مجله البيان (صفحة 4965)

أسس ترشيد رد الفعل الدعوي في ضوء القرآن والسنة

د جمال أحمد بادي

إن المتأمل في أحوال أمتنا اليوم يتبين له مدى الحيرة والتخبط في المواقف تجاه ما تواجهه من تحديات مرسومة ومصممة بدقة ودهاء خلف كواليس معاهد البحوث الاستراتيجية والمؤسسات العلمية، الممولة لتحقيق أهداف الهيمنة والتسلط وفرض الوصاية، تحت ستار العولمة والتحضر ومواجهة الإرهاب وغيرها من المسميات والمسوغات التي تخفي ما وراءها من أهداف استعمارية فاشية، وسيلتها توجيه العقول وتغيير تصوراتها وفهومها حتى فيما يتعلق بالقيم والاعتقادات والأخلاق والسلوك، ليتواءم مع التغيير وما بعد المدنية ـ القائمة على نقل تطبيقات نظرية داروين في التطور إلى عالم الفكر والمعرفة ويتواءم مع أنماط الحياة الجديدة التي تقوم على تجذير وتصدير ونشر قيم الحضارة الغربية المعاصرة، القائمة على النفعية والمتعة والمصلحة الذاتية والإعجاب بـ «السوبرمان» المنقذ العالمي المتفرد.

وتهدف هذه الورقة ـ في محاولتها المتواضعة ـ إلى تسليط الضوء على أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في توجيه ردود أفعال المسلمين عموماً والدعاة على وجه الخصوص لتؤسس وتؤصل لهذا الموضوع المهم. وقد عمدت إلى تناول هذه الإشكالية في إطار القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ لأنهما يمثلان التأسيس الأول والرئيس لهذا الترشيد وهو ما يجعلهما اللبنة الأولى في تشييد هذه الأسس؛ لأن القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا من حيث اللفظ ولا من حيث العبرة والمقصد، ولكون السنة النبوية تمثل النموذج أو القدوة الحسنة للأمة الإسلامية في أعلى مستوياتها، فلا غنى عن تأسيس القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولا تقدُّم لأي نموذج على هذه النماذج؛ لأن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة جاءت بتوجيهات دقيقة جامعة مانعة في نشر الخير وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وتربية الدعاة على أن تكون أفعالهم وردود أفعالهم وليدة التأني والتفكير في المآلات والعواقب، بدل الحماسة المفرطة التي توصل صاحبها إلى حد التهور أو السطحية الني تفضي بصاحبها إلى الهلاك. وعليه فإن هذه الورقة ترمي إلى ترشيد الفعل الدعوي المعاصر مستنيرة بهدي الوحي المنزّل والسنة المطهرة لنبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم -.

_ تعريفات:

من الضروري ـ قبل البدء في التنظير لأسس ترشيد رد الفعل الدعوي ـ تحديد معاني بعض المصطلحات حتى يتحدد إطار الموضوع، وحتى يكون التنظير لهذا الترشيد منسجماً مع الإطار الذي وضع له، ومن ثَمَّ لا يقع للقارئ المثقف والداعية في لبس في المعاني، أو اختلاط في المصطلحات. وبناء على ذلك فإن أهم المصطلحات التي رأيت تعريفها وبيان المقصود منها ما يلي:

1 - الفعل الدعوي: وهو ما يتخذه الدعاة من قرارات ومواقف وخطط وحلول بقصد التأثير في الواقع إبلاغاً لرسالة الإسلام وإقامة للحجة الرسالية على الخلق؛ هذا الفعل ينتج رد فعل من قِبَل من وقع عليه.

والفعل الدعوي أحد أقسام ثلاثة:

الأول: أن يتخذ دون تفكير في نتائجه ومآلاته وما يحدثه من ردود فعل ممكنة.

الثاني: أن يتخذ مع تفكير في بعض مآلاته دون بعضها الآخر، أو تغليب جانب من المآلات وتناسي أو إهمال الآخر.

الثالث: أن يتخذ مع تفكير جدي في كل أو جل مآلاته الممكنة والمحتملة، وهذا النوع لا يتم إلا بقصد ونية مع استعمال المهارات اللازمة.

2 - رد الفعل الدعوي: وهو فعل في مقابل تحدٍّ ما، أو في مقابل فعل ما قد وجه مسبقاً وغالباً بهندسة وتصميم برنامج قد تدرك أبعاده وقد لا تدرك. وهو كذلك أحد أقسام ثلاثة:

الأول: أن يتخذ دون تفكير في نتائجه ومآلاته وما يحدثه من ردود فعل أخرى ممكنة.

الثاني: أن يتخذ مع تفكير في بعض مآلاته دون الأخرى، أو تغليب جانب من المآلات وإهمال أخرى.

الثالث: أن يتخذ مع تفكير جدي في كل أو جل مآلاته الممكنة والمحتملة.

_ الفرق بين الفعل الدعوي ورد الفعل الدعوي:

من الأسئلة التي تطرح عادة في ما يتعلق بميدان الدعوة الإسلامية موضوع الفعل الدعوي ورد الفعل الدعوي، ومما اشتهر على ألسنة الدعاة أن تحركنا الدعوي يجب أن لا يكون ثمرة رد فعل أو انفعال أو استدراج أو ما أشبه ذلك. والحقيقة أن ثمة تداخلاً بين المصطلحين؛ لأن كثيراً مما نسميه فعلاً يعتبر رد فعل أو تفاعلاً أو استجابة لمتطلب من المتطلبات الحياتية أو الدعوية؛ لكون الإنسان ابن بيئته تؤثر فيه ويؤثر فيها، ولكون المسألة قابلة للتقليب إن صحت العبارة. غير أن ما يمكن أن يقال في هذه الورقة أن المقصود من الفعل ورد الفعل هنا ما تعلق بالتحرك البشري، بمعنى: ما دام الفعل مبتدأ.. أي لم يصدر استجابة لتصرُّف طرف ثان، سميناه فعلاً، فإذا كان الفعل جواباً لفعل متقدم أو رداً عنه أو تصويباً له أو دحضاً له سميناه رد فعل، وسمينا توجيهه ترشيداً.

_ من المكلف بترشيد رد الفعل الدعوي:

لا شك أن الدعوة إلى الله واجب شرعي يمكن أن يضطلع به كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، غير أن المعروف لدى كثير من العلماء أنهم دأبوا على اعتبار الدعوة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن الآخرين بناء على قوله ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104] ؛ فـ (منكم) للتبعيض، وهو ما يدل على كونها فرض كفاية، وكذلك قوله ـ تعالى ـ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وهو ما يشير كذلك إلى التخصيص بفرقة أو فئة، ولا يهم هنا ترجيح كون الدعوة واجباً عينياً أو كفائياً، وإنما الشاهد في الخلاف هو أن الدعوة إلى الله لا يقوم بها إلا مؤهل، فالمختص بالدعوة المؤهل نسبياً والمقتدر على إبلاغ الدعوة إلى غيره، فالكلام في الدعوة يكون مع الدعاة المؤهلين وهو ما يجرنا إلى طرح التساؤل التالي: إذا كان المكلف بالدعوة شخصية لها صفات محددة وكفاءة محددة، والكلام في الدعوة يكون مع الدعاة المؤهلين؛ فإلى من يوجه الكلام عن ترشيد رد الفعل الدعوي؟ وبصيغة أخرى: من المكلف أو المسؤول الأول عن ترشيد رد الفعل الدعوي؟ والجواب عن هذا السؤال في تقديري سهل المنال؛ فبحكم أن الكلام هنا يدور حول الترشيد، وترشيد ماذا؟ ترشيد رد الفعل الدعوي، فإن الكلام من دون شك سيوجه بالدرجة الأولى إلى القيادات الدعوية سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات أو نُخَباً، والكلام هنا شبيه بالكلام عن فنون القيادة، وهذا لا يعني أن عموم الدعاة سيُعْفَوْن من هذه الملاحظات، وإنما المقصود أن هذه الورقة ستكون أقرب إلى تقديم ملاحظات وتوجيهات للقائمين على تربية الدعاة منها إلى عموم الدعاة.

_ أهداف ترشيد رد الفعل الدعوي:

إن الغرض من ترشيد رد الفعل الدعوي ليس إعطاء قوالب جامدة يلتزمها الدعاة في ردود أفعالهم الدعوية؛ لأن عملية رد الفعل الدعوي ليست عملية آلية تحتاج إلى توجيهات آلية شبيهة بالتوجيهات المخزنة في الحاسوب، وإنما الغرض منها مد الدعاة والمربين بأكبر قدر ممكن من التوجيهات والخيارات والتجارب والنماذج ليتمكنوا من إيجاد رد فعل دعوي متزن وفعال وشامل، وهو ما يتطلب ما يلي:

1 - ترشيد ردود أفعال الدعاة في استجابتهم للتحديات المعاصرة؛ وذلك بتزويدهم بقدر معتبر من المعطيات الدعوية، والملابسات التنظيرية، وتدريبهم على التمكن من إيجاد أكبر قدر من الخيارات والبدائل والحلول؛ ولنا في القرآن والسنة أسوة حسنة؛ فقد أخبرنا القرآن الكريم عن الأمم السابقة وما جرى لها لا لشيء إلا للاطلاع على أكبر قدر من التجارب والتطبيقات الدعوية وأخذ العبرة. فعرفنا مثلاً بنماذج أقوام ونفسياتهم، كطبيعة ونفسية بني إسرائيل بعدما عصوا الرسل، وكيف صارت كما وصفها الله بأنها نفسية ضربت عليها الذلة والمسكنة، وعرَّفنا بنفسية قوم عاد المتجبرة، وعرَّفنا بأشخاص الأنبياء ونفسياتهم التي جاءت مواتية لمتطلبات الدعوة في قومهم؛ فشخصية موسى ـ عليه السلام ـ الذي أخذ برأس أخيه يجره إليه، ولما ذهب عنه الغضب {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151] ، غيَّر شخصية إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي قال لأبيه ـ الذي صدع بالشرك وتحدى ابنه أولاً ـ: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] ، ثم تبرأ منه لما تبين له أنه عدو لله. والسيرة النبوية مليئة بمثل هذه النماذج؛ فكل هذه التجارب تمثل توسعة آفاق للدعاة وعبرة لأولي الألباب.

2 - توجيه ردود افعال المدعوين والمخالفين بتصميم وإحداث أفعال تدعو إلى الاستجابة إليها، وتوجه السلوك نحو رد فعل إيجابي مطلوب ومراد؛ وذلك بالتعرف على احتمالات المدعو المخالف ونفسيته وتقدير حدود رد فعله، وهندسة وتوجيه ردود أفعاله بتضييق احتمالاتها، وهندسة ردود أفعال سريعة وفعالة لاحتواء هذه الاحتمالات. ويمثل هذا الجانب حسن تخطيط النبي - صلى الله عليه وسلم - لجميع الاحتمالات في غزوة أُحد؛ فقد حمى ظهر الجيش بالرماة في الجبل، وقال لهم: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم..» (?) .

3 - تحديث آليات ردود الأفعال الدعوية المعاصرة؛ وذلك بالاستفادة من رصيد الدراسات الاجتماعية المعاصرة، والمناهج المساعدة على إتقان هندسة رد الفعل الدعوي، وهو الأمر الذي من شأنه أن يساعد الدعاة لو أحسنوا الاستفادة منه على حسن التنظير والتخطيط لهذا الأمر.

وقد تكون الخطوة الأولى التي ينبغي توجيه العناية لها هو ترشيد ردود فعل الدعاة أنفسهم أولاً في خضم هذا الصراع العالمي الجديد.

أما توجيه ردود فعل الآخرين بشكل فعال وأكيد فشيء يحتاج إلى مران وتدريب وممارسة وَفْقَ مهارات راقية موجهها «سعة الإدراك» ، وخطوة تحتاج إلى تفهم وحسن إعداد موجهها «حسن التصور للأمور» والأمر كذلك؛ فقد تكون خطوة تالية للخطوة السابقة.

_ مستويات ردود الفعل:

1 - المستوى الفردي أو المستوى الشعبي وما يمثل عموم المدعوين أو المسلمين أو شرائح عموم المجتمع، وغالب ردود أفعالهم تكون في القضايا العامة أو المصيرية.

2 - المستوى النخبوي، وهو ما يتعلق بردود أفعال الطبقة المثقفة التي لها موقعها في المجتمع، وقد تكون النخبة تياراً فكرياً أو مؤسسة علمية أو ثقافية أو سياسية، وهو أهم المستويات؛ وهنا يبرز الكثير من التحديات، ومنها ضعف المؤسسات الدعوية والإسلامية عموماً من حيث بناء المواقف والقرارات على الدراسات الاستراتيجية، ومنها اختلاف مناهج وأولويات ورؤى المؤسسات والمدارس الإصلاحية بطريقة تؤثر على طبيعة وشكل ومضمون القرارات والمواقف من التحدي الواحد كل هذا يجعل ردود الفعل هزيلة ومتضاربة.

3 - المستوى المؤسساتي الرسمي في كافة المجتمعات الإسلامية؛ ذلك أن الداعية يجب أن لا يفرط في تحمله المسؤولية كاملة في المساهمة الفعالة في توجيه رد فعلها الدعوي فيما يخص القرارات الداخلية المسهمة في تطوير الخدمات المفيدة للإسلام والمسلمين.

4 - المستوى العالمي؛ ذلك أن العالم اليوم صار كما يقال قرية صغيرة تتأثر وتؤثر، وهو ما يجعل الاهتمام بهذا المستوى وبردود أفعال هذا المستوى غاية في الأهمية كما يجعل الاقتناع بجدوى التأثير على ردود أفعالهم الدعوية غاية في الواقعية.

_ تعريف بهندسة ردود الأفعال:

من الذين تناولوا هذا الموضوع المهم في كتاباتهم الأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار؛ حيث ذكر في تعريف ردود الأفعال ما يلي:

إذا تأملنا في معظم أنشطتنا اليومية وجدنا أنها في الحقيقة ردود أفعال، واستجابات لمطالب وصعوبات وتحديات، ومن خلال تلك الاستجابات نحافظ على وجودنا، ونرقِّي مواهبنا، ونزيد في الإمكانات التي في حوزتنا. وما نسميه ردود أفعال نوع من الآلية التي اعتمدها الناس في حفظ العلاقة بينهم وبين الوسط المحيط ونوع من استثمار تلك العلاقة.

ونوعية الاستجابة للتحديات والمثيرات، تعد تلخيصاً دقيقاً لفهم المستجيب ووضعيته وعمق تقديره لما يترتب على استجاباته من منافع وأضرار. وكلما كان الإنسان أقرب إلى البساطة في الإدراك، والبدائية في الخبرة والمعرفة كانت استجاباته ذات طابع عفوي، وغير واع، مما قد يوقعه أسيراً في فلك المثيرات.

ومن جهة أخرى فإن تعقُّد الحياة الراهنة جعل خبرات الناس غير كافية لإدراك طبيعة التحديات، وإدراك ما تستحقه من استجابات، مما يعني أننا سنرى المزيد من ردود الأفعال غير الراشدة، وغير المتزنة (?) .

وتحت فصل خاص عن «صور تنافي الموضوعية» في كتابه (فصول في التفكير الموضوعي) خصص الدكتور عبد الكريم بكار الصورة الثانية عشرة لتكون عن: اضطراب ردود الأفعال وما أسماه بـ «فن هندسة ردود الأفعال» . ذكر فيه أن هناك طرقاً خفية وحيلاً بارعة مبتكرة يؤثر الخصم من خلالها على خصمه دون أن يثير ردود أفعاله، ودون جعله يحمل سلاحه دفاعاً عن وجوده «الصيد بشباك من حرير» .

ثم ذكر أن تاريخنا وواقعنا مليء بالمواقف التي أنتجت أقوالاً متطرفة؛ لأنها انبعثت أصلاً في سياق رد الفعل على قول متطرف. (فرق قامت كردة فعل لفرق أخرى) .

_ العصبية للعرب واحتقار غيرهم في بعض الأزمنة ولّد قيام الحركات الشعوبية ضدهم.

_ الإقبال على الدنيا والبذخ والترف في القرن الثاني الهجري ولّد رد فعل الزهد في الدنيا والانقطاع عن كثير من أسباب العيش إلى درجة حد التفريط.

_ نشطت الطورانية في تركيا فكان الرد استيقاظ القومية العربية.

_ كلما زاد الضغط على جانب «النقل» في المنهج في تاريخنا أدى إلى وجود تيارات عقلية تدير ظهرها للنصوص.

وهذه كلها نماذج وصور لردود أفعال خارجة عن الموضوعية ومجاوزة لحدود القصد والاعتدال.

_ أهم أسس ترشيد رد الفعل الدعوي:

إن حصر أسس ترشيد رد الفعل الدعوي في هذا المقام مما يتعذر؛ لأن منها ما له علاقة بالتصور والمعتقد، ومنها ما له علاقة بالواقع والتجارب المختلفة؛ غير أنه بالإمكان الوقوف على أهم هذه الأسس مما له أثر على ترشيد رد الفعل الدعوي، ومن أهم هذه الأسس ما يلي:

_ أهم الأسس في ضوء القرآن الكريم:

الأساس الأول: تأكيد الجانب العقدي في ترشيد رد الفعل الدعوي؛ ذلك لأن وضوح العقيدة والهدف والغاية عاصم من وجود ردود أفعال متهورة مستفَزّة، ومحفزة على الرصانة والتؤدة وحسن تصريف الأمور.

الأساس الثاني: الحاجة إلى بناء النماذج العملية التطبيقية التربوية، وربطها بواقع الحياة وتحدياتها لتوجيه السلوك المناسب في الموقف المناسب؛ مع التركيز على عامل المرونة في تعدد الاحتمالات والإمكانات المتاحة المبنية على توسيع دائرة الإدراك ليتجاوز شراك الوقوع في الصور المختلفة للأسر الذهني وهو ما تقدمه لنا قصة نبي الله موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ المذكورة في سورة الكهف من الآية 60 إلى الآية 82:

قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إذْ أَوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَرًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 60 - 82] .

وهي قصة مشهورة يأمر فيها الله ـ تعالى ـ نبيه موسى ـ عليه السلام ـ أن يذهب لمقابلة الخضر ـ عليه السلام ـ ليتعلم على يديه من الحكمة والبصيرة. ويشترط الخضر على موسى أن لا يسأله عن شيء يفعله وإن كان خلاف ما يعهده؛ آمراً له بالصبر إن أراد الفائدة. ويمكن اعتبار القصة دورة تدريبية في فن ترشيد رد الفعل، ومن هذه القصة استنبط علماء الإسلام أصول الموازنة بين المصالح والمفاسد عند تزاحمها والتي يمكن تلخيصها في أصلين هما:

الأول: احتمال المفسدة الصغرى إما لدفع مفسدة كبرى، وإما لتحقيق مصلحة كبرى.

الثاني: تفويت المصلحة الصغرى إما لتحقيق مصلحة كبرى، وإما لدفع مفسدة كبرى.

ويمكن للدعاة أصحاب العلم والسبق اليوم أن يصمموا برامج تحاكي أهداف القصة على مستويين:

الأول: تصميم مواقف محتملة مفتعلة من واقع الحياة ليختبروا مدى استيعاب المبتدئين في الدعوة لقواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد وقواعد الترجيح بين الأولويات فهماً وتنزيلاً.

الثاني: وهو مرحلة متقدمة في محاكاة أهداف القصة؛ بوضع الدعاة في مواقف حقيقية واقعية في معترك الحياة تختبر تفاعلهم مع واقعهم؛ مع وجود آليات للتحكم والتوجيه في سلوكياتهم ومواقفهم.

الأساس الثالث من القرآن الكريم: ضبط «الكلمة» أمام المخالفين المتربصين، وضبط أسلوب التعبير والخطاب الموجه للمدعوين الذين لم يدخلوا الإسلام بعدُ حتى لا تقع مفسدة راجحة. ويبين هذا الآيات الكريمات التاليات:

قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .

وقوله ـ تعالى ـ: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] .

وقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110] .

_ أسس ترشيد رد الفعل الدعوي من السنة المشرفة والسيرة النبوية المطهرة:

1 - هندسة رد فعل المخالف المتربص بطريقة إيجابية لتعكس رؤية صحيحة لموقف المسلمين، الدعاة، ويمثله موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من رسول قريش يوم الحديبية الذي جاء يستطلع سبب مجيئهم إلى مكة، وكان يقدس الهدي، فأمر - صلى الله عليه وسلم - صحابته أن يحثوا الهدي في وجهه.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له» ، فبعثوها له واستقبله القوم يلبون؛ فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قُلِّدت وأُشعرت وما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت (?) .

2 - توظيف حاجة الخصم والمخالف المحارب لما نملك من سلاح الثروات ومقدرات، وتوجيه رد فعله بطريقة تمكن من درء خطره. ويمثله مكاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قادة غطفان على ثلث ثمار المدينة العام التالي على أن يرجعوا إلى موطنمهم ويتركوا حصار المدينة مع الأحزاب.

_ همُّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عقد الصلح بينه وبين غطفان ثم عدوله عن ذلك:

لما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حدث عاصم بن عمر بن قتادة عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله! أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرىً أو بيعاً، أَفَحِين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! (واللهِ) ما لنا بهذا من حاجة، واللهِ لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا» (?) .

وينبغي التنبه هنا إلى أهمية معرفة نفسية الخصم وطريقة تفكيره والتنبؤ بطريقة رد فعله في ذلك الإطار؛ حيث أشار الدكتور محمد الصادق عرجون ـ رحمه الله ـ في كتابه القيم النفيس: (محمد رسول الله) إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار مكاتبة زعيم غطفان دون أبي سفيان لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بنفسية كل منهما، وأنه لو حاول مع أبي سفيان لما قَبِل بذلك.

3 - التعايش مع وجود المخالف في المجتمع وتحمُّل أذاه وترك مواجهته بشكل مادي، ولو ترتب على ذلك وجود واحتمال مفاسد تؤثر على سير الدعوة في مقابل تجاوز رسم صورة ذهنية خاطئة للدعوة أو الإسلام ككل لدى المجتمعات البعيدة من غير المسلمين مما قد يترتب عليه صدهم عن دين الله. ويتمثل هذا في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين في مواضع عديدة.

_ رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك وما همَّ المنافقون به من الكيد به وعصمة الله إياه:

ذكر أبو الأسود في «مغازيه» عن عروة قال: ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسٌ من المنافقين، فتآمروا أن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق؛ فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فلما غشيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ خبرَهم، فقال: من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هَمُّوا بالمكر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا، وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عماراً أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة أن يسوقها فبينا هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفةُ غضبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع ومعه مِحْجَن، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضرباً بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم الله ـ سبحانه ـ حين أبصروا حذيفة، وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما أدركه قال: اضرب الراحلة يا حذيفةُ وامشِ أنت يا عمارُ! فأسرعوا حتى استووا بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة: هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحداً؟ قال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان. وقال: كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟ قالوا: لا، والله يا رسول الله! قال: فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا اطلعت في العقبة طرحوني منها قالوا: أوَ لا تأمر بهم يا رسول الله إذاً فنضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه. فسماهم لهما، وقال: اكتماهم» (?) .

4 - وجود القدوة العملية من «القادة» والمربين وعموم الدعاة أمام مجتمعاتهم بالمشاركة في الأعمال الاجتماعية الشاقة أو في إزالة تحرّج خاطئ قام في نفوس أفراد المجتمع المدعوين. ويمثله عدة مواقف من السيرة النبوية منها مشاركته - صلى الله عليه وسلم - في حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وقصة «التحلل» قبل إتمام العمرة يوم الحديبية بسبب منع قريش لهم.

فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا فانحروا، ثم احلقوا؛ فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات؛ فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلمْ أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ونحر بُدُنه، ودعا حالقه فحلقه؛ فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً (?) .

5 - حسن اختيار من يقوم بالمهام الدعوية ولا سيما في أوقات الأزمات ممن يضبط ردود فعله بحكمة تفادياً لما لا تحمد عقباه. ويمثله اختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة بن اليمان ليستطلع له أخبار الأحزاب آخر أمرهم.

_ أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذيفة ليتعرف ما حل بالمشركين:

(قال) : فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال: رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله! أرأيتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي! قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي! والله لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هَوِيّاً (?) من الليل ثم التفت إلينا، فقال: مَنْ رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - يشرط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجعة - أسأل الله ـ تعالى ـ أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم، من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد؛ فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة! اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تُحْدِثَنَّ شيئاً حتى تأتينا. قال: فذهبت فدخلت في القوم؛ والريحُ وجنودُ الله تفعل بهم ما تفعل لا تقرُّ لهم قِدْراً ولا ناراً ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش! لينظر امرؤ مَنْ جليسُه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان ابن فلان (?) .

6 - منع قيام التصورات الخاطئة في أذهان المدعوين، بتقديم توضيح لسلوك معين في المواقف ذات الاحتمالات المتعددة فهماً. ويمثله فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة كان يرافق إحدى أمهات المؤمنين إلى بيتها ليلاً من المسجد مخاطباً الصحابيين الجليلين اللذين قابلاه في الطريق، ثم أسرعا الخطى: على رِسْلِكُما! إنها صفية.

حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني علي بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ أن صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: على رسْلكما إنما هي صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! وكَبُرَ عليهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً (?) .

7 - إثارة روح التساؤل وإذكاء الرغبة في معرفة الخير والعلم، وعدم إعطاء المعلومة بطريق مباشر، مع توسيع دائرة دلالة المفاهيم. ويمثله الكثير من المقدمات لأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يستعمل فيها أسلوب السؤال، ومنها: أتعلمون مَنِ المفلس؟ مَنْ تعدون الشديد فيكم؟ أتدرون حق الله على العباد؟ أتدرون مَنِ السائل؟

8 - تصحيح أخطاء المدعوين عن طريق تغيير تصوراتهم من خلال فتح باب الحوار معهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن ـ خاصة عند وجود الشبهات وسوء الفهم غير المقصود ـ بدلاً من إصدار الأحكام القيمية عليهم وتأنيبهم وتوبيخهم وتبكيتهم ولو تجاوز الخطأ حجم المقبول عرفاً. ويمثله قصة الأعرابي الذي أخذ جانباً من المسجد يريد قضاء حاجته، وقصة من تحدّث في صلاته، وقصة الفتى الذي جاء يطلب الإذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مزاولة الزنا.

عن أبي أمامة قال: إن فتى شاباً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مَهْ مَهْ! فقال: ادنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس؛ قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله يا رسول الله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (?) .

روى البخاري أن أبا هريرة قال: «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذَنُوباً من ماء؛ فإنما بُعِثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين» (?) .

9 - حُسن الاستماع لرأي المخالف، واعطاؤه فرصة لإتمام حديثه وقول ما يريد قوله دون مقاطعة، وتفهمه واستيعابه قبل محاولة الرد عليه. ويمثله قصة الوليد بن عتبة الذي أرسلته قريش لاستطلاع حقيقة ما جاء به من الوحي.

10 - منع ما من شأنه أن يثبط الهمم ويفت في عضد المجتمع المسلم في الأوقات العصيبة والأزمات ومواجهة الأعداء وإن كان حقاً. ويمثله خبر إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب وصحابي آخر ليستطلعا له حقيقة خبر نقض يهود ـ لعنة الله عليهم ـ لعهدهم.

11 - حُسن تقدير احتمالات ردود الفعل السلبية عند إرادة القيام بعمل ما، واتخاذ القرار المناسب وفق ما يترجح ويغلب على الظن منها حتى لو أدى ذلك إلى التنازل عن تحقيق مصالح أو مكاسب لكنها لا تقارن بحجم المفسدة المترتبة على الفعل؛ يمثل هذا إرادة النبي - صلى الله عليه وسلم - إعادة بناء الكعبة على أصولها ألأولى وإدخال حِجْر إسماعيل ضمن البيت؛ لكنه لم يفعل ذلك، وأخبر عن نيته ورجوعه عنها لتبقى قاعدة عامة يرجع إليها المؤمنون ويعملونها. وهنا في الحقيقة ترك الفعل لدرء مفسدة؛ فترك الفعل فعل حكيم عند إعمال مثل هذه القاعدة.

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام؛ فإن قريشاً استقصرت بناءه، وجعلت له خلفاً» (?) .

وبينما كان عبد الملك بن مروان يطوف بالبيت إذ قال: قاتلَ اللهُ ابنَ الزبير؛ حيث يكذب على أم المؤمنين يقول: سمعتها وهي تقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا عائشة! لولا حدثان قومك بالكفر لنقبت البيت. قال أبي: قال الأنصاري: لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحِجْر؛ فإن قومك قصروا عن البناء فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين؛ فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا فقال: لو كنت سمعت هذا قبل أن أهدمه لتركته على بناء ابن الزبير (?) .

_ قواعد وأصول عامة في ردود الأفعال:

وأختم الحديث عن موضوع الأسس بذكر قواعد وأصول عامة تفيد الدعاة والمؤسسات الدعوية في التعامل مع الموضوع:

1 - أهمية الاستعداد القَبْلي للردود المتوقعة، أو ما أسماه الإمام الشاطبي بتقدير مآلات الأقوال والأفعال في موافقاته.

2 - تطوير الاستعداد الآني لمواجهة المواقف غير المتوقعة؛ وذلك بإتقان ما يلي:

_ قواعد فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

_ قواعد فقه الأولويات.

_ قواعد فقه الموازنات.

3 - أهمية المرونة في التعامل مع الناس والتدرب المستمر على ضبط النفس والتحلي بالصبر، والتحكم في الانفعالات والعواطف.

4 - الإفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم.

5 - معرفة الواقع والبيئة المحيطة بالإنسان بما في ذلك الأفكار والاتجاهات والمدارس الفكرية والفئات.

6 - تطوير مهارة قراءة: أفكار الآخرين، ووجوههم، وحركاتهم وإشاراتهم، وهو علم أو فن أصبحت له مدارسه ومقالاته وكتبه التي يمكن الإفادة منها.

7 - معرفة أنواع الناس وأصنافهم وسمات كل نوع.

8 - تطوير مهارات التفكير المختلفة.

9 - وهذا يوجب على الدعاة - اليوم وفي كل زمان - حسن عرض دعوتهم للناس، وتزيين الحق والخير في قلوبهم، وتقبيح الباطل والشر في أنظارهم. ومخاطبة العقل والقلب معاً وعدم الاكتفاء بمخاطبة واحد منهما دون الآخر ولا سيما مع تفاقم الشر وتزيينه من قِبَل شياطين الجن والإنس، واستشراء الشبهات حتى كادت أن تزاحم الحق عند الكثير منهم.

فمن هذا الحسن: وجوب استعمال الاستدلال العقلي إلى جانب الاستدلال النقلي.

ومن ذلك حسن اختيار عناوين المحاضرات العلمية التي تجذب الناس وتشد أسماعهم فينقادون لحضورها، كما أن لحسن اختيار العناوين حسنات وإيجابيات أخرى منها أنها تضع إطاراً للموضوع المراد التحدث فيه يهدي الداعية إلى حسن الإعداد والتحضير، ويأخذ بيده للسير في دروب ذلك الإطار، وينبغي الابتعاد عن العناوين المرتجلة والمجردة وذات المحتوى الذي يكشف ما يريد الداعية قوله والتكلم فيه مما يزهِّد المدعو في الحضور.

فمثلاً بدلاً من: (العلم الشرعي والحاجة إليه) يمكن أن يقال: (العلم الشرعي ودوره في مواجهة التحديات المعاصرة) .

فلا يكون الحديث مجرد سَوْق للأدلة الشرعية على الحث على العلم وبيان فضله، بل يتعداه إلى كيف السبيل للحصول عليه، وكيف نستفيد من هذا العلم ونوظفه في ما يواجهنا من أحداث الحياة ومتغيراتها ومستجداتها، وكيف نطبقه في شتى مجالات الحياة، وكيف يتم تنزيله على وقائعها.

ومن الأمثلة في هذا الباب: ما جاء في شأن العقيدة: نلاحظ من أدلة القرآن والسنة أن الأصل في أمر العقيدة هو الثبات وعدم المساومة، ونلمح ذلك في سبب نزول سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، كما روى ابن هشام في سيرته بقوله: «واعترض رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالكعبة ـ فيما بلغني ـ الأسودُ بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليدُ بن المغيرة، وأميةُ بن خلف، والعاصُ بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمد! هلمَّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر؛ فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنتَ قد أخذت بحظك منه. فأنزل الله ـ تعالى ـ فيهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون َ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 - 6] ، أي إن كنتم لا تعبدون إلا الله إلا أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لي بذلك منكم، لكم دينكم جميعاً، ولي ديني» (?) .

ويتكرر ذلك في حدث آخر من أحداث السيرة النبوية عندما طلب المشركون من أبي طالب لما ثقل به المرض عهداً بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليكف عنهم. يروي ابن هشام القصة فيقول: «قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشاً ثقله قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا.

قال ابن إسحاق: فحدثني العباس بن عبد الله بن معبد (ابن عباس) عن بعض أهله عن ابن عباس، قال: مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب! إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى، وتخوَّفنا عليك، وقد علمتَ الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه ليكف عنا، ونكف عنه وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب فجاءه. فقال: يا ابن أخي: هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم! كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم. قال: فقال أبو جهل: نعم وأبيك! وعشر كلمات. قال: تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. قال: فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لَعَجَبٌ (قال) : ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله! ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. قال: ثم تفرقوا» (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015