الافتتاحية
الحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن المتأمل في قصة الفتاتين المسلمتين الفرنسيتين اللتين منعتا من الدراسة
لالتزامهما بالحجاب وكانتا حديث الساعة ومحل اهتمام وسائل الإعلام بدعوى أن
حجابهما يخالف ما تدين به الدولة الفرنسية من علمانية يلزم معها أن يتساوى الجميع
في المظهر حتى يتسنى الاندماج في المجتمع الفرنسي يجد الكثير من التناقض؛
فمنذ كلف الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) لجنة مختارة بعناية برئاسة
(برنارستاري) وهو سياسي ليبرالي فرنسي مشهور، وبعد عمل استمر
3 أشهر وعقد 120 جلسة انتهت اللجنة إلى قرار يمنع ارتداء الحجاب للمسلمات،
والقلنسوة اليهودية، و (الصليب الكبير) على حين يسمح بتعليق الصليب إن كان
صغيراً، وهو ما يشير إلى سقوط الديمقراطية الفرنسية في قرار أبعد ما يكون عن
العدالة والمساواة والإنصاف، وقدم التقرير للرئيس الفرنسي في 11/12/2003م
ووافق عليه. وقال رئيس اللجنة بعد يوم من تقديم التقرير: إن فرنسا لن
تتسامح مع المعارضين الذين يسعون إلى تقويض قيم الجمهورية الفرنسية وعلى
رأسها مبدأ العلمانية.
والواضح لكل ذي عينين أن هذا القرار موجه في الأساس ضد المسلمات،
ويأتي منع شعارات الدينين الآخرين ذراً للرماد في العيون؛ لأن القلنسوة والصليب
وإن كانا شعارين يعلنان عن هوية كل مستخدم لهما، وأنه ينتمي لدين معين؛ إلا
أن الحجاب ليس شعاراً، بل هو تشريع رباني جاء في الكتاب والسنة، بل كان
تشريعاً في الديانات السابقة قبل الإسلام.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل أصبح حجاب الفتاة المسلمة من الخطورة
بحيث يشكل خطراً على العلمانية الفرنسية، ويهدد ذلك الحجاب بانتهاك القوانين
الفرنسية؟ .. نعتقد أن ذلك مبالغة في التوصيف، وتطرف في تصوير الهلع
والخوف من مظاهر الإسلام. ثم كيف نصدق أن العلمانية الفرنسية العريقة التي
تضمن حق مواطنيها بالدين الذي يعتنقونه، وبالحريات الشخصية التي يرونها في
حياتهم كيف نصدق إعلانها سقوطها على رؤوس الأشهاد؟
ونحن نعتقد أن ذلك مظهر من مظاهر العقدة الجديدة التي أشاعها الإعلام
الغربي وأسماها (الإسلام فوبيا) أو بمعنى أوضح (عقدة الخوف من الإسلام)
وهذه العقدة لم تأت من فراغ، وإنما لها أسباب عديدة نؤجل بيانها مؤقتاً، ونوضح
لكل منصف أن هذا القرار وُوجه برفض من كثير من المسؤولين حتى الفرنسيين؛
فهذا وزير الداخلية الفرنسي (نيكولاس ساركوزي) يعارض ذلك القرار ويقول بأن
حظر المختلف عليه في فرنسا يمثل (نوعاً من الأصولية العلمانية) . وتقول النائبة
الفرنسية المحافظة (كريستين بواتين) إنه كان يجب تهميش الموضوع بدلاً من
التركيز عليه وتحويله إلى أزمة. كما رفض ذلك كل من (الحزب الشيوعي)
و (حزب الخضر) والجهات الدينية بفرنسا.
ومن جانب آخر قال مسؤول الحريات الدينية في الخارجية الأمريكية (جون
هانفورد) إن حظر المظاهر الدينية في فرنسا يشكل مصدر قلق مهم لأمريكا ونتابعه.
وقالت وزيرة الدولة البريطانية (فيونا ماكتاجارت) في نقد غير مباشر لفرنسا:
(لقد نجحنا في أن نجد ضمن ثقافتنا سبيلاً لإحياء التنوع بعيداً عن الجدل.. إلى أن
قالت: إن بوسع المرأة أن ترتدي الحجاب من دون أي مشكله في الأماكن العامة أو
في المدرسة) .
انظر (صحيفة المدينة الصادرة في 26/10/1424هـ) . فهذا القانون الذي
كان محل استغراب الكثيرين لماذا لم يفكر فيه إلا مؤخراً؟ فالمسلمون في فرنسا
يُعتَبَرون أكبر الجاليات المسلمة في الغرب؛ حيث يشكلون خمس ملايين نسمة أي
بنسبة 7% من السكان، والأسباب التي يسوِّغ بها المسؤولون الفرنسيون تمرير هذا
القرار ساقطة وبخاصة العمل على دمج الوافدين والمتجنسين بالجنسية الفرنسية مع
الشعب الفرنسي؛ فهذا التوجه الذي يعمل على إشراك المسلمين في أوروبا بعامة
أخفق إخفاقاً ذريعاً كما بينت ذلك دراسة أجريت على خمس مدن أوروبية متفرقة
تتميز بوجود كثافة سكانية من المسلمين؛ حيث تم التوصل إلى نتائج هامة تبين من
خلالها تهميش المسلمين مع وجود الأحكام المسبقة والخصومة ضدهم، وهذا سائد في
كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وقد قادت هذه التفرقة ضدهم إلى إقصائهم
عن النشاطات الاقتصادية والاجتماعية [1] .
أما زعم أن حجاب المسلمات يفرض عليهن من أهليهن وبدون رغبتهن
وبإملاء من الجماعات الإسلامية: فهذه دعوى بلا دليل؛ وإنما يكون حجابهن عن
قناعة؛ فهو طاعة لله تعالى، وابتغاء رضوانه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى
فإن الواقعة محل البحث للفتاتين المسلمتين المشار إليهما سابقاً هي أكبر دليل على
كذب هذه الدعوى؛ فالفتاتان اللتان ثارت المشكلة لأجلهما أبوهما يهودي ملحد،
وأمهما نصرانية كاثوليكية؛ فكيف يقال إنهما مأمورتان من والديهما؟ بل هذه وجهة
نظرهما وقناعتهما ليس إلا.
أما دعوى أن المجتمع الفرنسي علماني ومنع الحجاب هو منع لكل علامة
دينية للجميع، فنقول بأن الحجاب ليس شعاراً بل هو شعيرة أمر بها الدين وحث
عليها، وهذا خيارهما الذي تدينان به. ألم تضمن العلمانية حقهما في الدين وحقهما
في الخيار الشخصي فضلاً عن عوار القرار الذي وضحناه آنفاً؟
ونعود لبيان الأسباب الدافعه للحكومة الفرنسية على فرض ذلك القرار
المغرض، ونعتقد أنه يرجع لما يلي:
- ما يوجد في فرنسا من تيارات فاعله تكره الإسلام وكل ما يذكر به سواء
من المستشرقين أمثال (مكسيم رودنسون) الذي يقول إن الإسلام دين غريب
ومخيف يرهب العالم والحداثة. وللإعلام الفرنسي دور فاعل في مهاجمة الإسلام
والتخويف منه.
- ومن ذلك ما نشرته (صحيفة لوفيجارو) عما تسميه (الخطر الإسلامي)
على المجتع الفرنسي عن تقرير تم تسريبه من المخابرات الفرنسية يحذر من انتشار
الإسلام بفرنسا؛ حيث يُسْلِمُ ما بين 20 ألف إلى خمسين ألف نسمة كل عام، وفي
هذا مبالغة واضحة لها آثارها في مجتمع كاثوليكي كالمجتمع الفرنسي.
- وهناك (التيار الوطني المتطرف) بزعامة (لوپوان) الذي يلعب على
أوتار المشاعر القومية العنصرية ودائماً ما يطالب بطرد العرب والمسلمين من
فرنسا. ومما يؤكد هذه العنصرية بشكل جلي ما قامت به الصحفية الفرنسية
(كارولين فونتان) من تحقيق صحفي بنفسها عن موقف الفعاليات الفرنسية من
الحجاب؛ حيث لبسته بدعوى أنها مسلمة فرنسية محجبة تبحث عن عمل، وزارت
العديد من المؤسسات والأحزاب ونشرت تقريرها في (الباري ماتش) ، وكيف أنها
جوبهت بالرفض والطرد الذي تراوح بين الاعتذار الدبلوماسي والرفض الصريح.
(التجديد في 8/10/1424هـ) .
كما أن هناك رأياً قوياً يقول بأن بعض الدول العربية والإسلامية المعروفة
بعلمانيتها المتطرفة تطالب بعض الدول الغربية مثل فرنسا بأهمية إعلان منع
المظاهر الإسلامية للمسلمين ومنها حجاب المسلمات وهذا ليس مستبعداً.
- والحقيقة التي قد تغيب عن الجميع لمعرفة دوافع هذا الموقف الفرنسي
الغريب من حجاب الفتيات المسلمات هو ما أعلنته الكاتبة الفرنسية (صوفي بسيس)
في كتابها (الغرب والآخرون: تاريخ من الهيمنة) حيث قالت بكل صراحة: إن
الغرب الحديث ولد في عصر النهضة مؤسساً ذاته على رفض كل ما ليس أوروبياً
أو نصرانياً.
هذه هي الحقيقة التي غابت عن أحد العلماء في اجتهاد غير موفق حينما أعلن
بأن من حق فرنسا منع حجاب المسلمات؛ لأنه شأن داخلي، وكنا نود من فضيلته
- عفا الله عنا وعنه - رفض الموقف الفرنسي نحو الحجاب الإسلامي وتذكيرهم
بعلمانيتهم وديمقراطيتهم التي تكفل حق الدين وحق الرأي ولا سيما أن هناك دولاً
غربية رفضت وانتقدت تلك الخطوة الفرنسية، واعتبرت ذلك مخالفة للديمقراطية
والعلمانية.
وأخيراً: يحق لنا أن نتساءل: حتى متى يُشَرَّد المسلمون من بلدانهم
فيضطرون للهرب من الكبت والاستبداد والإقصاء القائم في كثير الدول التي نحَّت
شريعة الله، فطردت الآلاف من المسلمين الملتزمين بدينهم أو المنتمين لبعض
التيارات الإسلامية، فنتجت مثل تلك المشكلات؛ فمتى تعود الطيور إلى أعشاشها
آمنة مطمئنة؟ ومتى ينال هؤلاء المطارَدون حقوقهم الشرعية بالأمن في أوطانهم؟
بل متى ينالون حقوقهم النظامية فيما يسمى بحقوق الإنسان والتي يطالب الغرب بها
كثيراً من الدول العربية والإسلامية؟ بل إن الغرب يساوم تلك الدول على تطبيق
تلك الحقوق. ويحق لنا أن نستغرب الأمر مع الشاعر شوقي:
حرامٌ على بلابله الدوحُ ... حلالٌ للطير من كل جنسِ!
وحسبنا الله، ونعم الوكيل