الافتتاحية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد:
فلا تكاد دولة تخلو من وزارة تسمى وزارة العدل؛ مهمتها النظرية الحرص
على تطبيق العدالة وفق الأنظمة والقوانين المرعية؛ سواءً كانت شريعة إلهية مثل
الشريعة الإسلامية أم أنظمة وضعية بشرية تدعي زوراً أنها متميزة بالتطور مع
حاجات الناس وأوضاعهم.
ونحن هنا لن نتناول الظلم الناتج من عدم التطبيق الحيادي للأنظمة والقوانين،
ولكن المشكلة أن البشر الضعيف الناقص يعطي نفسه بعض صفات الإله من العلم
والحكمة والعدل، ويشرع القوانين التي تفضح جهله وتناقضه وغلبة هواه. ولا
فرق في ذلك بين دول كانت ترفع رايات الحرية، والمساواة، ومنع استغلال
الإنسان لأخيه الإنسان، في حين تمارس أبشع صور الكبت والاستعباد في دول
المنظومة الاشتراكية وتوابعها، وبين دول تطلق على نفسها دول العالم الحر،
راعية حقوق الإنسان، وحامية الديمقراطية التي تمثل قمة العدالة بزعمهم، وهي لا
تمل من رفع الشعارات البراقة من حقوق الإنسان، وإعادة الإعمار، والانفتاح
الاقتصادي، والإصلاح السياسي، وهي تعتدي على حق كثير من البشر، وتمارس
التدمير، والسيطرة الاقتصادية، وتعمل على وصول عملائها للسلطة في البلدان
الأخرى.
إن أكبر دليل على فقدان العدالة في أكبر بلد يرفع شعار العدالة والحرية،
ويضع لها النصب والتماثيل؛ هو ما يسمى (قانون الأدلة السرية) في الولايات
المتحدة الأمريكية، والذي يتلخص في أن من حق النظام أن يعتقل ويحاكم ويحكم
وينفذ الحكم دون أن يعرف الضحية ما هي التهمة، وإذا عرفها فلا يُمَكَّن من معرفة
أدلة الاتهام، ولذا لا يمكن أن يدافع عن نفسه!! وهذا القانون المثير للجدل بين
رجال السياسة والقانون لا يجد الاهتمام الكافي من اهتمام العامة؛ لأنه يُطبق بذكاء
وبصورة منتقاة ضد من تمت تعبئة الجماهير ضده؛ بحيث تكون إدانته مطلباً، ولذا
لا يبالي الناس كيف وبأي مسوغ تم الوصول للحكم النهائي.
بعد تفجير المبنى الفيدرالي في مدينة (أوكلاهوما سيتي الأمريكية) عام
1995م؛ تم توجيه الاتهام مباشرة للعرب والمسلمين، وانطلقت حملة تشويه شرسة
نتج عنها نوع من الهيستريا ضد العرب والمسلمين، وبعد اكتشاف الجاني واتضاح
أنه أميركي أبيض تمت التغطية على القضية، واعتبرت فردية، وأدين وأعدم فيها
شخص واحد فقط!! ومع ذلك فإنه، وفي الذكرى الأولى للانفجار، صوَّت
الكونجرس على قانون لمكافحة الإرهاب؛ بعد أن أدرج الجناح اليميني الجمهوري
فيه بنداً خاصاً بالأدلة السرية، وصدَّق عليه الكونجرس دون أي مناقشة أو تدقيق!!
لقد طُبق هذا القانون حصراً على العرب والمسلمين، وممن طُبق عليه
القانون الدكتور (مازن النجار) الفلسطيني المسلم الذي قبع في الاعتقال من
19/5/1997م حتى 15/12/2000م، حيث أُمر بإطلاق سراحه بعد أن ثبتت
براءته، وأنه لا يشكل أي تهديد للأمن القومي الأميركي. والدكتور (أنور هدام)
أحد رموز جبهة الإنقاذ الجزائرية، وكان يعامل بصفته الناطق الرسمي باسم الجبهة
في أمريكا عندما كان هناك توقع لسقوط النظام، وعندما تبين أن الصراع سيطول،
وقامت الحكومة الجزائرية، بإعطاء الشركات الأمريكية نصيباً كبيراً من العقود
البترولية؛ تم اعتقاله بتهمة مخالفة قوانين الهجرة، وهي تهمة من لا تهمة له،
وبقي في السجن مدة أربع سنوات، وفي ذلك يقول ديفيد بونير (نائب زعيم
النواب الديمقراطيين في مجلس النواب) : جاء الدكتور (أنور هدَّام) بأسرته إلى
أميركا بحثاً عن الحرية، ولكنه وجد عوضاً عن ذلك زنزانة سجن، وحكومة
تعتبر الإسلام مؤامرة إجرامية في انتظار التنفيذ لا عقيدة دينية، لم تُوجه إليه
أبداً أي تهمة بخرق أي قانون، ومع ذلك قضى 4 سنوات في السجن بعيداً عن
أسرته ومسلوب الحرية!
لقد استُغلت حالة الهلع والخوف لتمرير قانون مكافحة الإرهاب، ولمنع بروز
أي معارضة جادة له، ومن الملاحظ أنه استُعمل بكثرة ضد المتعاطفين مع القضية
الفلسطينية، ووضعت حركتا حماس والجهاد في قائمة المنظمات الإرهابية لمجرد
أنهما ضد الوجود اليهودي في فلسطين، ولم يحدث منهما أي تهديد للمصالح
الأمريكية.
وإذا كان المدافعون عن القانون يحتجون بأن هذا القانون طُبق في القرن
التاسع عشر من قِبَل أبراهام لينكولن، وفي أوائل القرن العشرين من قِبَل ويلسون،
وبعد الحرب العالمية الثانية؛ فإن المرحلة الحالية لا تقتصر على قانون يشرع الظلم
داخل حدود أمريكا، ولكننا أمام ظاهرة أمريكية على مستوى العالم وخاصة
الإسلامي؛ تُجرم فيه دول وحكومات ومنظمات وشعوب بادعاءات خالية من أي
دليل، فلقد اتُهمت ليبيا بقضية لوكربي وفُرض عليها الحصار الدولي لسنوات دون
أدلة، وهناك الآن محاولة للإدانة عن طريق اعتراف ليبيا بالمسؤولية ودفع
تعويضات مقابل رفع الحظر، وهو إغراء فارغ لأن الاعتراف يغطي على جريمة
الإدانة بدون أدلة، بل يعطي المسوِّغ لاحتلال ليبيا، ولا ننسى أن العراق تم
احتلاله اعتماداً على ادعاءات كاذبة لا تستند إلى أي دليل مادي، ومع ذلك تصدر
قرارات التهديد من مجلس الأمن قبل الحرب بدون أدلة، ومع ذلك لم يمانع هذا
المجلس في منح أمريكا وبريطانيا صفة المحتل وإضفاء الشرعية لهذا الوجود، مع
عدم التطرق لإثبات التهم السابقة أو نفيها؛ لأنها ببساطة حرب الأدلة السرية
الأولى!
وإذا كانت هذه حال أمريكا مع المشاكسين؛ فإن حالها مع الأصدقاء والحلفاء
لا تختلف كثيراً، وإلا ماذا نسمي الاتهام والتهجم بناءً على 28 صفحة مطموسة
وممنوع إبرازها حتى للمتهم؟! إنها ببساطة صرعة (الأدلة السرية) ، والتى لن
يسلم منها أحد؛ فهي تعبِّر عن قمة العدالة في النظام العالمي الأمريكي الجديد!!