مجله البيان (صفحة 4966)

مرجعية موحدة.. لأمة واحدة

محمد مختار المقرئ

تربويات التشييد

(1 ــ2)

أجل! ننشدها مرجعية موحدة لأمة واحدة..

نريدها لتجمع الشتات، وتلم الشعث، وتسوي الصفوف.. {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] .

لتصيغنا في كيان واحد كبير، وإن تعددت أطيافه.

لتكرس للتكامل والتكاتف، في عصر التكتلات والقوى الكبرى.

لتستوعب الطاقات، وتصف نظامها، وتضبط عطاءها، وتستثير جهودها، وتستثمرها على أحسن الوجوه، ولتعيدنا أمة كما كنا، أو تضعنا ـ على الأقل ـ على أول الطريق.

«إن من المؤسف حقاً أننا ما زلنا نواجه عوامل التغيير والتأثير كجزر تتقاذفها أمواج محيط هائج هادر، وتُطوح بها العواصف والأعاصير، ولم نتراص بعدُ كقارة متلاحمة الأجزاء، متماسكة الأطراف» (?) .

ولا أرى الأمر بات بحاجة إلى إقناع؛ فإن الواقع قاطع بحتميته عند عمومنا، مقر لضروريته في أعماق قناعاتنا، فإن بدا بعضنا ـ عملياً ـ كأنه لا يسلِّم بضرورة المرجعية الموحدة، أو لا ينسجم معها؛ فلأمر آخر غير عدم الاقتناع.

وإلا فمن ذا يتبنى القول بأن تبقى الأمة مفرقة لا جامع لها؟

ألا إن مرجعيتنا الموحدة هي الفريضة الأمل، والمخرج الواجب، والبلسم الناجع، والترياق المجرب على مدى التاريخ كله، وهي المداواة المبرئة لنا من أدواء الفرقة والشتات، والعجز والوهن، والضياع والفشل.. إلى غير ذلك من مفاسد شغور موقع القيادة، وفراغ سدة الأمر من قائم بحقه مؤدٍ ما عليه فيه؛ فإنه ليس بغير هذا ـ يا أمة الإسلام ـ يُمكن تمثُلُ خطاب الله ـ جل وعلا ـ الذي: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] .

إنه الصرح الفذ الفريد، الحصين المشيد.. الذي لا اعتصام للأمة ولا امتناع إلا إذا احتمت بسياجه، وتدرعت بمرصوص بنيانه.. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .

ولن يكون ذلك كذلك إلا بإرساء القواعد، وإقامة الأركان، وتهذيب أحجار البنيان، ورص قوالبه، ونظم فسيفسائه، وتقوية عراه وصلاته، وإحسان ترتيبه وتنظيمه، وجلائه وتنقيته باطناً وظاهراً، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، حتى تغدو لبناته كأنها البلور في صفائه، وكخلايا النحل في نظمها، وكجينات الخليقة في هندستها، وكالنجوم في نظامها.. إنه التوافق الشرعي الكوني، وتناغم الدين والفطرة، وانسجام الإنسان مع سنة الخلق وقوانين الوجود.. نظام دقيق واحد، أبدعه وأحكمه إله واحد، لا إله إلا هو.. {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] .

إن صرحنا المنشود إنما ترفع قواعده في القلوب قبل القوالب، ويشاد من الأرواح قبل الهياكل؛ فلَبِناتُه: نفوس زاكية، مشدود بعضها إلى بعض بعرى الإيمان، وصدق الأخوة، وسلامة الصدور.. إنه صرح ممردٌ من قوارير.. قوارير جلاها الإيمان، وأنقاها العمل الصالح، وصقلتها كُلَف الطريق.. {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35] .

ولقد يُبدأ ذلك محدوداً بسيطاً متواضعاً.. فإذا والته الأيدي بالعناية والرعاية، وغذته بالطيب الزاكي، وحصنته بالنافع المفيد، وأنقته من الدغل والدخيل.. تتابع في أطواره حتى يستوي ويشتد.

ثم بقدر التوسع في نثر بذور الخير، وغرس شتلات الصلاح، وتخصيب تربتهما.. تهتز الأجادب وتربو ... وإذا ما صلحت النيات؛ فلا ريب أن غيث السماء مكلل جهود الزراع بالبركة والنماء.. {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] .

ألا فاغرسوا الفسيلة وإن ضؤل حجمها، ووهن ساقها؛ فإنها توشك ـ إن كُفلت واحتضنت ورعيت ـ أن تقوم على عيدانها وجذوعها، رابطة الجأش، ضاربة الجذور، لا تميلها الرياح، ولا تزعزعها الأعاصير، ولا تستهين بها السواعد، ولا تنال منها المعاول.. {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ومن ثم تكبر وتمتد {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 - 25] .

_ يا أخا الإسلام!

أيها العالم الرباني! أيها الداعية المتجرد! أيها المربي الفاضل! أيها المُعلِّم النابه! أيها القائد الأمين! أيها الشيخ الوقور! أيها الأب الشفيق! أيتها الأم الرؤوم!

يا كل مسلم غيور! ويا كل عبد موحد! ويا كل جماعة تدثرت وامتزجت، وانصبغت وتشكلت، واكتست ونُشِّئَتْ بـ (لا إله إلا الله) !

بادروا بالبداية ولو بأحجار الزوايا، بل ولو بحجر زاوية واحد، تصفُّون ـ بحذائه ـ اللَّبِنات والأعضاد، وتشدونه بالجاذبات الممسكات.. ثم بعدُ يكون التوسع والتمديد، وتهيئة الرقعة تلو أختها، إلى أن تغطوا الخارطة الإسلامية كلها، أو تكادوا، أو قل ما تستطيعون منها مما تبلغون، ولسوف يكون كل امتداد عوناً لكم على ما يليه، وسيبلغ الحق ما بلغ الليل والنهار، كما بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكما في قوله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُويَ لي منها» (?) . وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله استقبل بي الشام، وولى ظهري اليمن، وقال لي: يا محمد! إني جعلت لك ما تجاهك غنيمة ورزقاً، وما خلف ظهرك مدداً، ولا يزال الإسلام يزيد، وينقص الشرك وأهله ـ حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جوراً، والذي نفسي بيده! لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم» (?) .

ألا وإنه لا حول لنا ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم؛ فإننا ما ندرك غاياتنا إلا بهدايته ـ تعالى ـ وتوفيقه ومعونته، ولا يخرج شأن عن تقديره وحكمته، وإنما الأسباب سنة قضاها الله في كونه؛ فهي محل تكليفه لعباده، ومادة ابتلائه لهم، وإلا فإنه ـ تعالى ـ هو الذي يمنحنا الأسباب وآثارها، ويهبنا من فضله ما يشاء، بغير سبب إذا شاء، وبما وراء طاقة البشر.. {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64] .

_ فيا رجال الأمة ونساءها.. أفرادها وجماعاتها!

اصنعوا لنا الرجال اللبنات.. أنموذجاً ربانياً متجرداً تتوافر فيه عناصر الامتزاج مع أمة الهداية.. مع الجماعة بمعناها العام، أنموذجاً تفنى فيه الكيانات كلها في الكيان الكبير، ولتبق تلك الجماعات في هياكلها ما بقيت الهياكل خادمة للأمة، لا عائقاً في طريق وحدتها، ولتبق بخصوصياتها متميزة بها ركناً أو جداراً في البنيان المرصوص، لا فذة خلف صف مرجعيتها.. ولا يبعد أن يُستدل على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ـ تعالى ـ وملائكته يُصلون على الذين يَصِلون الصفوف، ومَنْ سدَّ فرجة رفعه اللهُ بها درجة» (?) ؛ فإن صلة الصف مأمور بها لمعانٍ عديدة وهذا المعنى منها، ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتسوُّنَّ لصفوفكم في صلاتكم، أو ليخالفن اللهُ بين قلوبكم» (?) .

وما من شك أننا ـ جميعاً ـ غدونا ندرك على وجه اليقين: أنه لا موضع للتحيز والانفصام؛ فضلاً عن المناطحة والصدام.. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] ، وإلا.. فهو الفشل إذاً على الإجمال وفي المآل؛ ذلك مهما كانت نجاحاتنا الحزبية، وإنجازاتنا الشخصية.

إن مجرد الهم بالتحيز والتحزب ومخالفة الجماعة مؤداه ـ لا محالة ـ إلى الفشل؛ بل هو الفشل عينه، ما لم تتدارك الهامَّ ولايةُ الله ورحمتُهُ وفضلُه، كما قال تعالى ـ في بعض سلفنا ـ رضي الله عنهم ـ: {إذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] .

روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: فينا نزلت {إذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا} الآية، قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة، وبنو سلمة. وما نحب ـ وقال سفيان مرة: وما يسرني ـ أنها لم تنزل لقول الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} (?) .

فما أسعدَ من يتولاه الله، ويحوطه بعنايته وهداه؛ فإنه لا عصمة من الخذلان إلا في ولايته، ولا توفيق وهداية إلا في خصوص معيته، ولا سداد ولا نصرة إلا في مدده ونصرته.

وليس ثَمَّ سبيل إلى ذلك إلا في تولي المؤمنين ربهم، وتوكلهم عليه وحده؛ ففي هاتين النجاة من الفشل ومن الهمِّ به؛ لأنهما موجبتان لولاية الله، مستجلبتان الحول منه والقوة والمدد.. {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] .

_ صفات لَبِناتنا:

فما هي تلكم المعاني الصالحات، والخلال الطيبات، والخصال المميزات التي نريد لجيلنا ـ وللأجيال بعده ـ أن يجسدها، بل أن نجريها منه ومن الأمة ـ أو أكثرها ـ مجرى الدم من العروق؟

ما هي تلكم العناصر الخادمة لمعنى ما نريد، الحاملة لجينات العقلية الجماعية، والروح الأخوية، والتجرد لله، والفناء في الأمة، وإنكار الذات؟

الإخلاص والصدق ـ سلامة الصدر ـ التواضع ـ الحلم ـ الرفق ـ حسن الخلق ـ العدل والإنصاف ـ علو الهمة ـ حب التضحية في سبيل الله.. وحسبنا هذه التسع، لو تمثلناها.

نعم! لقد تكون مناهجنا التربوية مشتملة على هذه المعاني، غير أننا نذكِّر بها من يغفلها، وننبه إليها من يهملها، وننصح بتقديمها لمن يؤخر ترتيبها، ونحث على الاهتمام بها على نحو خاص، كما يهتم الطبيب المعالج بعلل الداء في تحديد البرنامج الغذائي للجسد.

وإني مقتصر ـ هنا ـ على خمس منها، أفصلها بعض التفصيل ـ بحول الله وتوفيقه ـ:

أولاً: التجرد لله جل وعلا.

التجرد لله ـ جل وعلا ـ لا يحصل إلا بالبراءة من حظوظ النفس ودعاواها، وهو ما لا يتحقق إلا مع صفتين لازمتين متلازمتين، هما: الصدق والإخلاص.

والفارق بين هاتين الصفتين: أن الإخلاص: هو توحيد المطلوب، والصدق: هو توحيد الطلب.

قال ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ: «وقد تنوعت عباراتهم في «الإخلاص» و «الصدق» والقصد واحد.

فقيل: هو إفراد الحق ـ سبحانه ـ بالقصد في الطاعة.

وقيل: التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك. و «الصدق» التنقي من مطالعة النفس. فالمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له. ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق، ولا الصدق إلا بالإخلاص. ولا يتمان إلا بالصبر» (?) .

والمؤمنون مأمورون بالإخلاص في طاعتهم لله ـ جل وعلا ـ كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] .

وفي الحديث القدسي الصحيح، يقول الله ـ تعالى ـ: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك به» (?) .

وهم مأمورون أن يكونوا مع الصادقين كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] ، وبشروا على ذلك بالخير مطلق الخير.. {فَإذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد: 21] . فعند عقد العزائم، ولدى ترجمة الأفعال إلى أقوال؛ تظهر الحاجة إلى الصدق، ويتبين الصادق من غيره.

_ نكتة مهمة:

وأود هنا أن أشير إلى نكتة مهمة؛ وهي تتصل بضمانة الصدقية في تحقيق التوحد المنشود؛ فإن جمع طوائف الأمة وجماعاتها على مرجعية شرعية واحدة لا يتحقق إلا بالصدق كل الصدق، والأمر فيه لا يحتمل التمحل (?) بأساليب الاستهلاك الإعلامي، والمجاملة والتصنع، من أجل مصالح حزبية ضيقة، أو مكاسب دعائية خاصة.

إننا مطالبون بتحري الصدق كل التحري، وأن ننزه تصريحاتنا، ووعودنا، واتفاقاتنا، وسياساتنا، وعلاقاتنا بإخواننا (أفراداً وجماعات) عن تلك الأساليب الممجوجة التي تعج بها دواوين السياسيين، وأروقة أحزاب الدنيويين؛ فإنه لم يعد ثَمَّ مجال لغير الصدق وتحريه كل التحري. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكمْ بالصِّدق؛ فإن الصدقَ يَهدي إلى البر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يَصدُق ويتحرى الصدقَ، حتى يُكتبَ عند الله صديقاً» (?) .

_ دور «الصدق «و «الإخلاص» في صياغة اللبنة الأنموذج المطلوبة لصرحنا المنشود:

ماذا تعني هاتان الصفتان بالنسبة لمهمة جمع الناس على مرجعية موحدة؟

ذلك ما ينبغي أن نضع أعيننا عليه، ونرنو إليه، ونلحظ أثره، بينما نحن نمتزج ونمزج أمتنا بهما؛ فإن أثرهما هو البرهان الوحيد على نجاح مناهجنا التربوية في صياغة الفرد الأنموذج لمشروعنا المنشود.

أ - الإخلاص:

المخلص: ليس له إلا مطلوب واحد هو الحق؛ فهو دائر معه حيث دار، لا يصده عنه ولاء لجماعة تخالفه، أو شيخ يعارضه، أو مذهب يناقضه، أو حظ عاجل، أو شهوة خفية، أو مأرب دفين.

والمخلص: لا يكترث أن ينسب العمل له أو لغيره، المهم أن يظهر الحق، أن تنتصر الأمة، أن يرتفع شعار الدين، وإن تراجعت شعاراتنا الخاصة، أو صارت مغمورة أو مجهولة، في خضم الجمع العرمرم.

والمخلص: يفرح بظهور الحق وانتصاره، وإنْ على يدي غيره، فهمُّهُ هو الحق لا حظُّ النفس ولذتها، وبروزها وزهوها، وغير ذلك من دسائسها وأهوائها، والتي يجدها في أن ينسب له فضل ما عمل، بل إن المخلص ليحمد الله ـ جل وعلا ـ على الإعفاء من التكليف؛ إذا تصدى للواجب غيره، لما يخشاه من آفة ربما تعرض له؛ فتُحبط عمله، حين يُنسب له الفضل فيه، بينما هو بالنية ـ إن صحت ـ يحصل له الأجر، وفرحة انتصار الحق.

ب - الصدق:

أما الصادق: فإن همه مجموع على فعل المأمور به، لا يتوزع ولا يتعدد؛ فهو في شغل بامتثال التكليف، لا يلتفت عن ذلك إلى الانشغال بالمفاضلة بين تكليف وتكليف، وبين مكلف ومكلف (اللهم إلا على جهة إيثار الأصلح للأمة والأزكى للنفس) ، وكذلك لا يتحيز لفاعل دون آخر، أو لنوع نشاط دون سواه، لمجرد انتماء حزبي ضيق، أو لميل طبعي ذاتي، أو لهوى شخصي غلاب.

والصادق: لا يبالي أن يكون مقدماً أو مؤخراً، رئيساً أو مرؤوساً، وإنما حسبه أن يعمل بالطاعة ويجدَّ ويتقن، في أي موقع كان، وفي أي ترتيب أُدرج.. «طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع» (?) .

قال الحافظ العسقلاني: «والتقدير: إن كان المهم في الحراسة كان فيها، وقيل: معنى «فهو في الحراسة» أي فهو في ثواب الحراسة.

وقال ابن الجوزي: والمعنى: أنه خامل الذكر لا يقصد السمو؛ فإن اتفق له السير سار؛ فكأنه قال: إن كان في الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة استمر فيها» (?) .

وقال: «قوله: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفَّع) فيه ترك حب الرياسة والشهرة وفضل الخمول والتواضع» (?) .

ففي الحديث فوائد: منها: أنه ينبغي للمؤمن أن يختار من بين الأعمال الأهمَّ فالمهم. ومنها: أن هَمَّ المؤمن متوجه إلى تحصيل الثواب لا غير. ومنها: أن العبرة في تفاضل الأعمال: مدى أهميتها ونفعها وما يُرجى من ورائها عند الله، لا البروز والظهور ونحوه. ومنها: أن المؤمن لا يبرح في شغل بخويصة عمله، غير ملتفت إلى تقديم غيره عليه، أو تأخيره عمن دونه. ومنها: أن المؤمن راضٍ بما يوكل إليه من عمل، مستمر فيه دون كلال أو ملال، وإن يكن به مغموراً منسياً، خامل الذكر مُهمَلاً خفياً، فهو أحرص ما يكون على أن لا يبطل عمله، وَجِِلٌ من أن يتسرب إلى قصده حب السمو وتحصيل الجاه. ومنها: أن الأعمال بالنيات، وأنه «رب عمل صغير تعظمه النية، وربَّ عمل كبيرٍ تُصغِره النية» (?) .

والمسلم لا ينبغي له أن يسأل الإمارة أو يحرص عليها؛ فإن في الحرص عليها من المفاسد والمضار ما يسلك أصحابه في أسوأ مذمة وشنآن، فوق ما فيه من شر وحمق لا ينقضيان.

فمن ذلك: أن الحرص على الإمارة من أعظم ما يطعن إخلاص المرء وسمو مقصده. وكذلك يجعله موضع اتهام وارتياب وإساءة ظن.

ومنه: أنه مؤدٍ إلى نبذ الشورى، والتفرد بالقرار، والإعجاب بالرأي.

ومنه: أنه قد يحمل على الظلم، وترك الإنصاف، والاستهانة بالآخرين، والاستئثار بالتقديم.

إلى غير ذلك مما تنطوي عليه حكمة النهي عن سؤال الإمارة، وعن الحرص عليها.

عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إنْ أُعْطيتَها ـ عن مسألة ـ أُوكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها» (?) .

وعن أبي موسى قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمِّرنا على بعض ما ولاَّك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك؛ فقال: «إنَّا واللهِ لا نولي على هذا العملِ أحداً سأله، ولا أحداً حرصَ عليه» (?) .

وتحت باب (كراهة الإمارة بغير ضرورة) ؛ أورد الإمام مسلم عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها ـ يوم القيامة ـ خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» (?) .

قال الإمام النووي: «هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما من كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية» (?) .

_ ثانياً: التواضع.

قال ـ تعالى ـ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] أي: سكينة ووقاراً متواضعين، غير أشرين، ولا مرحين متكبرين. قال الحسن: علماء حلماء. وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا.

ومن كانت هذه حاله كان هادئ النفس، واسع الصدر، بعيداً عن الاستعلاء، خفيض الجناح لإخوانه المؤمنين، متحلماً مهذباً، لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لشخصه.

و «الهَون» (?) بالفتح ـ في اللغة ـ: الرفق واللين.

وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .

فأثبتت الآية أن الطائفة المرضية لله، المؤهلة لحمل الأمانة، الأبعد من الفتنة والنكوص.. هي التي يكون التواضع للمؤمنين من أبرز صفاتها، وآكد خلالها.

فقوله ـ جل وعلا ـ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هو عزة القوة والمنعة والغلبة. قال عطاء: للمؤمنين كالوالد على ولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته.

وبذلك وصف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم.. {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .

فهم على الضد من حال من قيل فيهم:

كِبْراً علينا وجبناً عن عدوكمُ لَبِئْسَتِ الخلتان: الكبر، والجبن

أورد مسلم في «صحيحه» من حديث عياض بن حمار ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ أوحى إليَّ: أن تواضعوا، حتى لا يفخرَ أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد» (?) .

فأمر بالتواضع، ورغب فيه، فقال: «من تواضع لله رفعه الله» (?) .

ونهى عن ضده، وهو الكبر، وخوَّف منه، فقال: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظ (?) مستكبر» (?) .

وإذا تمكن خُلُقُ التواضع من امرئٍ ألفيته كما ترجو، وعلى الكيفية التي تنشد.. أنموذجاً فريداً للبنة المرجعية المنشودة..

ـ فهو لا يرى نفسه فوق إخوانه، ولا يفاخر عليهم، ولا يبغي على حقوقهم، بل يعتقد أنه دونهم، وأنهم ـ بجوار ما يطالعه من عيوب نفسه ـ خير منه وأفضل.

قيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة؛ فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.

ـ وهو لا يستنكف أن يقدَم عليه من هو دونه، أو من يراه ـ أو يراه الناس ـ مفضولاً.

ـ وهو لا يستكبر أن يسمع ويطيع للمقدم، مهما كان ـ في ظاهر الأمر ـ أخفض منه رتبة، أو دونه فضلاً.

قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بسمع وطاعة» (?) .

ـ فالتواضع يورث العقلية الجماعية، والروح الأخوية، والألفة والمودة، ولذلك أثنى الله ـ تعالى ـ على المتواضعين بصفة التراحم وبصيغة الجمع.. فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، وقال: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} .

ـ كما أن المتواضع لا يبرح مراجعاً رأيه واجتهاده وعمله، فإن ظهر له الحق في خلافه رجع عنه وإن كان ما رجع إليه قولاً لمخالفه، أو رأياً لمن هو دونه.

سئل الفضيل عن التواضع، فقال: يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله.

وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان.

وما قلناه هنا ـ في التواضع ـ يجري على الجماعة كما يجري على الفرد؛ فالجماعة المسلمة شخص اعتباري، تُخاطَب في مجموعها بما تُخاطَب به في كل معين منها، بل هي أوْلى بتمثل هذه المعاني؛ لأن أخلاقيات الجماعة ومواقفها وممارساتها تنعكس ـ بالضرورة ـ على أتباعها.. فإن تفاخرت تفاخروا، وإن بغت بغوا؛ وإن استكبرت على الجماعات غيرها استكبروا، وإن زهت بنفسها وتاريخها وحجمها وأعمالها زهوا هم كذلك!!

وما العُجب والكِبر والتفاخر والتسميع إلا محبطات للأعمال، مذهبة جهود أصحابها هباء منثوراً.. وهذا حكم مطرد في الجماعات كما هو في الأفراد.

_ مدرسة التواضع:

كيف يُكتسَب التواضع؟ بل كيف نصيغ به نفوسنا ونصبغها بمادته صبغاً؟

لمدرسة التواضع مقرران متوازيان متلازمان: أحدهما نظري، والآخر عملي.

أما النظري:

ففي التفكر في التواضع كقيمة رفيعة، وخلق حسن، وسلوك سوي، وفي عاقبته المحمودة، وعاقبة ضده، وهو الكبر.. فالتواضع خير كله، ولذلك لم يورد الشارع استثناء على فضله وندباً إلى ضده إلا في موضع واحد، وهو التبختر والاختيال بين الصفين في سبيل الله، وذلك داخل في قول الله ـ تعالى ـ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} .

فإذا تأملت التواضع في ذاته، وجدته منسجماً مع الفطرة، تلتذ له النفس، وتستوي على خلقتها؛ فهي في راحة معه من دعاوى المتعالين، وفي عافية من تكلف المتكبرين، وتصنُّع المختالين المرحين.. وما للمتواضع لا يجد في تواضعه راحة نفسه وصلاح باله، وقد أبرأه التواضع من مرض الشعور بالنقص، وعوفي به من غوائل الحقد والحسد التي لا تبرح تؤز صاحبها على الدعوى والتصنُّع، وتوهمه أنه بهما سيزاحم الآخرين؟

وإذا تأملت التواضع في ثناء الشارع على أهله، وجدتهم من أهل خاصته، كما قال ـ تعالى ـ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] . فسماهم «عباد الرحمن» ، وتلك تسمية أضافهم الله بها إلى أخص أسمائه.

وإذا تأملت التواضع في عاقبة تركه، والابتلاء بضده.. لم تلق إلا الضعة والضياع.

قال بعضهم: رأيت في الطواف رجلاً بين يديه شاكرية (?) ، يمنعون الناس ـ لأجله ـ عن الطواف، ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل الناس شيئاً؛ فتعجبت منه، فقال لي: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه، فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه.

وحسبك من التفكر في سوء عاقبته أن تتدبر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (?) .

_ وأما المقرر العملي:

ففي التمرس على التواضع، وتكلف أفعال أهله، ومجاهدة النفس على ذلك.

وانظر إلى خير الناس كيف كان تواضعه.. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر على الصبيان فيسلم عليهم (?) ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل لعق أصابعه الثلاث (?) ؛ وكان - صلى الله عليه وسلم - يكون في بيته في خدمة أهله، وكان - صلى الله عليه وسلم - يخصف نعله (?) ، ويرقع ثوبه (?) ، ويحلب الشاة لأهله (?) ، ويعلف البعير (?) ، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين (?) ، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه (?) ولو إلى أيسر شيء.

وكان - صلى الله عليه وسلم - هين المؤنة، لين الخُلُق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه بساماً، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب رحيماً بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب. قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ ـ أو تحرم عليه النار ـ تحرم على كل قريب هين لين سهل» (?) . وكان - صلى الله عليه وسلم - لا ينتقم لنفسه قط (?) .

ألا فتمثل خلق الحبيب - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن تمثُّل خلقه مقتضى الإيمان به، والإيقان بأفضلية هديه.. {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، ولأن تمثل ذلك يورث القلب خلق التواضع، ويعافيه من الكبر والاستعلاء.

ولقد كان السلف ـ رضي الله عنهم ـ على الرغم من تواضعهم الجمِّ، إذا ما وجدوا من أنفسهم ما يشتمُّ منه رائحة زهو أو اعتداد بالنفس؛ يسارعون إلى تمثل أفعال المتواضعين، ليكفكفوا نفوسهم ويكبحوا جماحها.

قال عروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ: رأيت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا ينبغي لك هذا. فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها.

فعل هذا ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو في التواضع إمام ومَثَلٌ.. فتأمل كيف كان المثل!

قسم عمر بين الصحابة ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ حللاً، فبعث إلى معاذ حلة مثمنة، فباعها، واشترى بثمنها ستة أعبد فأعتقهم. فبلغ ذلك عمر؛ فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها، فعاتبه معاذ، فقال عمر: لأنك بعت الأولى. فقال معاذ: وما عليك؟ ادفع لي نصيبي. وقد حلفت لأضربن بها رأسك، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: رأسي بين يديك، وقد يرفق الشاب بالشيخ.

وعن عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ أنه مر في السوق؛ وعليه حزمة من حطب، فقيل له: ما يحملك على هذا، وقد أغناك الله عنه؟ قال: أردت أن أدفع الكبر، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يدخل الجنة من في قلبه خردلة من كبر» (?) .

وكان بعضهم لبعض خافض الجناح، لا يرى أخاه إلا خيراً منه، فتراه يقدمه على نفسه، ولا يستنكف أن يظهر ذلك أمام الناس، عن محبة وطيب نفس.

لما قدم عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤوس الأمراء، فترجل أبو عبيدة، وترجل عمر، فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر، فهمَّ عمرُ بتقبيل رجل أبي عبيدة، فكفَّ أبو عبيدة، فكفَّ عمر. وركب زيد بن ثابت مرة؛ فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه، فقال: مَهْ يا ابن عم رسول الله! فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا، فقال: أرني يدك. فأخرجها إليه فقبَّلها. فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وتأمل كيف كان تسامحهم وقرب أَوْبتهم، إذا ما شجر بينهم بعض ما يغضب.

يذكر أن أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ عيَّر بلالاً ـ رضي الله عنه ـ بسواده، ثم ندم، فألقى بنفسه، فحلف: لا رفعتُ رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه، فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال.

وكذلك كانوا يذكِّرون أنفسهم بما من شأنه أن يحمل على التواضع، ويخفض من تعالي الأنفس، ولا سيما إذا صدرت منهم هفوة زهو أو هنة خيلاء.

بلغ عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ أن ابناً له اشترى خاتماً بألف درهم، فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فِصّاً بألف درهم، فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم، وأشبع به ألف بطن، واتخذ خاتماً بدرهمين، واجعل فصه حديداً صينياً، واكتب عليه: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه. والله أعلم.

ورأى محمد بن واسع ابناً له يمشي مشية منكرة؛ فقال: تدري بكم شريت أمك؟ بثلاثمائة درهم، وأبوك ـ لا كثر الله في المسلمين مثله ـ أنا. وأنت تمشي هذه المشية؟!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015