مجله البيان (صفحة 49)

معالم حول كتابة التاريخ الإسلامي

(?)

محمد العبدة

تمهيد:

كان الحديث في المقال الأول عن أهمية التاريخ، والحاجة الملحة

لكتابة تاريخنا من جديد تحقيقاً وصياغة بعيداً عن التعصب أو الحقد، ونظرة الإسلام - من خلال القرآن والسنة - إلى أحداث التاريخ نشوءاً وتعليلاً، والسنن التي تسير عليها هذه الأحداث. وتحدثنا في المقال الثاني عن الأمة الإسلامية وخضوعها لهذه السنن كما هي حال الأمم الأخرى، ولكن هناك مميزات خاصة بها. وفي هذه العدد نتكلم عن بعض النقاط التي نريد توضيحها من خلال الأحداث العامة لتاريخنا.

نقلة أخرى:

دأب أكثر الذين يكتبون في التاريخ الإسلامي أو الذين يكتبون عن الإسلام

بشكل عام، دأبوا على إظهار حالة العرب قبل الإسلام بصورة مظلمة قاتمة، وأنهم

شعب همجي متناحر لا أهمية له بين الأمم، وله عادات سيئة في كذا وكذا،

وأخلاق سيئة في كذا وكذا ونية هؤلاء الكتاب في الغالب حسنة لأنهم يريدون إظهار

محاسن الإسلام وكيف انتقل بهذه الأمة إلى عز بعد ذل وعلم وتقدم بعد جهل وتخلف، ولكن هذا التصوير غير صحيح في بعض جوانبه، والإسلام لا يحتاج إلى مثل

هذا الدفاع للأسباب - التالية:

أولاً: لم يكن العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام على ما يصوره هؤلاء

الكتاب، ولا نريد أن نتكلم عن عادات العرب الجاهلية وعبادتهم للأوثان، فهذا

شيء معروف مشهور، ولكن نريد أن نبرز بعضاً من صفاتهم وعاداتهم التي هي

من خصال الخير، وأحرى أن تكون من الأخلاق التي تنهض بها الأمم أو ما يسمى

(الأخلاق الأساسية) مثل:

أ- صدق اللهجة والبعد عن خلق الكذب والمراوغة، أو الغش والخداع، تلك

الأخلاق التي تتصف بها الشعوب التي عاشت ردحاً من الزمن تحت الذل والقهر،

فهي ترضى بالدون وتلجأ إلى المكر والخضوع للحصول على مطالبها، بينما نجد

رجلاً مثل أبي جهل وهو في أشد المواقف حاجة للكذب يُسأل عن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم - فيتكلم صادقاً معبراً عما في نفسه وذلك قبيل معركة بدر،

ويُسأل أبو سفيان صخر بن حرب قبل إسلامه عن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - فيصدق في حديثه ويربأ بنفسه عن الكذب. فإذا كان هذا وهم في جاهلية

فكيف بعد إسلامهم، ولذلك يحق للإمام الزهري أن يغضب بعد أن اتهم في مجلس

من المجالس بالكذب فقال: والله لو أن نازلاً من السماء نزل بِحِلِّ الكذب ما كذبت!

ب- الوفاء والإقامة على العهد: وقد قاموا بهذه الصفة أحسن قيام، فما

نقضوا عهداً لمن حافظ عليه ويرون الغدر والإخلاف من أقبح العيوب، ولا ينسون

فضل من أحسن إليهم، والأمة التي لا تكون فيها هذه الصفات كيف تأمل في

النهوض؟ والأمة التي تعودت على اللؤم والغش والخداع لا تفلح أبداً، والرجل

الذي لا يعطي للكلمة حقها ولا يفي بعهوده ووعوده هو معول هدم وإن صلى وصام.

ج- الغيرة: وهي صفة محمودة جعلها الله في الإنسان سبباً لحفظ الأنساب،

وقد مدحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: «أتعجبون من

غيرة سعد أنا أغير منه والله أغير مني» [1] .

وقد قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها، وقد

بلغ العرب من الغيرة شيئاً جاوز الحد وبالغوا في ذلك [2] .

ومن طباعهم الحميدة الكرم وهي صفة تدل على جودة معدن ونبل نفس،

والبخل والشح من أسوأ صفات الإنسان ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - «شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع» [3] والذي يضحي بماله قد

يضحي بنفسه، وقصص العرب في الكرم أشهر من أن تذكر ويكفي أن نعلم أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطلق سفانة بنت حاتم الطائي من الأسر لأن

أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وأما جودهم بعد الإسلام فهو أتم وأعظم، ومن

يتصفح أخبارهم من أمثال عبيد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص

وقيس بن سعد فسيجد العجب العجاب.

كما اشتهروا بالحلم الذي يدل على وفرة العقل، وأما حبهم للشجاعة وتمدحهم

بها فشيء يفوق الوصف حيث أغنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن

تعليمهم وتدريبهم على هذه الصفات، بل وجدها مطبوعة فيهم فلما جاء الإسلام

كانت (نور على نور) .

وشىء آخر: فقد كانت لهم عادات وأعراف أقرها الإسلام أو هي من الفطرة

السليمة لأنها من بقايا إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، وقد لا يتفطن لهذا

الأمر بل لا يظن أن هذه العادات والأعراف كانت فيهم، ومنها:

كانوا يفعلون أشياء من طهارات الفطرة كالاغتسال من الجنابة والختان وتقديم

الأيمن في الشرب، بل عاداتهم في المأكل والمشرب من أوسط العادات ولم يكونوا

يتكلفون تكلف الأعاجم.

كانت قريش تقوم على سدانة الكعبة كما تقوم بالسقاية والرفادة فأقرها الإسلام.

كانوا يعتبرون " القسامة " وهي أيْمان معينة عند التهمة بالقتل على الإثبات

أو النفي وقد أقرها الإسلام.

كانوا يعظمون الأشهر الحرم حتى يمر الرجل بقاتل أبيه فلا يحرك له ساكناً. ... ثانياً- إن السنن التي وضعها الله في الكون تأبى أن يكلف شعب خسيس في

أخلاقه، وضيع في تصرفاته، بمهمة تبليغ الدعوة وقيادة الأمم بعدئذ وأن يكونوا

أصحاباً لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن الطالب الغبي الكسول لا يستطيع

المدرس الناجح أن يصنع منه عالماً كبيراً أو قائداً فذاً، والناس معادن كمعادن

الذهب والفضة ومن العبث وضياع الوقت أن يُفكّر بتحويل أردأ المعادن إلى أعلاها

وأنفسها، ولكن رغم وجود هذه الاستعدادات لدى العرب فإنهم لولا الإسلام لم يكونوا

شيئاً مذكوراً، فالإسلام نقلهم نقلة أخرى، نقلة بعيدة المدى، لقد تحولوا إلى أمة

تحمل رسالة وتنقل حضارة، والصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يعلمون هذه

النعمة ويشكرونها وقد قاموا بواجبها.

تجمع القوى في تناسق داخلي:

انساح المسلمون في الأرض يبلغون دعوة نبيهم، سواء كان هذا التبليغ

بالكتاب أو الكتائب، وفتح المشرق والمغرب بسرعة مذهلة لا تزال تحير المؤرخين

الغربيين فيعللونها بالعلل الواهية، ولكننا نحن نعلم الأسباب التي جعلت هؤلاء

الفاتحين يصلون إلى جنوب فرنسا بعد قرن من وفاة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. نعلم أن سبب ذلك وحدة الوجهة ووحدة الهدف والفطرة السليمة لهذا الشعب الذي

لم يكن بحاجة كبيرة لتعليمه الشجاعة وفنون القتال أو تعليمه الصبر والصدق

والوفاء، والمسلمون اليوم كثير يصلون ويصومون ويحجون ولكنهم يفتقدون هذه

الصفات الأصيلة.

ولكن بعد هذه الفتوحات العظيمة كيف يصهر هذا المجتمع الجديد، ويتكيف

مع قواعد الإسلام وعادات هؤلاء الفاتحين، أم يكون التأثير عكسياً فتنتقل عادات

البلاد المفتوحة وبعض عقائدهم إلى المجتمع الجديد، وأظن أن هذا ما كان يتخوف

منه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد روي عنه أنه قال: «يا

ليت بيني وبين فارس جبل من نار» لقد كان بعبقريته الفذة يحمل هموم اندماج هذه

الشعوب في الإسلام، وهذا أمر لاشك في صعوبته كما تفطن لهذا عمر بن عبد

العزيز -رضي الله عنه- حين أمر جيش مسلمة بن عبد الملك بالقفول وترك حصار

القسطنطينية لأن الحصار قد طال وخشي عمر من فناء الجيش، وحفظ المسلمين

أولى من جلب أتباع جدد، وعلى ضوء نظرات العمرين هذه نستطيع فهم حديث

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما

تركوكم» [4] .

وعلى حسب فهمي للحديث - والله أعلم - إما أن يكون المقصود ترك الترك

ابتداءً حتى يهضم المجتمع الإسلامي العناصر الجديدة قبل الانتشار إلى بلاد الترك،

أو كان تركهم بعدئذ والمقصود عدم التحرش بهم وكأنه إشارة إلى الغزو المغولي

المدمر لأن الخوارزميين هم الذين تحرشوا بهم وحصل بعدئذ ما حصل من قدر الله

الغالب.

فرض اللغة العربية:

فرض الفاتحون الأوائل اللغة العربية في كل مكان وصلوا إليه، سواء كانت

لغة للعلم الثقافة أو لغة للتخاطب اليومي، وسواء كان حباً بها لأنها لغة الدين الجديد

الذي اعتنقوه ولغة الذين كانوا وسيلة لهدايتهم، أو مجاملة لهؤلاء الفاتحين الذين كان

عندهم من الاعتزاز بدينهم وشخصيتهم ما يمنعهم من قبول رطانة الأعاجم، بل

يجب على هؤلاء الاعاجم أن يتعربوا كي يفهموا دينهم، وأقبل المسلمون الجدد على

تعلمها فعلاً وبشغف ونهم، ولم تمض سنوات حتى كان منهم أكابر العلماء في شتى

فنون المعرفة الإسلامية، ولكن الدول التي جاءت بعدئذ تساهلت في هذا الموضوع، بل إن مسؤولية هذا التساهل تقع على العلماء والمسلمين بشكل عام، وعادت

الأقاليم البعيدة إلى لغتها الأولى ونسيت اللغة العربية شيئاً فشيئاً، وهذا شيء خطير

لأنه من أقوى الأسباب في ضعف الروابط بين المسلمين، بل إن وجهة الثقافة

ستبتعد أيضاً لأنه لا يفهم الإسلام فهماً صحيحاً بغير العربية.

إن اكبر خطأ ارتكبته الدولة العثمانية هو عدم تبنيها اللغة العربية كلغة ثقافة

وعلم وتخاطب يومي، بل إن هذا الخطأ يعبر من مقاتل هذه الدولة. ونتيجة لذلك

ضعف العلم والإبداع، بل وصلت الأمور في أواخر عهدها إلى حالة مزرية من

الجهل والتخلف وهذا الأمر وإن كان قد تنبه له بعض العلماء والمؤرخين أو ممن

كتب عن الدولة العثمانية ولكنه لم يعط الأهمية المناسبة عند من يكتبون في التاريخ

الإسلامي، فنراهم يبرزون حسنات هذه الدول ولا يحبون ذكر أخطائها لما قامت به

من جهود للدفاع عن العالم الإسلامي، ولكن هذا شيء لابد من ذكره.

حضارة إسلامية:

انقسم الناس بعد الاستقرار والهدوء اللذين أعقبا الفتوحات إلى الأقسام التالية:

1- الفاتحون وأكثريتهم من العرب وهم قسمان:

أ- قسم يعتزون بإسلامهم ولغتهم ويعتبرون أنفسهم رسل هداية وليس عندهم

نظرة قومية للشعوب الأخرى مع احتفاظهم بأنسابهم وقبائلهم واعتزازهم بها لأن ذلك

لا يتعارض مع دينهم.

ب- قسم ضيق الأفق رجعت إليهم بعض نعرات الجاهلية فهم لا يعتزون

بأنسابهم وقبائلهم فقط بل يحتقرون الآخرين لمجرد أنهم غير عرب ولو كانوا من

أصحاب الفضل والدين.

2- الشعوب الأخرى من الفرس والترك والبربر ... وهؤلاء ثلاثة أقسام:

أ- أناس أسلموا عن طواعية واختيار وأصبح الإسلام هو نسبهم وهو الشرعة

والمنهاج، وهم مع ذلك لا ينكرون فضل العرب الذين بلغوهم الدعوة، وهم أنفسهم

تعربوا باللسان حباً في هذا الدين وأهله وطمعاً في فهم الشريعة.

ب- أناس أسلموا ولكن نعرة الاعتزاز بتراثهم القديم والفخر بحضارتهم

السابقة لا تزال فيهم.

ج- والبعض منهم تظاهر بالإسلام وهو يبطن الزندقة والمجوسية ويكره

الإسلام والعرب ولذلك بدأ يبث سمومه بخبث ومكر ودهاء.

ولاشك أن أكثرية المجتمع كانت من الأقسام المعتدلة التي انصهرت بالإسلام

وعاشت به ومن أجله سواء كانوا من العرب أو العجم ولكن البعض عندما يتكلم عن

الدولة الأموية يضخم مشكلة (الموالي) وأنهم كانوا مضطهدين وينظر لهم بازدراء،

نعم هناك بعض العبارات من الأمراء والكبراء تدل على هذا أو تصرفات خاطئة

ظالمة مثل تصرفات الحجّاج، ولكنني أعتقد أن الدولة الأموية ما كانت لتستطيع في

ظروفها تلك إلا أن يكون كبار الأمراء وقواد الجيوش من العرب، وعندما رفعت

الدولة العباسية شعار المساواة استغل الفرس الشعوبيون هذا الشعار أحسن استغلال

وأرادوا الهدم من الداخل، وقد تنبه الخليفة الرشيد لهذا فكانت ضربته المشهورة

للبرامكة، فإذا كانت هناك مشكلة الموالي ففي المقابل هناك شيء أخطر وهو ما

سمي بمشكلة (الشعوبية) ، وهم الذين تنغل صدورهم بالحقد على الإسلام ومن أتى

بهذا الإسلام ويعنون بذلك العرب واستعملوا شتى الأساليب والوسائل من فكرية

وأخلاقية فألفوا الكتب والرسائل [5] وحاولوا إفساد الشخصية الإسلامية بإشاعة

الفاحشة والمجون [6] وأخيراً استعملوا الإرهاب فلجأوا إلى الاغتيال، فهل خطورة

مشكلة الموالي كخطورة الشعوبية التي جُنّد العلماء والجيوش للرد عليها [7] ،

واضطر المعتصم العباسي لتجييش العساكر لمقاومة حركة بابك الخرمي.

ولكن النظرة الإسلامية الواسعة التي تقبل الحق من أي مصدر كان، هي التي

انتصرت أخيراً على النغمة الشعوبية الحاقدة الضيقة، وغلب تيار الفقهاء والمحدثين

وأخذوا بالنظرة الواقعية رغم أنهم مقتنعون بأن (الأئمة من قريش) كما جاء في

الحديث الصحيح، فتولى قيادة المسلمين رجال من أمثال نور الدين وصلاح الدين

والظاهر بيبرس الذين تصدوا للهجمات الصليبية والمغولية، ورجال قادوا الفتوحات

لنشر الإسلام من أمثال محمود الغزنوي ومحمد الفاتح وهؤلاء كلهم يمثلون الحضارة

الإسلامية بأوسع معانيها دون تعصب وانغلاق، ومثلهم الأعلى الصحابة الذين

خرجوا من الجزيرة العربية يبشرون بالإسلام.

* يتبع *

طور بواسطة نورين ميديا © 2015