عثمان جمعة ضميرية
عندما تأذّنت إرادة الله تعالى أن يجعل هذا الإنسان خليفة في هذه الأرض،
وأهبط آدم إليها، زوّده الله تعالى بكل ما يحتاجه لعمارة هذه الأرض للقيام بأعباء
الوظيفة التي خلقه الله تعالى من أجلها، ورسم له منهج حياته ليحقق له السعادة
الكاملة، وليقوم بالقسط والعدل: [وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ] [الحديد: 25] .
وبذلك رسم الله تعالى لهذا الإنسان طريق الهداية المستقيم، فقد خلقه الله تعالى
في أحسن تقويم: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] [التين: 4] وفطره على
التوحيد والإسلام، وأخذ عليه العهد والميثاق ليؤمننَّ بالله ربه: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْق اللهِ] [الروم: 30] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، كما
تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تُحسّون فيها من جدعاء؟) ، ثم يقول أبو هريرة
رضى الله عنه [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ
القَيِّمُ] [1] ..
وألهمه - سبحانه - طريق الخير ليسلكه، وعرّفه طريق الشر ليجتنبه:
[ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وقَدْ خَابَ مَن
دَسَّاهَا] [الشمس: 7-10] .
وبذلك جعل الله تعالى للإنسان هاديًا في داخل نفسه يميز فيه بالإلهام الإلهي
بين الأفكار الصالحة والسيئة، والأعمال الصحيحة والباطلة، ويهدي الإنسان إلى
الطريق السوي في الأفكار والأعمال. ولكن لما كانت هداية الفطرة غير كافية،
وكانت - لاقترانها بكثير من القوى الفكرية والخارجية التي تعمل على ترغيب
الإنسان في أعمال الشر والمعصية، وتزينها في نظره، وتجذبه إليها جذباً عنيفاً -
غير كافية في جعل الإنسان يميّز بين صراط الحق المستقيم وبين الطرق المعوجّة
المتعددة ويسلكه آمنا مطمئنًا، فإن الحق - سبحانه وتعالى - أراد الرحمة بالإنسان
وتدارك فيه هذا النقص من الخارج، بأن أرسل إليه رسله ليساعدوا هاديه الباطني
بنور العلم والمعرفة، ويوضحوا له بالآيات البينات ذلك الإلهام الفطري المبهم الذي
يتضاءل نوره في ظلمات الجهل وهجمات القوى الضالة في داخل النفس البشرية
وخارجها [2] .
ومن رحمة الله - سبحانه - بعباده أنه لا يحاسبهم بمقتضى هذه الفطرة العامة
وإنما يحاسبهم بعد إرسال الرسل:
[رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]
[النساء: 165] . [ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] [الإسراء: 15] وبذلك
تنقطع حجة أولئك الذين يريدون الاعتذار عن شركهم أو عدم التزامهم بدين الله
تعالى ومنهجه: [أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا
إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ (173)
وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] [الأعراف: 172-174] .
أعلام الدعوة إلى الله:
وتتابعت رسل الله تعالى إلى البشرية تدعوها إلى دين الله ومنهجه، وتجعلها
على الجادة من الطريق: [ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ
فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ] [المؤمنون: 44]
وتضافرت جهود الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، على الدعوة إلى دين الله الذي
لا يقبل من الناس سواه، وحملوا كلهم راية التوحيد، وهتفوا جميعاً بقومهم: [يَا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ] [الأعراف: الآيات 59، 65، 73، 85] .
وقد قرر الله هذه الحقيقة قاعدة عامة في دعوة كل الرسل -عليهم الصلاة
والسلام-، بعد أن ذكرها على لسان كل منهم [3] ، فقال: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ
مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء: 25] [ولَقَدْ بَعَثْنَا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] [النحل: 36]
طبيعة دعوة الرسل وآثارها:
وهذه الدعوة التي جاء بها رسل الله تعالى هي دعوة إلى توحيد الله تعالى،
وإخلاص العبادة بكل أنواعها، لله الواحد الأحد، وهي تنديد بالكفر والشرك وأهلهما، ودعوة إلى اجتناب الأوثان والطواغيت، مهما تعددت أشكالها وألوانها وصورها،
ودعوة إلى إسقاط الأقنعة الزائفة التي يتستر وراءها أولئك الذين يتسلطون على
رقاب العباد وأموالهم، ويزعمون لأنفسهم حق السيادة عليهم، وحق التشريع لهم
والطاعة والاتباع.
وإن هذه العقيدة، وهذا الإيمان بالله -سبحانه- وبأنه هو وحده الإله الحق
الذي ينبغي أن يعبد وأن يطاع وأن يكون له الأمر والنهي، لأنه وحده هو الخالق:
[إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40] [أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ] [الأعراف: 54] .
وأن كل ما عداه، من الآلهة التي يعلق الناس عليها آمالهم ويعكفون حولها،
إنما هو زيف وباطل، وأن الله -سبحانه وتعالى- هو مالك الملك المتصرف بكل
شيء: [قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ
مَن تَشَاءُ وتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: 26] .
وأنه هو وحده القادر الرازق المحيي المميت، مقدّر الآجال، وإليه المرجع
والمصير، وأن ما عداه، مما يدعو الناس من آلهة وما يخافون في الأرض من
دون الله إنما هو زيف وضلال وغثاء [4] : [لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِن ظَهِيرٍ] [سبأ: 22] .
هذه العقيدة الواضحة الناصعة، تكشف الحقيقة، وتزيل الغشاوة عن العيون،
وتهتك الأقنعة التي يختبئ وراءها الطغاة، وتقوّض عقائدهم، وتزلزل عروشهم،
وتكشف زيفهم، فهي خطر عظيم يهدد سيادتهم، ويقلق أمنهم وراحتهم، ويقلب
الأوضاع التي تعارفوا عليها، والقيم والتقاليد التي توارثوها عن آبائهم وأسلافهم
جيلاً بعد جيل، وتنزع منهم السلطان الذي يتسلطون به على رقاب العباد فيذلونهم
ويحتقرونهم، ويتسلطون به على أرزاقهم وأموالهم، فيأكلون بالباطل والإثم
والعدوان.
هذه العقيدة تجعل الناس كلهم سواسية أمام الله تعالى، لا يتمايزون بالأنساب
ولا يتخايلون بالألقاب.. السادة والعبيد سواء.. لا يتفاضلون إلا بالإيمان والتقوى
ولا يتمايزون إلا بالسبق والبلاء، فالكل خلقوا من أصل واحد ويعبدون رباً واحدًا:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونِسَاءً] [النساء: 1] .
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] .
من الواقع التاريخي:
ولقد عبر عن تلك المعاني كلها ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن،
والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهم، وظهر في كلامهم لرستم قائد الفرس أثر هذه
الدعوة في النفوس:
قال رستم لربعي بن عامر رضي الله عنه: ما جاء بكم؟ .
قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه
إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه
يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً، حتى نُفْضي إلى موعود الله.
قال: وما موعود الله؟
قال ربعي: الجنة لمن مات على قتال مَنْ أبى، والظفر لمن بقي.
ولما سأله رستم، بعد نقاش: هل أنت سيد قومك؟ .
قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض، يجير أدناهم على
أعلاهم.
وفي اليوم الثاني بعثوا اليهم حذيفة بن محصن -رضي الله عنه-، فجاء
حتى وقف على بساط رستم، فقال له: ما جاء بكم؟ .
قال: إن الله -عز وجل- منّ علينا بدينه وأرانا آياته، حتى عرفناه، وكنا له
منكرين، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث، فأيها أجابوا إليها قبلناها:
الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء (الجزية) ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو
المنابذة..
فلما كان من الغد أرسل رستم إلى المسلمين: ابعثوا لنا رجلاً، فبعثوا إليه
المغيرة بن شعبة، فأقبل المغيرة والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة
بالذهب، وبُسُطُهم على غلوة (قدر رجعة السهم) لا يصل إلى صاحبهم، حتى يمشي
غلوة.، وأقبل المغيرة حتى جلس على سريره ووسادته فوثبوا عليه وأنزلوه
وضربوه ضرباً ليس شديداً، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أَسْفَه
منكم! إنّا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محارباً
لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم
أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض. وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه،
ولم آتكم ولكن دعوتموني، اليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأن
مُلكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.
فقال السِّفْلَة [5] : صدق والله العربي، وقال الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا
يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أوّلينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغِّرون أمر
هذه الأمة.
ثم تكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه، ورد على رستم كلامه.. ثم ذكر مثل
الكلام الأول [6] .
تلكم هي كلمات ربعي وإخوانه، رضي الله عنهم، صدى على طريق الدعوة
إلى الله، تنير الطريق أمام الناس وتفتح عقولهم وقلوبهم، فلا عجب أن ينزع إليها
العبيد وعامة الناس في فارس من بطانة رستم، وأن يخافها دهاقين فارس، أي
الرؤوساء فيها المتسلطون على أولئك العبيد!
الناس أمام الدعوة أصناف:
ولو رحت تستقرىء أخبار الرسل ودعواتهم، وتتقص تاريخ حركات
الإصلاح، لوجدت أن مواقف الناس من الدعوة لا تخرج عن ثلاثة مواقف لثلاثة
أصناف من الناس:
أ- الصنف الأول: وهم أولئك الذين طهّر الله تعالى نفوسهم من الكبر
والغرور، وفتح قلوبهم للهدى والخير فعقلوا ذلك عن الله ورسوله، وأبصروا أمام
الطريق، وآمنوا بالحق المبين وعاشوا من أجله، وضحوا في سبيله بالنفس
والنفيس، فإن الحق قد ملك عليهم نفوسهم، فهم لا يتحركون إلا بدافع الحق الذي
آمنوا به وعاشوا به وله وهذا الإيمان هو النور الذي يضيء لهم الطريق في الحياة
فيسلكونه آمنين مطمئنين، [الَذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 182] .
وهؤلاء هم الذين تولاهم الله برعايته وبصرهم الطريق، فأخرجهم من ظلمات
الكفر إلى نور الإيمان:
[اللَّهُ ولِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ] [البقرة: 257] .
فلا عجب بعد هذه العناية والرعاية من الله تعالى لما رأى منهم الاستعداد للإيمان أن
يكونوا من السابقين الذين يسارعون إلى الإيمان بدعوات الرسل ويناصرونها،
وأولئك هم المقربون، فضلاً من الله ونعمة: [والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ
المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ] [الواقعة: 10-12] .
وقد نوه الله تعالى بمواقف أولئك المصدقين المسارعين إلى الإيمان السابقين
إليه، فقال عن الذين آمنوا بصالح -عليه الصلاة والسلام-:
[قَالَ الملأ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ
أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ] [الأعراف: 75] .
وقال عن لوط عندما سارع إلى تصديق أبي الأنبياء والإيمان به، عليهما
السلام:
[فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي إنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
[العنكبوت: 26] .
وقال عن الحواريين الذين آمنوا بعيسى -عليه السلام-، وأسلموا معه لله رب
العالمين:
[وإذْ أَوْحَيْتُ إلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا واشْهَدْ بِأَنَّنَا
مُسْلِمُونَ] [المائدة: 111] ، [كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي
إلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وكَفَرَت
طَّائِفَةٌ] [الصف: 14] ، وقد امتدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - مواقف
السابقين إلى دعوته، المسارعين إلى الإيمان به، فقال مثلاً عن أبي بكر
الصديق -رضي الله عنه-: (يا أيها الناس إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت،
وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي
صاحبي) [7] .
وعن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سابق
العرب، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش " [8] .
ب -الصنف الثاني: أولئك الذين امتلأت نفوسهم كبراً وغروراً، ومردوا
على الشقاق، واستعلوا في الأرض بغير الحق.. أولئك هم الذين ماتت ضمائرهم،
وقست قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فأشربوا الكفر والعناد بطغيانهم،
فوقفوا بكل عناد يعارضون دعوات الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام،
ويحاربونها بكل وسيلة يمكن أن تتفتق عنها عقولهم الشيطانية الماكرة، ولن
تستطيع نفوسهم هذه أن تصغي إلى كلمة الحق المجردة، ولن يسمحوا لها أن تطرق
آذانهم، وقوم نوح مثلٌ صارخ على ذلك:
[وإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ
وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً] [نوح: 7]
بل إنهم يصرفون الآخرين عن الدعوة، وعن الحق، لئلا ينعموا به: [وقَالَ
الَذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] [فصلت: 26] .
إنهم يتآمرون ويمكرون ويكيدون:
[ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وداً ولا سُوَاعاً ولا
يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً] [نوح: 22 - 23] ، [إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وأَكِيدُ كَيْداً]
[الطارق: 15-16] .
أولئك هم الملأ الذين يتصدون لدعوات الرسل، عليهم الصلاة والسلام
بالإعراض والتكذيب والحرب المشبوبة المتنوعة الوسائل والأهداف، هم ومن
يتبعهم من الرعاع: [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ
الكَافِرُونَ] [الصف: 8] .
ج - الصنف الثالث:
وهم الذين لم يكن لهم إيمان الصنف الأول وأخلاقه العالية ونفسه الطيبة
التي تدفع إلى الإيمان، ولم يكن لهم جرأة الصنف الثاني المكذبين للدعوات، ولكنهم شر منه، يشتركون معهم في خبث النفس وفساد الفطرة والطوية والحنق على الرسل، ويمتازون عنهم بالجبن والخور وضعف القلب، فلا يستطيعون أن يصارحوا بأنهم العدو اللدود، ولا أن يظهروا أمام المؤمنين بذلك المظهر فيضطرهم ض عف عقيدتهم وفقدانهم للجرأة أن يداروا ويواربوا، فيكونون بين الصديق والعدو والمناصر والمحارب، إذا رأوا المؤمنين أظهروا لهم الإيمان، وإذا لقوا الكافرين قالوا لهم: إنّا معكم [9] .
وأولئك هم المنافقون الذين قال الله تعالى عنهم:
[وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ
اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ
اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ
قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ
يَعْلَمُونَ * وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا
نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] [البقرة: 8 - 16]
الصنف الثاني فريقان:
وإذا عدنا إلى الصنف الثاني الذي يكذب بدعوة الرسل، عليهم الصلاة
والسلام، ويناصبها العداء نجد أنه ينقسم إلى فريقين:
اً - السادة والأشراف أو الملأ من القوم.
ب -الأتباع أو الضعفاء الذين يتبعون الملأ المستكبرين.
كلاهما يكذب بدعوة الرسول، ويصد عنها ويعرض، ولكن الذي يأخذ زمام
المبادرة ويحمل راية التكذيب والعصيان ويلوحون بها للناس لينضموا إليهم، هم
الملأ والسادة. أما الأتباع والضعفاء، فإنهم ينقادون لهم ويسيرون في القطيع،
يهتفون باسم السادة ويصفقون لهم، ويؤمنون على كلماتهم، ويطيعونهم فيما يأمرون، ويصدقونهم فيما يخبرون ويفترون، ويؤمنون بما يزيفون لهم ويزورون، فإنهم
اعتادوا على الذل والخنوع، فلن يجرؤوا على رفع رؤوسهم عالية أمام السادة
والكبراء، ولن يرتفعوا بنفوسهم إلى آفاق عالية لأنهم اعتادوا العيش في السفح،
واستمرؤوا الذل والعبودية الخانعة، وكرهوا الحرية.
ولكنهم لا يلبثون طال الوقت أم قصر أن يتحسسوا الحقيقة، ويتعرفوا السبيل، ويشعروا بأنهم غارقون في عبودية ذليلة، ينبغي أن يرتفعوا عنها، ليكونوا عبيداً
لله تعالي وحده، وهذه العبودية الكريمة لله وحده تبعث في نفوسهم العزة والكرامة
وعندئذ يتحررون من جديد، بل يولدون من جديد، ويشعرون بإنسانيتهم من جديد،
فإن دعوة الإسلام تحررهم من كل عبودية لغير الله عندما تجعلهم عبيداً لله تعالى
وحده.
وبذلك يستعلون على أولئك الملأ والطواغيت، ويهزؤون بكل جبروتهم
ومتاعهم المادي وسلطانهم ووعيدهم وتهديدهم [10] .
وإن موقفاً رائعاً كهذا الموقف، وقفه السحرة من فرعون وملئه عندما لامس
الإيمان شغاف قلوبهم، وصاغهم صياغة جديدة، لما رأوا البينات من ربهم، وهم
أنفسهم الذين كانوا قبل قليل يطلبون من فرعون - بكل ذلة وطمع - أن يجعل لهم
شيئاً من الأجر والمال إن كانوا هم الغالبين لموسى وهارون! وفرعون يمتنُّ عليهم
فيعدهم بذلك، ويزيد تفضلاً عليهم ومنة، فيعدهم أيضاً بالقرب منه، كأن يجعلهم
من حاشيته وبطانته ومستشاريه الخاصين! ! ولو كان عنده إذاعة وتلفزيون
وصحف ومجلات، كما يمتلك ذلك طغاة العصر، لكانوا أول من يظهر على شاشة
التلفزيون بجانب فرعون وهامان، أما الإذاعة فتخصص الساعات الطوال لتبث
عنهم ولهم الأحاديث من زخرف القول، ولظهرت الصحف والمجلات محلاة
بصورهم الملونة، ولتسابق الصحفيون لإجراء المقابلات والأحاديث الصحفية مع
أولئك الأبطال، الذين غدوا من أركان الدولة، ولهم الفضل في تثبيت كرسي الحكم
لفرعون.... .!
ولكن ذلك كله لم يحدث، فإرادة الله تعالى وقدره شاءت غير ذلك، فتغيرت
الصورة كلها، وتغيرت النفوس، واختلف الموقف ووقع ما لم يكن بالحسبان،
وانقضت كلمات المؤمنين -لما آمنوا- كالصاعقة على رأس فرعون. ويحكي الله
تعالى لنا الموقف في كتابه الكريم، فيقول:
[وجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إنَّ لَنَا لأَجْراً إن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ
وإنَّكُمْ لَمِنَ المُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إمَّا أَن تُلْقِيَ وإمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ * قَالَ
أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وأَوْحَيْنَا إلَى
مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون
* فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ
العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّ هَذَا
لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * ومَا تَنقِمُ مِنَّا
إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]
[الأعراف: 113 -126]
[قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ
قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ومَا أَكْرَهْتَنَا
عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ واللَّهُ خَيْرٌ وأَبْقَى * إنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ
فِيهَا ولا يَحْيَى * ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى]
[طه: 72 -75] .
ذاك هو شأن العامة، والأتباع أو الضعفاء.. ولكن ما هو شأن الملأ؟ هذا ...
ما نريد أن نقف عنده وقفة متأنية متأملة، نعود فيها إلى كتاب الله الكريم وسنة نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وسيرته العطرة، وسيرة الأنبياء
السابقين، لنتبين معالم شخصية هؤلاء (الملأ) الذين أكثر القرآن الكريم من ذكرهم وبين مواقفهم وأساليبهم المتنوعة التي يحاربون بها كلمة الحق ودعوة
السماء على مدار التاريخ، ثم نلتفت إلى الحاضر لنرى هل كانت مواقف الملأ تلك فلتة عابرة أو أمراً طارئاً، أم أن الأمر سنة إلهية ومنهج ثابت في الدعوات؟ وعندئذ ينبغي للعاملين في حقل الدعوة ألا يغيب ذلك عن بالهم، وأن يعرفوا: أن الملأ هم الملأ.. في كل زمان وفي كل مكان وأمام كل دعوة.. يقفون الموقف ذاته.