مجله البيان (صفحة 4757)

قضايا دعوية

نظرات في منازلة النوازل

د. عبد العزيز كامل

kamil@albayan-magazine.com

وأعني بمنازلة النوازل، مقاومتها ومقارعتها وعدم الاستسلام لها، أو

الضعف أمامها، فالأقدار تدافع بالأقدار، فما كان شراً منها نمتثل فيه لخطاب

الشرع، فلا نحتج بالقدر في إهمال التكليفات الشرعية المتعلقة به. والمسلمون

عندما تقع بهم نازلة بمعنى مصيبة عامة، أو كائنة كبرى فإن هذه النوازل؛ إما أن

تجيء ابتلاءً وامتحاناً، أو كفارة وتمحيصاً، وإما أن تجيء عقوبة وجزاءً دنيوياً

[وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً] (الكهف: 49) ، والنوازل الواقعة، تجب على المسلمين

تجاهها تكاليف وأحكام، منها ما يتعلق بالقدر، ومنها ما يتعلق بالشرع، أما ما

يتعلق بالقدر فواجبنا أن نعلم أن النوازل والنوائب هي من قدر الشر المر الذي بيَّن

الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان به مع الإيمان بأقدار الخير ركن من أركان

الإيمان، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: «وأن

تؤمن بالقدر خيره وشره» [1] .

فبمقتضى هذا الركن السادس من الإيمان، نحمد الله على تقديره الخير،

ونصبر على أقدار الشر، مع التزامنا بمدافعتها شرعاً بحسب الوسع والطاقة، وفي

حدود ما شرع الله، ومن واجبنا كذلك أن نؤمن أن الأقدار خيرها وشرها من تدبير

الله فلا يتجاوز شيء منها ما خُط في اللوح المحفوظ، والله تعالى لا يقدر شيئاً منها

عبثاً، ولا يجعل شيئاً منها شراً محضاً، بل كل مقدر لحكمة يعلمها هو سبحانه

وتعالى.

والذي أريد تأكيده هنا؛ هو ما ذهب إليه أهل السنة من أنه لا يجوز اتخاذ قدر

الله وقضائه حجة بعد الرسل، فالحجة علينا بإنزال الكتب وبعثة الرسل، وهذا

يعني ألا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك ما أوجبه الله علينا تجاه النوازل

التي تنزل بنا، وهذا أمر ينبغي أن نؤكده ونردده ونكرره ... ولماذا نكرر هذا..؟

- لأن ظاهرة (القدرية) [2] في التعامل مع نوازلنا المتتابعة أصبحت نازلة

أخرى؛ حيث استفحلت في الآونة الأخيرة ظاهرة «الانتظار» ... انتظار الحلول

القدرية الغيبية دون بذل القدر الداخل في الوسع تجاه ما ينزل بالمسلمين من محن،

وما يتجدد لهم من نوائب، تأتي بسبب تكالب الأعداء من جهة، وبسبب التفريط في

الأخذ بأسباب القوة والوحدة من جهة أخرى، وبسبب ما يتضاعف كل يوم من

مظاهر العصيان والرضا بالدنيا عن الآخرة من جهة ثالثة، قال تعالى: [وَمَا

أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى: 30) . وقال:

[مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ] (النساء:

79) . وقال: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ

عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: 165) .

- سبب آخر يدعو إلى تكرار الحديث عن ظاهرة القدرية في التعامل مع

النوازل، وهو انتشار الشعور بـ (براءة الذمة) عند أول إخفاق في محاولات حل

الإشكالات، وكأننا لم نؤمر بأن نصبر ونصابر ونرابط وأن نتحمل الآلام

والتضحيات كما يفعل أعداؤنا للأسف بكل جَلَد وجلاد، وصبر وعناد، قال

سبحانه: [وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ

وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُون] (النساء: 104) .

- سبب ثالث يدعو إلى ذلك التكرار عن ظاهرة القدرية وأطروحة الانتظار،

وهو أننا أصبحنا ندمن تطبيع العلاقات مع المصائب؛ بمعنى التعود عليها بعد زمن

يسير، فلا تعود توجع لنا قلباً، أو تُدمع لنا عيناً، أو تدفع الواحد منا وهذا هو

الأخطر إلى بذل شيء أي شيء للإعذار إلى الله في محاولة المساهمة في دفعها

ورفعها، ولكنه الانتظار السلبي القاتل لمجهول يأتي.. أو لحل خارق يجيء! ..

انظر كمثال فقط لحال الأمة مع الانتفاضة الفلسطينية في بدايتها، وحالهم معها بعد

مضي ثلاثة أعوام على انطلاقتها ... هل ظل التعاطف معها كما كان؟! هل بقي

الدعم كما بدأ..؟! هل زادت النصرة للمستنصرين على المستويات الرسمية

والشعبية والجماعية والفردية؟! إن كل ذلك في تناقص واضح خطر، يحكي

التناقض الصارخ المرير في أحوال أمة تزيدها النار برودة، ويزيدها الدمار هدوءاً،

وتزيدها الدماء هروباً للأمام، فهل الانتفاضة أو بالأحرى - الجهاد الفلسطيني -

أحوج اليوم إلى الدعم والمعونة أكثر أم هو منذ ثلاثة أعوام؛ عندما كانت أعواد

المنابر تهتز بالتأييد، وأصوات القنوت في المساجد ترفع بالدعاء، وصناديق

التبرع تزيد وتفيض بالأموال؟!

وأما عن التفاعل الإعلامي مع الأحداث فحدّث ولا حرج!! قارن فقط بين ما

صاحب مقتل الطفل (محمد الدرة) في أوائل أيام الانتفاضة من مشاعر ألم وثورة

ورغبة في الثأر، وبين ما يحدث الآن من مظاهر التبلد وقلة الاكتراث الذي أصبح

يصاحب مشاهد القتل للعشرات من الأطفال، مع مشاهد التفجير والهدم والتدمير.

أو قارن - إن وجدت وجهاً للمقارنة - بين حادثة اقتحام المجرم شارون

للمسجد الأقصى في شهر رجب من عام 1421هـ، والتي أثارت غضباً إسلامياً

عالمياً وعربياً وفلسطينياً، كانت الانتفاضة نفسها جزءاً منه، وبين الزيارة

الإجرامية الثانية لوزير الداخلية الإسرائيلي (تساحي هانجبي) قبيل بدء شهر

الصيام بأيام لساحة المسجد الأقصى، تلك الزيارة التي صاحبتها مظاهر الاستفزاز

والتحدي نفسها، ومع ذلك مرت مروراً عابراً دون أي مظهر من مظاهر الغضب

أو الاحتجاج رسمياً أو شعبياً!!

إن كل معايش للأمر يعلم أن إخواننا تزداد نازلتهم مع الأيام حدة وشدة، ولكن

الحاصل أن ما يُقدم لهم يتناقص مع الأيام، مادياً ومعنوياً!! أليس هذا مثالاً واضحاً

على تخبطنا في التعامل مع النوازل؟!

قس على ذلك طريقتنا في التعامل مع بقية القضايا والرزايا التي تداهمنا كل

يوم، وآخرها ما حدث في بغداد، حيث كانت الشوارع في العواصم العربية تموج

بالمظاهرات الحاشدة تنديداً بالحرب وتأييداً للعراق، فلما نزلت النازلة وقامت

الحرب، ووقع الاحتلال؛ تغيرت الأحوال، وارتخت الحبال، وانصرفت

الجماهير الثائرة إلى حال سبيلها.

إن أكثر ما يؤرق في ظاهرة التبلد والانتظار؛ أنها تعطي الأعداء إشارات

فاقعة الأخضرار للاستمرار في إنجاز خطواتهم ومشروعاتهم دون إزعاج أو قلق،

وخطورة هذه الظاهرة تنبع من كونها بدأت تترسخ لتكرس الهزائم وتهوِّن الهوان!

نقول هذا، ونحن نحتفظ في الوقت نفسه للمجاهدين المستضعفين الذائدين عن

حرمات الأمة؛ بحقهم الكامل في التقدير من كل مسلم، ولكن حديثنا هنا عن

مجموع الأمة التي تملك من الإمكانات ما يمكنها بإذن الله من الانتصار من أعدائها،

والانتصاف لمستضعفيها، ولكنها لا تجد من يقود دفتها الجماعية لمواجهة الهجمة

الإرهابية العالمية التي تقودها قوى الاستكبار الصهيونية، نصرانية ويهودية.

* ما أشبه الليالي بالبارحات:

إن النوازل تترادف تترى فوق رؤوس المسلمين منذ أكثر من عشرة عقود،

فلا يجد أكثرها جهة جامعة تُنتدب لها، أو قوة ماضية تنتصب لمواجهتها، ففي

الأعوام المئة الأخيرة فقط من حياة المسلمين؛ تتابعت نوازل، ووقعت كوائن، ما

كان لها أن تخلّف ما خلفت من مصائب مقيمة لو أن الأمة اصطفت وقتها خلف

قيادات علمية وعملية تنزّل من الشريعة على هذه النوازل ما يعاجلها بالعلاج، وما

يناسبها من الأخذ بالأسباب.

لقد اجتمع على الأمة من النوازل خلال المئة الماضية ما لم يجتمع عليها منذ

أن أُخرجت للناس، ومع ذلك فقد عبرت قوافل تلك النوازل غالباً في طرق خالية

خاوية دون عرقلة قوية مضادة، أو مواجهة شرعية جادة، بسبب تفرق خواص

الأمة قبل عوامها، ولهذا سلّمت كل أزمة زمامها للتي بعدها، فتضاعفت خلال

الأجيال حتى جاء جيلنا جيل الأزمات والملمات؛ فوقف عاجزاً أو متعاجزاً بتفرُّقه

وتشرذمه أمام جبل المسؤوليات، منتظراً حدوث الخوارق ووقوع المعجزات، دون

كثير اكتراث بما توجبه الشريعة من فروض وواجبات، وعلى رأسها تجميع الكلمة

خلف المنهج القويم، ومواجهة الأعداء بصف مرصوص.

حقيقة أخرى ينبغي أن نصارح بها أنفسنا، وهي أن من تأمل في معظم

أحوال النوازل الحاضرة؛ سيجد أن لها جذوراً قديمة من التقصير العام، حيث

كانت تجري في كل جيل عملية (ترحيل) للمسؤوليات إلى ما يسمى بـ (الجيل

القادم) .. وعندما يقدُم هذا الجيل؛ فإنه يحيل أيضاً جزءاً كبيراً من واجبات عصره

وفرائض وقته إلى الجيل الذي يليه، حتى تراكمت الواجبات والتكليفات، وأصبحنا

نعيش عصر نوازل عامة، لا يشابهه عصر من العصور الإسلامية السابقة.

صحيح أن محناً كثيرة مرت على المسلمين خلال التاريخ الإسلامي، مثل

سقوط الأندلس ووقوع بيت المقدس في يد الصليبيين، واجتياح التتار لبلدان

المشرق الإسلامي، واستيلائهم على عاصمة الخلافة في بغداد، ولكن تلك الكوارث

لم تصرف الأمة عن شريعتها، ولم تؤثر في هويتها، أو تتركها عاجزة عن

التصدي والوقوف أمام أعدائها. كان هناك دائماً انتصار بعد انكسار، وعزيمة

للخروج من الهزيمة، وكان هناك إباء للضيم، واستعلاء على الاحتواء ضد من

كان المسلمون يرونهم أدنى مدنية وديانة، وأردأ خلقاً وثقافة، وأضعف جنداً

وحضارة. أما في عصرنا الذي نعيشه فقد جدَّ من النازلات في حياة المسلمين ما

حيَّر الألباب، لا من مجرد وقوعه بل من استمرار بقائه، فكم من نازلة نزلت

فأقامت، وكم من كائنة عرضت ثم استقرت، ومصيبة قال الناس ستزول، ولكنها

طالت ودامت، وأخرى لفظوها ورفضوها، ثم استمرؤوها وعايشوها.

هناك حشد من الوقائع الكبيرة الحادثة في هذه المئة الأخيرة، لم يكن للمسلمين

عهد بها من قبل، ولكن «تطبيع العلاقات» مع النوازل والمصائب؛ جعل الناس

يتعايشون معها وكأنها شيء اعتيادي، يمكن أن نظل في ظله خير أمة وأعز أمة

وأقوى أمة، إنها وقائع جسيمة حقاً ولكن هناك من يريد تحقيرها وتصغيرها

والإبقاء على استمرارها.

- فلأول مرة يفرغ منصب الولاية العامة للمسلمين (الخلافة) نحو قرن من

الزمان؛ دون أن يخلف الخليفة أحد غيره كما كان العهد طوال التاريخ الإسلامي.

- ولأول مرة يسقط كيان المسلمين الدولي، وسلطانهم العالمي ممثلاً بنظام

الخلافة الإسلامية الذي سقط بسقوط الدولة العثمانية؛ دون أن يعود هذا النظام ليقود

المسلمين مرة أخرى في زمن التكتلات النصرانية والإلحادية واليهودية والهندوسية.

- ولأول مرة تستبدل الشريعة الإلهية التي حكمت المسلمين ثلاثة عشر قرناً،

لتحل محلها في الحكم بين المسلمين في معظم البلدان قوانين وضعية وضيعة،

وشرائع بشرية جاهلية، يُحكم بها حكماً عاماً في الدماء والأموال والأعراض

والأبضاع والسياسات الداخلية والخارجية.

- ولأول مرة في تاريخ الإسلام تكون للذين كفروا اليد العليا في إدارة العالم

من خلال تحكمهم في المؤسسات الدولية، والتكتلات العالمية؛ بينما يتخبط

المسلمون مع منظماتهم الهزيلة إقليمياً وعالمياً.

- ولأول مرة تقع معظم بلاد المسلمين تحت الحكم المباشر لجيوش المعتدين

الكافرين كما حدث في النصف الأول من القرن المنصرم؛ لتسلم بعد ذلك لفئام

المنافقين، يغرقونها في الإثم والعار، ويحكمونها بالحديد والنار.

- ولأول مرة يقوم فوق حطام الكيان الإسلامي الضخم، كيان مسخ قزم،

يجمع أشتات أسوأ المخلوقات البشرية من اليهود؛ ليكون لأولئك الأرجاس دولتهم

القوية التي يعدونها نواة لعولمة يهودية تريد إخراج الناس من النور إلى الظلمات،

بعد أن أخرجهم الإسلام من الظلمات إلى النور.

- ولأول مرة تسقط الأرض المقدسة في فلسطين في يد ذلك الكيان المرذول،

وتجتمع لنصرتهم فيها وتمكينهم منها طوائف الكفار جميعاً، وبخاصة أنصار إبليس

من نصارى العصر المتهودين (البروتستانت) الذين تناسوا ثاراتهم وعداواتهم مع

من كانوا يعدونهم قتلة المسيح وأعداء الإله؛ ليتوحدوا بهذه العداوات ضد الموحدين.

- ولأول مرة تكون لأصحاب الصليب صولة ودولة متفردة، يتهددون بها كل

المسلمين في عقر ديارهم، وينازعونهم في أرزاقهم، ويفرضون عليهم حقارة

حضارتهم وسخافة ثقافتهم، دون أن يمكنوهم من الأخذ بأسباب القوة العصرية

المودعة في الأسرار التقنية التي يجري على المسلمين فرض حصار حولها، حتى

تظل بلدانهم أبد الدهر سوقاً استهلاكية، تساق للهلاك كلما حاولت واحدة منها

الخروج من ذلك الحصار الحضاري الضاري.

لقد أثمرت تلك الأوضاع متضافرة أزمة عامة، حشوها أزمات، ونازلة

كبرى مركبة من العديد من النوازل والنكبات، وصار تساؤل الكثيرين لا عن

إمكانية الخروج عنها، أو التخفيف منها، بل عن كيفية التعايش معها والتسامح

فيها!!

* عندما يغزوننا ولا نغزوهم..

تحكي حركة التاريخ دائماً أن التحولات في المجتمع البشري تأتي نتيجة

عمليات غزو وغزو مضاد، وكل غزو يحمل فكرة أو عقيدة أو مذهباً يريد العلو

على غيره وفرض إرادته عليه. ولما كانت الأفكار والإرادات والعقائد والثقافات

تتقلب بين كفر وإيمان، وبين فساد وصلاح، كانت الغلبة لفريق غازٍ، هي غلبة

لفكرته وإرادته وعقيدته وثقافته، فعندما يغزو المؤمنون أو يصدون الغزو، تنتصر

وتعلو عقيدتهم وثقافتهم وإرادتهم، والعكس يحدث عندما يغزوهم الكفار، أو

يمنعونهم من الغزو لنشر الإيمان والاستقامة والتوحيد.

وهذه هي سنة التدافع التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: [وَلَوْلا

دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) ، وقوله:

[وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ

يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن

مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ

وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج: 40-41) ، إن الآية الأولى - آية البقرة -

جاءت تعقيباً على قصة انتصار التوحيد بقيادة طالوت وداود، على الشرك والوثنية

بقيادة جالوت؛ لتبين أنه لولا مثل هذا الدفع لفسدت الأرض بشرك أمثال جالوت،

عندما تعلو كلمتهم على منهج الإيمان والتوحيد الذي جاء به أنبياء كداود - عليه

السلام -. والآية الثانية - آية الحج - وهي أول آية نزلت في القتال؛ جاءت

بالإذن للمسلمين في قتال أهل الشرك من قريش؛ لما بالغوا في إيذاء المسلمين

لفتنتهم عن دينهم وإعادتهم إلى الشرك، وبينت الآية أنه لولا هذا الأذن بمثل ذلك

الدفع في كل زمان لفسدت الأديان كلها، وظهر الشرك وأهله على الإيمان

وأهله، ولهدمت الصوامع في ديانة موسى، والبِيَع والصلوات في ديانة عيسى،

والمساجد في ديانة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى الرسل أجمعين [3] .

فتاريخ البشرية يحكي هذا التدافع الذي ينتج عنه فرض صاحب القوة لفكرته

مهما كانت كاسدة، وفاسدة مفسدة، على المغلوب مهما كانت عقيدة راجحة، صالحة

ومصلحة.

ولم يحدث للمسلمين أن غُزُو غزواً عاماً بهذا المفهوم إلا في أعقاب إسقاط

الخلافة العثمانية، وما تلاها من محاولات إحلال العلمانية الكفرية محل المناهج

الإيمانية في الشريعة والعقيدة، لقد بدأ هذا الإسقاط بغزوات وحروب، قادتها في

البداية روسيا النصرانية القيصرية الأرثوذكسية، ثم تتابع الكاثوليك والبروتستانت

على محاربة هذا الكيان الإسلامي لغزوه، حتى كانت النهاية على يد البروتستانت

الإنجليز في الحرب العالمية الأولى التي احتل الإنجليز فيها إستانبول في نهاية

مطاف طويل من التحالف بينهم وبين فريق متكامل بين المنافقين في داخل الدولة

العثمانية، وبالتعاون مع حركة الصهيونية العالمية حديثة النشأة في ذلك الوقت،

ومن يومها والأمة تتقلب بعد هذا الغزو من حال سيئة إلى حالة أسوأ.

* مسلسل النوازل، من إستانبول إلى بغداد:

هناك أمر لافت في ترتيب العلاقة بين ما مضى بالأمس وبين ما يحدث اليوم

من الأحداث، فإذا استعرضنا من ذاكرة التاريخ القريب أحداث إسقاط الخلافة

العثمانية فقط، ثم ما تفرع عن ذلك من انفراط عقد المسلمين؛ لوجدنا أن جُل

النوازل بعدها قد تولد عنها، بدءًا من سيطرة الكفار العسكرية المباشرة على معظم

بلدان المسلمين ثم توريثها للعلمانيين المنافقين، ومروراً بكارثة ضياع فلسطين،

ووصولاً إلى ما يحدث الآن في العراق وأفغانستان والشيشان والفلبين وكل

البلدان التي يستضعف فيها المسلمون، فالبدء كان بدولة الخلافة العثمانية الجامعة

لشمل المسلمين، والتي مثلت - بالرغم مما قيل فيها من مثالب - فخراً للمسلمين،

فسقوط هذه الدولة لم يكن تحصيل حاصل كما يزعم بعض المؤرخين، ولا كان أملاً

جماهيرياً عند المسلمين كما يهرف جهلة المثقفين. لقد كانت هذه الدولة عالمية بكل

المقاييس، حيث امتدت في الزمان والمكان، فمن حيث الزمان استمر بقاؤها لأكثر

من ستة قرون، ومن حيث المكان امتدت أراضيها من آسيا إلى أوروبا إلى إفريقيا

في بقاع شاسعة، كانت تقوم على حمايتها أكثر جيوش العالم عدداً وعُدة، حتى إنها

عبرت البحر من الأناضول إلى جنوب شرق أوروبا وأواسطها، وتمكنت تلك

الجيوش التي افتتحت أمجادها بفتح القسطنطينية عاصمة الشرك الأوروبي في سنة

857هـ على يد محمد الفاتح، تمكنت من فتح اليونان وبلغاريا ورومانيا

ويوغسلافيا وألبانيا، ورودس، وقبرص، والمجر، وكريت، وسارت جيوشها

حتى بلغت فيينا عاصمة النمسا، ووصلت إلى جنوب إيطاليا، فكانت أول دولة

إسلامية تُدخل النور على ربوع أوروبا المظلمة التي خيمت عليها سحابات الشرك

الداكنة طوال تاريخها المعتم بالجاهليات الوثنية.

ولكن هذا الصرح الإسلامي الكبير، تكالبت عليه الأعداء كما قلنا، وفي

مقدمتهم نصارى أوروبا الذين كسر الجهاد العثماني أنوفهم، فتحالفوا مع اليهود

والمنافقين على تقويض أركان ذلك البنيان الشامخ، وبدأ الهدم من الداخل أولاً عن

طريق الفريق المتكامل من المنافقين الزنادقة المتسمين بأسماء المسلمين، وصاحَبَ

ذلك عمليات الغزو الفكري التي كانت تمهد دائماً لكل أنواع الغزو الذي يليها، ومع

تكثيف إرساليات التنصير، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية؛ تهيأت الدولة

للسقوط بعد استعصاء طويل استمر كما قال المؤرخ الفرنسي (دين جروسيه)

220 عاماً تضافرت فيها جهود أعداء العثمانيين وكل المسلمين للقضاء على هذه

الدولة المجاهدة.

ولا حاجة الآن لحكاية مراحل ذلك المسلسل الطويل، ولكن ما يعنينا هو

الفصل الأخير المعاصر لعملية الإسقاط، والتي تفرعت عنه فصول أخرى متشابهة

في تفاصيلها وإن كانت مختلفة في مسمياتها.

لم يستطع المسلمون بعد ثمانين عاماً من وقوع هذه النازلة أن يعالجوا آثارها،

ولم يستطيعوا أن يعيدوا بناء كيانها الجامع (دولة الخلافة) ، أو يردوا الاعتبار

لذلك المنصب الشاغر (الخليفة) ذلك المنصب الذي شغرت بشغوره الثغور،

وتجرأت على الأمة بعده الكلاب والذئاب والغربان والنسور! يكاد المرء ألا يصدق

ما حدث عندما يسترجع بالذاكرة تسلسل الأحداث، فالحدث على جلالته وفجاعته

جاءت خاتمته على يد رجل وضيع، لئيم في خبثه، وصلد في عناده وصلفه،

رجل تحدى أمة بأكملها، ولم تخرج له الأمة أحداً من رجالها ... إلا قليلاً من

المغلوبين على أمرهم، كيف استطاع هذا الطاغوت اليهودي الأصل (مصطفى

كمال أتاتورك) أن يحمل المعول وحده في المرحلة الأخيرة ويهدم ذلك الصرح

كله؟!

لاحظ معي تسلسل خطوات التآمر السافر، ولاحظ معه كيف مرت هذه

النوازل الجسام على الأمة مرور الكرام، أو على الأقل.. مرت الغزوة بسلام بعد

أن دمرت مستقبل أمة الإسلام لعقود طويلة في بلدان كثيرة.

سأعرض في لقطات سريعة خلاصة الجريمة الكبرى والنازلة العظمى التي لم

تتم منازلتها بما يليق بخطورتها؛ بحيث تعودت الأمة بعد ذلك على أن يتم تكرار

(السيناريو الأتاتوركي) على يد العديد من صغار الفجار الذين عدّوه مثلهم الأعلى،

ونموذجهم المحتذى.

* الزلزال وتوابعه:

- عندما عزم أتاتورك على إلغاء الخلافة بعد أن أعطاه الإنجليز «الاستقلال»

بهذا الشرط؛ عرض على مجلس النواب بالجمهورية التركية الجديدة اقتراحاً

بفصل الدين عن الدولة، فأحال مجلس النواب الاقتراح على لجنة قانونية لدراسته،

وبعد الدراسة رفضت اللجنة القانونية الاقتراح؛ لأنه يخالف الدستور الذي ينص

على أن الإسلام دين الدولة، فغضب أتاتورك وطلب التصويت على القرار فيما

يسمى بـ (الجمعية الوطنية) .

- كان معنى فصل الدين عن الدولة كما أراد أتاتورك في البداية؛ أن يبقى

الخليفة مجرداً من السلطات، وأن ينظر إليه فقط على أنه صاحب وظيفة دينية

روحية فحسب، مع ترك تصريف شؤون الدولة للوزراء في ظل نظام علماني لا

ديني ولا أخلاقي، وكان أول من طُبقت عليه هذه الأفكار الخليفة عبد المجيد،

ولكن الأتراك تعاطفوا معه ضد أتاتورك وزمرته، إلا أن هؤلاء المارقين فرضوا

أفكار الردة بقوة الإرهاب، وأمر أتاتورك بالفعل بقتل عدد من معارضي إلغاء

الخلافة.

- عندما وُوجه أتاتورك باعتراضات المعارضين لمسعاه المشؤوم؛ هاجمهم

بلهجة عنصرية تفوح منها رائحة القومية الجاهلية المنتنة المختلطة بروح

الصهيونية اليهودية العفنة، حيث قال لهم: «أليس من أجل الخلافة والإسلام قاتل

القرويون الأتراك وماتوا طيلة خمسة قرون؟ لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها

لوحدها ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم؛ لتنقذ تركيا نفسها من

زعامة المسلمين» !

- لم يكتف أتاتورك بنزع الشرعية عن الخليفة ومنصب الخلافة، حتى راح

يتهم الخليفة الأخير بأنه عميل وصنيعة المستعمرين الإنجليز، وفي صبيحة 2/3/

1924م أعلن إلغاء منصب الخلافة كلية، وطلب من الخليفة عبد المجيد وأسرته

مغادرة البلاد في غضون عشرة أيام، وأصدر أمراً بحرمانهم من الإقامة بتركيا، ثم

أتبع ذلك بإلغاء كل المناصب الدينية.

- تحول اللدود بعد ذلك إلى إلغاء كل معالم التمسك بالدين عند الشعب التركي

المتدين بطبعه، فحوَّل أوقاف المسلمين إلى أملاك الدولة لتنفقها في غير ما أوقفت

له، وحوَّل المعاهد الدينية إلى مدارس تدرّس المناهج العلمانية، وألغى المحاكم

الشرعية بعد أن أوقف العمل بأحكام الشريعة، ثم طوَّر مسيرته الإجرامية بمزيد من

الخطوات القسرية التي تهدف إلى طمس الهوية لشعب عريق في تدينه ومحبته

للدين، فألغى حجاب المرأة، وأمر بحظر تعدد الزوجات، ومنع الرجال من لبس

غطاء الرأس الشرقي (العمامة والطربوش) واعتمد لهم (القبعة) الأوروبية،

وحتى الكلام ... حظر التحدث فيه بالعربية، بعد أن أرغم الناس على كتابة اللغة

التركية بالحروف اللاتينية، واستمرأ ذلك الطاغوت سكوت الناس، فأمرهم بتغيير

أسمائهم وكناهم إذا كانت عربية، لتحل محلها أسماء وكُنى طورانية!! .. وويل

للمغلوب إذا غزاه الغالب [4] .

- وكان لا بد من خطوات تضمن الإبقاء على إلغاء كل ما يتعلق بالإسلام بقوة

القوانين الجائرة، فعدل الدستور ليرفع منه العبارة التي تنص على أن الإسلام دين

الدولة، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، وكان ذلك في عام 1928م،

بعد أربعة أعوام من إلغاء منصب الخلافة، ثم خطا خطوة أكبر فألغى تدريس العلوم

الدينية سنة 1929م، ثم أصدر تعليماته بألا تمارس الشعائر في المساجد إلا باللغة

التركية بما فيها الأذان، وحتى القرآن أمر بكتابته باللغة التركية وحروفها اللاتينية،

ولم يأت عام 1932م إلا والأذان يرفع باللغة التركية، وألغى أتاتورك كذلك الأقسام

الشرعية بالجامعات التركية.

- لم يكتف ذلك الذئب الأغبر بإيقاف العمل بأحكام الشريعة، حتى أعطى

لنفسه الحق في تبديلها وتغييرها، فأصدر مرسوماً بمساواة الرجل والمرأة في

الميراث، وأجرى تغييرات كثيرة في القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية؛ لتتلائم

مع القوانين الأوروبية التي أحلها محل الأحكام الإسلامية، واستورد للمسلمين

القوانين الكفرية، السويسرية والإيطالية وغيرها، ليثبت سلطان الاحتلال قبل أن

يرفع عقيرته بتحقيق الاستقلال.

- كانت تركيا أثناء ذلك كله خاضعة للاحتلال البريطاني، ولم يشأ الإنجليز

الأعداء أن يغادروا تركيا التي احتلوها في الحرب العالمية الأولى، إلا بعد أن يتم

الكماليون الجريمة تحت إشرافهم، وبعد أن اطمأن الإنجليز إلى أن تركيا أصبحت

في يد (أمينة) سلَّم قائد قوات التحالف (اللورد هارنجتون) حكومة أتاتورك مقاليد

الأمور، وأذن لتركيا بالاستقلال بزعم انتهاء دور الاحتلال، وبالرغم من بقاء

الاحتلال بصور أخرى كتلك التي ثبتها أتاتورك، إلا أن بعض نواب الإنجليز

احتجوا في مجلس العموم البريطاني على (منح) وزارة الخارجية البريطانية تركيا

الاستقلال (مبكراً) ، وقد دافع وزير الخارجية البريطانية آنذاك (اللورد كرزون)

عن هذه «التهمة» بأن قال للنائب المعترض: «لا تخف من تركيا فقد قضينا

عليها، ولن تقوم للأتراك قائمة كما كانت من قبل، فقد قضينا على عنصري القوة

فيها: الخلافة، وأحكام الإسلام» ! .

وفي عام 1336هـ / 1917م أي وقت اشتعال ما سُمي بـ (الثورة العربية

الكبرى) بقيادة المغامر المقامر (حسين بن علي) الذي وقف بثورته في صف

النصارى ضد المسلمين الأتراك كانت وزارة الخارجية البريطانية قد أعدت وثيقة

بالتزامن مع وثيقة (وعد بلفور) تبين الموقف البريطاني الرسمي وهدفه من

استمرار القتال في الحرب العالمية الأولى، جاء فيها: «لا شك في أن تحطيم

الإمبراطورية العثمانية الفعلي هو أحد الأهداف التي نعمل على تحقيقها، وقد يبقى

الأتراك شعباً على شيء من الاستقلال ضمن منطقة آسيا الصغرى، وإذا تم لنا

النصر فمما لا شك فيه أن الأتراك سيحرمون من جميع المنطقة التي نطلق عليها

اسم الجزيرة العربية، كما أنهم سيحرمون من معظم الأجزاء الهامة في وادي

الفرات ودجلة، وستفقد إستنابول وسوريا وأرمينيا، كما أن أجزاء من جنوبي

آسيا الصغرى إذا لم تضم إلى القوات الحليفة؛ فإنها ستكون بصورة ما تحت

سيطرتهم» [5] .

* وهنا تثور تساؤلات عديدة:

- أين كان علماء الأمة وحكماؤها وأهل الحل والعقد فيها، وتلك الأحداث

المتتابعة تفور وتمور بهذا الشكل المدمي للقلوب، ولماذا اعتبرت هذه الأمور

الخطرة على مستقبل الإسلام في العالم مجرد مشكلات (محلية) في الدولة التركية؟!

- ولماذا سكتت الشعوب على هذه المهازل المجموعة في دفعة مركزة من

التغيير الجذري والقسري الذي أصاب جوهر حياة الإنسان المسلم؟!

- عندما زالت الخلافة العثمانية؛ لماذا زالت معها معالم التمسك بالإسلام

عقيدة وشريعة على مستوى الحكومات التي خلفتها في تركيا وغيرها، وهل كانت

مشكلة المنافقين العلمانيين مع نظام الخلافة العثمانية أم مع نظام الحكم الإسلامي

نفسه؟!

- هل كان دور المرتدين والمنافقين أسبق في إتمام المؤامرة أم كان دور

الكفار من النصارى واليهود أسبق، أم أن غياب الوعي وعجز الإرادة في خواص

الأمة هو الذي مهد الطريق لهؤلاء وهؤلاء؟!

- هل كان لهذه الهجمة صداها في عصر ما قبل الجماعات والحركات

الإسلامية، وهل قامت هذه الجماعات بعد نشوئها كرد فعل على النازلة هل قامت

بمحاولات جادة لإيقاف تكرار هذه المؤامرة الكبرى في أماكن أخرى؟ وهل كانت

هذه المحاولات على المستوى المتناسب مع النازلة، أم أنها كانت نازلة عن

مستواها بسبب فرقة الصفوف واختلاف الكلمة؟!

- مع ما تواجهه الحركات الإسلامية خاصة، والشعوب الإسلامية عامة، من

هجمة غربية ربما تكون أشرس من الهجمة السابقة في القرن الماضي.. هل من

المناسب أن تظل برامج تلك الحركات والجماعات كما كانت عليه خلال القرن

الماضي، وهل سيظل (أمل) إقامة النظام الإسلامي العالمي بخطواته المتدرجة

على رأس أولويات العمل الإسلامي الآن كما كان الشأن قبل ذلك؟!

- وأخيراً ... ونحن لا نزال نعيش آثار العدوان على كياننا الإسلامي الجامع،

هل هناك أمل باقٍ في إعذار شرعي حقيقي إلى الله، يؤدي فيه هذا الجيل

الواجب المنوط به، دون ترحيل للمسؤولية إلى الأجيال القادمة ... أم أننا سنظل

نؤثر الانتظار دون إعذار..؟!

أرجو أن تتيسر الفرصة لمناقشة هذه التساؤلات أو بعضها في أعداد قادمة

بإذن الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015