دراسات في الشريعة
مناظرة أهل البدع
(رؤية شرعية معاصرة)
(1 ـ 2)
حسن بن علي البار [*]
[قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا
العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ
اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَداًّ] (مريم: 75-
76) .
البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لغلظ نجاستها؛ ولأن صاحبها لا يتوب
منها إلا ما شاء الله تعالى.
وأخطر البدع ما كان علمياً اعتقادياً، يفسد على الإنسان نظام حياته كلها،
وذلك كبدع الفرق الاعتقادية التي تحزبت على أصل بدعي أخرجها عن دائرة السنة
والجماعة. وهذه الفرق التي كانت في قديم الزمان لا يزال لأكثرها وجود وحضور
في الساحة الفكرية في هذا الزمان، بالإضافة إلى الكثير من الآراء المحدثة في هذا
الزمان؛ سواء تحزب أصحابها بعضهم لبعض، أم بقوا أوزاعاً متفرقين بالأبدان
متعاونين متعاضدين في الأفكار. وهذه الأفكار البدعية المنحرفة تجد في هذه الأيام
من يروِّج لها في وسائل الإعلام التي تسلطت على المسلمين ببث ما يضرهم غالباً
وترك ما فيه منفعتهم وصلاحهم، وقد تكلم كثير من العلماء وطلبة العلم عن الرد
على أمثال هؤلاء، وقصدوا بذلك التأليف والكتابة لرد شبههم ومقارعتهم الحجة
بالحجة، إلا أن هذه الوسيلة للرد على المبتدعة على عظيم منفعتها محدودة التأثير؛
لأن الشريحة التي تقرأ من الناس فضلاً عمن يقرأ مثل هذه الكتابات محدودة جداً.
ومن وسائل مواجهة هؤلاء مناظرتهم على رؤوس الأشهاد، ومزاحمتهم في
المنابر التي تمكِّن لهم، ومن هنا يبرز السؤال عن مشروعية هذا الأمر، وعن
منهج السلف تجاهه؟ وهذه محاولة متواضعة في بيان ذلك:
وقبل تفريع الكلام حول تفاصيل تتعلق بالمناظرة وبحكمها الشرعي؛ أرى أنه
لا بد من بيان معنى المناظرة، ومن أحسن تعريفاتها التعريف الذي صححه إمام
الحرمين الجويني للجدل بعد أن ساق عدة تعريفات، وهو: إظهار المتنازعَيْن
مقتضى نَظْرَتِهما، على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامها من الإشارة
والدلالة. وأشار - رحمه الله - في كلامه إلى أنه لا فرق عنده بين الجدل والجدال
والمناظرة، وهذا يعني صلاحية هذا التعريف للمناظرة كذلك. وبذلك يظهر من
معنى المناظرة أنها: مختصة بتراجع الكلام مع خصم لا يرى رأيك؛ على سبيل
إثبات صواب قولك وبطلان قوله. فيكون المراد منها الظهور والغلبة، ولا يبحث
فيها فيما إذا كان قوله صواباً أم فيه شيء من الصواب ليتبعه المناظر، وإنما كل
طرف من أطراف المناظرة يبتغي العلو على مناظريه بالحجة، ويريد أن يقطع
حجج خصومه [1] .
وأما الحوار، فإن الكلام فيه يكون على سبيل طلب الحق، وتلاقح أفكار
الفريقين، واستفادة كل طرف من الآخر، وليس بالضرورة أن يكون فيه طرف
ظاهر غالب، وطرف مظهور عليه مغلوب. قال أبو عبد الله ابن بطة (387) :
«سمعت بعض شيوخنا - رحمه الله - يقول: المجالسة للمناصحة فتح باب الفائدة،
والمجالسة للمناظرة غلق باب الفائدة» [2] ، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي:
«وهي في الاصطلاح أي المناظرة: المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين،
يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في
ظهور الحق» [3] ، وقال الزَّبيدي في تاج العروس: «والمناظرة المباحثة
والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته» [4] .
وسأبين إن شاء الله بعض النقاط التي أرجو أن تتضح بها صورة
الموضوع في حكم مناظرة أهل البدع أو مجادلتهم والجلوس معهم للتباحث
والنظر، وذلك كما يلي:
1 - إن الله تبارك وتعالى لم يُنعم على عبده نعمة أتمّ ولا أعظم عليه من
نعمته عليه بالهداية لصراطه المستقيم، وتوفيقه للإسلام وللسنة والجماعة، فكم من
محروم من هذه النعمة، وقد أعطاك الله تبارك وتعالى إياها بالمجان بدون استحقاق
منك عليه جل وتعالى، فاعرف لهذه النعمة قدرها.
وقد استشعر الصحابة والسلف الصالح عظيم منّة الله عليهم؛ بتوفيقه لهم،
وهدايته إياهم إلى السنة بعد أن هداهم للإسلام:
فعن معاوية بن قرة أن سالم بن عبد الله حدثه عن ابن عمر - رضي الله
عنهما - قال: «ما فرحتُ بشيء من الإسلام أشد فرحاً بأنّ قلبي لم يدخله شيءٌ
من هذه الأهواء» [5] .
وقال أبو العالية: «ما أدري أي الغُنمين عليَّ أعظم: إذْ أخرجني الله من
الشرك إلى الإسلام، أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوى» [6] .
وسأل المرُّوذِيُّ الإمامَ أحمد بن حنبل: «من مات على الإسلام والسنة مات
على خير؟! فقال له أحمد: اسكت، من مات على الإسلام والسنة مات على الخير
كله» [7] ، فاللهم لك الحمد على هذه النعمة العظيمة؛ أن هدَيتنا للإسلام، ثم زدتنا
من فضلك بأن جعلتنا من أهل السنة لا من أهل البدعة.
2 - الانحرافات البدعية إنما تكون في الغالب من باب الشبهات، والشبهات
أمراض معدية يجب التوقي من الإصابة بها، فـ «القلوب ضعيفة والشُبَه
خطافة» [8] .
ولذلك؛ فالواجب على المسلم السنّي ألا يجعل من قلبه مسكناً للشبه، ولا
استراحة لها، كما قال ابن تيمية لتلميذه ابن القيم ناصحاً: «لا تجعل قلبك
للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله
كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه،
ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشْربتَ قلبك كل شبهة تمر عليك صار مقراً للشبهات.
أو كما قال» [9] .
وهكذا فليس من دأب المسلمين الموقنين بما أنزل الله على رسوله، والذين هم
على بصيرة من أمرهم، أن يتتبعوا الشبهات وأن يجعلوها همّهم، وإنما «المنهج
الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس لا رداً على شبهة، ولا
إجابة على تساؤل في نفوسهم ... وإنما من أجل البيان الواجب.. ثم لا بأس في
أثناء عرض هذه الحقائق من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو يساء
تأويلها من قِبَل الأعداء أو الأصدقاء سواء» [10] .
ويكون حال السائر إلى الله والدار الآخرة مع الشُّبه حال المسافر تعرض له
الآفات من العقارب والحيات وغيرها، فما عرض له منها في طريقه قتله، وما لا
فلا يتّبعه ولا يبحث عنه؛ إذ لو فعل ذلك لانقطع عن سفره وضل الطريق [11] .
وعليه؛ فيجب أن يكون هذا منهجاً يُرَبَّى عليه الشباب والمتعلمون، فيُعَلَّمون
القرآن والحكمة وحقائق الإيمان واليقين، ثم إن عرض لبعضهم شبهة تولَّى العالم أو
المربي علاجها، لا أن تُجْعَل الشبهات والبدع والأخطاء العقدية المسائل التي يُلَقَّنَها
من أول سلوكه طريق الهداية، فيتشرّب قلبه من ذلك حب الشقاق واضطراب الرأي
والجرأة على خوض هذه المسالك؛ كما هو مشاهَدٌ الآن، والله المستعان.
ثم ليُعْلم أن هذا غير مختص بأحد دون أحد، بل هو متناول لمن كمُل علمه
واستنارت بصيرته ولمن كان دون ذلك. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«من سمع بالدجال فليَنأَ عنه، فو الله إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه؛
مما يبعث به من الشبهات» [12] ، وهذا عام.
قال الإمام ابن بطة معلِّقاً على هذا الحديث: «هذا قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. فالله الله معاشر المسلمين! لا يحملنَّ أحداً منكم
حسنُ ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في
مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول أُداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه.
فإنهم أشد فتنة من الدجال [13] ، وكلامهم ألصق من الجَرَب، وأحرق للقلوب من
اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبُّونهم فجالسوهم على سبيل
الإنكار والرد عليهم فما زالت بهم المباسطة، وخفي المكر، ودقيق الكفر حتى
صَبَوْا إليهم» [14] .
ودخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سيرين فقالا: «يا أبا بكر!
نحدثك بحديث؟! قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: لا. قال:
تقومان عني وإلا قمتُ. فقام الرجلان فخرجا. فقال بعض القوم: ما كان عليك أن
يقرآ عليك آية؟ قال: إني كرهت أن يقرآ آيةً فيحرفانها؛ فيقر ذلك في قلبي»
[15] .
3 - يبيَّن لنا ما سبق سبب موقف السلف المتشدد تجاه مجالسة ومخالطة
أصحاب البدع بله مناظرتهم، وهذا هو مقتضى فهمهم الصحيح للشريعة وخبرتهم
بحال النبي صلى الله عليه وسلم وبهديه وهدي الصحابة رضي الله عن الجميع.
ففي صحيح البخاري من حديث القاسم بن محمد عن عائشة - رضي الله
عنها - قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ
عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]
(آل عمران: 7) ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت
الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى اللهُ فاحذروهم» [16] .
وقد كانوا - رحمهم الله - يكرهون المراء مطلقاً، حتى لو لم يكن معه
شيء من فساد المعتقد.
1 - فعن وهب بن منبّه قال: «كنت أنا وعكرمة نقودُ ابنَ عباس بعد ما
ذهب بصره حتى دخلنا المسجد الحرام؛ فإذا قومٌ يَمترون في حلقةٍ لهم مما يلي باب
بني شيبة، فقال لنا: أُمَّا بي حلقة المِراء. فانطلقنا به إليهم فوقف عليهم، فقال:
انتسبوا لي أعرفْكم. فانتسبوا له أو من انتسب منهم، قال: فقال: ما علمتم أن لله
عباداً أَصَمَّتهم خشيته من غير عِيٍّ ولا بَكَم!! وإنهم لهم العلماءُ الفصحاءُ النبلاءُ
الطلقاء، غير أنهم إذا تذاكروا عظمة الله عز وجل طاشت لذلك عقولهم، وانكسرت
قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال
الزاكية. فأين أنتم منهم؟! قال: ثم تولَّى عنهم، فلم ير بعد ذلك رجلاً» [17] .
2 - وحدث حماد بن زيد عن محمد بن واسع عن مسلم بن يسار أنه كان
يقول: «إياكم والِمراء؛ فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلّته» [18] .
أما إذا خالط المراءَ والجدالَ بدعةٌ؛ فكان فرارهم من ذلك أشد الفرار
ومواقفهم المروية لنا في ذلك كثيرة جداً جداً. فمن ذلك:
3 - أن الحسن ومحمد كانا يقولان: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا
تسمعوا منهم، ولا تجادلوهم [19] .
4 - وقال عبد الرزاق: «قال لي إبراهيم بن أبي يحيى: إني أرى المعتزلة
عندكم كثيراً. قال: قلت: نعم، ويزعمون أنك منهم! قال: أفلا تدخل معي هذا
الحانوت حتى أكلمك! قلت: لا. قال: لِمَ؟ قلت: لأن القلبَ ضعيف، وإن الدين
ليس لمن غلب» [20] .
5 - وذكر أبو الجوزاء أهل الأهواء، فقال: «لأن تمتلئ داري قردةً
وخنازيرَ أحب إليّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء» [21] .
6 - وقال محمد بن علي: «لا تجالسوا أصحاب الخصومات؛ فإنهم
يخوضون في آيات الله» [22] .
7 - وقال مصعب بن سعد: «لا تجالس مفتوناً؛ فإنه لن يخطئك منه إحدى
خصلتين: إما يُمرض قلبك لتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن يفارقك» [23] .
8 - وقال أيوب: قال أبو قِلابة: «لا تجالس أصحاب الأهواء؛ فإني لا
آمن عليك أن يغمسوك في ضلالتهم، ويلبسوا عليك ما كنت تعرف» ، وكان والله!
من القراء ذوي الألباب [24] .
فإذا كان أبو قلابة يقول هذا الكلام لأيوب السختياني وهو من هو؟!! فكيف
بك أخي الكريم وأنت لم تبلغ رتبة أيوب في العلم والدين ولعلك لم تقاربها؟!! فهذا
دالٌ على أن الأمر جلل.
9 - وحدث عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: «كان ابن طاوس جالساً، فجاء
رجل من المعتزلة فجعل يتكلم. قال: فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه، وقال
لابنه: أي بُني أدخل إصبعيك في أذنيك واسدد؛ لا تسمع من كلامه شيئاً. قال
معمر: يعني أن القلب ضعيف» [25] .
10 - وكان الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - يعيب الجدال، ويقول: كلما
جاءنا رجل أجدل من رجل أردنا أن نرُدَّ ما جاء به جبريلُ إلى النبي صلى الله عليه
وسلم!! [26] .
11 - وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! تعال حتى أخاصمك في
الدين. فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرتُ ديني، فإن كنتَ أضللتَ دينَك فالتمِسه
[27] .
12 - وقال سلام: وقال رجل من أصحاب الأهواء لأيوب: يا أبا بكر!
أسألك عن كلمة! قال: فولَّى أيوب، وهو يقول: ولا نصف كلمة!! مرتين وهو
يشير بإصبعه [28] .
13 - وقال يحيى بن يسار: «سمعتُ شَريكاً يقول: لأن يكون في كل قبيلة
حمار أحب إليَّ من أن يكون فيها رجلٌ من أصحاب أبي فلان (رجلٌ كان مبتدعاً) »
[29] .
14 - وقال أبو حاتم: «سمعت أحمد بن سنان يقول: لأن يجاورني
صاحب طنبور أحب إليَّ من أن يجاورني صاحب بدعة؛ لأن صاحب الطنبور
أنهاه وأكسر الطنبور، والمبتدع يُفسد الناس والجيران والأحداث» [30] .
وكان في كلامهم - رحمهم الله - ما يدل على أن الخصومات والمناظرات
في الدين سبب لإيغال المبتدع في الضلالة:
15 - فقد سأل عمرو بن قيس الحَكَم بن عُتَيبة فقال له: ما اضطر المرجئةَ
إلى رأيهم؟ قال: الخصومات [31] .
16 - وقال الأوزاعي: «إذا أراد الله بقوم شرّاً فتح عليهم الجدل، ومنعهم
العمل» [32] .
وقد بوّب الآجُرِّيُّ في الشريعة عدة أبواب تدل على هذا الأصل من مجانبة
المبتدعة والحذر من الاختلاط بهم والجلوس معهم، فمن ذلك:
(باب الحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسنة أصحابه - رضي الله عنهم -، وترك البدع، وترك النظر والجدال فيما
يخالف الكتاب والسنة وقول الصحابة - رضي الله عنهم -) [33] ، وكذلك: (باب
ذم الجدال والخصومات في الدين) [34] .
وكذلك: (باب فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها، وتخوف العقلاء
على قلوبهم أن تهوى حالاً يكرهه الله تعالى بلزوم البيوت والعبادة لله تعالى) [35] .
وبوّب اللالكائي: (سياق ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي
عن مناظرة أهل البدع، وجدالهم، والمكالمة معهم، والاستماع إلى أقوالهم المحدثة
وآرائهم الخبيثة) [36] .
وفي ذم الكلام وأهله لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي [37] : (باب ذم
الجدال والتغليظ فيه، وذكر شؤمه) .
هذا؛ وقد استطردتُ قليلاً في ذكر مواقفهم - رحمهم الله - من الحوار
والجدال والمجالسة والسماع لأهل البدع، ومن ذلك مناظرتهم؛ تأصيلاً للمسألة
وبياناً للأصل الذي يجب حفظه ومراعاته في مثل هذه المسائل.
وحملني على ذلك أيضاً توسع الناس في ذلك في هذه الأزمنة، فلا تكاد تجد
منهم متحفِّظاً يكون سلفياً في موقفه من مجالسة أهل البدع وإلقاء السمع لهم، وقد
تركت من ذلك أضعاف أضعاف ما نقلتُ، فالآثار في ذلك بالمئات، فليتأمل العاقل
في نفسه، ولينظر في البواعث التي سيأتي في تقريرها، ثم ليشح بدينه من أن
يناله نائل، فإنما هي الجنة والنار، فالأمر جد وليس بالهزل.
على أن ذلك منهم - رحمهم الله - ليس بالقاعدة المطَّرِدة التي لا يصح أن
تُخالف. وبيان ذلك يتضح بتلمُّس بواعثهم على مثل هذا الموقف، ومن ثم قياسها
ومعرفة وزنها من واقعٍ لآخر، مع النظر في مواقفهم الأخرى التي ثبتت عنهم في
مناظرتهم وكلامهم مع أهل البدع.
أما بواعثهم على اتخاذ هذا الموقف؛ فأهمها ما يلي:
1 - حرص الإنسان على سلامته في دينه، وخوفه على نفسه من الشبهات
والوقوع في البدع أو القرب من أهلها: وذلك أنهم عرفوا مقدار نعمة الله عليهم بما
تفضل عليهم من توفيقهم للإسلام والسنة، فشحوا بدينهم من أن يناله أي نائل، ولم
يأمنوا مكر الله، ورجوا السلامة، والسلامة لا يعدلها شيء. قال الإمام مالك بن
أنس: «الداء العضال التنقُّل في الدين» ، وقال: «قال رجلٌ: ما كنتَ لاعباً به
فلا تلعبَنَّ بدينك» [38] .
فينبغي على من أراد المناظرة أن يرجع إلى نفسه ويقول لها: «إني لو
نجوتُ وعطب أهلُ الأرض من أهل الأهواء ما ضرني ذلك، ولو عطبتُ ونجَوا ما
نفعني، فإقامتي الحجة عليهم وتركي أن أقيم الحجة على نفسي في تضييعي أمره
حتى أؤدي ما أمرني به ربي، وأنتهي عمَّا نهاني عنه، وأربح أيام عمري ليوم
فقري وفاقتي أولى بي، فقد شغلوني عن نفسي وعن العمل لنجاتي ... » [39] .
ويمكن ملاحظة ذلك في الآثار: 4، 7، 8، 9، 12.
ومن أضرار هذه المناظرات على المشتغل بها في دينه: كونها شاغلة له عما
هو أولى به منها كما مرّ قريباً الإشارة إليه من خلوّ القلب لذكر الله، وتذوق حلاوة
مناجاته، والاشتغال بقراءة القرآن، وتعلّم وتعليم العلم النافع؛ فإن أهل الاشتغال
بهذه الأعمال الجليلة في شغل عن هذه المماحكات، ولم يولّد المماراةَ والجدلَ في
الدين إلا قومٌ فرغوا عن العمل النافع، فانشغلوا بما هو دونه بمراتب، بل بما يكون
ضرره على الواحد منهم وعلى سائر المسلمين أكثر من نفعه.
ولذلك؛ فإنه كانت في «القرون الفاضلة الكلمة في الصفات (وغيرها من
المسائل الكبار) متحدة، والطريقة لهم جميعاً متفقة. وكان اشتغالهم بما أمرهم الله
بالاشتغال به، وكلّفهم القيام بفرائضه من: الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء
الزكاة، والصيام، والحج والجهاد، وإنفاق الأموال في أنواع البر، وطلب العلم
النافع، وإرشاد الناس للخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة على موجبات الفوز
بالجنة، والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ
على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدرة، ولم يشتغلوا بغير ذلك؛
مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبّدهم بالوقوف على حقيقته. فكان الدين إذ ذاك
صافياً عن كَدَر البدع ... فعلى هذا النمط كان الصحابة - رضي الله عنهم -
والتابعون وتابعوهم، وبهدي رسوله اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا» [40] .
وقال جعفر بن محمد: «إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تُشغل القلب،
وتورث النفاق» [41] .
قال الربيع: أنشدنا الشافعي في ذم الكلام:
لم يبرح الناس حتى أحدثوا بدعاً ... في الدين بالرأي لم تُبعث بها الرسلُ
حتى استخَفَّ بدين الله أكثرهم ... وفي الذي حملوا من حقه شغلُ [42]
ويمكن ملاحظة ذلك في الآثار: 1، 7، 16.
2 - أن العقل السليم يدل على ذلك: فإن الشريعة مبناها على التسليم والانقياد،
ولا أحد أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد أعلم برسول الله
صلى الله عليه وسلم من صحابته - رضي الله عنهم -، ولا أحد أعلم بالصحابة
من التابعين - رضي الله عن الجميع -، وهم كلهم كانوا أصح الناس عقولاً،
وأقومهم هدياً وطريقة، وأحدثهم عهداً بالشريعة فمنهم يُسْتَمد، وعلى التسليم لرب
العالمين المعوَّل. وأما التعويل على غير هذا، فما هو إلا خبط في العماية يورث
التشكك والتنقل والحيرة والاضطراب وفساد الأمر.
وعليه؛ فالحزم كل الحزم في اتباع هدي السلف الأول والأمر العتيق؛ مع
الحذر من البدعة والتبدع [43] ! قال عبد الله بن مصعب:
ولا تصحبنَّ أخا بدعةٍ ... ولا تسمعنَّ لهُ الدهرَ قيلا
فإنّ مقالتَهم كالظَِّلال ... توشكُ أفياؤُها أن تزولا [44]
ويدل على هذا أيضاً الآثار: 6، 7، 10، 11، 17.
وهذه النقطة عائدة إلى النقطة السابقة، وكلاهما عائد إلى قصد حفظ النفس
من البدعة.
3 - قصد حفظ المجتمع من البدعة: فالمبتدعة في ذلك الزمان قليل مقموعون
لا شوكة ولا ظهور لهم، وأئمة العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم هم الشموس
والأقمار المضيئة للناس في الظلماء.
قال الإمام اللالكائي - رحمه الله -: «فهم أي المبتدعة: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً
لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ] (المائدة:
64) ، ثم إنه من حين حدثت هذه الآراء المختلفة في الإسلام، وظهرت هذه البدع
من قديم الأيام، وفشت في خاصة الناس والعوام، وأُشربت قلوبهم حبها حتى
خاصموا فيها بزعمهم تديناً أو تحرجاً من الآثام؛ لم تَرَ دعوتَهم انتشرت في عَشْرةٍ
من منابر الإسلام متوالية، ولا أمكن أن تكون كلمتهم بين المسلمين عالية، أو
مقالتهم في الإسلام ظاهرة، بل كانت داحضة وضيعة مهجورة؛ وكلمة أهل السنة
ظاهرة، ومذاهبهم كالشمس نايرة، ونصب الحق زاهرة، وأعلامها بالنصر
مشهورة، وأعداؤها بالقمع مقهورة، يُنطق بمفاخرها على أعواد المنابر، وتُدَوَّن
مناقبها في الكتب والدفاتر، وتستفتح بها الخُطب وتختم، ويُفصل بها بين الحق
والباطل ويُحكم، وتُعقد عليها المجالس وتُبرم، وتظهر على الكراسي وتدرس
وتُعَلَّم..» [45] اهـ.
وعليه؛ فمجالسة أئمة السنة للمبتدع قد تغرُّ به مَن سَلِم من هذه البدعة ولم
يعلم بها، أو قد تعطي لهؤلاء شيئاً من الاعتبار والمكانة التي لا يستحقونها، وقد
تؤدي إلى انتشار البدعة، وعِلْم الناس البرآء منها بها، قال الغزالي: «فإن
العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسداً» [46] ؛ أي وإن كان جدله
فاسداً.
قال أبو القاسم الأصبهاني (535) في كتابه (الحجة في بيان المحجة،
وشرح عقيدة أهل السنة) ، وهو يذكر فصولاً مستخرجة من السنة: «وترك
مجالسة أهل البدعة ومعاشرتهم سنة؛ لئلا تعلق بقلوب ضعفاء المسلمين بعضُ
بدعتهم، وحتى يعلم الناس أنهم أهل بدعة، ولئلا يكون في مجالستهم ذريعة إلى
بدعتهم» [47] . فكان الحزم في توقي استفادة هؤلاء من التعلق بأذيال أهل السنة
والاتباع [48] .
وقد هجر الإمامُ أحمد الحارثَ المُحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً
في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك، ألستَ تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد
عليهم؟! ألستَ تحمل الناسَ بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك
الشبهات؛ فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟! [49] .
وانظر في ذلك الآثار: 13، 14.
4 - قصد زجر المبتدع عن بدعته: وذلك بهجره وقمعه. والهجر عقوبة
شرعية قد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في ذلك الزمان من أبلغ
العقوبات؛ إذ السنة ظاهرة، والبدعة وأهلها مخذولة محتقرة، فبالتالي تجد أن أكثر
الناس يكون هاجراً للمبتدع فلعله أن يتأثر بذلك فينقمع عن بدعته، ويفيء إلى السنة،
أو لا أقل من أن يَطْفَأ نشاطُه، ويقل شره، وكلتا الحالتين خير له من التمادي في
البدعة، قال أيوب السختياني: «لست برادٍ عليهم بشيءٍ أشد من السكوت» [50] .
وقال أحمد بن أبي الحواري: «قال لي عبد الله بن البسري [51] ، وكان من
الخاشعين، ما رأيت قط أخشعَ منه: ليس السنة عندنا أن ترد على أهل الأهواء،
ولكن السنة عندنا أن لا تكلم أحداً منهم» [52] .
وقال ابن هانئ: «سألت أبا عبد الله عن رجل مبتدع داعية يدعو إلى بدعته،
أيجالس؟ قال: لا يجالَس ولا يُكلَّم لعله أن يرجع» [53] .
وقال اللالكائي كلاماً نفيساً في بداية أمر مناظرة أهل البدع [54] ، ثم قال:
«فما جُني على المسلمين جنايةٌ أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قَهر ولا
ذُلٌّ أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً ودرداً، ولا
يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً،
وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً؛ حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت
دعوتهم بالمناظرة، وطَرَقَ أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة..» [55]
اهـ.
5 - الحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع إلى الإيغال في البدعة أكثر: مع
التعصب لها التعصب الذي لولا المناظرة لم يكن بهذه المنزلة. وقد تقدم عن عمرو
بن قيس قال: «قلت للحكم: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات»
[56] .
وبالتالي فمن ضرر الخصومات: «تأكيدُ اعتقاد المبتدعة للبدعة وتثبيتُه في
صدورهم؛ بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا
الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل؛ ولذلك نرى المبتدع العامي يمكن
أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها
الجدل والتعصب، فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع
البدعة من صدره. بل الهوى والتعصب، وبغض خصوم المجادلين، وفرقة
المخالفين يستولي على قلبه ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن
يكشف الله تعالى لك الغطاء ويعرِّفَك بالعيان أن الحق مع خصمك لكره ذلك خيفةً من
أن يفرح به خصمُه!! وهذا هو الداء العضال الذي استطرد [57] في البلاد والعباد،
وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب» [58] اهـ.
وغير ذلك من البواعث الجزئية التي لا تخفى على المتأمل، وهي جديرة
بالجمع والتتبع [59] .
بعد ذلك أقول: إن هذه البواعث الشريفة يختلف تحققها من زمان إلى زمان،
ومن شخص لآخر، ومن بلد لغيره وهكذا، وبالتالي فإن هذا الموقف الذي اتخذه
السلف - رحمهم الله - وإن كان هو الموقف العام لهم كما سبق الإفاضة في ذلك إلا
أنه لم يكن هو موقفهم الوحيد، ولم يكونوا - رحمهم الله - آلاتٍ صمّاء يرون رأياً
ثم يطبقونه بعنف وابتسار وعدم تفقه لدواعيه، وإنما كانوا فقهاء نفسٍ وأهلَ حكمةٍ
يضَعون الدواءَ المناسب في مواضعه، ويقدرون لكل أمر ما يستحق، ولذلك فعند
عدم وجود المقتضي للحكم؛ فإن الحكم يزول بزوال هذا المقتضي.