لأن تكذيبهم له تكذيب عناد، فنزه نفسه قبل الإخبار بهذا الذي كذبوه. وأما الكهف فإنه لما احتُبس الوحي، وأرجف الكفار بسبب ذلك، أنزلها الله رداً عليهم، وأنه لم يقطع نعمه عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-، بل أتم عليه بإنزال الكتاب فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة. وإذا ثبت هذا بالنسبة إلى السور، فما ظنك بالآيات وتعلق بعضها ببعض؟ بل عند التأمل يظهر أن القرآن كله كالكلمة الواحدة» (?) .
على أن أول من أفرد علم المناسبات القرآنية بالتصنيف هو (أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي) النحوي الحافظ المتوفى (807هـ) صاحب [البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن] . و [ملاك التاويل] ، وهو: شيخ أبي حيان (754هـ) صاحب [البحر المحيط] (?) .
وفي ذلك يقول الغماري الحسني نظماً:
وابن الزبير في برهانه قد كان أول من سطرْ
إذ جاء فيه مُجَليًّاً يتلوه بحر قد زخرْ (?)
ثم جاء دور (برهان الدين البقاعي) ت 885 هـ فكتب سِفْره [نظم الدرر في تناسب الآي والسور] وهو تفسير التزم فيه بيان مناسبة الآي والسور، وقال في مقدمته:
«وسميته: نظم الدرر في تناسب الآي والسور، ويناسب أن يسمى: فتح الرحمن في تناسب أجزاء القرآن. وأنسب الأسماء له: ترجمان القرآن ومبدي مناسبات الفرقان (?) . وذكر في كتابه الذي رد به على الحافظ السخاوي: «أنه ألفه في مدى أربع عشرة سنة» (?) .
ووصف شأن علم المناسبات وأثره فقال: «وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب ويتمكن من اللب؛ وذلك أنه يكشف للإعجاز طريقين:
أحدهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب.
والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب. والأول أقرب تناولاً، وأسهل تذوقاً؛ فإن كل من سمع القرآن من ذكي وغبي يهتز لمعانيه وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط، ورهبة مع انبساط لا تحصل عند سماع غيره. وكلما دقق النظر في المعنى عظُم عنده موقع الإعجاز، ثم إذا عَبَرَ الفَطِنُ من ذلك إلى التأمل ربط كل جملة بما تليه وما تلاها خفي عليه وجهة ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما كان حصل له بالسماع من الهز والبسط، وربما أشكله ذلك وزلزل إيمانه وزحزح إيقانه ... فإذا استعان بالله وأدام الطَّرْق لباب الفرج بإنعام التأمل، وإظهار العجز، والوقوف بأنه الذروة من إحكام الربط كما كان في الأوج من حسن المعنى انفتح له ذلك الباب، ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار، ورقص الفكر منه طرباً وشكراً لله استغراباً وعجباً، وشاط لعظمة ذلك جنانه، فرسخ من غير مِريْة إيمانه» (?) .
ويعد كتاب (نظم الدرر) أوسع مصادر هذا العلم ذكراً للمناسبات القرآنية بين آيات القرآن الكريم سورة سورة (?) .
وقد أطال البقاعي النفس في كتابه «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» في وصف علم المناسبات، فذكر أصله وسره، وحقيقته، وبيان الداعي إليه، وتعريفه، ونسبته، وكيفيته، والإجادة فيه، وعرّج على كتابة «نظم الدرر» فربط بينه وبين علم المناسبات فقال: «هذا؛ وإن العلم الذي أفاض الله ـ وله الحمد ـ عليّ، أصله: بذل الرقة والانكسار، والتضرع والافتقار لأدق العلوم أمراً، وأخفاها سراً، وأعلاها قدراً؛ لأنه في الحقيقة إظهار البلاغة من الكتاب العزيز، وبيان ذلك في كل جملة من جمله؛ فإن البلاغة مناسبة المقال لمقتضى الحال. وهذا الكتاب لبيان الداعي إلى وضع كل جملة في مكانها، وإقامة حجتها في ذلك وبرهانها؛ لأن هذا العلم تعرف منه علل الترتيب.
وثمرته: الاطلاع على المرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له بما وراءه، وما أمامه من الارتباط والتعلق الذي هو كلُحمة النسب. وتتوقف الإجادة فيه على معرفة السورة المطلوب ذلك فيها.
ونسبته: من علم التفسير كنسبة علم المعاني والبيان من النحو فهو غاية العلوم» (?) .
وجعل اسم كتابه: (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور) ، دالاً عليه، فقال: «فتعريف هذا العلم (?) هو اسم هذا الكتاب المصنف فيه علم يعرف منه مقاصد السور. وموضوعه: آيات السور، كل سورة على حالها. وغايته: معرفة الحق من تفسيره كل آية من تلك السور. ومنفعته: التبحر في علم التفسير؛ فإنه يثمر التسهيل له والتيسير. ونوعه: التفسير، ورتبته: أوله، فيشتغل به قبل الشروع فيه؛ فإنه كالمقدمة له من حيث أنه كالتعريف؛ لأنه معرفة تفسير كل سورة إجمالاً. وأقسامه: السور. وطريقة السلوك في تحصيله: جمع جميع فنون العلم» (?) .
وكتب (جلال الدين السيوطي) ت 911هـ (أسرار التنزيل) (?) ووصفه بأنه الباحث عن أساليب القرآن، المُبَرِّز أعاجيبه، المُبَيِّن لفصاحة ألفاظه وبلاغة تراكيبه، الكاشف عن وجه إعجازه، الداخل إلى حقيقته من مجازه، المطلع على أفانينه، المبدع في تقرير حججه وبراهينه، فإنه اشتمل على بضعة عشر نوعاً:
الأول: بيان مناسبات ترتيب سوره، وحكمة وضع كل سورة منها.
الثاني: بيان أن كل سورة شارحة لما أجمل في السورة التي قبلها.
الثالث: وجه اعتلاق فاتحة الكتاب بخاتمة التي قبلها.
الرابع: مناسبات مطلع السورة للمقصد الذي سيقت له، وتلك براعة الاستهلال.
الخامس: مناسبة أوائل السور لأواخرها.
السادس: مناسبات ترتيب آياته، واعتلاق بعضها ببعض، وارتباطها وتلاحمها وتناسقها.
السابع: بيان أساليبه في البلاغة، وتنوع خطاباته وسياقاته.
الثامن: بيان ما اشتمل عليه من المحسنات البديعية على كثرتها، كالاستعارة، والكناية، والتعريض، والالتفات، والتورية، والاستخدام، واللف، والنشر، والطباق، والمقابلة، وغير ذلك، والمجاز بأنواعه، وأنواع الإيجاز والإطنان.
التاسع: بيان فواصل الآي، ومناسباتها للآي التي ختمت بها.
العاشر: مناسبة أسماء السور لها.
الحادي عشر: بيان أوجه اختيار مرادفاته دون سائرها.
الثاني عشر: بيان القراءات المختلفة، مشهورها، وشاذها، وما تضمنته من المعاني والعلوم، فإن ذلك من جملة وجوه إعجازه.
الثالث عشر: بيان وجه تفاوت الآيات المتشابهات في القصص وغيرها بالزيادة والنقص، والتقديم والتأخير وإبدال لفظة مكان أخرى، ونحو ذلك (?) .
ثم خص السيوطي نوع «مناسبات ترتيب السور» من بين هذه الأنواع بمزيد عناية لما لاحظ قلة من تكلم فيه فقال: «وقد أردت أن أفرد جزءاً لطيفاً في نوع خاص من هذه الأنواع، هو: (مناسبات ترتيب السور) ليكون عجالة لمريده، وبغية لمستفيده، وأكثره من نتاج فكري، وولاد نظري، لقلة من تكلم في ذلك، أو خاض في هذه المسالك، وما كان فيه لغيري صرحت بعزوه إليه، ولا أذكر منه إلا ما أستحسن ولا انتقاد عليه، وقد كنت أولاً سميته (نتائج الفِكَر في تناسب السور) لكونه من مستنتجات فكري كما أشرت إليه، ثم عدلت وسميته (تناسق الدرر في تناسب السور) (?) لأنه أنسب بالمسمى، وأزيد بالجناس» (?) . كما كتب في علم المناسبات والمقاصد القرآنية كتاباً آخر سماه (مراصد المطالع في المقاطع والمطالع) (?) .
وخص النوع الثاني والستين من كتابه (الإتقان في علوم القرآن) بالحديث عن [مناسبات الآيات والسور] ، ذكر فيه أغلب ما ذكره الزركشي في (البرهان) ، وزاد عليه في الأمثلة (?) .
وله كتاب في (أسرار التنزيل) قال عنه الغُماري: «وللحافظ السيوطي كتاب في أسرار التنزيل وصفه بأنه جامع لمناسبات السور والآيات. مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة سماه (قطف الأزهار في كشف الأسرار) (?) ثم وصفه بقوله:
أعف السيوطي الذي
كتب التناسق للدرر (?)
ثم كتب الغماري نفسه (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) تابع فيه جهود من قبله وقال عنه نظماً:
وكتب مثل كتابهم
بحثاً يؤيده النظر
أعملت فيه قريحتي
واخترت أنسب الفكر
وفتحت بعض المغلقات
من آي الكتاب ومن سور
وأتيت من عين المسائل
بالبدائع والغرر
أُلْهِمْتُ من فيض الإله
بفيض فضل مُدَّخر
حمداً لواهب فضله
وله التطوُّل إذ ستر
وصلاته دوما على
خير البرية من مُضَر (?)
وقال في مقدمته: «أما بعد: فقد أردت بمشيئة الله ـ تعالى ـ أن أبيِّن في هذا الكتاب مناسبات سور القرآن الكريم بعضها لبعض، حسب ترتيبها في المصحف الشريف. وهذا فن عزيز، قلَّ من تعرض له من العلماء على كثرة من تعرض منهم لفنون القرآن المتنوعة مثل تفسيره، وإعرابه، وقراءاته، وتجويده، واستنباط أحكامه، وقصصه، وغير ذلك؛ سميته (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) والله أسأل، وإليه بكتابه العزيز أتوسل أن يوفقني ويلهمني رشدي، وأن يفرج كربتي، ويذهب عني غمتي، إنه قريب مجيب» (?) .
وفي كلامه عن المسألة الثالثة قال: «المناسبة علم شريف عزيز، قلَّ اعتناء المفسرين به لدقته واحتياجه إلى مزيد فكر وتأمل. وهو نوعان:
أحدهما: مناسبة الآي بعضها لبعض بحيث يظهر ارتباطها وتناسقها كأنها جملة واحدة.
وثانيهما: مناسبة السور بعضها لبعض، وأول من أفرد هذا النوع بالتأليف ـ فيما أعلم ـ العلامة أبو جعفر بن الزبير الأندلسي، شيخ العلامة أبي حيان؛ ألف كتاباً سماه: (البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن) ثم كتب الحافظ السيوطي كتابه (تناسق الدرر في تناسب السور) لخصه من كتابه (قطف الأزهار في كشف الأسرار) ، ثم قال: «وكتابي هذا ثالث كتاب في هذا العلم الشريف ألهمنيه الله وله الحمد والمنة، وهو أنواع ثلاثة:
أحدها: التناسب بين السورتين في موضوعيهما، وهو الأصل.
وثانيها: التناسب بين فاتحة السورة والتي قبلها كالحواميم.
وثالثها: مناسبة فاتحة السورة لخاتمة ما قبلها، مثل (وإدبار النجوم ـ والنجم إذا هوى) و (فجعلهم كعصف مأكول.. لإيلاف قريش) .
وأضاف نوعاً رابعاً فقال: «ويُوجد نوع رابع من المناسبة هو مناسبة فاتحة السورة لخاتمتها.
أفرده السيوطي بالتأليف، وكتب فيه جزءاً صغيراً سماه (مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع) ويدخل في هذا النوع (رد العجز على الصدر) وهو من المحسنات البديعية» (?) .
ثم إن علم المناسبات القرآنية قد عرف طريقه إلى اهتمامات البحاثة المتأخرين بعد أن قرر الأزهر مادة التفسير الموضوعي على طلبته؛ إذ لا تستقيم دراسة التفسير الموضوعي إلا أن ترتبط بدراسة علم المناسبات القرآنية لما بينهما من لُحمة وارتباط وثيق صلة؛ فكلاهما متمم للآخر ودال عليه.
فكتب (د. محمد عبد الله دراز) في التناسب القرآني، وأطال النفس في مناسبات السورة الواحدة، وألح على ضرورة التعرض لذلك على الخصوص؛ تحقيقاً لمفهوم التناسب الكلي للسورة القرآنية دون إيغال في تحقيق الصلة بين الجزء والجزء إلى حد الاتحاد أو التماثل أو التداخل غاضين البصر عن النظام الكلي الذي وضعت عليه السورة في جملتها (?) ، فخرج كتاب (النبأ العظيم) مثالاً موفقاً في بيان جلالة (علم المناسبات) وضرورته في فهم كتاب الله الحكيم.
وكحال كل فن له مؤيدوه؛ فإن الضرورة تقتضي ظهور من يعارضه ممن يرون ما لا يراه الفريق الآخر، ويأتون على دعواهم بما يدل عليها، وقد يكون الخلاف بين الفريقين لفظياً، كما يكون سر الخلاف في تنزيه كل فريق لموضوع البحث عما لا يليق به بحسب زاوية رؤيته له.
فكان لعلم المناسبات القرآنية معارضون، وهم وإن كانوا قلة، إلا أن رأيهم محل بحث ودرس. فقد ذكر الزركشي في كتابه (البرهان) تحفُّظ الشيخ عز الدين عبد السلام ت 660هـ على القول بالمناسبات في القرآن فقال: «وقال الشيخ عز الدين عبد السلام: (المناسبة علم حسن، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر، ومن ربط فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلاً عن أحسنه؛ فإن القرآن نزل في نَيِّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يأتي ربط بعضه ببعض» (?) .
كما نُقل عن (الإمام أبي حيان) صاحب (البحر المحيط) كلامٌ شبيه بكلام الشيخ عز الدين عبد السلام (?) . وأنكر أبو العلاء محمد غانم المعروف بـ «الغانمي» اشتمال القرآن الكريم على أحد أنواع الارتباط بين الآيات القرآنية وهو المسمى بـ (حسن التخلص) (?) ، وقال: إن القرآن إنما وقع على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب في الانتقال إلى غير ملائم (?) .
وذكر (الشوكاني) صاحب تفسير (الفتح القدير) حجج المنكرين لهذا اللون من الارتباط بين الآيات، ونحا نحوهم، وضرب على بعض الأمثلة (?) . فعند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] ، يقول: أعلم كثيراً من المفسرين جاؤوا بعلم متكلف واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله تعالى، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف؛ فجاؤوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب ـ سبحانه ـ حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف كما في تفسيره» (?) .
إلا أن أوسع مقال في الرد على أصحاب المناسبات ما كتبه الشيخ محمد بن عبد الغزنوي ت 1296هـ.. قال (?) : «اعلم أن كثيراً من المفسرين جاؤوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب اله سبحانه؛ وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاؤوا بتكلفات يتبرأ منها الإنصاف ويتنزه عنه كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه ومن تأخر عنه. وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن قبضه الله ـ عز وجل ـ إليه، وكل عاقل لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية لنزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالاً، وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص تناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين وتارة مع من مضى وحضر، وحيناً في عبادة وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب ووقتاً في ترهيب، وآونة بشارة وآونة نذارة وطوراً في أمر دنيا وتارة في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية. وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف الذي لا يتيسر معه الائتلاف؛ فالقرآن النازل فيها باعتبار نفسه مختلف كاختلافها ـ فكيف يطلب العاقل المناسبة بين العنب والتوت، والماء والنار، والملاَّح والحادي؟ وهل هذا إلاّ مِنْ فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من كان في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور؟ فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن، تقرر عنده أن هذا الأمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجراً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة. فإن وَجَد الاختلاف بين الآيات انقدح في قلبه ما كان عليه في عافية وسلامة، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مرتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف؛ فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب يعلم علماِ يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول المُطَّلعين على حوادث النبوة؛ فإنه يثلج صدره ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة فضلاً عن المطولة؛ فإنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة لا مطابقة بين أسبابها. بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ، و: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، و: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] ، وينظر أي موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف. وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخراً أو تأخر ما أنزل الله متقدماً. وما أقل نفع مثل هذا، بل هو عند من يفهم تضييع للأوقات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله، وإلى ما قاله شاعر من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاء، وحيناً تشبباً وحيناً رثاء، وغير ذلك، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء في العزى والإنشاء في الهنا، لعُدَّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله، وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة في كلام البشر؛ فكيف تراه يكون في كلام الله ـ سبحانه ـ الذي أعجرت بلاغته بلغاء العرب ... ؟ وقد علم كل مقصر وكامل أن الله ـ سبحانه ـ وصف هذا القرآن بأنه عربي، فأنزله بلغتهم وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى فيه مجاريهم في الخطاب، وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون مختلفة وطرائق متباينة وكذلك شاعرهم. ولْنكتفِ بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي يعثر في ساحتها كثير من المحققين» (?) .
إن ما ذهب إليه العز بن عبد السلام وأبو حيان والغانمي والشوكاني والغزنوي هو مما فيه بعض عذر؛ فقد ضربوا أمثلة على تمحُّل القائلين بالمناسبة في القرآن، وأن اشتراط ذلك لا يليق لوقوع السور والآيات على أسباب وأزمان مختلفة يتأتى فيها تغاير الدواعي والعلل، وأن من سعى إلى البحث عن ذلك التناسب فقد تكلف ما لا يطيق، وإن قدر فهي مقدرة تؤدي إلى ربط ركيك يصان عنه كلام رب العالمين.
والواقع أن ما ساقوه من دوافع ومسوِّغات هو مما يقبل إثبات العكس؛ فالثابت أن للقرآن الكريم نوعين من التنزلات: أحدهما: نزولي على حسب الوقائع، والآخر: مصحفي على حسب الترتيب المنقول إلينا بالتواتر جيلاً عن جيل. وإن من يمعن في النظر يجد في كل واحد من التنزيلين نوع لُحْمة وانتماء وتناسب واتصال بين الآيات وبين السور على السواء؛ حدث أولاً عند نزولها بحسب الوقائع، ثم حدث ثانياً عند ترتيبها مصحفياً (?) .
وإذا جاز ارتفاع حد التناسب عن كلام البشر وأفعالهم لاختلاف الحوادث والأزمان فإن ذلك لا يرتفع في كلام رب العالمين الموصوف بالإعجاز، وصدق الله؛ إذ يقول: {الچـر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] . ثم إنه قد حُفظ عن الشوكاني عند ترجمته للبقاعي في كتابه (البدر الطالع) قوله: «إنه من الأئمة المتقنين المتبحرين في جميع المعارف» (?) . ووصف تفسيره (نظم الدرر) بقوله: «ومن أمعن النظر في كتاب له في التفسير الذي جعله في المناسبة بين الآي والسور علم أنه من أوعية العلم المفرطين في الذكاء الجامعين بين علميّ المعقول والمنقول، وكثيراً ما يشكل عليّ شيء في الكتاب العزيز وأرجع إلى مطولات التفسير ومختصراتها فلا أجد ما يشفي غليلي، وأرجع إلى هذا الكتاب فأجد ما يفيد» (?) .
كما أن أهل العلم قد خالفوا من أنكر القول بالمناسبات القرآنية ووهَّموه، فقال الشيخ ولي الدين الملوي: «قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً وتأصيلاً؛ مرتبةُ سوره كلها وآياته بالتوقيف. وحافظ القرآن لو استفتي في أحكام متعددة أو ناظر فيها أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سُئل، وإذا رجع إلى التلاوة لم يتلُ كما أفتى ولا كما نزل مفرقاً، بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة.
ثم زاد: «والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيءٍ عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جَمٌّ، وهكذا في السور يُطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له» (?) . ووافقه غير واحد الأئمة في ذلك (?) .
` مكانة علم المناسبات:
العلم بالمناسبات بين الآيات القرآنية في السورة الواحدة، وبين السور في الكتاب كله أمر ذو خطر عظيم لما له من شأن كبير في الدلالة على تفسير النَّظْم الحكيم تفسيراً موضوعياً باعتباره واحداً من أدق العلوم وأجلِّها ولما يحتاج إليه من حسٍ عال، وتذوق رفيع للأساليب والنظوم، ليس على مرتبة العلاقات اللفظية والمعاني، وإنما على ما فوقها من رُتب تلمس ما وراء النظم من هدايات ولطائف، ومعايشة لجو التنزيل، بل إنه من فرط دقته؛ كثيراً ما يرد إلى ذهن المشتغل به على صورة فيوضات وإشراقات تهز الفكر هزّاً وتمس الروح مسّاً.
لذلك بدت نسبته إلى علم التفسير كنسبة علم البيان إلى علم النحو، فهو علم يُعِين على إدراك مقاصد القرآن الحكيم، وتذوق نَظْمه الراقي، ومعرفة علل ترتيبه نزولياً ومصحفياً، ومطابقة المقال لما اقتضاه الحال، وبيان أوجه الاتصال بين السورة القرآنية وما سيقت له، وأوجه الاتصال بين السورة وما قبلها وما بعدها؛ وذلك أمر يحتمه الاعتقاد الجازم بتنزيه كلام رب العالمين عن المشابهة ناهيك عن التناقض: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، من أجل ذلك كانت المناسبة علماً عزيزاً، قلّ اعتناء المفسرين به لدقته، واحتياجه إلى مزيد فكر وتأمل (?) ، كما كانت علماً شريفاً تحزر به العقول، ويُعرف به قدر القائل فيما يقول (?) .
يقول الغُماري الحسني:
علم التناسب للسور علم جليل ذو خطر
قد قلّ فيه الكاتبون كما قد عز المُستطر (?)
ويقول الزركشي:
«المناسبة أمر معقول إذا عُرض على العقول تلقته بالقبول، وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتمها؛ فمرجعها يعود إلى معنى ما رابط بينهما: عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، وغير ذلك من أنواع العلاقات، أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين، ونحوه. أو التلازم الخارجي كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر» (?) .
ولما كان هذا العلم دقيق المسالك خفي المدراك احتاج الباحث فيه إلى استفراغ الجهد بغية الاستقصاء اللغوي لدلالات الكلمات القرآنية، والإحاطة بأسباب النزول والقراءات، والتوسع في أفانين علوم النحو والمعاني والبيان والبديع مع حسٍ مرهف، ونفس شفافة، والتقاط سريع، وألمعية وافرة، ولَمَّاحية عالية وسلامة في القصد؛ ليدرك سر اللُّحمة بين لطائف الآيات القرآنية ومراد الله ـ تعالى ـ من ترتيب كلامه على هذه الصفة، فتبدو له أوجه المناسبات في النَّظْم الحكيم (?) .
وإن عدم مراعاة علم المناسبات بين السور، أو الآيات يوقع في بُعد عن المعنى حتى في الآية الواحدة، وهو ما حدث للعديد من أهل التفسير عند تعرُّضهم لتفسير آية الأهلة مثلاً؛ قال ـ تعالى ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] ، جاء في سبب نزول صدر الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} عن ابن عباس قال: سأل الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأهلة، فنزلت هذه الآية. وقال أبو العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لِمَ خُلقت الأهلة؟ فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} (?) ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بن أبي إسحق عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية (?) .
ولأن (الفخر الرازي) يهتم بالمناسبات القرآنية بين الآيات فقد التفت إلى الملمح القرآني في الآية الكريمة، فتعقب وجوه تفسيرها عند المتقدمين من أهل التفسير قائلاً: «قول أكثر المفسرين حَمْل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول، إلا أنه على هذا التقدير يصعب الكلام في نظمها؛ فإن القوم سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحكمة في تغير نور القمر، فذكر الله ـ تعالى ـ الحكمة في ذلك بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، فأي تعلُّق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر وبين هذه القصة؟ (?) .
ثم ذكر وجهاً رآه منسجماً، فوجّه به الملاءمة وحقّقها بين أول الآية وآخرها، فقال: «جعل ـ سبحانه وتعالى ـ إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم» (?) .
أي أن سؤالهم عن حادثة فلكية دقيقة قبل تعاطيهم أسباب علم الفلك ووسائل معرفته كمن يأتي البيت من ظهوره؛ وذلك بلا شك مناقض للحكمة والبر، ولذلك ختم سبحانه الآية بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] (?) . يقول ابن سعدي: كل من سلك طريقاً أو عمل عملاً، فأتاه من طرقه وأبوابه فلا بد أن يفلح ويصل إلى غايته، كما قال ـ تعالى ـ: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] ، وكلما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر، وتعيّن البحث التام عن أمثل الطرق الموصلة إليه (?) .
وهكذا تتجلى أهمية المناسبات القرآنية في أنه علم مُعِين على جعل أجزاء الكلام وقد أخذ بعضها بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط بينها، ويصير تآلفها كحال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء (?) .