مجله البيان (صفحة 4988)

أولئك آبائي

التحرير

إطلالة على مكانة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الوحيين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد الأمين، وأصحابه الأطهار البررة الطيبين. أما بعد:

فإن الألسن لا تكل من ترداد سيرهم، والآذان لا تمل من سماع أخبارهم، بل تستعذب الحديث عنهم، والعين تسعد بالنظر والمطالعة فيما كتب عن خصالهم وأخلاقهم، والقلب ينشرح ويزداد ثباتاً ويقيناً بأخبار بلائهم وجهادهم أولئك هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذين اختارهم الله على علم لصحبة نبيه الخاتم إلى العالمين، هم أبر هذه الأمة قلوباً، وأصدقها حديثاً، وأعمقها عِلماً، وأقلها تكلفاً، وأكثرها بلاءً وجهاداً في سبيل الله، خُيِّروا بين الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، والأموال والتجارات والديار وبين الله ورسوله والجهاد في سبيله، فطرحوا ذلك كله وراءهم ظهرياً، واختاروا الله ورسوله والجهاد في سبيله {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] . مدحهم رب السموات والأرضين في كتابه العظيم، وكفاهم بذلك شرفاً وعلواً، وقد بلغ من شرف مكانتهم وعلوها عند ربهم أنه نوَّه بصفاتهم في كتبه السابقة فقال: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح: 29] ، ونوه بهم في الإنجيل فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ، والذين مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم أصحابه الغر الميامين؛ فهم أشداء على الكفار في غير ظلم، رحماء بينهم من غير تجمع على باطل، عابدون لله وحده لا يشركون به شيئاً، راكعون وساجدون، لا يبتغون الفضل والرضوان إلا منه، قد أثرت العبادة فيهم حتى ظهر أثر ذلك على جوارحهم، فإذا رأيت الواحد منهم علمت أنه ممن يحب الله ويخشاه؛ ولذلك فإن الله ـ تعالى ـ قد رضي عنهم، وهي أعظم منة يمن الله بها على عبد من عباده، فقال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] ، وشهد على ما في قلوبهم من الإيمان والخير الذي لا يقدره إلا الله، وكفى بالله شهيداً.

وقد مدحهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى؛ فيا سعد من مدحه وأثنى عليه رسول رب العالمين! وهل هناك فضل يمكن أن يصل إليه إنسان بثناء بَشَرٍ عليه فوق أن يثني عليه الرسول العظيم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وقد مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وهو أعرف الناس بهم وبأقدارهم، فخص منهم بالذكر أعظمهم وأفضلهم، ثم مدحهم على العموم والإجمال القاضي بشمول المدح لهم جميعاً، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «خير أمتي قرني..» الحديث (?) .

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أصحابي أََمَنَةٌ لأمتي؛ فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» (?) ، يعني أن وجود الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أمان للأمة من ظهور البدع والحوادث، بل إن بركة الصحابة امتدت لتشمل جيلين بعدهم، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي على الناس زمان يغزون فيقال لهم: فيكم من صَحِبَ الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون: نعم! فيُفتح عليهم، ثم يغزون فيقال لهم: هل فيكم مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم» (?) ، وخاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذين أسلموا بعد فتح مكة، مقارناً بينهم، وبين من أسلم قبل الفتح فقال: «لو أن أحدكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما أدركَ مدَّ أحدهم ولا نصيفَه» (?) ، فإذا كانت هذه مقارنة بين أناس اشتركوا في فضل الصحبة، وزاد بعضهم بالمبادرة والمسابقة إلى الإسلام؛ فكيف تكون حال المقارنة بينهم وبين أناس لم يشتركوا معهم في هذا الفضل؟!

ولو ذهبنا نتتبع النصوص من القرآن والسنة التي تحدثت عن ذلك الجيل الفريد لطال بنا المقام، والذي يمكننا أن نفعله في هذه العجالة أن نعرض نزراً يسيراً من حياة هذا الجيل لندرك بعضاً من الأسباب التي رفعت منزلتهم فوق هام السحاب أملاً في أن نحاول أن نمضي خلفهم في الدرب الذي سلكوه؛ إذ لا يعدم الفضل والأجر من يحاول ذلك، وإن قصر عن بلوغ الهدف.

- صدق الإيمان في قلوبهم:

فالذي يعلم كيف بدأ الإسلام يدرك صدق الإيمان في قلوب الصحابة، وجذوته وشدته حتى تحمَّلوا في سبيله ما تقصر همم الرجال عن تحمله، فأظهر الله بهم الملة، ورفع بهم راية التوحيد، وأذل بهم الشرك ونكس رايته، ودك حصونه وهدم قلاعه.

لقد بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو في مكة إلى الله وحيداً، والمشركون محدقون به، صادُّون عنه، مناوئون له، فلا يقدر أحد من الناس أن يسلم من غير أن يتعرض للأذى الشديد؛ فإذا نظرت إلى عدد قليل جداً من الأفراد وسط مجتمع متكامل يتمتع بكل مقومات الحياة الاجتماعية، قد أطبق على مقاطعة تلك المجموعة؛ فكيف يعيش هؤلاء؟ فقد كان المشركون لا يبايعونهم ولا يناكحونهم، ولا يجالسونهم، ولا يخالطونهم، ولا يدخلون عليهم بيوتهم، ولا يكلمونهم، وقد تعاقدوا وتناصروا على ذلك حتى جهد المسلمون جهداً شديداً، فكانت تأتي العير من خارج مكة محملة بالطعام، فيتسارع المشركون إلى شرائها وإغلاء سعرها، حتى تنفد القافلة ولا يتمكن المسلمون من شراء شيء منها، وهذه حادثة من حوادث عديدة تصور لنا الظرف الحرج الذي كان يعيش فيه المسلمون. يقول سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «خرجت ذات ليلة لأبول، فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها، ثم رضضتها وسففتها بالماء، فتقويت بها ثلاثاً» (?) . ومع ذلك فما أبعدهم هذا عن دينهم، بل ما زادهم إلا إيماناً به وثباتاً عليه.

- ترك الديار والأهل والأوطان:

من الأمور التي يتعلق بها الإنسان أهلُه وموطنُه، ومن الصعب جداً على الإنسان أن يترك ذلك إلى مكان آخر، ولو كانت له فيه مصلحة، ولو كان يجد من يعينه على ذلك؛ فما بالك بمن يترك أهله وولده ويذهب إلى مكان بعيد لا يعرفه ولا يعرف أهله، ليس له فيه أنيس ولا جليس، أو صديق أوقريب، بل يركب البحر الأعظم على ما في ذلك من الخطورة الشديدة في تلك الأزمنة التي لم تكن فيها السفن مأمونة، بل كانت صغيرة تتقلب مع أمواج البحر العاتية، فإذا به يجد نفسه بعد قليل في لجة البحر، فلا يرى إلا المياه وهي تلفه من جميع جوانبه، ويظل على ذلك عدة أيام لا يرى غير الماء والسماء قد أطبقت عليه مثل القبة، ومع ذلك فهو يُقْدِم على ذلك راضياً صابراً محتسباً مقدماً لدينه على التمسك بالأوطان والديار والأهل والأموال فيخرج مهاجراً في سبيل الله فمنهم من يدرك موطنه الجديد، ومنهم من يموت قبل أن يصل؟ فرضي الله عنهم وأرضاهم، ما أجلدهم وأصبرهم على طاعة الله! ولعل حادثة واحدة من حوادث عديدة نسوقها تظهر لنا جانباً من ذلك. تقول أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ: «لما أجمع أبو سلمة (زوجها) الخروج إلى المدينة مهاجراً رحَّل لي بعيره، ثم حملني عليه وحمل معي ابني سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة (رهط أم سلمة) قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علامَ نتركها تسير بها في البلاد؟ قالت: فانتزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، فقالوا: لا، والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج غداة كل يوم فأجلس بالأبطح؛ فما أزال أبكي حتى أمسي (سنة أو قريباً من ذلك) » (?) ومع ما في هذه القصة من مأساة عظيمة لأبي سلمة، فما ردهم ذلك عن هجرتهم إلى الله، ولا أوهن ذلك عزيمتهم، وهذا يبين ما بذله الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من تحمُّل في سبيل الله، والثبات على دينهم وإصرارهم عليه، وهو ما يعني أن الإيمان أثبت في قلوبهم من ثبات الجبال الشم الرواسي.

- البذل لدين الله:

السلامة الشخصية والحياة من أهم ما يحرص عليه الإنسان، حتى يكون ذلك في المقام الأول، لكن أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- هانت عليهم نفوسهم في سبيل الله، فكان الجهاد أحب شيء إليهم، وكان الموت في سبيله أول ما يحرصون عليه، حتى لو لم يكن الجهاد في ذلك الوقت مفروضاً عليهم، والوقائع في ذلك اكثر من أن تُحصر، ولعل واقعة واحدة نسردها تبين ذلك؛ ففي غزوة بدر الكبرى عندما خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- لاعتراض عير قريش، وقد افلتت العير، وجاءت قريش لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه ـ وهم لم يخرجوا لقتال ومن ثم لم يستعدوا له ـ: أشيروا عليَّ أيها الناس! فقام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وتكلم فأحسن، وكذلك عمر بن الخطاب وكذلك تكلم المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله! امض لما أراك الله؛ فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون؛ فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (?) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه» . ورغم هذا فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «أشيروا عليَّ أيها الناس!» وإنما يعني بذلك الأنصار؛ وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يتخوَّف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى العدو خارج ديارهم على وفق ما تمت عليه البيعة في العقبة، فتفطَّن سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ سيد الأنصار لذلك، فقال: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: أجل! قال: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت؛ فنحن معك؛ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنَّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فَسِرْ على بركة الله» (?) . فلم يثنهم أنهم لم يكونوا خرجوا للجهاد مع قلة الإمكانات عن الإصرار الشديد على ملاقاة العدو حتى نصرهم الله عليه، بل إن الحياة عندهم لم تكن لها قيمة إذا خلت من الجهاد؛ فهذا سعد ـ رضي الله عنه ـ لما أصيب في غزوة الخندق دعا ربه، فقال: «اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحبَّ إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك -صلى الله عليه وسلم- وأخرجوه. اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم؛ فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها (موضع الإصابة) واجعل موتتي فيها» الحديث (?) .

- حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فوق النفس والأهل:

وكان مما وقر في قلوب الصحابة حبهم الشديد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى كان أحب إليهم من أموالهم وأولادهم وأهليهم ومن أنفسهم، وقد كانوا في ذلك في أعلى الدرجات؛ فهذا خبيب ـ رضي الله عنه ـ عندما كان مأسوراً لدى قريش بمكة وأرادوا قتله حملوه إلى الخشبة وأوثقوه رباطاً، ثم قالوا له: أرجع عن الإسلام نُخْلِ سبيلك. قال: لا، واللهِ ما أحب أني رجعت عن الإسلام، وأنَّ لي ما في الأرض جميعاً. قالوا: فتحب أن محمداً في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ قال: واللهِ ما أحب أن يُشاك محمد -صلى الله عليه وسلم- بشوكة، وأنا جالس في بيتي، فجعلوا يقولون: ارجع يا خبيب! قال: لا أرجع أبداً؛ حتى قتلوه رضي الله عنه. فأولئك قوم قد طغى حبهم للدين وحبهم لرسول رب العالمين على حبهم للحياة بما فيها من الأنفس والأموال والأهل والديار؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعلنا ممن يسير خلفهم.

وبعد: فتلك كانت نتفاً يسيرة من أحوال أولئك القوم، ولو ذهب الذاهب يتتبع ما ورد من ذلك في الكتب الصحاح والسنن والمسانيد لما كفته المجلدات.

وحسبك أن تنظر من هذه الكوة الصغيرة لتعلم ما وراءها؛ فأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرب أمته منه، وأحبهم إليه، آمنوا به وصدقوه ونصروه وعزروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه، وفارقوا لأجل ذلك الأوطان والديار والأهلين والأموال، وتجشموا المصاعب والمتاعب الجمة، مع شدة في الدين وغيرة عليه، ومحبة له، ورحمة بالمسلمين في أخلاق وسلوك لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، ولن يعرف، ولهم بعد ذلك من العلم النافع الكثير والعمل الصالح الوفير، والرغبة في الآخرة والتزود لها، والرغبة عن الدنيا والإقلال منها، وبالجملة: فإن الحديث عنهم لا يكاد ينقطع، ولا نستطيع أن نوفيهم حقهم.

والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بعد ذلك بشر من البشر، وليسوا ملائكة، ولا أنبياء معصومين، قد اجتهدوا في أمور قد أصابوا الحق في معظمها واجتمعوا عليه، واختلفوا في أمور وصدر عنهم في ذلك ما يصدر عن البشر لكن مع الإخلاص وتحري الصواب، ومحبة الحق والرغبة في الوصول إليه والحرص عليه، وهم في ذلك بين مجتهد مصيب مأجور، وآخر مجتهد مخطئ معذور، ولذلك حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته من الوقوع في أصحابه إذا رأوا شيئاً من ذلك، وقال: «لا تسبوا أصحابي» . ومذهب أهل السنة والجماعة الإمساك عما شجر بين الصحابة والترضِّي عنهم جميعهم، ولا أجد رجلاً أشد خذلاناً من رجل يسب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو يقع فيهم وهو يُتلى عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفَه» (?) .

ونقول لمثل هذا ممن خذله الله ولم يرعوِ كما قال الشاعر العربي:

أُولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ

رزقنا الله ـ سبحانه ـ محبته ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وآله وأصحابه، وجعلنا من التابعين لهم بإحسان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015