مجله البيان (صفحة 4756)

دراسات تربوية

الثبات على الطريق وأثره في حياة الأمة

محمد أحمد سيد طه [*]

إن الله تعالى خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، ويخافوه، ويخشوه، ونصب لهم

الأدلة الدالة على كبريائه وعظمته ليهابوه.

وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن جعل الابتلاء سنة من سنن الله الكونية، وأن

المرء بحاجة إلى تمحيص ومراجعة حتى يتميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من

غيره؛ فالسعيد من اعتصم بالله، وأناب ورجع إلى الله، والمؤمن الصادق ثابت في

السراء والضراء. قال تعالى: [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ

لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ]

(العنكبوت: 1-3) ، وقال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ

الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ

آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) ، وقال تعالى:

[وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (الأعراف: 168) .

إن في تعاقب الشدة والرخاء، والعسر واليسر، كشف عن معادن النفوس،

وطبائع القلوب؛ حيث يتمحص المؤمنون، وينكشف الزائفون. ومن علم حكمة الله

في تصريف الأمور، وجريان الأقدار فلن يجد اليأسُ إلى قلبه سبيلاً، ومهما

أظلمت المسالك وتتابعت الخطوب، وتكاثرت النكبات؛ فلن يزداد إلا ثباتاً؛

فالإنسان إلى ربه راجع، والمؤمن بإيمانه مستمسك وبأقدار الله مسلمَّ.

وإن مما حث عليه الإسلام، وعظمة القرآن: الثبات على الدين، والاستقامة

عليه؛ ذلك أن الثبات على دين الله والاعتصام به يدل دلالة قاطعة على سلامة

الإيمان، وحسن الإسلام، وصحة اليقين، وحسن الظن بالله تعالى وما أعده الله عز

وجل من النعيم المقيم في الآخرة لعباده الصالحين، وفي الدنيا من النصر والتمكين.

قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *

وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ] (محمد: 7-8) ، وأعظم الثبات،

الثبات على الدين.

إن الثبات على دين الله خلق عظيم، ومعنى جميل، له في نفس الإنسان

الثابت، وفيمن حوله من الناس مؤثرات مهمة تفعل فعلها، وتؤثر أثرها، وفيه

جوانب من الأهمية الفائقة في تربية الفرد والمجتمع.

إن صفة الثبات على الإسلام والاستمرار على منهج الحق نعمة عظيمة حبا

الله بها أولياءه وصفوة خلقه، وامتن عليهم بها، فقال مخاطباً عبده ورسوله محمداً

صلى الله عليه وسلم: [وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً]

(الإسراء: 74) .

وأمر الله سبحانه الملائكة الكرام بتثبيت أهل الإيمان، فقال سبحانه: [إِذْ

يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا

الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] (الأنفال: 12) .

إن الثبات على دين الله دليل على سلامة المنهج، وداعية إلى الثقة به، كما

أن الثبات على الدين ضريبة النصر والتمكين والطريق الموصلة إلى المجد والرفعة.

والثبات طريق لتحقيق الأهداف العظيمة، والغايات النبيلة؛ فالإنسان الراغب

في تعبيد الناس لرب العالمين، والعامل على رفعة دينه وإعلاء رايته لا غنى له

عن الثبات.

إن الثبات يعني الاستقامة على الهدى، والتمسك بالتقى، وقسر النفس على

سلوك طريق الحق والخير، والبعد عن الذنوب والمعاصي وصوارف الهوى

والشيطان. إن مما يعين على الثبات أمام الفتن والابتلاءات صحة الإيمان وصلابة

الدين؛ فكلما كان الإنسان قوياً في إيمانه، صلباً في دينه، صادقاً مع ربه، كلما

ازداد ثباته، وقويت عزيمته وثبتت حجته، قال تعالى: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا

بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] (إبراهيم: 27) ، وقال صلى الله

عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل

خير» [1] .

كما أن الدعاء والافتقار إلى الله عز وجل والاستكانة له من أقوى الأسباب

لدفع المكروه وحصول المطلوب، وهو من أقوى الأسباب على الثبات إذا أخلص

الداعي في دعائه؛ وحسبك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه ويسأله

الثبات، فيقول: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد» [2] .

وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم

كان يدعو فيقول: «رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر

لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ. اللهم

اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً ومنيباً، رب

تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد

لساني، واسلل سخيمة قلبي» [3] .

كما أن اليقين والرضى بقضاء الله وقدره من أعظم الأسباب المعينة على

الثبات. قال علقمة بن قيس في تفسير قوله تعالى: [وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ

وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (التغابن: 11) قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم

أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم «.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:» بالصبر واليقين تُنال الإمامة

في الدين «، وقال ابن القيم - رحمه الله -: اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من

الجسد» . وقال ابن تيمية - رحمه الله -: «الصبر نصف الإيمان، واليقين

الإيمان كله» .

إن المسلمين اليوم، وهم يمرون بمرحلة عصيبة من مراحل تاريخنا المعاصر

وتكاد تغلب في هذه المرحلة عوامل اليأس ومشاعر الإحباط بأمس الحاجة إلى

التمسك بالدين، والعض عليه بالنواجذ؛ لأن الاستسلام لليأس يقتل الهمم ويخدر

العزائم، ويدمر الطموحات، وهذه المعاني هي التي تحرك الإرادات وبذل الجهد.

ورغم تتابع الفتن وتنوعها وتكاثرها فإن نصر الله آتٍ لا محالة إن شاء الله

كما وعدنا سبحانه شريطة أن نتمسك بديننا ونعتز بشريعتنا ويكون ولاؤنا لله

ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ

لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من

أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله

وهم ظاهرون» [4] . وفي حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من

المسلمين حتى تقوم الساعة» [5] .

ومع تكاثر أعداء الإسلام، وتكالبهم على هذا الدين، والكيد له ولأهله قال

تعالى: [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ]

(الصف: 8) . إلا أن النصر والتمكين بمشيئة الله لحملة هذا الدين المبشرين بالثناء

والتمكين كما في حديث ثوبان - رضي الله عنه -: «إن الله زوى لي الأرض

فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها» [6] .

وكما في حديث تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى

الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك بيت مدر ولا

وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به دين الإسلام،

وذلاً يذل به الكفر» [7] .

إن عز هذه الأمة، ورفعة أهل الحق لا تتم ولن تكون إلا بالعض على هذا

الدين بالنواجذ عقيدة وشريعة، صدقاً وعدلاً، ثباتاً في الموقف وصدقاً مع الله، قال

تعالى: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:

139) ، وقال سبحانه: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]

(محمد: 38) .

* العوامل المعينة على الثبات على الدين:

إن الثبات على الدين مطلب عظيم ورئيس لكل مسلم صادق يحب الله ورسوله،

ويريد سلوك طريق الحق والاستقامة بعزيمة ورشد، والأمة الإسلامية اليوم أحوج

ما تكون إلى الثبات خاصة وهي تموج بأنواع الفتن والمغريات، وأصناف الشهوات

والشبهات، فضلاً عن تداعي الأمم عليها، وطمع الأعداء فيها.

ومما لا شك فيه أن حاجة المسلم اليوم لعوامل الثبات أعظم من حاجة أخيه

المسلم إلى ذلك في القرون السالفة؛ وذلك لكثرة الفساد وندرة الإخوان، وضعف

المعين، وقلة الناصح والناصر.

أهم عوامل الثبات ما يلي:

1 - صحة الإيمان وصلابة الدين:

إن الإيمان له قوته الإيجابية التي تعمل على تنمية المشاعر وتنقيتها، وأن

القوة الإيمانية تترك بصماتها على الفرد والجماعة، وعلى سائر اتجاهات السلوك

الإنساني، ومتى صح الإيمان ورسخت حلاوته في قلب المؤمن رزقه الله الثبات في

الأمر والعزيمة على الرشد، وكلما كان قوياً في إيمانه، صلباً في دينه، صادقاً مع

ربه، كلما ازداد ثباته، وقويت عزيمته. قال تعالى: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا

مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]

(الأحزاب: 23) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى

الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» [8] .

2 - تدبر القرآن والعمل به:

إن من حق القرآن علينا أن نتدبر معانيه، وأن نفهم مقاصده؛ ذلك أن القرآن

هو كتاب الله الخالد، ومعجزة رسوله الباقية، ونعمته السابغة، وحكمته الدامغة،

وهو ينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، أنزله الله على

رسوله صلى الله عليه وسلم لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصراً، ونسعد به تذكراً،

ونجتهد في إقامة أوامره ونواهيه، وعلماً تزداد البصائر فيه تأملاً فيزيدها هداية

وثباتاً وتبصراً. قال تعالى: [كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً] (الفرقان:

32) ، وقال تعالى: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا

الأَلْبَابِ] (ص: 29) .

لقد أنزل الله القرآن ليكون بشيراً ونذيراً، وهادياً إلى ما ارتضى له من دينه،

وسلطاناً أوضح به وجهة دينه، ودليلاً على وحدانيته، ومرشداً إلى معرفة عزته

وجبروته، ومفصحاً عن صفات جلاله وعلو شأنه وعظيم سلطانه، وحجة لرسوله

محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله به، عَلَماً على صدقه، وبيِّنة على أنه أمينه

على وحيه والصادع بأمره، فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله، بيَّن فيه

سبحانه أن حجته كافية هادية، لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها أو حجة

تتلوها، والقرآن الكريم وسيلة التثبيت الأولى للمؤمنين، ولقد أنزل الله القرآن

العظيم منجَّماً مفصلاً، وجعل الغاية منه هي التثبيت لقلب النبي صلى الله عليه

وسلم. قال تعالى: [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ

لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً] (الفرقان: 32) .

إن القرآن الكريم أعظم مصدر للتثبيت؛ لأنه يزرع الإيمان ويقوي الصلة بالله،

كما أنه العاصم من الفتن وكيد الشيطان وغوايته، كما أنه يزود المسلم

بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع على ضوئها أن يُقوِّم الأوضاع التي من

حوله، تقييماً صحيحاً، كما أن القرآن بما اشتمل عليه من أحكام وأصول وقواعد

وحكم وقصص، يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين

ومن سار على دربهم.

فإن عُلم ذلك كله لزم على من أراد الثبات في الدنيا والآخرة، والفوز بالنعيم

المقيم، أن يتخذ القرآن سميره وأنيسه، وأن يجعله رفيقه وجليسه على مر الليالي،

وتتابع الأيام، فلا يقتصر على النظر فيه، بل يحمل نفسه على العمل به.

3 - الصبر والتصبر عند نزول المصائب والمحن:

إن الصبر من أجلِّ صفات النفس وأعلاها قدراً، وأعظمها أثراً قال صلى الله

عليه وسلم: «الصبر ضياء» فالصبر من أعظم الأمور والعوامل المعينة على

الثبات؛ ذلك أن الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى،

والجوارح عن التشويش؛ فالصبر إذن أعظم مظهر من مظاهر الثبات، ولقد أمرنا

الله تعالى به فقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ

مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة: 153) ، وقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا

وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 200) .

قال ابن تيمية - رحمه الله - قد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين

موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا

لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ] (البقرة: 45) ، وجعل الإمامة في الدين موروثة عن

الصبر واليقين بقوله: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا

يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) ؛ فإن الدين كله عِلمٌ بالحق وعمل به، والعمل به لا بد

فيه من الصبر، بل وطلب عِلْمِهِ يحتاج إلى الصبر، كما قال معاذ بن جبل

- رضي الله عنه -: «عليكم بالعلم؛ فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث

عنه جهاد» فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بد في الجهاد من الصبر؛

ولهذا قال الله تعالى: [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (وَالعصر: 1-3) .

4 - اليقين، والرضا بقضاء الله وقدره:

اليقين والرضا بقضاء الله وقدره من أعظم الأسباب المعينة على الثبات؛ ذلك

أن اليقين هو جوهر الإيمان، وإن مما لا شك فيه أن اليقين، والرضا والتسليم

لقضاء الله وقدره من أقوى الدعائم والعوامل المعينة على الثبات.

5 - التزام شرع الله والعمل الصالح:

قال تعالى: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي

الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] (إبراهيم: 27) .

قال قتادة: «أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة

(في القبر) » وكذلك روي عن غير واحد من السلف. وقال سبحانه: [وَلَوْ أَنَّهُمْ

فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] (النساء: 66) أي على الحق؛

ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل

إليه أدومه وإن قل، وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه، وكانت عائشة - رضي

الله عنها - إذا عملت العمل لزمته، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «من ثابر

على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة» [9] . وفي الحديث القدسي: «ولا يزال

عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه» [10] .

6 - الذكر والدعاء:

سبق أن تحدثت عن الدعاء وفضله وأثره. أما الذكر فهو حياة القلوب،

وشفاء الصدور، وجلاء الأحزان، وأنس المستوحشين، وأمان الخائفين، فضله

عظيم، وأثره عميم، وهو من أعظم أسباب التثبيت في الجهاد وغيره. قال تعالى:

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً] (الأنفال: 45) ،

وقال سبحانه: [وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً]

(الأحزاب: 35) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه عند

التضرع إليه وفي سجوده قائلاً: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» [11] .

7 - الاستعانة بالله وحسن الظن به:

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: «وتحت قوله تعالى: [يُثَبِّتُ اللَّهُ

الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] (إبراهيم: 27) كنز

عظيم من وُفِّق لمظنته، وأحسن استخراجه واقتناءه، وأنفق منه فقد غنم، ومن

حُرِمَه فقد حرم؛ وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين؛ فإن لم

يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانها، وقد قال تعالى لأكرم خلفه:

[وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً] (الإسراء: 74) ، فأثبت

الناس قلباً أثبتهم قولاً. والقول الثابت هو قول الحق والصدق، وهو ضد القول

الباطل الكاذب. فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له. وأثبت القول

كلمة التوحيد ولوازمها؛ فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة، فما

مُنح عبد منحة أفضل من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج

ما يكون إليه في قبورهم ويوم معادهم» [12] .

وبهذا يتضح أن الاستعانة بالله وحسن الظن به وإخلاص العبادة له، من أقوى

الأسباب المعينة على تثبيت الله لعبده بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [13] .

8 - الصحبة الصالحة، والأُخوة الصادقة:

إن الصحبة الصالحة والأُخوة الصادقة من أعظم الأمور المساعدة على الثبات

على الدين والاستقامة عليه؛ إذ المؤمن الصادق يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو

مرآة له، كما جاء في الحديث، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمصاحبة

الطيبين وتخير الصالحين فقال: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا

تقي» [14] . وهذا يدل على أثر الأخوة الصالحة في الثبات [15] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015