الإسلام لعصرنا
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة حريصة كل الحرص على أن يدوم
لها تفوقها المادي (الاقتصادي والعسكري) وتفوقها الثقافي. وهي لا تكتفي لتحقيق
هذا باتخاذ برامج داخلية تضمن لها استمرار التفوق، لكنها تلجأ أيضاً إلى سياسات
خارجية تحاول بها عرقلة تقدم أي بلد ترى فيه خطراً على تفوقها في هذين المجالين
أو أحدهما. وإذا كانت ترى في الصين واليابان أمارات لمثل هذا التقدم الذي قد
يمثل خطراً على تفوقها الاقتصادي؛ فإنها لا ترى شيئاً كهذا في البلاد الإسلامية ولا
سيما العربية منها. إنهم يقولون إن الدخل القوي للبلاد العربية مجتمعة لا يساوي
دخل أسبانيا. وقال أحدهم: إذا استثنينا البترول فإن صادرات هذه البلاد لن تساوي
صادرات بلد أوروبي صغير كفنلندا. ولكن إذا كانوا يأمنون الآن جانب هذه البلاد
من ناحية القوة المادية، فإنهم لا يضمنون دوامه بغير تدخل منهم، ولذلك تجدهم
يخططون لاستمرار هذا التخلف بوسائل كثيرة ليست هي موضوع حديثنا في هذا
المقال.
موضوعنا اليوم هو مخططاتهم لمواجهة الخطر الديني الإسلامي؛ وذلك أنه
بالرغم من تخلف البلاد الإسلامية اقتصادياً وعسكرياً، فإن الدين الإسلامي هو الذي
يمثل التحدي الأكبر للثقافة الغربية ولا سيما بعد سقوط الشيوعية. إن الدين
الإسلامي هو باعترافهم الآن أكثر الأديان انتشاراً حتى في البلاد الغربية. بل أقول
إنه أكثر انتشاراً لا بالنسبة للأديان فحسب بل بالنسبة لكل الأيديولوجيات وفلسفات
الحياة الأخرى، وليس في البلاد الغربية فحسب بل في سائر بلدان العالم. هذا
بالنسبة لهم خطر كبير لا بد من إعداد الخطط للمكر به. إن تفاصيل مكرهم هذا
أمر يطول وصفه؛ لكننا سنركز حديثنا اليوم على تقرير لمركز البحوث الأمريكي
المسمى راند Rand والذي تنشر البيان ملخصاً له في هذا العدد [1] .
لم أكتف بقراءة هذا الملخص بل اطلعت على التقرير كله في أصله الإنجليزي،
فخطرت ببالي خواطر كثيرة عنه، منها:
أولاً: أن الخطط التي يوصي بها هي خطط ظل الغرب يتبعها منذ زمن؛
فالدراسة لم تأت في رأيي بشيء جديد لكنها صرحت بما كان متبعاً وعبرت عنه
تعبيراً مفصلاً. إن الإسلام الذي يراه الغرب خطراً عليه هو الإسلام الحق الذي
يستمسك به بعض المسلمين بصدق وجد ويحاولون الدعوة إليه، وهو الإسلام الذي
يحبه ويؤمن به إذا عرفه كثير من الناس في الغرب، إنه إسلام القرآن والسنة.
ولذلك تجد أن أكثر من دخل في الإسلام في الولايات المتحدة على الأقل إنما دخلوا
فيه بعد قراءتهم لترجمة من ترجمات هذا الكتاب العزيز.
ثانياً: ولأن التقرير كان صريحاً؛ فإنه لا يحاول مخادعة المسلمين، كما
يفعل السياسيون من أمثال بوش أو بلير حين يقولون إن مشكلتنا ليست مع الإسلام؛
فهو دين سلام ومحبة وتسامح، وإنما هي مع أقلية من المنتسبين إليه من الإرهابيين
أو المتطرفيين.
ثالثاً: واضح من الدراسة أن المسلمين مدعوون لا إلى فصل الدين عن الدولة
كما هو الحال في الغرب، ولكنهم مدعوون إلى فصل الإسلام وإبعاده عن الحياة
كلها. والتقرير يعترف بأن هذا أمر صعب، لكنه أمر لا مفر منه فيما يبدو. «إنه
ليس بالأمر السهل» يقول التقرير: «أن تبدل ديناً عالمياً كبيراً كالإسلام. إنه إذا
كان (بناء الأمة) عملاً مرعباً، فإن (بناء الدين) أشد خطورة وتعقيداً» ومما
يدلك على جدهم في محاولة التبديل هذه أن بهذا التقرير فصلاً كاملاً عن الحديث
النبوي يقول فيه عن الحديث: «إنه في أحسن أحواله أمر مريب متناقض لا يمكن
الاعتماد عليه في فض النزاع في أي قضية؛ لأن كلاًّ من المتنازعين يمكن أن يجد
فيه ما يؤيد وجهة نظره. ولذلك فإن التقرير ينصح بإصدار كتيبات تتضمن أحاديث
تؤيد وجهات نظر الحداثيين والعلمانيين، حتى لا يبقى عامة المسلمين ضحية
للأحاديث والتفسيرات التي ينشرها بينهم العلماء التقليديون والأصوليون» . يعتمد
التقرير في هذا على كتابات أقوام معروفين بالزندقة وإنكار السنة.
رابعاً: استغربت حين قرأت هذا التقرير عن أي عالم إسلامي يتحدث؟ أين
في العالم الإسلامي أولئك الحداثيون أو العلمانيون الذين لا تتاح لهم فرص النشر،
أو الذين ليست لهم منابر عامة يخاطبون منها الجماهير، أو الذين لا تؤثر آراؤهم
في المقررات المدرسية؟ أليست هذه الأمور كلها في أيدي العلمانيين في بلدان العالم
الإسلامي كله إلا ما ندر؟ أليست أنظمة الحكم في كل بلدان العالم الإسلامي إلا ما
ندر أنظمة لا تخفي علمانيتها؟ عبرت عن استغرابي هذا لأحد إخواننا السعوديين
فابتسم وقال: إن هذا التقرير إنما يتحدث عن السعودية. فكرت في محتويات
التقرير مرة أخرى فأيقنت أن سهامه موجهة فعلاً نحو السعودية.
خامساً: قلت في نفسي: أخشى أن يظن بعض من يقرؤون هذا التقرير ممن
لا يزالون يحسنون الظن بأمثال هذه المؤسسات الغربية أن الديمقراطية التي يدعو
العالم الإسلامي إليها هي الديمقراطية بمعنى الرضى بحكم الشعب. أقول لهؤلاء:
هَبُوا أن دولة كالسعودية قالت للغربيين: تريدون ديمقراطية؟ حسناً! فلنفعل كما
فعلتم أنتم معاشر الأمريكان. لندع ممثلين للشعب من كافة مناطقهم الجغرافية،
ولنقل لهم: صوغوا لبلدكم دستوراً كما فعل الأمريكان؛ ولنفترض أن هؤلاء
الممثلين اجتمعوا فكان أول ما ذكَّروا به أنفسهم واجتمعت عليه كلمتهم أنهم ليسوا
سعوديين فقط لكنهم مسلمون أيضاً، وأن إسلامهم هذا هو جوهر هويتهم، ومعتمد
جماعتهم، ومصدر عزهم وكرامتهم، وسبب تقدير الأمة الإسلامية لهم، وأنهم
يؤمنون لذلك بأن دستورهم الأعلى الذي يحكم حياتهم ويهيمن على كل ما يصدرون
من وثائق هو نصوص الكتاب وصحيح السنة، وأنه ينبغي لذلك أن لا يكون قرروا
في نظام حكمنا ولا في قوانيننا، ولا في مناهجنا الدراسية، ولا في سياستنا
الخارجية، ولا في أي جانب من جوانب حياتنا ما هو مخالف لما في هذين
المصدرين. هب أنهم جلسوا بعد ذلك وتداولوا لعدة أسابيع خلصوا في نهايتها إلى
صياغة دستور، ثم عرضوه على شعبهم في استفتاء عام، شهد عليه مراقبون
محايدون من هيئة الأمم، فكانت النيجة أن أجازته الأغلبية الساحقة من المواطنين.
هل يرتاب أحد بعد هذا في أن هذا الدستور جاء بطريقة ديمقراطية، وأن على من
كان يؤمن بالديمقراطية أن يرضى به للشعب السعودي مهما خالفهم الرأي؟ كلاَّ.
ولكن هل تظنون أن سيرضى الغرب أو ترضى أمريكا بذلك؟ كلاَّ ثم كلاَّ. لا
تنسوا أنهم لا يتكلمون عن الديمقراطية بهذه الصفة العامة التي ذكرناها، إنهم لا
يتحدثون عن ديمقراطية تكون فيها الكلمة للأمة مهما كانت تلك الكلمة. إنهم يريدون
نظاماً أشبه ما يكون بنظامهم، وقيماً أشبه ما تكون بقيمهم ولا سيما في الموقف من
الدين ومن العلاقة بين الجنسين. هذه في رأيهم هي الديمقراطية الليبرالية التي لا
ديمقراطية حقيقية غيرها. ألا تذكرون ما قال (بريمر) للعراقيين من أن هنالك
خطوطاً حمراء يجب أن لا يتخطاها مجلس الحكم في وضعه لمسودة الدستور، وأن
من هذه الخطوط فصل الدين عن الدولة. وأن الديمقراطية التي يريدونها للعراق
هي ديمقراطية على المنوال الأمريكي؟ أو الغربي؟ إن شعارهم هو: كونوا
أحراراً، لكنكم لن تكونوا في حكمنا أحراراً إلا إذا اخترتم لأنفسكم ما اخترنا نحن
لأنفسنا، إلا إذا كانت طريقة حياتكم كطريقتنا، إلا إذا لم يكن في ما اخترتموه ما
نرى فيه مهدداً لقيمنا وثقافتنا ومصالحنا. فيما عدا ذلك فأنتم أحرار جد أحرار.
سادساً: مما يدلك على هذا أنهم ليسوا راضين حتى عن من كان من
العلمانيين منا غير معجب بهم. يقول التقرير إنه بما أن العلمانيين يؤمنون مثلنا
بفصل الكنيسة عن الدولة «فقد كان المفروض أن يكونوا الحلفاء الطبيعيين لنا في
العالم الإسلامي. لكن المشكلة كانت وما تزال أن كثيراً من العلمانيين المهمين في
العالم الإسلامي لا يوادوننا، بل قد يكونون شديدي العداوة لنا لأسباب أخرى» .
سابعاً: ما الثقافة التي يدعوننا إليها؟ إنها ليست العلوم التي كانت من أسباب
تقدمهم المادي، وإنما هي الكفر والعري والزنا والشذوذ والمخدرات والفردية التي
هي من علامات تدهور حضارته لا من أسباب قوتها. لذلك تجد بعضهم يقول إنه
لا خوف على حضارتنا من حضارة أخرى معاصرة، وإنما الخوف عليها من
الانتحار الذي بدأت تمارسه ويشيرون إلى مثل أنواع السلوك تلك.
ماذا نفعل؟ هل نستجيب ونخنع؟ فوالله لن يزيدهم هذا إلا احتقاراً لنا،
وتمادياً في إذلالانا، ودأباً على الوقوف في طريق تقدمنا الاقتصادي والتقني
والعسكري.
فلنقل لهم: لقد رضينا بأن نعيش معكم في سلام، وأن من يعتدي على
الأبرياء منكم ومنا لا يمثلنا ولا يعبر عن رأينا. لكنا لن نرضى بأن يكون هذا
التعايش تعايشاً بين سادة وعبيد، أو محتلين ومواطنين، أو منتجين ومستغلين
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .