مجله البيان (صفحة 4889)

قضايا ثقافية

مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة

(1 ـ 2)

د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي

قدَّر الله تعالى أن يكون لهذه القارة الصغيرة ذات البيئة القاسية (أوروبا) أثر

كبير في تاريخ الجماعة البشرية كلها، وأن تتولى قيادة ركب الغواية في صراعه

الأبدي مع ركب الإيمان الذي قدَّر الله أن يكون معتصمه بلاد التين والزيتون

وطور سينين والبلد الأمين [1] .

والاستكبار على الله والشرود عن دينه الذي بلغت به المجتمعات الغربية

المعاصرة غايته لم يأت عرضاً، وإنما هو وليد قرون من الصراع والتخبط ثم

الجموح والتمرد، فقد كان منبت الحضارة الأوروبية من القاع الذي اجتمعت فيه

رواسب الحضارات الجاهلية البائدة (سومرية، آشورية، فرعونية، إغريقية،

رومانية) بعد تصفية كل تلك الحضارات من آثار النبوة وبقايا الرسالات، حيث

استبعدت أو طمست أية إشارة إلى توحيد الله عز وجل وإلى رسله الكرام وكتبه

المنزلة [2] ، ونُفض الغبار عن الأوثان القديمة وشرك القرون الأولى، ونُقِّب عما

طمره الدهر من أساطير وأصنام وضلالات وجهالات.

ذلك أنه في ظل الحضارة الجاهلية الأخيرة (الرومانية) اعتنقت أوروبا

نصرانية «بولس» المنسوبة زوراً إلى المسيح - عليه السلام -؛ حينما أعلن

ذلك الإمبراطور قسطنطين سنة 325م، وانتقلت عاصمة الإمبراطورية من روما

إلى بيزنطة (القسطنطينية) ، ويشاء الله تعالى أن يلي ذلك مرحلة مفجعة من

تاريخ أوروبا الغربية، وهي المرحلة الممتدة من سنة 410م (أي تاريخ سقوط

روما بأيدي البرابرة) إلى 1210م (أي تاريخ ظهور أول ترجمة لكتب أرسطو في

أوروبا) ، ثمانية قرون كاملة من التيه والضلال، اصطلح المؤرخون الغربيون

على تسميتها - أو جزء منها - عصور الظلمات، وأفاضوا في الحديث عن

الانحطاط الكامل حينئذ في الثقافة والعلم والفن، وكل جانب من جوانب الحياة إلا

جانباً واحداً شذ عن ذلك وهو الدين، حيث توغلت النصرانية في الممالك البربرية

الوثنية، وكان ذلك العصر هو العصر الذهبي لانتشار النصرانية في أوروبا كلها،

وأسست كنائس وأنظمة رهبانية جديدة [3] .

تطيرت أوروبا بانتقال العاصمة من روما إلى القسطنطينية الذي أعقبه

الاجتياح البربري الكبير لروما والإمبراطورية الغربية، وحدث هذا التناقض الحاد؛

انهيار كامل حضارياً وعلمياً، وانتشار هائل دينياً!!

وهذا ما أدى لأن يجاهر بعض المؤرخين (ومنهم أكبر المؤرخين لتلك الفترة

قاطبة: إدوارد جيبون) بالقول بأن سبب انهيار الإمبراطورية الغربية هو تحولها

من الوثنية إلى النصرانية، وبالطبع لم تقل الشعوب الأوروبية حينئذ مثل هذا،

ولكن في «اللاشعور» ارتبطت الوثنية بالحضارة والقوة، وارتبط الدين بالهزيمة

والانحطاط، وهو ما كان له آثار بعيدة المدى في علاقة أوروبا بالدين [4] ؛ أعني

دينها. أما الإسلام فإنه لما كان الرومان عامة يعدُّون كل ما عداهم من الشعوب

برابرة، ولما كان البابوات ورجال الكنيسة يعدُّون الإسلام وثنية؛ فقد اتفق

الموردان في النظرة القاتمة إلى العالم الإسلامي، وامتزجت العنصرية القديمة

بالحقد الديني الجديد. مع أننا لو انتقلنا إلى واقع الحياة الإسلامية حينئذ وعقدنا

مقارنة بين الدينين والحضارتين؛ لوجدنا البَوْن شاسعاً والفرق بعيداً:

1 - لم يكن لدى أوروبا مركز حضاري يمكن أن يُسمّى «مدينة» بالمفهوم

السائد عن المدن فيما بعد، وأكبر ما كانت تعرفه هو (بيزنطة وروما) اللتان لم

تكونا سوى قريتين متأخرتين إذا قورنتا بالمدن العالمية آنذاك (بغداد، دمشق،

القاهرة، قرطبة ... إلخ) [5] .

2 - لم يُؤلف في أوروبا خلال تلك الحقبة الطويلة كتاب علمي على الإطلاق؛

في حين نجد الواحد من علماء المسلمين يكتب العشرات وربما المئات من

المصنفات في فنون المعرفة جميعها.

وإذا كانت أوروبا تعد ظهور ترجمة كتب أرسطو بداية الخروج من عصر

الظلمات؛ فإن الفضل عليها في ذلك يرجع إلى رجل ليس أوروبياً ولا نصرانياً بل

هو ابن رشد المتوفى سنة 1198م.

ومن هذا المنطلق العنصري، وبتلك الرواسب الجاهلية؛ انتقلت أوروبا ببطء

في مرحلة مفعمة بالمفاجآت والإنكسارات الحادة من عصر الظلمات البربري إلى

عصر الظلمات الصناعي، وصولاً إلى المرحلة المعاصرة من الظلمات المتراكمة

المسماة عصر ما بعد الحداثة.

واستمر القدر الإلهي ألا تعتنق أوروبا الإسلام، [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ

بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ] (يونس: 100) ، هذا مع أن

أساس نهضتها كان إسلامياً، وأن العربية كانت لغة العلم فيها إلى القرن الثامن

عشر، وأن جامعاتها إنما قامت محاكاة للجامعات الإسلامية.

وليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ غير أن ما فعلته أوروبا كان أفظع من مجرد

التعصب لوثنيتها وترك الاهتداء بهدى الله، فقد تعدى ذلك إلى العدوان العسكري

المتواصل أبداً على الإسلام وأهله، والوقوف الدائم مع كل عدو لهم وإن كان عابد

حجر أو بقر!!

لقد كان إجحافاً أن تنظر أوروبا للمسلمين نظرتها إلى البرابرة «القوط،

والنورمانديين، والفايكنج» بلا أدنى اختلاف، لكن أنكى منه أن تتداعى القارة

طولاً وعرضاً شرقاً وغرباً، وتهبُّ هبة رجل واحد لتحرير الأرض المقدسة من

البرابرة الجدد زعمت!!

وهكذا كانت الحملات الصليبية.. وكانت الصدمة الحضارية التي لم تنسها

أوروبا لحظة واحدة من عمرها:

* أوروبا التي لا تعرف المدن تحاصر مدناً هي صغرى في محيط الحضارة

الإسلامية، لكن بعضها يبلغ عشرة أضعاف روما عاصمة المتحضرين المقدسة!!

* أوروبا التي لم تعرف العلم قروناً بل لم تعرف كتاباً إلا الإنجيل ولا قارئاً

إلا القسيس؛ تذهل للمكتبات الهائلة التي تختزنها هذه المدن الصغرى من عامة

وخاصة وفي كل فنون المعرفة من الفلك إلى النقد الأدبي!!

* أوروبا التي لا تستطيع أن تستغفر ربها أو تصلي له أو تقدم له قرباناً إلا

بتوسط البابا وكهنته، ولا تستطيع أن تقرأ كتابها المقدس ولا تفسره أو تترجمه إلى

لغة حية؛ تجد كتاب الله الأخير «القرآن» في الشرق الإسلامي المتحضر يتلوه

الملايين في المساجد والبيوت، والكل يعبد رب العالمين بلا واسطة مخلوق.

* أوروبا التي يعيش 99% من أهلها عبيداً ورقيق أرض وفلاحين، ولا

يستطيع أحدهم أن يتنفس الهواء خارج إقطاعيته، وإن حاول ذلك كان عقابه الكي

بمياسم عريضة تطبع العبودية على جبينه مدى الحياة؛ تجد الناس في الشرق

الإسلامي يعيشون ويتنقلون أحراراً في أرض الله الواسعة من المحيط الهادي إلى

المحيط الأطلسي، ويتاجرون مع جنوب إفريقية والدول الإسكندنافية وربما مع جزر

الكاريبي!!

* أوروبا التي كان أفضل نموذج لوحداتها الإدارية هو حكومات «الكوميون»

في إيطاليا؛ تجد الشرق المسلم يعيش أرقى النظم الإدارية في ممالك تبلغ

مساحتها مساحة القمر!!

* أوروبا التي يحكمها الأباطرة حكماً استبدادياً مطلقاً، ويعتقد الرعايا فيها أن

القيصر من نسل الآلهة، وأن الله هو الذي أعطاه هذا الحق قدراً وشرعاً وأورثه

لسلالته المقدسة؛ تُفاجأ بالمسلمين وسلاطينهم من الترك تارة، ومن الكرد أخرى

ومن المماليك ثالثة، والكل بشر في نظر سائر البشر [6] .

* أوروبا الغارقة في الهمجية والوحشية التي تحرق المخالفين وهم أحياء،

وتتفنن في تعذيب المنشقين وإذلال المقهورين، ولا تعرف عهداً ولا ميثاقاً تبهرها

الأخلاق الإسلامية في الحرب والسلم سواء [7] .

* أوروبا التي ما كانت تحسب العالم إلا أوروبا، والتي تسمي الوصول إلى

شيء من أطراف الشرق اكتشافاً [8] [وظلت هكذا إلى القرن التاسع عشر] ؛

فوجئت بالمسلمين يجوبون الدنيا شرقاً وغرباً تجاراً ورحالة ودعاة بكل تواضع

وهدوء، لقد وصلوا إلى أجزاء من شمال أوروبا قبل أن تعرفها أوروبا نفسها، هذا

عدا العالم الشرقي الهائل السعة بالنسبة لها براً وبحراً [9] ، وما المساجد التي

اكتُشفت في جزر الكاريبي وصرخ كولمبس حين رآها: «يا إلهي!! حتى اليابان

فيها مساجد؟!!» إلا أحد الشواهد الثابتة لهذا.

* أوروبا التي كانت تتداوى بمركبات من الروث والبول وأشلاء الحشرات

الميتة؛ تُفاجأ بالعالم الإسلامي زاخراً بالمستشفيات والمعامل القائمة على منهج

التجربة والاستقراء مع الخبرة والحدس، في التشريح والتشخيص والجراحة

وتركيب الدواء، وكل ذلك مدون في موسوعات ضخمة ظلت المصدر الأول لنهضة

الطب الحديث ولا تزال رافداً متجدداً له [10] .

وإجمالاً: ولدت أوروبا ولادة جديدة، ووُجِد لديها لأول مرة في تاريخها

الشعور بأنها أمة واحدة تواجه عدواً أبدياً هو الإسلام، وكانت طفولتها في ذلك

العصر الذي سُمّي «عصر النهضة» أو «الانبعاث» الذي تعمّدت ألاَّ تجعله يبدأ

تاريخياً بمعرفة الدين الرباني واكتشاف حضارته العظمى، بل بلحظة الإبحار

العكسي إلى الجاهلية الإغريقية واكتشاف أرسطو.

إن ولادة أوروبا في ظل الحروب الصليبية وشعورها بذاتها من خلالها؛ هو

الذي يفسر تلك التناقضات الصارخة التي يعيشها الفكر الغربي متمثلة في هذه

المعادلات الصعبة:

* تعصب صليبي على الإسلام من بطرس الناسك إلى كلاوس [11] ، يوازيه

داخلياً تمرد كامل على دين الصليب.

* ازدراء مطلق للعصور الوسطى باعتبارها عصور إيمان، يوازيه تحيز

فاضح لها إذا قورنت بنظيرها التاريخي في الإسلام!!

* الحكم بالسذاجة والبدائية على الفكر الإغريقي باعتباره نقطة البداية في

مسيرة الحضارة الغربية، يوازيه الحكم عليه بالعظمة والإبداع بالنسبة للحضارة

الإسلامية.

ولقد صدق أحد المفكرين الغربيين حين قال في وصف هذه الحالة من

التناقض: «كانت أوروبا تعبد أرسطو وتلعنه في آنٍ واحدٍ!» ، وهو التناقض

الذي يدفع المسلمون ثمنه للحضارة الغربية إلى الآن. ولئن كانت كتب أرسطو

بمنزلة الكوّة الصغيرة التي نفذت منها أوروبا في انفلاتها من سجن الكنيسة المظلم؛

فإنها لم توصلها إلى بر الأمان بل إلى نفق الجاهلية الإغريقية التي لم تخرج منه إلا

إلى صحراء القلق والضياع التي يصطلي الإنسان الغربي المعاصر بلهيبها.

ومع أننا لا ننسى إطلاقاً مسؤولية الأمة الإسلامية في كل ما حدث ويحدث؛

فإننا سنتجاوز هذا لننظر نظرة مجردة: كيف أصبح الوليد عملاقاً مارداً؛ أي كيف

تشكَّلت أوروبا الحديثة؟

وللإجابة الإجمالية عن هذا نقول:

إن هناك اتفاقاً عاماً لدى مؤرخي الفكر الأوروبيين على أن النهضة

الأوروبية قامت على دعائم (أو حركات) ثلاث:

1 - النزعة الإنسانية «Humanism» وإحياء الآداب القديمة (أي

الانتكاس للجاهلية الإغريقية) .

2 - حركة الإصلاح الديني.

3 - النظرة التجريبية.

وفي كل هذه الحركات نجد الأثر الإسلامي ظاهراً، يوازي - إن لم يزد على -

الثورة العقلية الذاتية على خرافات الكنيسة والرغبة الفطرية في التحرر من ظلمها

واستبدادها. ومع هذا التوازي في الدوافع والأسباب استطاعت أوروبا بدهاء

شيطاني أن تحتفظ بأسبابها الذاتية وتمدها إلى نهايات بعيدة، أما الخط الآخر

فأسدلت عليه حجباً كثيفة من الإهمال والتناسي.

فالنزعة الإنسانية مدينة كلياً للحضارة الإسلامية، ولا ينحصر ذلك في الأثر

الأدبي (اقتباس أبرز ممثليها وهو دانتي من أبي العلاء وابن طفيل) ، بل يشمل

العصر كله، حتى إن الإمبراطور فردريك الثاني وهو أكبر أباطرة القرون الوسطى

بإطلاق، ويعتبر لدى بعض المفكرين أول المحدثين ورائد النهضة؛ كان يتكلم

العربية، وكان بلاطه عربي العلم واللسان، حتى إنه حينما قابل الملك الكامل

الأيوبي للصلح لم يحتج إلى مترجم، ولهذا اتهمته الكنيسة بالإسلام وسمته

«الزنديق الأعظم» !! [12] .

أما حركة الإصلاح الديني فلم تولد مع «لوثر» و «كالفن» ، بل لها

جذور عميقة الصلة بالإسلام لا يستطيع أي باحث أوروبي أن يُغفلها مهما قلل من

شأنها، ومنها «حركة تحطيم الصور والتماثيل» التي اجتاحت الإمبراطورية

البيزنطية في أوائل القرن الثامن الميلادي أي بعد قرن تقريباً من ظهور الإسلام،

وممن آمن بذلك وأصدر مرسوماً عاماً به الإمبراطور «ليو الثالث» [13] .

صحيح أن التوراة حرَّمت ذلك [14] ، ولكن الكنيسة أحلته فيما حرَّفت من

شريعة الله ووصاياه، وكل ما فعلته تحويل الناس من تصوير العظماء الدنيويين إلى

تصوير المسيح وأمه والقديسين عندها.

أما التجريب الذي تُعزى إليه نهضة أوروبا العلمية عامة؛ فإن باعثه

الظاهري هو التساؤل العقلي الذي افترقت عليه الفلسفة القديمة، وهو: أيهما أصدق:

الفكر المجرد أم التجربة الحسية؟ ولم يكن صعود «جاليليو» إلى البرج وإسقاط

جسمين متماثلين في الوزن إلا تدليلاً على بطلان قول «أرسطو» في ذلك [15] .

ومن هنا فإن الفكر الإسلامي (السنّي خاصة) الذي رفض أرسطو رفضاً

مطلقاً، ودعا وفقاً لصريح القرآن إلى نبذ تقليد السالفين، والتأمل في ملكوت

السماوات والأرض، والنظر في آيات الله الآفاقية والنفسية؛ هو أصل تقدم

الإنسانية الحالي كلها، وما فعله «جاليليو» بالنسبة لحركة الأجرام السماوية ما هو

إلا جزء من الأثر السنّي الذي شمل العالم، وصرع المنطق الصوري الإغريقي في

الشرق قبل أن تتخلص أوروبا منه بعدة قرون [16] .

وعلى أية حال انطلقت أوروبا في نهضتها بعيداً عن الدين، وسوف نتتبع

خط سيرها مقتصرين على الجانب المقصود خاصة، وهو «الأدب والفن» الذي

تنعكس على صفحات محيطه المتماوج الأوجه المتعاورة لأوروبا في مراحلها

التاريخية المتتالية:

كان جمود الآداب جزءاً من الجمود المطلق في ظل الكنيسة، حيث كان العلم

(وبالأصح معرفة القراءة والكتابة) منحصراً في رجال الدين، وأسوأ من ذلك أنه

كان بلغة ميتة «اللاتينية» ، وهي لغة معقدة الأسلوب والقواعد؛ في حين كانت

أوروبا تتكلم لهجات كثيرة متباينة.

أما المعايير الفنية للأدب والبلاغة والشعر والمسرح فكلها مصفَّدة بآراء

أرسطو ونظرياته، وغاية العبقرية والإبداع والتجديد أن يستنبط الأديب أو الناقد من

كلام أرسطو شيئاً أو يفرّع عليه آخر، أما الخروج عليه فهو المحال!

فالملحمة (وهي التي ينعى الأوروبيون على أدبنا العربي خلوّه منها) ظلت

خلال القرون الوسطى والعصر الحديث محكومة بتلك القواعد المتزمتة والتقاليد

الثابتة، ومنها ضرورة الاستهلال بالتضرع إلى ربات الشعر مثل «كليوبي» ،

فالشاعر الإغريقي هو «ميروس» يتضرع إليها في ملحمته، وكذا تضرع صنوه

«هزيود» ، وعلى أثرهما نجد «دانتي» المسيحي يتضرع إلى «أبولو» (إله

الشعر) في الكوميديا، وكذلك تضرع «ميلتون» إلى «أورانيا» (ربة علم

الفلك) في ملحمته «الفردوس المفقود» !! تعالى الله عما يشركون.

وفي الشعر نجد التقيد المطلق بما ورَّثه القدماء في المضمون والشكل، ومن

ذلك الالتزام بالمقاطع وعدد الأبيات في كل مقطع وعدد التفعيلات أيضاً. أما النقد

فكان ما قرره أرسطو هو المعيار الدقيق، وكانت المحاكمات الأدبية تتخذ كلامه

دستوراً.

وهكذا لم تكن الكلاسيكية إلا تعبيراً واضحاً عن اعتقاد أوروبا الكمال المطلق

لعمالقة الفكر الإغريقي وعلى رأسهم أرسطو.

والمهم أن أوروبا النصرانية قدَّست اللاتينية تقديسها للنص الديني نفسه،

وقدَّست معايير أرسطو الفنية تقديسها لعلم الكلام الكنسي المنقول عن الفكر

الإغريقي.

ومن هنا كانت الحركة الأدبية المتحررة موصومة منذ البداية بالإلحاد

والزندقة، وكان لا بد لدعاتها من التسلح بقدر كبير من المغامرة والجرأة.

إنه ليس تحرراً من القيود الأدبية ولكنه تحرر من القبضة الكنسية الجائرة.

وكانت الزحزحة الأولى، حيث ظهر حدثان أدبيان كبيران:

أولهما: «الكوميديا الإلهية» للشاعر الإيطالي دانتي 1321م أبرز رواد

عصر النهضة (معه: بتراك، دافينشي، تشوسر، مايكل أنجلو) ، وبذلك سجلت

أوروبا كما يقول برتراند رسل: «وثيقة التحرر الأولى» !!

أما وثيقة التحرر الأخرى: وهي أعظم من الأولى فكانت على يد المصلح

الكنسي «مارتن لوثر» ، ذلك المتدين الثائر الذي هاله ما رأى من فظائع البابوية،

فكتب وثيقة الاحتجاج المشهورة سنة 1517م وجعلها خمسة وتسعين بنداً، وعلقها

على مدخل كنيسة ويتنبرج، وليست هذه هي وثيقة التحرر التي نريد هنا ولكنها

انبثقت منها، فقد ترجم لوثر الإنجيل إلى اللغة (اللهجة) الألمانية الدارجة، وكانت

أوروبا قد عرفت المطبعة لأول مرة على يد جوتنبرج الألماني، فكانت طباعة

الإنجيل مترجماً بلغة غير اللاتينية هي الوثيقة الأدبية الأم، وإن شئت فقل هي

(البيان الحداثي الأول) [17] ، إلا أن أحداً من الناس حينئذ لم يطلق على هذا اسم

الحداثة «موديرنزم» بمصطلحها الأدبي؛ ذلك أن الخلاف بين لوثر والكنيسة

أكبر من أن يكون في الأدب أو اللغة.

وظهر بعد اللوثرية مذاهب وألوان دينية جديدة ولا سيما في القرن السابع

عشر، وكان من أهم أسباب ظهورها انتشار الإنجيل بلغات حية كثيرة، فدخل

الجميع من الباب الذي فتحه لوثر، ومنها (الكالفينية = كالفن) (الجزويت =

إجناثيوس) (الكويكرز = جورج فوكس) (الويزلية = جون ويزلي) ، ومع أنها

اتجهت كلها تقريباً لمحاربة الكنيسة الكاثوليكية أو مخالفتها؛ فقد برزت في المقابل

محاولات لإعادة الوحدة الدينية إلى أوروبا.

ولكن حدث في المرحلة التالية من الدواهي ما أذهل الكنائس جميعها وأنساها

شيئاً من الخلافات فيما بينها، وإن شئت فقل غمرها إلى حين.

ونعني بذلك التحولات الكبرى في الحياة الأوروبية التي يسمونها جميعاً

ثورات وأهمها:

1- الثورة العلمية.

2- الثورة الفرنسية.

3- الثورة الصناعية.

ويهمنا الآن الحديث عن الأولى منها:

لقد كان العلم (وتدقيقاً: العلم + موقف الكنيسة الأحمق من العلماء) يمثل

الثورة الكبرى التي نسفت خرافات الكنيسة، وأطاحت بعرشها، وقوضت وجودها

الطاغي إلى الأبد (كما نسفت في الوقت نفسه أرسطو ونظرياته في العلم والفن

والحياة) .

وقد صدرت بيانات هذه الثورة تباعاً:

- نظرية كوبرنيق عن الأجرام السماوية 1540م.

- تطوير النظرية على يد تيكو براهي 1575م.

- نظرية جاليليو في الحركة وصنع المرقب 1597م.

- قوانين كبلر الثلاثة 1620م.

- نظرية الجاذبية وقوانين الحركة لنيوتن 1687م.

- أول نظرية كونية وضعها لابلاس 1780م.

وصاحب ذلك متأثراً به نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية قدمت بيانات

مساندة للثورة:

1- المكيافيللية في السياسة: مكيافيللي يؤلف (الأمير) سنة 1513م.

2- ظهور الفلسفة الحديثة على يد ديكارت 1650م.

3 - النظرية الطبيعية للدولة والمجتمع «التنين» هوبز 1679م.

4 - سبينوزا 1677م يؤسس مدرسة النقد التاريخي للكتب النصرانية المقدسة

[18] ، ويجاهر بنبذ النصرانية في السياسة والأخلاق، والاعتقاد بوحدة الوجود.

5 - تطوير نظرية هوبز وفلسفة ديكارت على يد لوك 1704م.

6 - فيكو 1744م ينادي بإحلال الوضع الإنساني محل الوحي الإلهي.

7 - آراء جديدة في المنطق: باركلي 1753م.

8 - رفض النصرانية، والإيمان بالشك المطلق: هيوم 1776م.

9 - ولادة النظرية الرأسمالية في كتاب «ثروة الأمم» : آدم سمث 1776م.

10 - نظرية العقد الاجتماعي، وتقديس العاطفة لا العقل: روسو 1778م.

11 - فولتير 1784م يجاهر بالكفر بالأديان، ويطالب بمجتمع علماني.

12 - ديدرو 1784م والموسوعيون الفرنسيون يضعون دائرة المعارف

لتكون بديلاً عن الكتاب المقدس (كُتبت بين عامي 1751 - 1777م) .

وهكذا نكون قد اقتربنا من الثورة الثانية التي هي نتيجة لهذه الأولى:

ففي سنة 1789م حدثت الثورة الفرنسية فأضحت معلماً فاصلاً لا في تاريخ

الفكر والأدب فحسب بل في التاريخ عامة.

ومنذ عصر النهضة حتى ظهور الثورة الفرنسية كانت «الكلاسيكية» هي

السائدة على الأدب الأوروبي.

وقيمة الأدب الكلاسيكي تتمثل في مضمونه الأخلاقي، والتزامه المدرسي،

وحديثه الدائم عما ينبغي أن تكون عليه الحياة، فالنهايات الكلاسيكية (في المسرحية

والملحمة سواء) تأتي دائماً انتصاراً للحق والفضيلة.

إنه دعوة إلى الحكمة العملية لكنها لا تخاطب الناس باسم الدين ضرورة، كما

أنه كان في جوانب منه لا يهدف إلى أكثر من إعطاء أكبر قدر من المتعة للقارئ

ولو كانت متعة لغوية تقوم على أنواع المحسنات اللفظية، وإثبات القدرة على

الحذلقة، وكان المسرح من احتكار الطبقة الأرستقراطية (الملوك والنبلاء) ، تفوح

منه روائح العهر والفحش والإباحية وغمزات دائمة للدين ورجاله.

ونتيجة التغيرات الطارئة، وجرياً على سنة التذبذب في التاريخ الأوروبي؛

تحول الأدب الأوروبي من الكلاسيكية إلى نقيضها «الرومانسية» :

والرومانسية هي ارتداد صوفي، ولكن موضوعه ليس الرب كما في رهبانية

النصارى بل «الطبيعة» ، وهي لا تهدف إلى التوجيه العقلي للناس عن طريق

حكمة القدماء، بل إلى الإشباع العاطفي الذي يجعل الذات محور العالم.

إنها مزيج من اليأس الرهباني والهروب من الواقع الذي كلما تقدمت المعرفة

العقلية أظهرت أنه أكثر قتامة وكآبة.

وهكذا كان محورها الدائم هو البؤس، البؤس الديني كما في (الفردوس

المفقود) [19] ، أو البؤس الأخلاقي كما في (البؤساء) [20] ، أو البؤس العاطفي

والنفسي الذي عبَّر عنه «روسو» !!

فلئن كان الأوروبيون قبل اعتناق النصرانية يعبدون الحجارة والأشجار

والحيوان والكواكب؛ فإن الرومانسية الهاربة من النصرانية قد جمعت هذه الأوثان

جميعاً في صنم واحد سمَّته «الطبيعة» ، وجعلت محل التراتيل الكنسية تلك

الأشعار الوجدانية التي تتعشق المعبود الجديد، كما فعل رمزها الكبير روسو في

(راهب سافوي) .

حقاً وجد الفكر الأوروبي في الرومانسية راحة من الكد المنطقي الذي أرهق

مفكري عصر النهضة وما بعدها؛ نتيجة البحث العقيم في الكليات والماهيات

والعلاقة بين العقل والمادة، والتطلع اليائس إلى معرفة كنه الأشياء منطقياً،

واستطلاع الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) !!

كما وجدوا فيها مهرباً من الالتزام بالمعايير الخُلُقية عامة، واستطاعوا إحلال

المعايير الجمالية المجردة محلها.

كما كانت الرومانسية ملاذاً لأولئك النفر الذين أزعجتهم الحروب القومية

والدينية التي لم تهدأ قط [21] ، حيث فتحت لهم مجال تعويض الذات القانطة

المغتربة في صراع ليس له ما يسوِّغه عندها، كما فعل «همنغواي» في (وداعاً

أيها السلاح) بعد حوالي قرنين.

ثم كان القرن التاسع عشر هو قرن التغيرات الكبرى في كل مجالات الحياة

الأوروبية:

* الثورة الصناعية تعم أرجاء القارة حاملة الكوارث الاجتماعية مع التقدم

المادي الكبير.

* الرأسمالية بوجهها الكالح تسيطر على أوروبا، وتحفز الأوروبيين للتنافس

الضاري على خيرات العالم كلها؛ حيث كان العصر الذهبي للتوسع الاستعماري

والاحتكار التجاري.

* الثورات السياسية تجتاح القارة مزلزلة بقايا الإقطاع والأنظمة الملكية.

* الفلسفة المثالية تسود القارة (وخاصة ألمانيا) ؛ والمذهب النفعي يسيطر

على إنجلترا.

* خريطة أوروبا تشهد تغيرات مفاجئة متلاحقة (إمبراطوريات تسقط،

ولايات تصبح إمبراطوريات، دول تنكمش وأخرى تختفي..) [22] .

* التعصب القومي يبلغ ذروته (جذور الفاشية، جذور النازية، الحركة

الصهيونية) .

* ظهور الحركات المتطرفة (الماركسية، العدمية، الفوضوية) .

ولعل أكبر الأحداث الفكرية في أول القرن هو ظهور الفلسفة الوضعية التي

نادى بها «كونت» 1857م ديناً جديداً للإنسانية.

ثم تلاها البركان الذي تجاوبت أصداؤه في أنحاء القارة كلها، وأحدث انقلاباً

عاماً في الأفكار والآراء والمعتقدات التي توارثتها أوروبا بل الإنسانية قروناً طويلة،

وهو البركان الذي فجره «داروين» في كتابه «أصل الأنواع» المشتمل على

نظرية التطور العضوي والانتقاء الطبيعي.

وقد وصلت سيول الحمم التي قذفها البركان إلى أرجاء المعمورة كافة؛ نتيجة

جهود عظيمة قام بها أناس متعددو الاتجاهات لكنهم متفقو الدوافع على ما يبدو،

ومن أبرزهم اليهود الثلاثة «ماركس، فرويد، دوركايم» [23] ، وتبعهم بالطبع

جموع هائلة من المغررين (أو المسيّرين!) في كل مكان.

هذا الحدث المذهل أثار حفيظة دعاة القديم وبالأخص رجال الكنيسة،

فاستجمعوا قواهم، واستنجدوا بكل حميم، وخاضوا معركة كان فيها حتفهم،

وانقشع الغبار عن سقوط آخر قلاع الكنيسة وخروجها كلياً عن ميدان الصراع

الفكري العام واندحار الدعاة الأخلاقيين ودعاة الالتزام عامة، ولم يبق لهم إلا شراذم

في (حزام الإنجيل) [24] وشبهه.

وهكذا كان الغرور الهائل الذي أوحت به النظرية، والثقة في التقدم المطلق

في كل المجالات الذي أسهمت فيه الاكتشافات العلمية المذهلة حينئذٍ، وكانت نهاية

المطاف ظهور النظرية النسبية في أوائل القرن العشرين (1905م) .

ونتج عن ذلك تنكر مخيف للماضي بكل ما فيه، وقطع متعمد للأواصر

الرابطة به، وثورة شاملة على الأخلاق والتقاليد لم يسبق لها نظير من قبل.

في هذا الجو المحموم تأرجح الأدب واستقر في اتجاه مضاد هو «الواقعية» :

والواقعية تعني أوضح ما تعني السقوط: السقوط من خيال الرومانسية إلى

أرض الواقع، فالمحور ليس الشاعر بل العامل والفلاح والموظف الصغير.

والنزول من برج اللغة المعقدة المتأنقة إلى احتضان اللهجات المبتذلة.

والصراحة في عرض ما يدور في النفس الإنسانية بلا مواربة، فالحبيبة هنا

ليست ملاكاً تحوم حوله الأشواق المثالية، بل هي جسد تظمأ له رغبات الجوارح.

القضايا الكلية ليست ما يتعلق بحقيقة الوجود وغاية الإنسان فيه وإنما هي

الهدف اليومي للفرد العادي.

وعلى المستوى العام بقيت في أوروبا إلى مطلع القرن العشرين بقايا من

الأوضاع الاجتماعية الموروثة، وشيء من القيم الشاحبة (الأسرة، الرابطة القومية،

احترام ظاهري للعهود والمواثيق، نوع من الالتزام بالمبادئ الأخلاقية) ، وهذه

البقايا عصفت بها الرياح الهوجاء التي حملت دخان الحرب العالمية الأولى إلى

أرجاء القارة ومنها إلى أطراف العالم الأخرى.

وأسفرت تلك الحرب مما أسفرت عنه عن انكسار حاد في نظرة الإنسانية إلى

مصيرها، وانقلبت الثقة والتفاؤل خيبة وتشاؤماً، وأفاق الإنسان الأوروبي المخدر

بنشوة التقدّم المطلق على المدافع وهي تدمر مع القلاع والمدن أحلامه بيوتيبيا [25]

علمية إنسانية، لقد كان فصلاً جديداً من مسرحية التاريخ الأوروبي، حيث اختفى

مشهد «بروميثوس» وظهر مشهد «سيزيف» [26] .

في هذا الوضع الخانق تنادت الأصوات للعودة إلى شيء من المسلّمات الثابتة

والالتزامات الإنسانية، وظهرت نقاط «ويلسون» الأربع عشرة، ثم الالتفاف

حول شبح عصبة الأمم.

وكانت فترة ما بين الحربين من أعظم الأحقاب في التاريخ الأوروبي هيجاناً

وصراعاً ولا سيما في الميدان الفكري، حيث تضاربت الدعاوى والاتجاهات،

وظهرت مذاهب جديدة في كل فن، ومعايير جديدة في كل علم، ومجموعات

اجتماعية غريبة.

وفي ظل هذا الهيجان نمت ظاهرة الشعر الإنجليزي الحر، وتألق «إليوت»

[27] أبرز شعراء الحداثة، أما الشعر الفرنسي الحر فقد ظهر قبل ذلك بكثير.

وفي الجانب الآخر؛ قفز العلم التجريبي قفزات هائلة كان من أعظمها ما

سُمّي اكتشاف الذرة سنة 1938م.

وتدور السنون ولم يدرك أكثر الناس مغزى هذا الاكتشاف حتى انفجرت

أعنف حروب التاريخ وأشدها هولاً (الحرب العالمية الثانية) ، هناك ذهلت أوروبا

بجحافل هتلر وهي تدك باريس، وقذائفه وهي تغطي سماء لندن، وكتائبه وهي

تسحق لينينجراد، ولكن الذهول الأكبر كان ساعة الانتصار حيث سقطت القنبلة

الذرية على هيروشيما [28] ، وكان إعلان انتصار الحلفاء يعني في الوقت نفسه

إعلان وقوف الإنسانية على حافة الهاوية الكبرى.

وفي هذه الأجواء الخانقة والمشاهد الفظيعة ظهرت ألوان من الآراء والمذاهب

أكثر قتامة وعبوساً، وأكثر شعوراً بتفاهة الحياة وعبثها:

لقد انهارت الآمال الكبرى في التقدم والثقة في عقل الإنسان!!

أما الآلة التي أراحت الإنسان من عناء العمل اليدوي المرهق؛ فقد أصبحت

صنماً يسحق إنسانية الإنسان، بل معبوداً جباراً ينتقم من الجنس الإنساني بوحشية

لا نظير لها في التاريخ كله!!

لم تعد المأساة تتمثل في «أرض يباب» فحسب بل أصبحت «طاعوناً»

[29] ، واتسعت دائرة البلاء بواسطة وسائل الاتصال المتقدمة والتدفق المسيطر

للمعلومات، ليصبح الإنسان في جزر الهند السحيقة وحوض الأمازون وأحراش

إفريقية يعيش مأساة الوجود الحائر والمستقبل المعتم، ويرى هذا الشبح الرهيب

معلقاً فوق رأسه.

أما داخل أوروبا نفسها فقد أصبح الفرد العادي يحمل الهموم الكبرى التي ما

كان يكابدها في عصور خلت، إلا قلة من الفلاسفة التشاؤميين أمثال «شبنجلر

وأرويل» ، ويعيش الأزمة الخانقة التي ذهبت بعقل نيتشه، ودمرت نفسية

شوبنهاور، وألجأت تولستوي إلى المنفى. حتى المسرح الذي كان وسيلة الناس

للهروب من الواقع الكالح إلى ميادين من المتعة واللهو وإشغال الوقت تحول (ومعه

السينما) إلى مسرح عبث ووجودية وفوضوية وعدمية.... إلخ.

لم يعد أحد يتحدث عن «طرطوف» بل عن «دماء الخنازير» وأمثالها

[30] .

إنها بأصرح عبارة: مأساة أمة لم تُسلم وجهها إلى الله، ولم تعرف الله

بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.

إن الذنوب والمعاصي تدمر الأمة وتُنزل بها من موجبات العقوبة ما لا يعلمه

إلا الله، فكيف بالإلحاد الصريح المتدفق موجات إثر موجات في ذلك المحيط الهائج

المضطرب.

ومع اتساع الهوة بين الواقع المعاصر بيأسه وقنوطه ومعضلاته المستعصية

وبين النظريات الوضعية الشمولي منها والنسبي ظهر جلياً عقم الفلسفة، وارتدت

في كرَّة خاسرة يصدق عليها قول أحد كبارها: «إنها ثرثرة تهدف إلى التخلص

من الثرثرة» ، وتسرب فراغ المضمون هذا إلى الملجأ الهش الذي هرب إليه

فلاسفة اللامعقول وهو «الأدب» ، وكان الدخول من باب «النقد» الذي باسمه

تحولت اللغة إلى موضوع رئيس لجدل فلسفي عقيم، وكان استدراج فروع الأدب

كافة إلى هذا المستنقع متلاحقاً وسريعاً، ولعل أوضح الأدلة على ذلك انسياق

الماركسية له رغم شموليتها المغالية واعتسافها المطلق للأدب في إطار «الواقعية

الاشتراكية» التي لا تزيد عن كونها نموذجاً مدرسياً معاصراً كما عبّر جارودي.

وهكذا تحول الاهتمام (وبخاصة في فرنسا) عن موضوع «الأنا والعالم،

والوجود، والمادة، والعقل ... » إلخ، إلى «النص، الشكل، التركيب، البنية،

الرمز، الأسطورة ... » إلخ، كما تحولت الأفكار من المعارك التقليدية بين

الفلسفات المنهجية كالحال بين الماركسية والوجودية إلى ضروب جديدة متنافرة من

التقلبات الفكرية والجدل غير ذي الموضوع، وهو ما شهده العقد السادس الميلادي

الذي يمكن أن يُوصف بأنه «عقد البنيوية» !!

ففي الستينيات برزت البنيوية، منافساً للوجودية من جهة، وتطويراً للمادية

الجدلية من جهة أخرى، وتغلغلت في كثير من العلوم حتى ظهر منافسها

«التفكيكية» في السبعينيات.

واختلفت آراء البنيويين في البنيوية؛ وذهب بها كل منهم مذهبه، وحدثت

نتيجة لذلك فوضى فكرية ما تزال تغمر الفكر الغربي، وقد جلبها اليسار العربي

ومؤسساته، وبعض الاتجاهات الوجودية الملفقة إلى العالم العربي، حتى اكتظت

بها الملاحق الأدبية في الجرائد اليومية فضلاً عما عداها، هذا في حين أن الزمن قد

عفى عليها في بلادها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015