مجله البيان (صفحة 48)

أدب وتاريخ

مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي

(?)

محمد الناصر

ملخص ما سبق نشره:

في الحلقة السابقة عرض لنا الكاتب طرفاً من حياة العرب في الجاهلية، من

خلال استعراض شعرهم الذي حفل بدقيق حياتهم وجليلها، فذكر المصنفات من

القصائد ومشاركة الهجاء والرثاء في إذكاء نيران الحروب المشبوبة، وكذلك ما

حفل به الشعر الجاهلي من وصف تفصيلي لطرق القتال وأدواته كالسيوف والرماح

والخيل، وهو غالب أغراض شعر الشعراء الفرسان، وفي هذا الجو كانت تكثر الأسرى والسبايا، وكذلك وجد من الشعراء من يغلب عليه جانب الحكمة والأناة،

فيضمن شعره الدعوة إلى نبذ الحروب ووصفها الوصف الذي ينفر الناس منها

ويجعلهم يطيلون التفكير قبل خوض غمارها.

4 - الأحلاف:

وفي هذه البيئة الحربية التي كان يشيع فيها الفزع والهول، ويعم

فيها الاضطراب، كان الفرد يبحث عن الأمن في ظل القبيلة، وكانت هذه القبيلة تلجأ إلى التحالف مع القبائل الأخرى، إذ تنضم العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة لتحميها وترد عنها العدوان.

وربما آثرت القبيلة بدافع المصلحة أو الجوار أو الضعف هذا الحلف، بمجرد

أن تدخل القبيلة في حلف يصبح لها على أحلافها كل الحقوق فهم ينصرونها على

أعدائها، ويردون كيدهم عنها، وكثيراً ما كنا نجد أحلافاً تضعف لتحل محلها

أحلاف أخرى، وقبائل قليلة لم تدخل في أحلاف لقوتها وسميت لذلك باسم جمرات

العرب، منها: بنو عامر بن صعصعة، وبنو الحارث بن كعب، وبنو ضبة،

وبنو عبس، فإذا تحالفت أطفئت [1] .

وكانت هذه القبائل تتفاخر بنفسها لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها لقوتها

وكثرة عددها.

وكانت بعض القبائل تشرك مواليها معها في حروبها كما فعلت مذحج في يوم

الكلاب، وإلى ذلك يشير ربيعة بن مقروم في حرب مذحج مع تميم: [2]

وساقت لنا مذحج بالكُلاب ... مواليها كلها والصّميما

وكذلك فعلت قريش عندما فُتحت مكة المكرمة إذ استعانوا بالأحابيش لمعاونتها.

والأحلاف مأخوذة من الحلِف وهو اليمين، إذا كانوا يوثقون هذا الحلف بالدم

أحياناً ليحل محل النسب، ومن هؤلاء حلف لعقة الدم [3] .

وأحياناً كانوا يوثقون بالماء كما حصل في حلف الفضول [4] ، وسببه أن

رجلاً من اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل ولم يعطه الثمن

فوقف على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس ونادى بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نأئي الدار والنفر

ومحرِمٌ أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحِجر والحَجر

فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان وتحالفوا

وتعاهدوا ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه، ثم مشوا

إلى العاص بن وائل وانتزعوا منه سلعه الزبيدي فدفعوها إليه.

وفي السيرة النبوية لابن هشام: أن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-

سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لقد شهدت في دار عبد الله

بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعي به في الإسلام لأجبت)

ويعتبر هذا الحلف من خير أحلاف الجاهلية لأنه كان نصرة للمظلوم وردعاً

للظالم.

أما حلف المطيبين فقد غمسوا أيديهم بجفنة فيها طيب، وهم القبائل

التي ناصرت بني عبد مناف ضد بني عبد الدار ومن حالفهم، إلا أنهم اصطلحوا على أن تكون الرفادة والسقاية لبني عبد مناف، وأن تستقر الحجابة واللواء والندوة في بني عبد الدار فانبرم الأمر على ذلك واستمر [5] .

وكانوا أحياناً يتحالفون على النار، ولعل ذلك سرى إليهم من المجوسية

الفارسية، ومن هؤلاء حلف المحاش، كما فعلت قبائل مرة بن عوف الذبيانيين

حينما تحالفوا عند نار ودنوا منها حتى محشتهم فسموا بذلك [6] .

ونجد الشعر الجاهلي عند كبار الشعراء، مخلداً هذه الأحلاف مبيناً أهميتها.

فالنابغة الذبياني يدافع عن حلف قومه ذبيان مع بني أسد، إذ حاول عيينة ابن

حصن زعيم ذبيان أن ينقض هذا الحلف ويتعاون مع خصومهم من عبس فقال

النابغة قصيدة طويلة يخاطب فيها عيينة منها [7] :

إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لستُ منك ولستَ مني

ثم يمدح بني أسد ويعدد مآثرهم ويكون وفياً لحلفائه إذ يقول:

فهم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النّسار وهم مجنّي

وهم ساروا لحِجرٍ في خميس ... وكانوا يوم ذلك عند ظني

إلى أن يقول:

ولو أني أطعتك في أمور ... قرعت ندامة من ذاك سنّي

وبشامة بن الغدير يحرض قومه بني سهم بن مرة على ألا يخذلوا حلفاءهم

الحْرقة وألا يتركوهم وحدهم أمام غطفان.. وأكد الحلف وشده الحصين بن الحمام

المري.. وذكر بشامة هذا الحلف في قصيدة منها [8] :

فإمّا هلكتُ ولم آتهم ... فأبلغ أماثلَ سهم رسولا

بأن قومكم خيروا خصلتين ... كلتاهما جعلوها عدولا

خزي الحياة وحرب الصديق ... وكلٌ أراه طعاماً وبيلا

ويعتبر الحصين بن الحمام المري من أوفياء العرب وكان سيد قومه وذا رأي

وقيادة.. وفي نصرته لحلفائه وجيرانه يقول [9] :

ولما رأيت الود ليس بنافعي ... وأن كان يوماً ذا كواكبَ مظلما

صبرنا وكان الصبر فينا سجية ... بأسيافنا تَقطَعن كفاً ومِعصَما

يفلِّقن هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

لقد أعز العرب حلفاءهم، إذ كان الحليف يعتبر من العشيرة حتى أن قريشاً

كانت تترفع عن تزويج بناتها من غيرها إلا إذا كان من حلفائها.

وافتخروا بحماية الجار حتى قالوا: فلان منيع الجار حامي الذمار [10] لأنها

دليل على القوة والرهبة. قال عبيد ابن الأبرص [11] :

نحمي حقيقتنا ونمنع جارنا ... ونلف بين أرامل الأيتام

ولم يكن من السهل أن ينقض حامٍ ذمة عقدها لجاره فإنهم كانوا إذا غدر فيهم

أحد رفعوا له لواء بسوق عكاظ ليشهروا به، وفي ذلك يقول قطبة بن أوس بن

محصن (الحادرة) :

أسُمَيُّ ويحك هل سمعت بغدرةٍ ... رفع اللواء لنا بها في مجمع

إنا نعف فلا نُريب حليفنا ... ونكف شح نفوسنا في المطمع [12]

ويذكر الميداني أنهم كانوا يقولون: الدم الدم والهدم الهدم، يعني أبايعك على

أن دمي دمك وهدمي هدمك [13] .

وهكذا كانت أحلافهم مظهراً من مظاهر الدفاع عن النفس، في بيئة الحرب

والقتال، وسط صحراء ملتهبة وقبائل متناحرة، ونادراً ما كانت الأحلاف دفاعاً عن

المظلوم، كما هي الحال في حلف الفضول.

5 - أيام العرب:

كان العرب يسمون حروبهم أياماً، لأنهم يتحاربون نهاراً، فإذا حل اليوم

الثاني عادوا إلى القتال، وتسمى هذه الحروب والأيام غالباً بأسماء الأماكن التي

وقعت فيها مثل يوم الكلاب، وعين أباغ، وذي قار، وبأسماء الأشخاص أو

الحوادث البارزة فيها، كيوم البسوس، ويوم حليمة، وأيام داحس والغبراء، أو

باسم الصفة التي تميزت فيها كيوم تحلاق اللمم، ويوم الفجار.

وأيام العرب كثيرة بحيث يقال [14] : إن أبا عبيدة معمر بن المثنى

(توفي 211 هـ) ألف كتاباً جاء فيه ذكر مائتين وألف يوم، ولم يصل إلينا هذا الكتاب، ولكن كتابه شرح النقائض حفظ طائفة كبيرة من تلك الأيام، وفي كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزء الأول طائفة كثيرة منها وكذلك كتاب الأغاني والعقد الفريد.

(تعتبر هذه الأيام في الجاهلية مصدراً خصيباً من مصادر التاريخ، وينبوعاً

صافياً من ينابيع الأدب، ونوعاً طريفاً من أنواع القصص بما اشتملت عليه من

الوقائع والأحداث وما روي في أثنائها من نثر وشعر) .

(وهي مرآة صافية لأحوال العرب وعاداتهم، وأسلوب الحياة الدائرة بينهم..

في الحرب والسلم، والاجتماع والفرقة والفداء والأسر) [15] .

لقد امتلأت كتب الأدب، ودواوين الشعر، بشعراء ندبوا الصرعى والقتلى

من أشرافهم، وذبوا عن أحسابهم، أو هجوا خصومهم، كعنترة بن شداد، وعامر

بن الطفيل، والمهلهل بن ربيعة وغيرهم.

إن الحروب الدامية كانت سمة العصر الجاهلي، وهي كثيرة، وسوف نشير

إلى الأيام المشهورة بين قبائل العرب المختلفة، كنماذج توضح لنا القصد، وتجلو

لنا العبرة.

1 - فمن أيام العرب والفرس:

أ - يوم الصفقة [16] : (ويسمى أيضاً يوم المشقّر) .

وكان لكسرى على تميم، حيث إن كسرى أصفق على بني تميم الباب في

حصن المشقّر، وهو حصن في البحرين إذ خُدع الناس بالميرة وصاروا يدخلون

رجلاً رجلاً إلى عامل كسرى على البحرين (المكعبر) وهو فارسي ... حتى انتبه

أحد بني تميم وقال: يا قوم أين عقولكم فوالله ما بعد السلب إلا القتل وضرب بسيفه

سلسلة كانت على باب الحصن فقطعها وانفتح الباب، وإذا الناس يُقتلون فثارت بنو

تميم وفي ذلك يقول الأعشى يمدح هوذة وهو رجل من بني حنيفة أشار على كسرى

بفكرة الميرة وحيلة الحصن [17] :

سائل تميماً به أيام صَفقَتهم ... لمّا أتوهُ أَسارى كلهم ضَرعَا

وسطَ المشَقَّر في عيطاءَ مظلمةٍ ... لا يستطيعون فيها ثَمَّ ممتَنَعا

أصابهم من عقاب الملك طائفةٌ ... [18] كل تميم بما في نفسه جُدِعا

وهي قصيدة طويلة يمدح فيها هوذة ابن علي الحنفي، ويعتبر أنه خلص مائة

من خيارهم ... وذلك عندما علم هوذة بدخول بني تميم الحصن.

ب- يوم ذي قار [19] :

وهو من أهم الأيام بين العرب والفرس، وذو قار ماء لبني بكر بن وائل

قريب من الكوفة، ومن أسبابها: أن كسرى كان قد غضب على النعمان بن المنذر، أمير الحيرة، بسبب عدي بن زيد الذي قتله النعمان، في قصة طويلة ثم فر

بعدها النعمان وحاول أن يلتجيء إلى قبائل العرب، إلى أن استودع ودائع عند

العرب، ووضع أهله وسلاحه ودروعه عند هانيء بن قبيصة بن هانيء بن

مسعود الشيباني، ثم جاء رسول كسرى بالأمان على النعمان، فخرج الأمير حتى

أتى كسرى في المدائن فأمر به فحبس فمات في حبسه، أو قتل تحت أرجل الفيلة،

وعين بدلاً منه على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي.

بعث كسرى إلى هانيء الشيباني: إن أموال عبدي النعمان عندك فابعث بها

إلى، فاعتذر هانيء بأنها أمانة ولن يسلمها.

جهز كسرى عندها جيشاً عقد فيه للنعمان بن زرعة التغلبي على تغلب والنمر، ولخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة الطائي على

بقية العرب، فكانت العرب ثلاثة آلاف، وعقد للهافَرز على ألف من

الأساورة [20] .

وبعث كسرى معهم اللطيمة [21] ، وكانت تخرج بالبضائع، وأمرهم إذا

شارفوا بلاد بكر ودنوا منها أن يبعثوا النعمان التغلبي يخيرهم بين ثلاث: إما أن

يعطوا السلاح وما بأيديهم ويحكم فيهم الملك بما شاء، وإما أن يتركوا الديار، أو أن

يأذنوا بحرب.

وكان كسرى قد أوقع ببني تميم يوم الصفقة والعرب خائفة منه وجلة.

اجتمعت قبائل بكر في بطحاء ذي قار، وعينوا حنظلة بن ثعلبة العجلي قائداً على

حربهم، وأخرجت الدروع وفرقت في القوم المحاربين.

ولما تقارب الزحفان قام حنظلة وقطع وضن الهوادج [22] فسقطن على

الأرض.. . وقال: ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته، ثم ضرب على نفسه قبة في

بطحاء ذي قار، وآلى لا يفر حتى تفر القبة.

ثم احتدم القتال بين العجم ومن معهم من العرب وبين قبائل بكر بن وائل

ومنهم بنو شيبان وبنو عجل وغيرهم. وقتل الحوفزانُ الهامرزَ مبارزة، ثم أرسلت

قبيلة إياد إلى بكر تخيرها إما أن تهرب وتترك جيوش كسرى، أو تفر حين ملاقاة

القوم، فعندما التقى الناس انهزموا وفتوا في عضد الأعاجم ومن والاهم، وانهزمت

الفرس وأحلافهم.

واتبعتهم بكر يقتلون بقية يومهم وليلتهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا

السواد ثم دخلوه في طلب القوم.

وقد ذُكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه نبأ انتصار ربيعة

قال: (اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا) [23] .

وفي هذا اليوم يقول أعشى قيس مفتخراً [24] :

لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكرٌ، فينصرفوا

وجند كسرى غداةَ الحِنْو [25] صبحهم ... منا كتائبُ تزجي الموت فانصَرفُوا

لو أنّ كل مَعَدٍ كان شاركنا في يوم ذي قار ما أخطاهمُ الشرفُ

فالحرب إذن كانت قبلية، لا عربية فارسية، بكر بن ربيعة وليست قبائل معدّ

كلها التي ساهمت في هذا القتال وفي جانب الفرس كانت قبائل عربية كبيرة كتغلب

وطيء قد شاركت في هذا اليوم، متزلفة لكسرى، ومنتقمة من بكر العربية.

وقال الأعشى أيضاً يمدح بني شيبان لأنهم كانوا من أحسن الناس بلاء قصيدة

طويلة منها [26] :

فدى لبني ذهل بن شيبانَ ناقتي ... وراكُبها يومَ اللقاء وقَلّتِ [27]

همُ ضربوا بالحنو، حنوِ قُراقر ... مقدمةَ الهامَرْز حتى تولّتِ [28]

تناهتْ بنو الأحرار إذ صبرتْ لهم ... فوارسُ من شيبانَ غُلبٌ فولَّتِ [29]

وفي الأصمعيات قصيدة طويلة قالها عمرو بن الأسود تحدث فيها عن ذي قار، ووصف حومة الحرب وتساقط الفرسان ثم سرد أسماء القبائل المشتركة في هذه

الحرب [30] .

2- أيام القحطانيين فيما بينهم [31] :

أ- ما بين المناذرة والغساسنة:

كانت أيامهم كثيرة لأنهم صنائع للفرس والروم من جهة، ولأنهم قبائل

متناحرة من جهة أخرى، حسب النظام القبلي السائد بينهم آنذاك، ومن أهمها:

يوم عين أُباغ:

وهي واد وراء الأنبار، التقى فيه الحارث الأعرج بن جبلة ملك الغساسنة

بالمنذر بن ماء السماء ملك المناذرة في الحيرة، حيث أن المنذر كان قد سار في

قبائل معدّ كلها، إلى الحارث، بعد أن أرسل إليه يطلب منه الفدية لينصرف بجنوده، أو أن يأذن بحرب، ثم التقى الجيشان، وبدأت الحرب بالمبارزة إذ أخرج المنذر

وقدم علم الحارث بالخدعة، وانهزم جيش المناذرة بعد أن قتل المنذر في هذا اليوم، ثم سار الحارث وجيوشه إلى الحيرة فنهبها وأحرقها.

وقد وصف هذه الحرب عدىُّ بن رعْلاءَ الغساني إذ يقول: [32]

ربما ضربةٍ بسيفٍ صقيل ... دونَ بصرى وطعنة نجلاء [33]

وغموسٍ تضل فيها يدُ الآ ... سيِ ويعيا طبيبها بالدواء [34]

فصبرْن النفوس للطعن حتى ... جرتِ الخيلُ بيننا في الدّماء

إلى أن يقول في شأن من تركته الحرب سليماً معافى في ثياب من الذل فحياته

ليست إلا موتاً، وسار البيتان مسير الحكمة لكل حياة ذليلة رخيصة:

ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما المَيْتُ ميِّتُ الأحياء

إنما المَيْتُ من يعيشُ ذليلاً ... سيئاً بالهُ قليلَ الرجاءِ

حاول المنذر بن المنذر أن يثأر لأبيه فكان يوم حليمة، وفي هذا اليوم ضرب

المثل: ما يوم حليمةَ بسرّ والتقى الجيشان في مرج حليمة، ومكثت الحرب أياماً

ينتصف بعضهم من بعض إلى أن دعا الحارث ابنته واسمها حليمة وكانت من أجمل

النساء، وأعطاها طيباً لتطيب مَنْ يمر بها من جنده ثم نادى: يا فتيان غسان من

قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي.. وانهزمت لخْم وجيش المنذر، وقتل المنذر على يد

لبيد بن عمرو الغساني ثم قُتل هو أيضاً، وانصرفت غسان بأحسن الظفر بعد أن

أسروا كثيراً ممن كانوا مع المنذر من العرب، وكان منهم مائة من بني تميم فيهم

شأس بن عبدة، ولما سمع أخوه علقمة الفحل وفد إلى الحارث الغساني مستشفعاً

وأنشده قصيدة. طويلة مطلعها [35] :

طحا بك [36] قلبٌ في الحسان طروبُ ... بُعيْدَ الشبابِ عصر حان مشيبُ

ثم يمدح النعمان ويُنَوِّه بمواقفه في الحرب، وذكر الشؤم الذي أصاب أعداءه

بسبب التقتيل والهزيمة ومن ثم طلب إنقاذ أخيه من الأسر يقول منها: فوالله لولا فارسَ الجَوْن منهم ... لآبوا خزايا، والإياب حبيبُ [37] فقاتلتَهم حتى اتقوك بكبشهم ... وقد حان من شمس النهار غروبُ [38] وفي كل حي قد خبطتَ بنعمة ... فحُقَّ لشأس من نداك ذَنوبُ [39]

ولما بلغ قَولَه: فحق لشأس من نداك ذنوب.. . أمر الملك بإطلاق شأس

وسائر أسرى بن تميم.

ب- الحروب ما بين الأوس الخزرج:

كانت الحروب كثيرة بين هاتين القبيلتين ومن أهمها:

حرب سُمَيْر:

وسببها أن رجلاً من ذبيان اسمه كعب من بني ثعلبة نزل على مالك بن

العجلان الخزرجي وحالفه وأقام معه. ثم خرج كعب إلى سوق بني قينقاع فرأى

رجلاً من غطفان معه فرس وهو يقول: ليأخذ هذه الفرس أعز أهل يثرب. فقال

الناس فلان أو فلان حتى قال كعب: مالك بن العجلان أعز أهل يثرب، وكثر

الكلام، ثم قبل الرسول قول كعب الثعلبي ودفع الفرس إلى مالك بن العجلان

الخزرجي.. فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي أفضلكم؟ فغضب رجل من الأوس

يقال له: سمير بن يزيد وشتمه ثم افترقا:

قصد كعب سوقاً لهم بقباء فقصده سمير وقتله..

طالب مالك بن العجلان بقتل سمير أو بدية حليفه.. رفضت الأوس أن تدفع

إلا دية الحليف وهي النصف.. حكموا بينهم عمرو بن امرئ القيس جد عبد الله بن

رواحة -رضي الله عنه- وهو خزرجي فقضى بنصف الدية.. رفض مالك

واستنصر قبائل الخزرج.. وزحفت الأوس بمن معها من حلفائها من قريظة

والنضير والتقوا قرب قباء واقتتلوا قتالاً شديداً وانصرفوا ثم التقوا ثانية واقتتلوا

حتى حجز الليل بينهم وكان الظفر للأوس على الخزرج.

واستمرت الأوس والخزرج متحاربين عشرين سنة في أمر سمير يتعاودون

القتال، وكثرت أيامهم ومواطنهم.. كيوم حاطب [40] ، ويوم كعب، ويوم بعاث،

وغيرها.

وأخيراً حكموا بينهم ثابت بن المنذر بن حرام والد حسان بن ثابت - رضي

الله عنه- وحكم بأن يؤدي حليف مالك دية الصريح ثم تكون السنُّة فيهم بعده ما

كانت عليه؛ الصريح على ديته، والحليف على ديته، وأن تعد القتلى وتعطى

الديات لمن زاد قتلاهم فرضى مالك وسلمت الأوس وتفرقوا.

ومن أواخر أيامهم المشهورة:

يوم بُعاث:

وسببه أن سيد الخزرج وهو عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه: إن أباكم

أنزلكم منزلة سوء والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير،

وأقتل رهنهم [41] وأرسل إلى يهود في ذلك، وهموا بالخروج من ديارهم حتى

نهاهم كعب بن أسيد القرظي، واعترض عبد الله بن أبي بن سلول على هذا الأمر

ثم التقت الأوس ومعها حلفاؤها من اليهود، مع الخزرج ومعها حلفاؤها من أشجع

وجهينة، وكان القتال شديداً دارت الدائرة فيه على الخزرج وأُحرقت دورهم

ونخيلهم من قبل الأوس وأجار سعد بن معاذ أموال بني سلمة جزاء معروف سابق

لهم يوم الرعل.

وفي هذا اليوم يقول أبو قيس بن الأسلت (وهو من شعراء الجاهلية المجيدين

وسيد الأوس وصاحب حربها في يوم بعاث) ، وقد عاد إلى امرأته بعد أن مكث في

الحرب أشهراً حتى شحب لونه وتغير فدق الباب، ولما فتحت له زوجته أنكرته

وقال: أنا أبو قيس، فقالت: والله ما عرفتك حتى تكلمت. قال قصيدة طويلة

منها [42] :

قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلاً فقد أبلغت إسماعي [43]

أنكرته حين توسمِته ... والحربُ غولٌ ذاتُ أرجاعى [44]

لا نألمُ القتل ونجزي به ... الأعداء كيل الصاعِ بالصاعِ

ولقد سطر لنا الشعر حروب الأوس والخزرج، ونظرة في جمهرة أشعار

العرب نجد أن المُذْهبات السبع لشعراء هاتين القبيليتين كلها قيل في هذه الحروب.

وفي حرب سُمَيْر قال مالك بن العجلان يعتب على قومه من بني الحارث

لأنهم رفضوا نصرته غضباً لرده قضاء عمرو بن امرئ القيس ويحرض بني

النجار على نصرته [46] :

إنّ سمُيراً أرى عشيرته ... قد جدبوا دونه وقد أنِفُوا

لكنّ موالَّي قد بدا لهمُ ... رأيٌ سوى ما لديّ أو ضعُفوا

ثم يفتخر بقوتهم في الحرب وبعزتهم إذ يقول:

نحن بنو الحرب حين تشتجرُ ال ... حربُ، إذا ما يهابُها الكشُفُ [47]

ما قصرّ المجدُ دون محتدنا ... بل لم يزل في بيوتنا يكفُ [48]

إنّ سميراً عبدٌ بغى بطراً ... وأدركتهُ المنية التُّلَفُ [49]

ويشير قيس بن الخطيم شاعر الأوس إلى حرب حاطب، وكذلك حرب بعاث

في قصيدة طويلة منها [50] :

دعوت بني عوف لحقْن دمائهم [51] ... فلما أبَوْا سامحتُ في حرب حاطب

ضربناكم بالبيض حتى لأنتمُ ... أذلُّ من السُّقبان بين الحلائب [52]

ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفُنا [53] ... إلى حسبٍ في جذْمِ غسانَ ثاقب

رضينا لعوفٍ أن تقول نساؤهم ... ويهزأنَ منهم: ليتنا لم نحارب

ومما قاله حسان بن ثابت الخزرجي -رضي الله عنه- في هذه الحروب،

ويرد على شاعر الأوس قيس بن الخطيم [54] :

فلا تعجلن يا قيسُ واربَعْ فإنما ... قصاراك أنْ تُلقى بكل مهندِ [55]

فقد لاقت الأوس القتالَ وطُرِّدتْ ... وأنتَ لدى الكنّاتِ في كل مَطْردِ [56]

فغنِّ لدى الأبيات حُوراً كواعباً ... وحجّرْ مآقيكَ الحسان بإثمِدِ [57]

ويقول عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-، وهو من الخزرج مفتخراً

وذاكراً حرب قومه مع الأوس (في قصيدة من المذهبات وهي الثانية) :

إذا ندعى لسيب أو لجارٍ ... فنحن الأكثرون بها عديدا

زعمتم أنما نلتم ملوكاً ... ونزعم أنما نلنا عبيدا

أي أن الأسرى من الأوس هم كالعبيد الأذلة بخلاف الأسرى من الخزرج.

هذه حالة الأوس والخزرج قبل الإسلام، حروب وتناحر وانقسام، وتفاخر

ومباهاة، وضغائن يشترك في إشعالها اليهود، تتحول بعد الهجرة إلى مدينة طيبة،

ودار الهجرة، إنه الإيمان الذي يصنع في النفوس الأعاجيب، هو الذي جعل حسان

بن ثابت -رضي الله عنه- يقول قبل فتح مكة [58] :

وقال الله: قد أرسلتُ عبداً ... يقول الحقّ إن نفعَ البلاء

شهدتُ به فقوموا صدقوه ... فقلتم لا نقومُ ولانشاء

فإن أبي ووالدَه وعرضي ... لعِرض محمدٍ منكم وقاءُ

وقوله:

هجوت محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاكَ الجزاء

يخاطب أبا سفيان بن الحارث وبقية قريش، ويفدي الرسول -عليه أفضل

الصلاة والسلام- بنفسه وأهله وعرضه، لقد ذابت العصبيات التي رأينا نماذج منها

في القصائد السابقة، عند شعراء الأوس والخزرج قبل الإسلام.. ووقف حسان في

صف الإسلام والإيمان مع الأوس وقريش وبقية المؤمنين ضد معسكر الشرك وأهله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015