مجله البيان (صفحة 4758)

قضايا دعوية

مسألة التعاون الدعوي بين الجماعات

هيثم بن جواد الحداد

هناك أمران يتجاذبان الشباب المسلم العامل لدينه، أولهما رؤيته لحال أمته

المزري، ووضعها المهين، ومع ذلك لا يستطيع بذل الكثير من أجل انتشالها من

هذه الوهدة، وإن استطاع فعل شيء فهو يسير ضئيل بالنسبة إلى حجم التحدي

الكبير الذي يلمسه واضحاً جلياً.

فإذا ما رغب في توسيع دائرة عمله، حتى يكون أكثر فعالية، وأسرع انتاجاً،

وجد أنه لا بد أن يتعاون مع مخالفين له؛ قد يكون هؤلاء المخالفون مخالفون في

كليات كبيرة، أو في جزئيات صغيرة.

فيقف كثير منهم حائراً بين تجاذب هذين العنصرين؛ مصلحة العمل للإسلام

بشكل فعّال ومؤثر، ومفسدة التعاون مع أولئك المخالفين.

وتتعدد صور هذا التعارض وصور هذه الحيرة بحسب المواقف التي يمر بها

العاملون للإسلام، ومهما يكن من أمر فإن الضرر لا يعود على أحد بقدر ما يعود

على الدعوة الإسلامية، وعلى مستقبل المسلمين؛ الأمر الذي يحتاج إلى وقفة

شرعية متأنية، ومجابهة صريحة لحل هذه الإشكالية.

وفي بلاد الكفار يزداد حجم هذه المشكلة، ولا سيما مع ازدياد الهجمة على

الإسلام كمّاً وكيفاً.. ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

وفي بريطانيا ذات الوجود الإسلامي الكبير نسبياً، والقديم تاريخياً نشأ الجيل

الثاني، وربما الثالث من أبناء المسلمين، والتحقوا بالجامعات البريطانية، وبدأ

كثير منهم في العمل الإسلامي، والدعوة إلى الله جل وعلا، وكأي مجتمع، وأية

بلاد نشأت جماعات إسلامية كثيرة، منها ما هو امتداد للجماعة الأم التي ولدت في

البلاد الإسلامية، ومنها ما هو مستقل لكنه تأثر بأدبيات الصحوة الإسلامية في

المشرق المسلم، وبلور فكرًا خاصاً به.

في بريطانيا التي اقترن اسمها مع الولايات المتحدة الأمريكية في كونهما

الدولتين الراعيتين لحرب ما يسمى بالإرهاب والموجهة ضد الإسلام؛ تتلاحم

المعطيات المشار إليها آنفاً ليتفاقم حجم المشكلة.

وهناك أمر آخر يضاعف هذه المشكلة قلّما يتفطن له أولو الأمر، وهو أن من

الأمور التي حثَّنا عليها ديننا العدل ولو مع الأعداء، قال سبحانه: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ

شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) ، وعلى ذلك

نقول إن الحرية التي ينعم بها المسلمون في بريطانيا أكبر كثيراً من الحرية التي

يسمح بها في البلاد الإسلامية وغيرها، ولو قال قائل إن فرص الدعوة في هذه

البلاد لا تكاد توجد في أغلب البلاد لكان محقاً، وهذا كما أسلفت يضاعف حجم

المشكلة من ناحية، ومن ناحية أخرى يدفع الإنسان لأن يذهب إلى القول بتحتم

استغلال هذه الفرصة قبل أن تذهب، وكل يوم يمضي دون استثمار لها تخسر

الدعوة فيه الكثير، ولما كان الأمر كذلك وجب أن يتعامل الإنسان مع المخالفين في

ضوء هذه الحالة الطارئة؛ مما يوجب عليه كذلك أن يغلّب جانب التعامل والتعاون،

على جانب التجافي والتجانب، لخوف فوات المصلحة، وللحاجة إلى ذلك.

هذا كله من شأنه أن يجعل من يريد أن يعمل للإسلام أن يرفع صوته قائلاً:

انظروا أيها العقلاء إلى هذه المأساة التي نعيشها، تداعت علينا الأمم من أقطارها،

كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ... فلا شك أنّ هذا الوضع يحتم علينا

تكاثف الجهود والالتحام مع كل عامل للإسلام بصرف النظر عن جماعته التي

ينتمي إليها، وتصنفيه الذي يوضع فيه ما دام ذلك في تفعيل دور الدعوة إلى الله

على بصيرة.

لكنه لا يكاد ينهي حديثه ذلك حتى يأتيه صديقه قائلاً: ولكن انظر، فأنت

تريد أن تعمل مع من؟ تريد أن تقيم أعمالاً مشتركة مع المبتدع والضال، هل تريد

أن تقيم أعمالاً مشتركة مع الحزب الفلاني، والجماعة الفلانية وهي تعتقد كذا

وكذا ... يثور الجدل، ويحتدم النقاش، ويتجرع العمل الإسلامي المثمر غصص

الإهمال، ولا سيما مع كل إشراقة فجر تحمل في ضيائها فرصة جديدة للعمل

الإسلامي المثمر.

تساءل كثير من طلبة الجامعات في بريطانيا عن هذه القضية، وهم أمام

فرصة ذهبية لخدمة الإسلام وأهله في تلك البلاد، وطلبوا إرشاداً، فكانت ورقة

العمل هذه التي حوت عرضاً للمشكلة كما يراها أولئك الشباب.

* تحديد المشكلة:

عرض أحد الدعاة في الوسط الجامعي المشكلة بقوله:

نحن مجموعة مستقلة من طلبة الجامعات البريطانية، نشعر باستياء مستمر

من ظاهرة الفرقة وعدم التعاون الموجودة بين الطلبة المسلمين في الجامعات

والكليات البريطانية، ومن أجل ذلك؛ أردنا القيام بعمل ما من أجل دعوة جميع

ممثلي جمعيات الطلبة المسلمين للعمل جنباً إلى جنب وتكوين مؤسسة واحدة لهم،

تسهم في حل بعض المشكلات المشتركة التي تواجه الطلبة المسلمين.

وننوي البدء بهذا المشروع من خلال القيام بإنشاء موقع على شبكة الإنترنت

العالمية، يكون مخصصاً لجميع جمعيات الطلبة المسلمين في لندن، وسيكون هذا

الموقع مصدرًا يستفيد منه جميع طلبة الجامعات والكليات المسلمين.

الأمر الذي من شأنه أن يتطلب منا القيام بدعوة عدد من جمعيات الطلبة

المسلمين ذات التوجهات والمناهج المختلفة؛ بما في ذلك الجماعات السلفية،

والإخوان المسلمون، وحزب التحرير، والصوفيون، والمهاجرون، وجماعة

التبليغ.. إلخ.

وذلك لكون الجميع يؤمنون بالأصول الثلاثة: الإيمان بالله رباً وبمحمد صلى

الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وبالإسلام ديناً، بغضِّ النظر عن بعض المآخذ والأخطاء

التي قد تحدث من بعضهم.

نحن نعلم ونتفهم أن هناك عدداً من المشكلات التي قد تعترضنا عند محاولة

توحيد تلك الجمعيات التي تتبع مناهج وأفكاراً مختلفة، ولكن نريد أن نعرف الحكم

الشرعي بخصوص بعض القضايا التي بين أيدينا:

1 - هل يمكن أن نشجع القريبين من أفكارنا، وعموم المسلمين على حضور

الأنشطة التي ستقوم بها الجمعية التي ستجمع تلك الجمعيات؛ ما دامت تلك الأنشطة

لا تعارض أصولاً إسلامية ثابتة بخلاف الأمور الاجتهادية؟

2 - هل يمكن من خلال موقع الإنترنت الذي سننشئه الإعلان عن جميع

الأنشطة التي تقوم بها تلك الجمعيات التي تتبع تلك الاتجاهات، إذا كانت تحقق

الشرط المذكور أعلاه؛ لأن هذا يتيح لنا إيجاد لوحة إعلانات موحدة، للإعلان

لجميع المسلمين في لندن عن الأنشطة والفعاليات؟

3 - هل يمكن أن نجلس ونناقش ونتحاور في المشكلات المشتركة التي

تواجهنا مع جميع تلك الجمعيات ورؤسائها؟

4 - هل يمكننا أن نقوم بأنشطة موحدة يشترك في إقامتها جميع الجمعيات

المذكورة، نتحدث فيها عن المشكلات التي تواجه عموم الطلبة المسلمين هنا مثلاً،

أو أن يكون المتحدث من أحد تلك الجمعيات، ليتحدث عن بعض الموضوعات التي

يراها هو مهمة؟

وكما ترون أيها الإخوة، هناك عدد من الأمور العالقة، لكننا نود أن نشرع

في هذا المشروع بحماس واجتهاد من أجل العمل لتحقيق أهداف بعيدة الأمد تخفف

من هذه الفرقة الكبيرة، والاضطرابات الموجودة بين الطلبة المسلمين.

وليُعلم أننا لا نريد من هذا المشروع أن يكون بديلاً عن تلك الجماعات

الموجودة على الساحة البريطانية، ولكننا نأمل أن نكون مثالاً يُحتذى لجميع الأفراد

الذين ينتمون إلى هذه الجماعات في إمكانية العمل المشترك والتوحد للعمل من أجل

الأهداف الإسلامية المشتركة، ونبذ الخلافات جانباً، من أجل الوحدة والأخوّة

الإسلامية.

نرجو إبداء النصح بخصوص هذا الأمر، وبيان بعض القواعد التي ينبغي

على الأقليات المسلمة الإحاطة بها ومراعاتها، وكيف يمكننا أن ننظر إلى دورنا

نحن الطلبة المسلمين في هذه البلاد؟

وجزاكم الله خيراً.

هكذا عُرضت المشكلة، ثم جاءت تبعًا لذلك ورقة العمل الآتية:

* الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه

أجمعين، وبعد:

بادئ ذي بدء، نسأل الله أن يكلل جهودكم بالنجاح والتوفيق لما يحب ويرضى.

قبل الخوض في تفاصيل غمار هذه القضية الشائكة؛ لا بد أن أقدم بعض

الأصول المهمة التي لا بد من استحضارها عند البحث في هذه المسألة؛ إذ ينبني

عليها تصور هذه المسألة، ومن ثَمَّ حكمها وكيفية التعامل معها:

أولاً: لا بد من التذكير أنّ الأصل في المسلمين أن يكونوا أمة واحدة، والأدلة

على ذلك متضافرة متكاثرة، قال الله جل وعلا: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا

رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 92) .

ولذلك كانت الجماعة ولزومها من أعظم الأصول التي دعت إليها الشريعة،

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (وهذا الأصل العظيم، وهو

الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن لا يُتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما

عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب

وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة أو

خاصه؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة، فإن يد الله على

الجماعة» .، وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة بل وفي غيرها هو التفرق

والاختلاف، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك

ما الله به عليم، وإن كان بعض ذلك مغفوراً لصاحبه لاجتهاده الذي يُغفر فيه خطؤه،

أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو غير ذلك، لكن ليُعلم أن رعايته من أعظم

أصول الإسلام) [1] اهـ.

فإذا كان الأمر كذلك؛ كان كل سبيل يؤدي إلى اجتماع المسلمين، ووحدة

كلمتهم واجب، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة.

ثانياً: إن الأصل وجوب التعاون بين المسلمين، قال الله جل وعلا:

[وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى] (المائدة: 2) ، فكل ما صدق أنه بر وتقوى شُرع

في أقل الأحوال التعاون عليه، بصرف النظر عمن كان هذا الذي تتعاون معه،

فالخطاب في الآية عام، بل إنّ ظاهر كلام بعض المفسرين أن الخطاب في هذه

الآية عام لجميع الخلق مسلمهم وكافرهم، وقد تضافرت على هذا أدلة كثيرة،

وعمل بذلك الصحابة، ومن بعدهم من أئمة الإسلام، ولذلك قرر علماء الإسلام

وجوب الجهاد مع البر والفاجر، وجاهد علماء المسلمين مع الملوك والسلاطين؛

مع أن بعض السلاطين تلبس ببعض البدع، وهكذا.

ثالثاً: ويبقى هنا إشكال في مسألة التعاون، يسأل عنها كثير من الإخوة،

وهي التعاون مع أهل البدع والمعاصي، مثل التعاون مع الأشاعرة، والصوفية،

ونحو ذلك، فالجواب يظهر بتأمل الآية الكريمة، فما صدق أنه بر وتقوى شُرع

التعاون عليه، فإن اجتمع برٌّ وفجور، فأيهما غلب كان الحكم له، وعليه فإن كانت

المصلحة من التعاون أعلى من المفسدة الحاصلة من هذا التعاون؛ شُرع، وإلا فلا.

فاجتماع المسلمين، برهم وفاجرهم، سُنّيهم وبدعيهم، لصد عدوان الكفار

مثلاً؛ لا شك أن مصلحته أعظم من مفسدة اختلاط المسلم الصالح بالمسلم الفاجر،

أو المسلم السنّي بالمسلم البدعي، ولهذا قرره علماء المسلمين، وجعلوه من عقيدة

أهل السنة والجماعة.

وكذا يقال في اجتماع مثل هؤلاء المسلمين عند دعوة غير المسلمين، أو رد

شبهاتهم، أو دفع باطلهم، فالدعوة والجهاد صنوان، ومناط الحكم في الحالتين واحد،

ناهيك أن الواجب مراعاة المصلحة إذا كانت أعلى من المفسدة.

وليس من نافلة القول أن يقال إنّ كثيرًا من صور التعاون مع المتلبسين

ببعض المعاصي أو البدع، ليس فيها محذور شرعي إلا ما كان من مخالفتها لمبدأ

هجر أهل البدع والمعاصي، وتزول هذه المخالفة عند العمل بقاعدة المصالح

والمفاسد، فلأيهما كانت الغلبة كان الحكم لها.

ولا بد أن يعلم أن التهاجر بين المسلمين أمر عارض وليس أصلاً، والعارض

لا يمكن أن يعارض الأصل ولا أن يقاومه، وهو منوط بالمصلحة التي لا تعود

على هذا الأصل بالنقض، فإن كان الهجر ينقض عرى الوحدة الإسلامية مُنِع منه،

ولا يجوز إلا حينما يشهد الشرع والعقل بأن مصلحته أكبر من مفسدته.

رابعاً: إن الأصل أن يتسمّى المسلمون باسم الإسلام، قال الله جل وعلا:

[هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا] (الحج: 78) ، وأما هذه التسميات، فلو

قلنا بجوازها، فلا يجوز أبدًا أن تكون سببًا للفرقة بين المسلمين، ولا أن تكون

سببًا لنصبها معاقد ولاء وبراء يوالي المسلمون بعضهم بعضاً بناء عليها، فمن كان

من جماعتنا واليناه، ومن كان من غيرنا تبرأنا منه!

وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الأصل أن يتعاون جميع الذين ينتمون إلى هذه

الجماعات على كل ما يصدق أنه بر وتقوى؛ تحقيقًا لقوله جل وعلا: [وَتَعَاوَنُوا

عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 2) .

خامساً: إن الأصل في علاقة المسلم مع المسلم الذي تلبس بمعصية أو بدعة؛

أن يوالى بقدر ما معه من طاعة، وأن يُتبرأ من بدعته ومعصيته، عملاً بقول

الرسول صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قيل: كيف

أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم؛ فإن ذلك نصره» [2] .

فنصرة الظالم المسلم تكون بأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وهذا الظلم

الذي تلبس به لا ينقض أصل الولاء له؛ لأن أصل الولاء لا ينتقض إلا بخروج

الإنسان من الإسلام إلى الكفر.

سادساً: إن التعاون بين المسلمين لا ينافي أبدًا الأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، بل هما متلازمان، فلا يجوز أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

بحجة الدعوة إلى وحدة الصف، والتعاون مع المسلمين، فالمسلمون على مر

العصور كانوا أمة واحدة متحابين متآخين، وفي الوقت نفسه كانوا يتآمرون

بالمعروف فيما بينهم، ويتناهون عن المنكر، وقد قال الله جل وعلا: [كُنتُمْ خَيْرَ

أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه] (آل

عمران: 110) .

ولا يجوز أن يظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورة على الضد

مما ذكرناه؛ كأن نبرزه على أنه يفرق وحدة المسلمين، أو أنه من النوافل

والمستحبات فلا يلتفت إليه مع وجود ما هو أهم منه.

وإنما يجوز تأخير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو السكوت عنه،

لغرض شرعي صحيح، وقد قرر العلماء أن إنكار المنكر إن كان يؤدي إلى منكر

أكبر وجب الكف عنه، وهذا راجع إلى قاعدة المصالح والمفاسد.

وعليه فلا تنافي بين هذه الأصول الثلاثة، اجتماع المسلمين، والتعاون بينهم

على البر والتقوى، ثم التآمر على المعروف، والتناهي عن المنكر.

فإذا أعمل المسلم هذه الأركان الثلاثة ظهر له الحق إن شاء الله تعالى.

فتأسيس نشاط إسلامي للدعوة إلى الله جل وعلا، يشترك فيه أفراد من شتى

الجماعات الإسلامية، لا شك أنه من أوجب الواجبات؛ إذ به يتم القيام بهذا الواجب

العظيم؛ واجب الدعوة إلى الله الذي هو ميراث أفضل الخلق، أنبياء الله ورسله،

وخاصة في بلاد الكفار، وبه يتم الاجتماع بين المسلمين.

أما القول بأن تأسيس مثل هذا النشاط قد يضطر القائمون عليه للإعلان عن

بعض الأنشطة التي قد تقوم بها جماعات أخرى غير سلفية، وأن بعض الإخوة

اعترض على ذلك بحجة أن هذا يتضمن الدعاية لمناهج الجماعات الأخرى

المنحرفة، فهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل:

1 - فلا بد أولاً من القول بأنه ليس من العدل وصم الجماعات الإسلامية

بالانحراف، أو البدعة، لمجرد أنها لا تتسمى باسم السلفية، وفي المقابل ليس من

العدل والإنصاف تزكية الجماعات لمجرد أنها تتسمى باسم السفلية.

فكل هذه الجماعات لا تنفك عن إيجابيات وسلبيات، وكل واحدة منها لديها

حق وباطل، فلو كانت كلها على باطل لكانت خارجة عن الإسلام، ولا يمكن أن

تكون كلها على حق، فهذا وصف الكمال، وهو لا ينبغي لأحد من البشر فردًا كان

أو جماعة، فيبقى الوصف دائرًا بين الكمال، والأكمل، والقرب من الحق والأقرب.

ومن الطبيعي أن كل من انتمى إلى تلك الجماعات يزعم أنه الأقرب من غيره

إلى الحق، ولا نريد هنا أن نتعرض لهذا الأمر، أعني أيهم أقرب إلى الحق،

فليس من الحكمة الإجمال والتعميم عند تقييم تلك الجماعات، ثمّ إنّه أمر كثر

اجتراره فالفائدة فيه محدودة، والعلم عند الله.

2 - وأما الزعم بأن الجماعات التي تتسمّى باسم السلفية هي التي على الحق

المحض في كل أمورهم، فهذا أيضًا مناف للعدل والإنصاف، فالسلفية اسم جامع

لكل ما كان عليه السلف الصالح في العقيدة، وفي العبادة، وفي الخلق، وأنت ترى

أن بعض هذه الجماعات السلفية انقسمت على أنفسها، وبدأت كل جماعة تزعم بأنها

هي التي على الحق، وأن غيرها على الباطل، فإما أن تكون كلها على الحق،

وهذا محال؛ إذ الحق لا اختلاف تضاد فيه، وإما أن تكون واحدة منها هي التي

على الحق، والباقي على الباطل مع تسمّيه باسم السلفية! فثبت بذلك أن تسمّيهم

بهذا الاسم ليس كافياً في انتسابهم الحقيقي لهذا الوصف الجليل.

ثم إن كثيراً من هذه الجماعات التي تسمّت باسم السلفية قد دخلت في السلفية

من باب التمسك ببعض السنن الظاهرة، لكنها خرجت من السلفية من عدة أبواب،

أولها محاولة التفرق والتحزب المذموم، حتى إن زعموا بأنه ليس ثمة تحزب بينهم،

فالواقع يشهد بذلك، ومن هذا، شق تجمعات المسلمين، وتفريق كلمة ما اجتمع

منهم، ثم كثرة التفسيق والتبديع لكل من خالفهم حتى لو كان في بعض المسائل

الاجتهادية، ناهيك عن عدم مراعاة الأدب والخلق الإسلامي في التعامل مع المخالف،

إلى غير هذا.

أما الجماعات الأخرى؛ فإن انتساب أفرادها إليها لا يعني اتفاقهم مع الجماعة

الأم في كل معتقداتها، ومن فضل الله تبارك وتعالى أنّ العالم الإسلامي يشهد

صحوة عامة برجوعه إلى الإسلام، وصحوة خاصة برجوع كثير من المسلمين إلى

منهج السلف الصالح، وهذا يصدق كذلك على أفراد الجماعات الإسلامية المختلفة،

فكثير منهم وإن انتموا اسمًا إلى جماعاتهم، إلا أنّهم وبفضل الله تبارك وتعالى اقتفوا

منهج السلف الصالح في كثير من جوانبه، وهذا يختلف من بلد إلى بلد، ومن

زمان إلى زمان.

وعليه؛ فإن إعلان الدعوة إلى أنشطة الجماعات الإسلامية المختلفة،

والاشتراك معها، لا يجوز أن يكون محكوماً عليه بمجرد اسم تلك الجماعات، بل

لا بد من النظر فيه؛ فإن انطوى الأمر على مصلحة راجحة فهو مشروع، وإلا

منع منه.

وبعد هذا البيان؛ نعلم أنّ هذا التأصيل السابق يدور رحاه حول المفسدة

والمصلحة، بل إنّ رحى الدين كله كذلك تدور حولها، بل إن شرائع الله كلها التي

شرعها للخليقة منذ ظهورها إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تدور حول

ذلك أيضاً.

وأنت ترى كذلك أنّ هذه المسائل إذا أُرجعت إلى نصوص الكتاب والسنة في

ضوء القواعد الكلية للشريعة، ومنها قاعدة المفسدة والمصلحة؛ لوجدتها عند التأمل

ظاهرة، ليس فيها إشكال.. والحمد لله تبارك وتعالى.

لكن الإشكال يظهر بسبب موروثات ورثها بعض الدعاة من أجيال سابقة كانت

حديثة عهد بتلك الجماعات؛ دون أن يعيدوا التأمل فيها، والنظر فيها بعين الشرع

والواقع.

وهذا سببه - كما قرره علماؤنا - جهل أو هوى، ومهما يكن من أمر فإنه

يزول بتعلم العلم عن طريق سؤال أهل الذكر الذين عرف عنهم خلوّهم من تلك

الموروثات، وتحرّيهم للحق، ثم يزول بإخلاص القول والعمل والاعتقاد لله جل

وعلا، ومنه تقديم مصلحة الإسلام والمسلمين العليا على المصالح الشخصية،

والحزبية وما سواها.

بقي هناك تنبيه ربما يكون متمماً لهذا البحث، وهو:

إنّ مما يعين على تحقيق هذا التعاون، بعد ما ذكر، درء الخلاف بكل وسيلة،

فتارة يدرأ الخلاف بتجنبه، وخير ما يتجنب فيه الخلاف في مثل هذه الأحوال:

العمل بقاعدة الخروج من الخلاف مستحب، فإذا اختلف الدعاة في إقامة نشاط،

واختلفوا ما بين مبيح للنشاط كله أو بعضه، وما بين محرم له؛ فدرء الخلاف

يكون بالتوقف عنه، ما لم يكن قول مَنْ حرَّمه شاذ أو ضعيف.

فمثلاً؛ لو أراد الإخوة إقامة نشاط تبرز فيه المرأة بدون الحجاب الشرعي أمام

جموع من الناس، رجالاً ونساءً، فلا شك أن إعمال قاعدة الخروج من الخلاف

يقتضي تركه، فمشاهدة المرأة الأصل فيه التحريم، فلِمَ نقوم بشيء متردد بين

التحريم والإباحة؟! وكذا لو قيل بإقامة نشاط تسمع فيه أصوات المعازف، فلا شك

أن الواجب تجنبه؛ لأن سماع المعازف في أقل أحواله متردد بين تحريم وإباحة،

فلِمَ نُقدم على مثل هذا؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015