مجله البيان (صفحة 4989)

هذه هي الوسطية

رؤية حقيقية لا أوهام متخيلة

د. علي بن عبد الله الصياح

الوسطية أو على الأصح (الوسط) كلمةٌ جميلةٌ جليلة، ولا أدلَّ على ذلك من استعمالها وصفاً لهذه الأمة كما قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .

وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الوسط بالعدل كما في الحديث الذي أخرجه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.

وفي سورة القلم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي: أعدلهم، وفي سورة المائدة: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] أي أعدل.

وقال الشاعر:

هُمُ وسَطٌ يرضى الأنامُ بحكمهم إذا نزلتْ إحدى اللّيالي بمُعظَمِ

أي عدول.

وقال ابنُ فارس: «الواو والسين والطاء: بناء صحيح يدل على العدل والنّصَف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه، ويقولون: ضربتُ وَسَطَ رأسه بفتح السين، ووَسْط القوم بسكونها، وهو أوسطهم حَسَباً، إذا كان في واسطة قومه وأرفعهم محلاً» (?) .

وهذه الوسطية والعدالة متضمنةٌ للخيرية، والاعتدالِ في كلّ شيء. قال الطبري: «إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين؛ فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهُّب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها» (?) .

وقال ابن كثير: «ولَمَّا جعل الله هذه الأمة وَسَطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال ـ تعالى ـ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] » (?) .

فتبين أنّ الوسطية والتوسط في الدين هي: كل حق بين باطلين من الاعتقادات والأعمال والأخلاق.

فمن سلَّم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعمل بما ورد في القرآن وصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العقائد والشرائع فهو من أهل هذه الوسطية والاعتدال والخير، وكلّ من تعدى حدود الشرع أو قصَّر عن القيام بها فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب عدوانه أو تقصيره.

قال ابن القيم: «فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله ـ سبحانه ـ هذه الأمة وسطاً وهي الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور، والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها؛ فخيار الأمور أوساطها» (?) .

وقال أيضاً: «والفرقُ بين الاقتصادِ والتقصير أنَّ الاقتصادَ هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وله طرفان هما ضدان له: تقصير، ومجاوزة. فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين، قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] ، والدينُ كلّه بين هذين الطرفين، بل الإسلام قَصْدٌ بين الملل، والسنَّة قصد بين البدع، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وكذلك الاجتهاد هو بذل الجهد في موافقة الأمر، والغلو مجاوزته وتعديه. وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: فإما إلى غلو ومجاوزة، وإما إلى تفريط وتقصير؛ وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم. وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير، وخوفوا من بُلي بأحدهما بالهلاك، وقد يجتمعان في الشخص الواحد؛ كما هو حال أكثر الخلق يكون مقصراً مفرطاً في بعض دينه، غالياً متجاوزاً في بعضه؛ والمهدي من هداه الله» (?) .

ومما ينبغي التفطُّن له خطأ ما انتشر في الكتابات المعاصرة من جعل «الوسطية» حالة تقوم على التوفيق بين السنَّة والبدعة، بل بين الكفر والإسلام كما في دعوتي التقريب بين السنة والشيعة، والنصرانية والإسلام التي هي فرع عن الدعوة لوحدة الأديان.

ومن هذه الوسطية الترخصات المذمومة التي أساسها اتباع الهوى بتتبع الأقاويل الشاذة والمخالفة للدليل، والتي قال فيها بعض العلماء: «من تتبع الرخص تزندق» .

ومن أصحاب هذه الوسطية بعض الإعلاميين والمنتسبين إلى الدعوة الذين يعطون الفرصة ـ باسم الحوار ـ لذوي الأقلام المسمومة والأفكار المشبوهة لينفثوا سمومهم وأفكارهم.

ومعلومٌ أن ليس من أسس الدعوة إلى الله ومطالبها استدعاء الشبهات ونشرها بحجة الردّ عليها، بل المطلوب في الدعوة إلى الله - وهو نوعٌ من الجهاد ـ كشف شبهات المبطلين من الكافرين والمبتدعين، ونشر ذلك إذا ظهرت المصلحة.

ودعوى التوفيق منهجٌ قديم سلكه المنافقون أوَّلاً كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 61 - 62] ، ودرج على طريقتهم طوائف من المبتدعة، والمتفلسفة، والجهلة.

قال ابنُ أبي العزّ في هذه الآية: «أخبر أنّ المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره، وأنهم إذا دُعوا إلى الله والرسول وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله صدوا صدوداً، وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقاً كما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نحسن الأشياء بحقيقتها، أي ندركها ونعرفها ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات وهي في الحقيقة جهليات، وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول، أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة، وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدَّعونه من الباطل الذي يسمونه حقائق، وهي جهل وضلال، وكما يقوله كثير من المتملكة والمتأثرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها وبين الشريعة ونحو ذلك؛ فكل من طلب أن يحكم في شيء من أمر الدين غير ما جاء به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمعٌ بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه فله نصيب من ذلك، بل ما جاء به الرسول كافٍ كاملٌ يدخل فيه كل حق» (?) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وفي هذه الآيات أنواع من العِبَر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب، وغير ذلك من أنواع الاعتبار» (?) .

وقال: «فإن هؤلاء إذا دُعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول؛ والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته، أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنَّا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية» (?) .

وقال ابنُ القيم: «هذه القواعد الفاسدة هي التي حملتهم على تلك التأويلات الباطلة؛ لأنهم رأوها لا تلائم نصوص الوحي، بل بينها وبينها الحرب العوان، فأجهدوا أنفسهم، وكَدُّوا خواطرهم في الصلح، وزعموا أن ذلك إحسان وتوفيق؛ وكأن الله ـ سبحانه ـ أنزل هذه الآيات في شأنهم: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ} [النساء: 60] إلى قوله: {إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] » (?) .

وربما تلتبس هذه الدعوات على بعض الناس فينساق خلفها، فيضل ويُضِل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا ريب أن كثيراً من هؤلاء قد لا يعلم أنه منافق، بل يكون معه أصل الإيمان، لكن يلتبس عليه أمر المنافقين حتى يصير لهم من السمَّاعين. قال: ـ تعالى ـ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] ، ومن المعلوم أن كلام أهل الإفك في عائشة كان مبدؤه من المنافقين، وتلطخ به طائفة من المؤمنين، وهكذا كثير من البدع كالرفض والتجهم مبدؤها من المنافقين، وتلوث ببعضها كثير من المؤمنين؛ لكن كان فيهم من نقض الإيمان بقدر ما شاركوا فيه أهل النفاق والبهتان» (?) .

ومن العجيب أنّ كلاً يدعي الوسطية لنفسه:

فالخارجي يدعي أنّ مذهب الخوارج «وَسَطَ» .

والمرجئي يدعي أنّ مذهب المرجئة «وَسَطَ» .

والعقلاني يدعي أنّ منهجه «وَسَطَ» .

والمفرط يدعي أنّ منهجه «وَسَطَ» .

وربما العلماني ـ وغيره ـ يدعي أنّ منهجه «وَسَطَ» !!.

والوسطية لا تعرف بمجرد الدعوى، وإنما تعرف بالدلائل والبينات.

والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء

وإنما تعرف الوسطية الحقة بطاعة الله ورسوله، والتسليم لهما ظاهراً وباطناً. قال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (*) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015