مجله البيان (صفحة 4890)

لماذا عزل عمر خالدا رضي الله عنهما

دراسات في السيرة والتاريخ

لماذا عزل عمر خالداً

رضي الله عنهما

إبراهيم بن محمد الحقيل [*]

مقام الصحابة - رضي الله عنهم - مقام جليل عند الله تعالى؛ فقد اختارهم

من بين العالمين لصحبة أفضل المرسلين، وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام،

وأقام الله تعالى على أيديهم الدين الحنيف في ربوع الأرض؛ فلهم من المنزلة عند

الله تعالى ما ليس لغيرهم - خلا النبيين والمرسلين عليهم السلام -، فرضي الله

عنهم ورضوا عنه؛ كما قال الله سبحانه: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ

وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ

تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] (التوبة: 100) .

ولهم من المنزلة عند الموحدين من المسلمين ما ليس لغيرهم؛ فهم يعرفون لهم

فضلهم ومكانتهم التي بوَّأهم الله تعالى إياها، فيحبونهم ويوالونهم، ويبغضون من

أبغضهم، ويعادون من عاداهم.

ومحبة المؤمنين للصحابة - رضي الله عنهم - هي جزء من محبتهم للرسول

صلى الله عليه وسلم، كما أن بغض أهل الضلال من الكفار والمنافقين والمبتدعة

للصحابة - رضي الله عنهم - هو جزء من بغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم

قصدوا ذلك أم لم يقصدوه، علموه أم جهلوه. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -:

«اعتبروا الناس بأخدانهم» [1] ، وقال الإمام مالك - رحمه الله تعالى -: «إنما

هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك؛ فقدحوا في

أصحابه حتى يقال: رجل سوء؛ ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين»

[2] .

وبغض الصحابة - رضي الله عنهم - وانتقاصهم هو في واقع الأمر بغض

للدين وانتقاص له من وجهين:

الوجه الأول: أنهم على دين النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهم أصحابه

وأخلاؤه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المرء على دين خليله فلينظر

أحدكم من يخالل» [3] ؛ فدينهم هو دين النبي صلى الله عليه وسلم، وانتقاصهم هو

انتقاص لدينهم.

الوجه الثاني: أنهم حَمَلَةُ الدين وناقلوه إلينا. قال أبو زرعة الرازي - رحمه

الله تعالى -: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله

عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق،

والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه

وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح أوْلى بهم

وهم زنادقة» [4] .

ومن أعظم ما يزهِّد الناس في شريعة الله تعالى القدح في نَقَلَتها، وقد رأينا

كيف أن أعداء الإسلام من مستشرقين حاقدين، ومنافقين مندسين لا يجترئون على

القدح المباشر في الشريعة؛ لئلا يثيروا الناس، ولكيلا ينفِّروا من أقوالهم

وطروحاتهم المتزندقة، يعمدون إلى غمز الصحابة - رضي الله عنهم - ولمزهم،

وإبراز الروايات المنكرة والموضوعة، واختزال التاريخ الإسلامي كله فيها، ومن

ثم تقديمها للناس على أنها خلاصة تاريخ المسلمين، وواقع السابقين من الصحابة

والتابعين، والأئمة المهديين، والقادة المجاهدين، على شكل قصص أو روايات،

أو دراسات تاريخية، أو ما أشبه ذلك. وكثيراً ما تُقَدَّم هذه الكتابات الطاعنة في

الصحابة - رضي الله عنهم - في قالب يزعم أصحابه الحيادية والموضوعية

التاريخية، ويدَّعون أنهم ينطلقون في كتاباتهم عن الصحابة - رضي الله عنهم -

من فراغ عن أي خلفيات فكرية مترسبة قد تؤثر بالحكم سلباً أو إيجاباً على

الروايات المنقولة عنهم. والمقصود من هذه المقدمات التي يقدمونها في كتاباتهم

الطاعنة في خير البشر بعد النبيين إكساب القارئ الطمأنينة فيما يكتبون، وجعل

أنفسهم محل ثقته وقبوله.

ولا خير فيمن يكتب عن رجالات الأمة الفضلاء وهو يعلن عدم انحيازه لهذه

الأمة؛ بل اتخذ بديلاً عنهم أعداء الإسلام من المستشرقين والمبتدعة، فانحاز إليهم

بفكره وقلمه، ثم إذا هو يزعم الموضوعية والحياد فيما يكتب، وكاد المريب أن

يقول: خذوني!!

وخلال سنوات مضت وقفت على كتابات عدة من مقالات ودراسات وقصص

تبرز مسألة عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد - رضي الله

عنهما - عن قيادة الجيوش، وتُسلِّط الأضواء على روايات ونقول لا تليق بمقام

الصحابة الجليل، وتتغافل عن المتواتر من المنقول الذي يُظهر حقيقة ما كانوا عليه

من الإيمان والتقوى والورع والتجرد في أقوالهم وأفعالهم؛ رضي الله عنهم

وأرضاهم.

وراح كثير منهم ينسج جملة من الأوهام والترهات المستندة إلى روايات منكرة

باطلة، ويزيدون عليها ألف كذبة من ترهات عقولهم المريضة، وأحقادهم الدفينة،

شأنهم شأن الكهان، ثم سمعت عمن يتناقل شيئاً من ذلك عبر الفضائيات في

حوارات وندوات.

وليس الأمر كما ذكر المفتونون في دينهم، المخذولون بالقَدْح في الصحابة

- رضي الله عنهم -؛ إذ إن الأمر لا يعدو أن يكون اجتهاداً رأى فيه الفاروق مصلحة

المسلمين، وكان هذا الاجتهاد من عمر - رضي الله عنه - نتيجة لأعمال عملها

خالد - رضي الله عنه - كان مجتهداً فيها أيضاً، أصاب في بعضها وأخطأ في

بعضها، وكلاهما - رضي الله عنهما - بين أجر وأجرين.

* أسباب عزل عمر لخالد - رضي الله عنهما -:

اختلف أهل السير والمغازي في السبب الذي جعل عمر يعزل خالداً عن قيادة

الجيوش، وحاصل ما ذكروا أسباب ثلاثة:

السبب الأول: أن عزله كان بسبب شدته، وكان عمر - رضي الله عنه -

شديداً؛ فما أراد أن يكون الخليفة شديداً وقائد الجيوش كذلك. وكان أبو بكر

- رضي الله عنه - ليناً فناسب أن يكون قائد جنده شديداً، فلما ولي عمر عزل

خالداً وولَّى أبا عبيدة، وكان أبو عبيدة ليناً، فناسب مع أبي بكر ولينه خالد وشدته،

وناسب مع عمر وشدته أبو عبيدة ولينه، رضي الله عنهم.

قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل

خالداً وولَّى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالداً؛ فجمع للأمة بين أمانة

أبي عبيدة وشجاعة خالد» [5] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «وهكذا أبو بكر خليفة

رسول الله صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - ما زال يستعمل خالداً في حرب

أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد

ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها بل عاتبه عليها؛ لرجحان

المصلحة على المفسدة في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه؛ لأن المتولي الكبير

- أي الخليفة - إذا كان خُلُقه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى

الشدة، وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين؛

ليعتدل الأمر؛ ولهذا كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يُؤثر استنابة خالد،

وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن

الجراح - رضي الله عنه -؛ لأن خالداً كان شديداً كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة

كان ليناً كأبي بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يتولى من ولاه ليكون أمره معتدلاً»

[6] .

ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن عمر - رضي الله عنه - لما كان

يسعى إلى عزل خالد أيام أبي بكر - رضي الله عنه - كان يقول: «اعزله؛ فإن

في سيفه رهقاً، فقال أبو بكر: لا أشيم - أي لا أغمد - سيفاً سلَّه الله على الكفار»

[7] .

قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «والمقصود أنه لم يزل عمر بن

الخطاب - رضي الله عنه - يحرِّض الصديق ويذمِّره [**] على عزل خالد عن

الإمرة، ويقول: إن في سيفه لرهقاً؛ حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم

عليه المدينة، وقد لبس درعه التي من حديد، وقد صدئ من كثرة الدماء....»

إلخ [8] .

ويشهد لشدة خالد أيضاً قتله للأسرى لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى

بني جذيمة؛ فقتل الأسرى الذين قالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا:

أسلمنا. فَوَدَاهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى رد إليهم ميلغة الكلب [9] ، ورفع

يديه، وقال: «اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد» [10] .

قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: «الحكمة في تبرُّئه صلى الله عليه وسلم

من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهداً أن يعرف أنه لم يأذن له في

ذلك، خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله»

اهـ. ملخصاً.

وقال ابن بطال - رحمه الله تعالى -: «الإثم وإن كان ساقطاً عن المجتهد

في الحكم إذا تبين أنه بخلاف جماعة أهل العلم، لكن الضمان لازم للمخطئ عند

الأكثر؛ مع الاختلاف: هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أم بيت المال؟» ، قال الحافظ

ابن حجر متعقباً قول ابن بطال - رحمهما الله تعالى -: «والذي يظهر أن التبرؤ

من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة؛ فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان

فعله ليس بمحمود» [11] .

وكذلك قتله - رضي الله عنه - لمالك بن نويرة اليربوعي، وملخص خبره:

أن مالكاً صانع سَجَاحاً التميمية التي ادعت النبوة، ثم ندم مالك على ما كان منه،

وقصد خالد البطاح وعليها مالك، فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس،

فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة، وبذلوا الزكوات، إلا ما كان من مالك بن

نويرة فإنه متحير في أمره، متنحٍّ عن الناس، فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه

أصحابه، واختلفت فيهم السرية؛ فشهد أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري أنهم

أقاموا الصلاة، وقال آخرون: إنهم لم يؤذِّنوا ولا صلوا، فيقال: إن الأسارى باتوا

في كبولهم في ليلة باردة شديدة البرد، فنادى منادي خالد أن دفئوا أسراكم، فظن

القوم أنه أراد القتل فقتلوهم ... فلما بلغ ذلك خالداً قال: إذا أراد الله أمراً أصابه.

وقيل: إن خالداً استدعى مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح،

وعلى منعه الزكاة، وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم

كان يزعم ذلك. فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟! يا ضرار! اضرب عنقه،

فضُربت عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدراً، فأكل خالد

من القدر تلك الليلة؛ ليرهب بذلك الأعراب من المرتدة وغيرهم. واعتذر خالد من

فعلته تلك بمالك لأبي بكر لما استدعاه، فعذره أبو بكر، وتجاوز عنه ما كان منه

في ذلك، وودى مالك بن نويرة [12] .

السبب الثاني: أن عمر - رضي الله عنه - عزل خالداً - رضي الله عنه -

لما كان ينفق من أموال الغنائم دون الرجوع إلى الخليفة، كما روى الزبير بن بكار

- رحمه الله تعالى - قال: «كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم،

ولم يرفع إلى أبي بكر حساباً، وكان فيه تَقَدُّمٌ على أبي بكر، يفعل أشياء لا يراها

أبو بكر» .

ونقل الزبير بن بكار عن مالك بن أنس قوله: «قال عمر لأبي بكر: اكتب

إلى خالد لا يعطي شيئاً إلا بأمرك. فكتب إليه بذلك، فأجابه خالد: إما أن تدعني

وعملي، وإلا فشأنك بعملك. فأشار عليه عمر بعزله، فقال أبو بكر: فمن يجزئ

عني جزاء خالد؟ قال عمر: أنا. قال: فأنت. فتجهز عمر حتى أنيخ الظهر في

الدار، فمشى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر فقالوا: ما شأن

عمر يخرج وأنت محتاج إليه؟ وما بالك عزلت خالداً وقد كفاك؟ قال: فما أصنع؟

قالوا: تعزم على عمر فيقيم، وتكتب إلى خالد فيقيم على عمله. ففعل، فلما

تولّى عمر كتب إلى خالد أن لا تعطِ شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد بمثل

ما كتب إلى أبي بكر. فقال عمر: ما صدقتُ اللهَ إن كنت أشرت على أبي بكر

بأمر فلم أنفذه. فعزله، ثم كان يدعوه إلى أن يعمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما يشاء،

فيأبى عمر» [13] .

ويؤيد ذلك ما نُقل عن عمر من قوله: «إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه،

وما كان يصنع في المال» [14] .

وذكر الحافظ ابن كثير ذلك فقال: «وقيل: عزله؛ لأنه أجاز الأشعث بن

قيس بعشرة آلاف، حتى إن خالداً لما عُزل ودخل على عمر سأله: من أين لك هذا

اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟ فقال: من الأنفال والسهمان» [15] .

ويؤيده ما رواه الإمام أحمد بسند جيد، أن عمر - رضي الله عنه - اعتذر

من الناس في الجابية فقال: «وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد: إني أمرته أن

يحبس هذا المال على ضَعَفَة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللَّسَانة،

فنزعته وأمَّرت أبا عبيدة» [16] .

السبب الثالث: أن عمر عزل خالداً - رضي الله عنهما - خشية افتتان الناس

به؛ فإن خالداً - رضي الله عنه - ما هُزم له جيش لا في الجاهلية ولا في الإسلام،

وقد جمع الله تعالى له بين الشجاعة والقوة والرأي والمكيدة في الحرب، وحسن

التخطيط والتدبير والعمل فيها، وقلَّ أن تجتمع هذه الصفات في شخص واحد.

ويدل على ذلك ما يلي:

1 - أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى الأمصار: «إني لم أعزل خالداً

عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فُتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع»

[17] .

2 - ما رواه سيف بن عمر أن عمر - رضي الله عنه - قال حين عزل

خالداً عن الشام، والمثنى بن الحارثة عن العراق: «إنما عزلتهما ليعلم الناس أن

الله تعالى نصر الدين لا بنصرهما، وأن القوة لله جميعاً» [18] .

3 - قول ابن عون: «ولي عمر فقال: لأنزعنَّ خالداً حتى يُعلم أن الله

تعالى إنما ينصر دينه. يعني بغير خالد» [19] .

فقد يكون عزله لسبب من هذه الأسباب، أو لها مجتمعة، ورأى عمر

- رضي الله عنه - المصلحة في عزله.

وأما تَقَدُّمُ خالدٍ على الخليفة، ودفعه للأموال دون مراجعته فقد كان اجتهاداً منه

- رضي الله عنه -، ولعله رأى تأليف قلوب من يعطيهم، ولا سيما أنه كان

- رضي الله عنه - خبيراً بالحرب، عارفاً بمكايد عدوه، فلا يُظن به إلا أن يعطي

من ينتفع الإسلام بإعطائه، أو يكفي الإسلام شره. وكذلك شدته كانت للإسلام

ونصرته، أراد أن يُرهب أعداء الله تعالى من المشركين والمرتدين، وقد أخطأ في

بعض اجتهاداته؛ فهو معذور مأجور، لا يُقر على خطئه، ولا يؤثّم في اجتهاده؛

وهذا عين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يقره على فعله ببني جذيمة،

ولم يؤثمه أو يعاقبه، وكذلك فعل الصديق - رضي الله عنه -؛ فإنه عاتبه على

اجتهاداته الخاطئة لكنه لم يعزله أو يؤثمه؛ بخلاف عمر - رضي الله عنه - الذي

أداه اجتهاده في خالد إلى عزله وتولية أبي عبيدة، رضي الله عنهم أجمعين.

شبهٌ والرد عليها:

وقد نقل بعض المؤرخين بعض الروايات التي يُشم منها رائحة اتهام الصحابة

- رضي الله عنهم - بالهوى، وأن عزل عمر لخالد - رضي الله عنهما - كان

لهوى في نفسه، وكراهية لخالد، ويذكرون قصة مصارعة قديمة بين خالد وعمر

- رضي الله عنهما - وفيها: أن خالداً صرع عمر وكسر رجله، فحملها عمر في

نفسه، فلما تولى الخلافة عزله ... إلخ.

وهذه النقول وما أشبهها باطلة من وجوه عدة، منها:

أولاً: أن الأصل في الصحابة - رضي الله عنهم - سلامة صدور بعضهم

على بعض؛ كما وصفهم الله تعالى بذلك في قوله سبحانه في وصف أهل الحديبية:

[أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] (الفتح: 29) ، وعمر - رضي الله عنه -

من أهل الحديبية؛ فكيف يكون في صدره شيء على مؤمن مجاهد كخالد - رضي

الله عنه -؟

وقال سبحانه في وصف التابعين للصحابة بإحسان: [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ

بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ

لِّلَّذِينَ آمَنُوا] (الحشر: 10) ، فإذا كان هذا الوصف في التابعين فالصحابة أوْلى

به، ولا سيما مَنْ كان من المهاجرين السابقين كعمر بن الخطاب - رضي الله

عنه -، والقادة المجاهدين كخالد بن الوليد - رضي الله عنه -.

فلا يُترك هذا الأصل المتين لمجرد روايات تاريخية يتناقلها القصاص

والإخباريون ليس لها خطام ولا زمام.

قال ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما

في قلوبهم، ورضي الله عنهم، وأنزل السكينة عليهم؛ فلا يحل لأحد التوقف في

أمرهم أو الشك فيهم البتة» [20] .

ثانياً: أن من المستفيض المتواتر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

من أنصح الناس للأمة، وزهده وعدله وسيرته تنضح بالأمثلة والشواهد الكثيرة

على ذلك، وليس هذا مقام عرضها وسردها، فلا يُظن به وهو الناصح الأمين الذي

كان يتفقد أحوال الرعية أن يغش الأمة، ويعزل قائداً هي محتاجة إليه لولا أنه رأى

المصلحة تقتضي ذلك، وليس لنفسه أي حظ من ذلك.

ثالثاً: أن عمر - رضي الله عنه - من كبار الصحابة، ومن الخلفاء

الراشدين المهديين الذين أُمرت الأمّة كلها على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم

باتباع سُنَّتهم، واقتفاء سيرتهم؛ وذلك في قوله عليه الصلاة والسَّلام: «فعليكم

بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» [21] .

فلو كان عمر - رضي الله عنه - صاحب هوى، يقدّم هواه على مصلحة

الأمة؛ فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يزكيه، ويأمر الأمة باتباع سنته؟!

وهل يقره الله تعالى على هذه التزكية؟! فهذا مما يدل على بطلان هذه الروايات

التاريخية التي فيها نيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وينبغي لكل مسلم قرأ قصة، أو اطلع على خبر لا يليق بالصحابة - رضي

الله عنهم - أن لا يقبله ويسلِّم به ابتداءً؛ بل يرجع إلى النصوص الثابتة في الكتاب

والسنة ويقضي بها على هذه الروايات التي غالباً ما تكون منقولة عن أهل البدع

والضلالات، أو في أسانيدها مجاهيل لا يُعرفون، أو مناكير لا يُقبَلون، أو كانت

بلا أسانيد. فمن سار على هذه الطريقة كان منهجه صواباً؛ لأنه قدَّم الثابت من

المنقول على غير الثابت.

ولا يلزم من هذا التأصيل الحكم بعصمة الصحابة - رضي الله عنهم -؛ بل

هم بشر يجتهدون فيصيبون ويخطئون، وهم أقرب إلى الصواب من غيرهم، ولا

سيما مَنْ كان من السابقين منهم إلى الإسلام. بيدَ أن تلك التهمة التي اتهم بها عمر

- رضي الله عنه - يلزم منها خيانة الأمة، وتقديم هوى النفس على المصلحة

العامة، وحرمان المسلمين من قائد ما نُكِّست له راية!! وهذا الاتهام غير مقبول في

الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

رابعاً: أن الروايات التاريخية المستفيضة تدل على أن خالداً - رضي الله

عنه - كان مجتهداً في أفعاله التي لم يرضها الصديق ولا الفاروق - رضي الله

عنهما -، كما تدل على اجتهاد عمر في عزله لتحقيق مصلحة أكبر من مصلحة

بقائه قائداً. وتدل أيضاً على دوام المحبة بينهما حتى بعد العزل، وهذه الروايات

تدحض كل ما ينقل مما فيه اتهام لعمر - رضي الله عنه - بالهوى.

ومن تلكم الروايات سوى ما ذكرته سابقاً ما يلي:

1 - أن عمر - رضي الله عنه - كان عازماً على تولية خالد - رضي الله

عنه - الخلافة من بعده، ومعلوم أن منصب الخلافة أعظم من مجرد قيادة الجيوش

في الشام؛ ولكن خالداً - رضي الله عنه - توفي قبل وفاة عمر - رضي الله عنه -؛

ودليل ذلك ما رواه الشاسي في مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال: (قيل لعمر:

لو عهدتَ يا أمير المؤمنين! قال: لو أدركت أبا عبيدة ثم وليته ثم قدمت على ربي

فقال لي: لِمَ استخلفته؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: «لكل أمة أمين،

وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة» ولو أدركت خالد بن الوليد ثم وليته، فقدمت على

ربي لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: «خالد سيف من سيوف الله سلَّه الله على

المشركين» ) [22] .

2 - ما ذكره سيف بن عمر من أن عمر - رضي الله عنه - لما رأى زوال

ما كان يخشاه من افتتان الناس بخالد - رضي الله عنه -؛ عزم على أن يوليه بعد

أن يرجع من الحج، ولكن القدر سبق إلى خالد - رضي الله عنه - فتوفي قبل ذلك

[23] .

3 - أن عمر أمر أبا عبيدة أن يستشير خالداً - رضي الله عنهم أجمعين -

في أمور الحرب حتى بعد عزله [24] ؛ فلو كان في نفس عمر شيء على خالد -

رضي الله عنهما - لما جعله مستشاراً لأبي عبيدة - رضي الله عنه -.

4 - أن خالداً لما حضرته الوفاة أوصى لعمر - رضي الله عنهما -، وتولى

عمر وصيته [25] ، وهذا يدل على المحبة بينهما؛ لأن الشخص لا يوصي إلا لمن

يحب ويثق في أمانته وحزمه وورعه، والوصي لا يقبل تولي وصية إلا من يحب؛

لأن في تنفيذها جهداً ومشقة.

5 - تزكية خالد لعمر عند أبي الدرداء - رضي الله عنهم - وإخباره بأن

عمر باب مغلق دون الفتن والمنكرات؛ فقد قال خالد لأبي الدرداء - رضي الله

عنهما -: «والله يا أبا الدرداء! لئن مات عمر لترين أموراً تنكرها» [26] .

وفي المسند أن رجلاً قال لخالد - رضي الله عنه -: «يا أبا سليمان! اتق

الله؛ فإن الفتن قد ظهرت. فقال: وابن الخطاب حي؟ إنما تكون بعده» [27] .

فلو كان خالد يعلم أن عمر إنما عزله لهوى في نفسه وليس لمصلحة رآها؛ فهل

كان سيزكيه هذه التزكية العظيمة؟!

6 - تأثر عمر بموت خالد - رضي الله عنهما - ورثاؤه له، ومدحه بما

يستحقه، ومن كان في نفسه شيء لا يفعل ذلك. روى ثعلبة بن أبي مالك: أن

خالداً لما مات، استرجع عمر مراراً ونكس، وأكثر الترحم عليه، وقال: «كان

والله سدَّاداً لنحر العدو، ميمون النقيبة، فقال علي: لِمَ عزلته؟ قال: عزلته لبذله

المال لأهل الشرف وذوي اللسان. قال: فكنت عزلته عن المال، وتتركه على

الجند! قال: لم يكن ليرضى! قال: فهلاَّ بلوته!» [28] .

ونقل الحافظ عن محمد بن إسحاق قال: «لما مات خالد بن الوليد خرج عمر

في جنازته فإذا أمه تندبه وتقول:

أنت خير من ألف ألف من القوم ... إذا ما كنتَ في وجوه الرجال

قال: فقال عمر: صدقتِ والله، إن كان كذلك!» [29] .

وروى إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى قال: «خرجت مع أبي

طلحة إلى مكة مع عمر، فبينا نحن نحط رواحلنا إذ أتى الخبر بوفاة خالد، فصاح

عمر: يا أبا محمد! يا طلحة! هلك أبو سليمان، هلك خالد بن الوليد ... » [30] .

ونقل الحافظ أن خالداً - رضي الله عنه - لما جُهِّزَ بكته البواكي، فقيل لعمر:

«ألا تنهاهن؟ فقال: وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نقعاً

ولا لقلقة» [31] .

فهذه الروايات الكثيرة تثبت مدى محبة الصحابة بعضهم لبعض - رضي الله

عنهم -، كما تثبت أن عزل عمر لخالد - رضي الله عنهما - كان اجتهاداً رأى فيه

عمر مصلحة الأمة، ولم يكن لهذا العزل تأثير على بقاء المحبة والألفة بينهما إلى

أن مات خالد فتولى عمر وصيته، والله أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015