مجله البيان (صفحة 4978)

فلنحذر سلاح الخيانة

ممدوح إسماعيل

يوم التاسع من إبريل عام 2003م غلف الصمت والحيرة عقول الحكماء لمدد مختلفة بحسب استيعاب كل إنسان لسقوط بغداد بتلك الطريقة المفجعة، وكان السؤال: أين ذهب صدام حسين والجيش؟ فخرجت أول إجابة علانية: إن صدام عقد صفقة غادر على أثرها العراق متجهاً إلى روسيا؛ وذلك في موكب السفير الروسي عند مغادرته بغداد أثناء الحرب، وعزز ذلك زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي للعاصمة الروسية في غضون تلك الأيام، وهي زيارة غامضة ومبهمة. وتوالت بعد ذلك الأخبار تتحدث عن خيانة الجيش أو على الأصح خيانة قائد الحرس الجمهوري المكلف بالدفاع عن بغداد، وتضاربت الأخبار بصورة لافتة للنظر، ولكن في خضم تلك الأخبار تبرز حقيقة واحدة ألا وهي الخيانة وقد تواتر الحديث عنها لدرجة اليقين.

الخيانة سلاح قديم عرفته الحروب البشرية، واستخدمته الدول والجيوش في حروبها؛ وذلك لإضعاف جبهة أعدائها وتفكيكها تمهيداً للسيطرة عليها وإحراز النصر. وصور الخيانة متعددة منها ما هو متعلق بالحاكم لأمته، أو أعوان الحاكم، أو أفراد من الشعب لبلدهم. ولقد عهدت الحكومات لأجهزة مخابراتها بمهمة تتبع من تعتبرهم خونة، ولكن دائماً كان سلاح الخيانة يخفى؛ لأن طبيعة استخدامه تفرض سريته؛ ولذلك فإنه سلاح ربما يكون أخطر وأهم من الأسلحة النووية، وفي حرب العراق كان استخدام السلام النووي مستبعداً لتلاحم الجيوش في مناطق كثيرة؛ غير أن الولايات المتحدة كانت في معارك سياسية فيما يتعلق بالشرعية القانونية للحرب، فلا تريد أن تورط نفسها في رد فعل عالمي سيكون أشد في معارضة للولايات المتحدة؛ ومع ذلك قيل إنها استخدمت قنابل نووية تكتيكية إمكانياتها محدودة، ولكن أمريكا لجأت إلى استعمال سلاح الخيانة عندما فوجئت بالمقاومة غير المتوقعة في الجنوب، ووجدت أن استعمال سلاح الخيانة تكاليفه أقل ونتائجه حاسمة؛ وذلك ما أكده (تومي فرانكس) قائد الحملة العسكرية على العراق لوكالات الأنباء ونشر في الجرائد في العالم يوم 25/5/2003م؛ حيث ذكر أن عدداً من كبار ضباط الجيش العراقي الذين كانوا يتولون الدفاع عن عدد من المدن الرئيسية في العراق قد تقاضوا رشاوى من الولايات المتحدة لمنع قواتهم من قتال القوات الأمريكية الخاصة أثناء الحرب.

وجاء في صحيفة الإندبندنت البريطانية عن أحد قادة وزارة الدفاع الأمريكية أن الرشوة التي قدمت لأبرز القادة العراقيين توازي تكلفة صواريخ كروز الذي تراوح قيمته ما بين مليون و 2.5 مليون دولار، وقال إن تقديم هذه الرشاوى حقق الهدف المطلوب دون إراقة دماء، وقال إن هذا الجزء من العملية العسكرية كانت له أهمية العمليات العسكرية نفسها وربما أكثر أهمية. هذا فيما يتعلق بخيانة كبار القادة العسكريين العراقيين.

المقصود مما ذكر أن هناك تأكيداً على أن خيانة عجلت بسقوط بغداد على هذا الشكل المهين.

ويأخذنا سقوط بغداد إلى القفز عبر التاريخ إلى الماضي ودخول التتار بغداد على يد الخائن (ابن العلقمي الرافضي) وكان وزيراً للخليفة العباسي ويذكر ابن كثير أن الوزير ابن العلقمي قبل دخول التتار بغداد كان يجتهد في صرف الجيش وإسقاط أسهمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام الخليفة المستنصر قريباً من مائة ألف منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر، فلم يزل في تقليلهم إلى أن لم يتبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال؛ وذلك كله طمعاً أن يزيل السنَّة بالكلية، وأن يُظهر البدعة الرافضية، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء المفتين) (?) .

وما أشبه الليلة بالبارحة وتحالف الرافضة من أمثال الجلبي والخوئي وغيرهما مع الأمريكان تحت مسمى المعارضة العراقية، وتهليل الشيعة العراقيين يوم 19/4/2003م، للقوات الأمريكية عند دخولهم بداية مدينة صدام إحدى ضواحي بغداد. وعندما نقلب صفحات التاريخ سوف نجد صفحات أخرى سوداء للخيانة منها ما فعله الوزير شاور في مصر مع الصليبيين عندما هجموا على مصر عام 564هـ وفتح لهم، شاور البلاد وجعلوه نائباً لهم وحرق الوزير شاور مصر إرضاء للإفرنج، وظلت النار تشتعل في مصر 54 يوماً كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، وقتل الخائن شاور بأمر حاكم مصر (?) .

وكانت هناك مؤامرة للقوم مع اليهود ضد قوات القائد المسلم نور الدين محمود والقائد البطل صلاح الدين الأيوبي؛ فقد اتفق كل من مؤتمن الخليفة العاضد في مصر، ومقدم العساكر على مكاتبة الصليبيين واستدعائهم إلى البلاد، وكتب رسالتهم يهودي، ولكن الله فضحهم، وقُبض على حامل الرسالة، وعند فتحها وجد فيها الآتي: (إن يتحرك الفرنج إلى الديار المصرية فإذا وصلوا خرج صلاح الدين بالعساكر إلى قتالهم فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه على متخلفيهم يقتلهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين فيأتونه من وراء ظهره والفرنج بين يديه فلا يبقى لهم باقية (?) ، ومما يؤكد ضلوع الحاكم العبيدي في المؤامرة أن صلاح الدين وهو يصفي أطراف المؤامرة فوجئ بالحجارة والسهام صادرة من قصر الحاكم، وكان العاضد يرقب المعركة من القصر.

وذكره المؤرخ ابن كثير بالآتي: (كان شيعياً خبيثاً، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة) (?) .

ونحن نقلب صفحات التاريخ نقترب من واقعنا المعاصر قريباً، ونفتح صفحات احتلال فلسطين والصراع مع اليهود ثم نقف عند صفحة سوداء من صفحات الخيانة. فقد نشرت جريدة أخبار اليوم المصرية بالعدد 280 الصادر بتاريخ 18/3/1950م ـ نشرت خمس وثائق خطيرة بخط أحد الحكام العرب القدامى، وبخط كبار رجال حكومة إسرائيل تثبت اتصاله باليهود طيلة مدة حرب فلسطين وبعدها، وقد نشرت المطبعة السلفية مجموع تلك الوثائق تحت عنوان: (وثائق خطيرة) ودلت تلك الوثائق على اتصال ذلك الحاكم بـ (إسرائيل) واعترافه بها في الوقت الذي كان يموت الألوف فيه برصاص اليهود، وتضمنت مفاوضاته تسليم مناطق كثيرة في فلسطين لليهود، والتعهد بوقف الحرب ومنع الجبهات الأخرى من القتال كالجبهة العراقية، وأنه تعهد لليهود بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب.

وبثت إحدى القنوات التلفزيونية مشاهد لحاكم عربي معاصر وهو يهبط في مطار بن جوريون قبل حرب عام 1973م بساعات ليحذر (جولدا مائير) رئيسة وزراء (إسرائيل) من اندلاع حرب اتفق عليها العرب وهي حرب العاشر من رمضان ضد اليهود.

وما سبق إشارات أو نقاط في الصفحات السوداء في تاريخ الخيانة، وهناك نقاط سوداء في الخيانة في الواقع المعاصر مشاهدة ومحسوسة للكثيرين مثل اغتيال القائد المجاهد خَطَّاب (سامر السويلم) في الشيشان؛ فقد تم دس السم له عبر عميل خائن، وكثير من الاغتيالات التي تتم في أرض فلسطين المحتلة ضد المجاهدين يتم عبر العملاء الخونة من الفلسطينيين الذين يتعاونون مع العدو اليهودي، والأمثلة كثيرة ومتعددة ومتنوعة حول استخدام سلاح الخيانة سواء ضد الأفراد أو ضد الدول، وغالباً ما يكون الخونة من منحرفي العقيدة والمنافقين.

_ التحذير القرآني من الخيانة:

ورد لفظ الخيانة في سورة الأنفال في ثلاث آيات 27، 58، 71، وفي كل آية يرد اللفظ مرتين، وهو لم يحدث في أي سورة من سور القرآن الكريم؛ ودلالة هذا التكرار تفيد الانتباه لأهمية الأمر؛ خاصة أن سورة الأنفال هي سورة الجهاد والقتال، ولقد بدأت السورة بأول معركة للمسلمين ألا وهي غزوة بدر، وهو ما يلفت النظر للحذر من الخيانة التي تكون خاصة في المعارك.

يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] ، وقد أورد الإمام ابن كثير والقرطبي في تفسيريهما أنها نزلت في أبي لبابة ابن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح، وقال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله. وفي الآية 58 من سورة الأنفال يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: {وَإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ، قال القرطبي: الخيانة هي الغدر، وقد ذكر القرطبي في تفسيره عند تلك الآية ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكل غادر لواء يوم القيامة يُرفع له بقدر غدره؛ ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة» (?) ، وعقَّب القرطبي بقوله: قال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة. وفي الآية 71 من سورة الأنفال: {وَإن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 71] ، وقد أخرج النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئس البطانة» (?) .

_ صور مشرفة في مواجهة الخيانة:

1 - الصورة الأولى والمشهد الرائع في مواجهة الخيانة هو مشهد الصحابي الجليل كعب بن مالك عندما تخلف عن غزوة تبوك، ولم يجد عذراً يعتذر به عن تخلفه عن الغزو أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن الكلام مع كعب، ومرارة بين الربيع، وهلال بن أمية، ولبث كعب خمسين يوماً على هذا الحال حتى قال: تنكرت لي في نفسي الأرض؛ فما هي الأرض التي كنت أعرف، ثم يقول بعد تلك الأيام وما أشدها على النفس المؤمنة حين يذكر أنه كان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم ويقول في نفسه: أحرَّك رسول الله سقنيه برد السلام عليَّ أم لا؟ حتى جاء يوم فتسور حائط أبي قتادة ابن عمه وأحب الناس إليه فسلم عليه فلم يرد عليه، فقلت له: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ وأخذ يكررها مرتين وأبو قتادة ساكت حتى تركه وعينه تفيض من الدمع، وبينما هو على هذا الحال وهو يمشي في سوق المدينة إذا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له حتى جاء كعب، فدفع إليه كتاباً من ملك غسان، وكان كعب يجيد القراءة، فوجد في الكتاب: أما بعد: فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة؛ فالحق بنا نواسِك. قال كعب حين قرأه: وهذا أيضاً من البلاء. وقال: فتيممت التنور فسجرته به. ثم لما أتم أربعين ليلة من الخمسين جاءه رسول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتزل امرأته، وكان الأمر يشمل أيضاً الصحابيين الآخرين، فلما أتم الخمسين ليلة جاءه البشير بالفرج من الله والتوبة. وفي كعب وصاحبيه نزل قول الله ـ تعالى ـ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] . إن قصة كعب مثلٌ عظيم لمن تتزلزل قلوبهم في المحن ويخونون الصف المسلم طمعاً في متاع الدنيا الزائل، وقد كثر هؤلاء لكثرة المحن التي تمر بها الأمة الإسلامية والحركات والجماعات الإسلامية.

2 - الصورة المشرفة الثانية هي للسلطان عبد الحميد آخر خلفاء الدولة العثمانية المسلمة.

فقد شهدت أيامه محناً واضطرابات وضعفاً وديوناً في غمرة أحداث كثيرة كانت تصب في ضعف الخلافة حتى سميت بـ (رجل أوروبا المريض) .

قام اليهود بمحاولة خسيسة مع السلطان، فأوفدوا إليه الثري اليهودي (قره صو) وفي المقابلة قال (قره صو) للسلطان: (إني قادم مندوباً عن الجمعية الماسونية لتكليف جلالتكم بأن تقبلوا خمسة ملايين ليرة ذهبية هدية لخزينتكم الخاصة ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة سنة على أن تسمحوا لنا ببعض الامتيازات في فلسطين. فما أن أتم (قره صو) كلامه حتى نظر السلطان عبد الحميد إلى مرافقه بغضب، وقال له: هل كنت تعلم ماذا يريد هذا الخنزير؟ فارتمى المرافق على قدمي السلطان مقسماً بعدم علمه، فالتفت السلطان إلى (قره صو) وقال له: (اخرج من وجهي يا سافل) فأرسل إليه (قره صو) برقية تضمنت أن رفضك سيكلفك ممتلكاتك وأنت شخصياً. لم يهتز السلطان عبد الحميد، ولقد حاول اليهود مرة ثانية عن طريق (هرتزل) اليهودي الذي حاول رشوة السلطان مقابل امتيازات لليهود في فلسطين، فرفض السلطان في إباء وشموخ وعزة وكبرياء ندر أن نجدها في هذا الزمان، ولقد كتب (هرتزل) الموقف في مذكراته فقال: (ونصحني السلطان عبد الحميد أن لا أتخذ أية خطوة أخرى في هذا السبيل؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكاً له؛ بل هي لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني أن يحتفظ اليهود بملايينهم، وقال: إذا تجزأت امبراطوريتي يوماً ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من امبراطوريتي وهذا أمر لا يكون) . ولقد حاول اليهود مرة أخرى عن طريق حزب الاتحاد والترقي (يهود الدونمة) وقد ذكر السلطان تلك المحاولة في رسالة هامة لشيخه في مذكرات نسردها للعظة والتأمل والاستفادة التاريخية. يقول السلطان: (إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا عليَّ بأن أصادق على وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين) ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف وأخيراً وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة ذهبية إنجليزية فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضاً، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: «إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعياً؛ فقد خدمت الأمة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسوِّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين؛ لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أبداً» ، وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير هذا، وحمدت ـ المولى ـ وأحمده أنني لم أقبل أن ألطِّخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين» . انتهى كلام السلطان عبد الحميد بصورة مشرقة عظيمة للصمود أمام الخيانة مهما كانت التضحيات. إنه مثال واقعي للامتثال لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] .

ويبقى أن أهل الحق مطالبون في هذا الزمان أكثر من أي وقت مضى بالانتباه والحذر من الخيانة والخونة؛ وذلك للأسباب الآتية:

1 - علو أهل الباطل في شتى المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية.

2 - كثرة المحن والابتلاء التي يتعرض لها أهل الحق.

3 - كثرة المغريات ومتاع الدنيا الزائل وسهولتهما.

4 - ضعف النفوس وضعف الإيمان.

5 - التقدم التقني الهائل والسريع يساعد على تيسير الخيانة بدون أن ينتبه أهل الحق.

6 - تفكك الأمة الإسلامية والخلافات بين الدول.

7 - سذاجة بعض أهل الحق، وسذاجة تقييمهم للأشخاص.

8 - تولية القيادة لأصحاب عقائد وأفكار فاسدة.

9 - تغلغل الباطل وأهله في صفوف المسلمين.

10 - غياب دولة الإسلام والحكم بالقرآن والسنة.

فاليقظة واجبة حيث إن سلاح الخيانة سلاح قوي وفتاك يزلزل الأمم، ويساعد على انهيارها، وينصر الأعداء ويقويهم؛ لذلك كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يدقق ويمحص في اختيار الولاة، وبعد الاختيار كان يرسل من يراقبهم ويأتيه بأخبارهم، ثم يحاسبهم على كل كبيرة وصغيرة، وكانت دولة الإسلام قائمة وقوية، والإيمان عامر في قلوب المؤمنين، وكان القائد عمر والرعية منهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ فما بالكم ونحن في هذا الزمان؟ لذلك فليحذر المسلمون سلاح الخيانة في كل مكان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015