قضايا دعوية
عبد الله بن علي الريمي
hamasat17@hotmail.com
منذ مئات السنين والبحر يضرب بأمواجه الشاطئ.. في ظاهرة معروفة عند
الجغرافيين تسمى المد. ثم ينحسر المد عن الشاطئ في ظاهرة أخرى ثابتة تسمى
الجزر. هاتان الظاهرتان ثابتتان لا تتغيران في أي بقعة من العالم: يأتي الليل بمده،
ويأتي النهار بجزره؛ ولكن التغير فيها هو ما يحمله إلينا المد والجزر من كائنات.
يتحكم في هذا التغير المكان الذي تتم فيه العملية الجغرافية، ونوعية الكائنات التي
تعيش في ذلك المكان.
وكذلك هي الأمور الدعوية التي تواجه الداعية، فيها ثوابت لا بد أن ينتبه لها
الداعية وهي ثابتة في أي بقعة من العالم تتم فيه الدعوة، ويمكن أن نقول عنها إنها
المنهج الذي ندعو إليه. ولكن المتغير هو طريقة الدعوة لهذا المنهج.. وطبيعة
البرنامج الذي نقدمه، وكذلك نوعية المواد التي ندرسها؛ إذ لا بد أن ننتبه لما يأتي:
- الفروق بين مجتمع وآخر.
- وكذلك الزمن الذي نعيش فيه.
أذكر أنني أقمت في دولة أوروبية لفترة من الزمن، وساهمت في الدعوة
هناك، وحضرت بعض الاجتماعات التي أقامها الدعاة المربون في تلك الدولة،
ولاحظت التالي:
- تعامل الدعاة مع الناس هناك على أنهم لا يصلحون أن يؤدوا أي عمل
بمفردهم دون الرجوع إليهم؛ وهذا الأمر ربما كان طبيعياً لأول وهلة، ولكن إذا
علمنا أن عمر الدعوة في تلك البلاد ليس بالقصير فإننا سنتساءل: لماذا لم يؤهل
الدعاة التأهيل الكافي الذي يمكنهم من القيام بالعمل الدعوي، على الأقل كمنفذين
متميزين إذا عجزنا أن نهيئهم كمعدي برامج ومنظرين؟
- لم يكن هناك مدرسة تأهيل للدعاة؛ يعني أن الداعية المراد تأهيله لم يكن
يتلقى برنامجاً منظماً في الإعداد الدعوي، بل في أحسن الحالات يمكن أن نقول إنه
يتلقى دورات سريعة (دورة اليوم الواحد) وربما تلقاها بطريقة غير منظمة فضاع
الكثير منها.
- لم تكن هناك ثقة في الدعاة الموجودين؛ ليس فقط من الناحية العلمية.. بل
حتى من الناحية التربوية، وربما تم اختيار داعية ووضع تحت المتابعة المملة،
فيشعر الرجل أنه مراقب، وأنه لا يحسن عمل شيء، وربما لم يكن فعلاً مناسباً
للعمل. ويعتذر بعض المربين أحياناً أنه أفضل الموجود، ومن خلال مشاهداتي
رأيت أن هناك الكثير ممن هو أفضل منه، ويمكن الاستفادة منه وقد هُمشوا، ولم
يُعطَوْا أي اهتمام دعوي.
والمفروض:
أن يتلقى الداعية الجديد برنامجاً منظماً يراعى فيه:
- التدرج.. في المادة الدعوية المقدمة.
- التأصيل الشرعي للمواد المقدمة.
- مراعاة الفروق بين دولة وأخرى؛ ففي السعودية مثلاً لو ألقيت دورة
فسنجد أن مادة كأصول الفقه، أو القواعد الفقهية تشكل منهجاً طيباً لطلبة العلم،
بينما لو ألقيت دورة في دولة أوروبية لوجدت أنك تحتاج أن تلقي دورة في الأحكام
مثلاً، ولو ألقيت دورة في بعض دول شرق آسيا لوجدت أنك ستحول مادة الدورة
إلى العقيدة مع تشابه الطلبة من حيث السن وربما مستوى الثقافة العامة. وفي مجال
العلوم الشرعية وستجد هذا التغير الذي يفرضه عليك مستوى الطلبة من جهة،
وحاجة المجتمعات من جهة أخرى.
ولذلك فإنه لا بد من المتابعة في الناحيتين: العلمية والعملية؛ بحيث يكون
هناك موازنة بين:
- حجم المادة المقدمة.
- نوعية المادة.
- التناسب بين التلقي والعطاء.
مجمل هذا الكلام يدور حول الثوابت والمتغيرات، وأهمية الأمور الدعوية
والتربوية مع الالتفات إلى جوانب أخرى مهمة كالبرنامج المقدم ووقته، وما شابه
ذلك.
الثوابت في حياتنا تبقى ثوابت، ولكنها عند بعضهم تبدأ في أخذ طابع المتغير.
وتساعد الرخصة في هذه النظرة؛ ومع قلة العلم والتربية تختلط النظرة، ويأتي
جيل جديد لا يفرق بين هذا وذاك.
والمتغيرات تخضع لعدة أمور، وتقبل الأخذ والرد، ولكن أيضاً نتيجة لقلة
العلم والتربية، وكثرة ضعاف النفوس تبدأ الوسائل في الخروج عن مسارها
الصحيح، وكلما حاولت التوجيه فستجد أنك تعارض بنصوص وخلافات غير
معتبرة بدأت تكتسب طابعاً قوياً بسبب التميع الذي وقع فيه بعضهم، وغياب
المنهجية القوية؛ يضاف إلى ذلك التمكين لأهل البدع، واختلاط الكثير من المفاهيم.
أميل للأسلوب الإداري نوعاً ما في الدعوة، وهو باختصار وضع خطة
طويلة المدى للعمل الدعوي يهتم فيها بـ:
- مراحل الدعوة.
- شروط الكوادر (والتشدد فيها بالنسبة للدعاة والمربين) .
- المناهج التعليمية مع التأصيل الشرعي.
- الأنشطة الدعوية غير المنهجية كالنوادي والمراكز الصيفية وما شابه ذلك.
- تقسيم العمل إلى مراحل.
والاهتمام بالإدارة والدعوة بهذه الصورة الإيجابية سيستفاد منها بلا شك؛
فلنحاول، ولنعد النظر في الثوابت والمتغيرات. على أن يرافق هذه العودة علم
أصيل يعتمد على موروثات السلف، وقلب واع يقظ للفتن ولمداخل الشيطان،
ورغبة في تعبيد كل شي لله، على منهج الله، وفق فهم سلف الأمة رضي الله عنهم
ورحمهم.