مجله البيان (صفحة 4681)

من وصايا العلماء عند الفتن واشتباه الأمور ملك اللسان، وكف اليد، ومعالجة ما في الصدر

دراسات في الشريعة

من وصايا العلماء عند الفتن واشتباه الأمور

ملك اللسان، وكف اليد، ومعالجة ما في الصدر

د. علي بن عبد الله الصيّاح

"alial-moer ali'' >1388a@maktoob.com<

هذه ثلاث وصايا عظيمة مستقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه

وسلم قَالها شيخُ المقرئين والمُحدثين، وحافظُ أهل الكوفة في زمانه، وأحد الستة

الذين حفظوا العلم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم [1] : سُليمانُ بنُ مِهْرَان

الأعمش وَمَنْ قرأ سيرته عَرَفَ إمامة هذا الرجل في العلم والعمل والزهد.

قال العِجْليُّ: «حَدّثني أبي قال: هاجتْ فتنةٌ بالكوفة فعَمِلَ الحَسَنُ بنُ الحُرّ

طعاماً كثيراً ودعا قُرّاء أهل الكوفة، فكتبوا كتاباً يأمرون فيه بالكف، وينهون عن

الفتنة، فدعوه فتكلم بثلاث كلمات فاستغنوا بهن عن قراءةِ ذلكَ الكتاب فَقَالَ: رَحِمَ

اللهُ امرأً» مَلَكَ لِسَانَهُ « [2] ،» وَكفَّ يدَهُ « [3] ،» وَعَالجَ مَا في صدرهِ « [4] ،

تَفَرَّقوا؛ فإنه كَانَ يُكره طول المجلس» [5] . وفي روايةٍ أُخرى: «فَقالَ الأعمشُ:

مَلَكَ لسانَه رجلٌ، وحَفِظَ نفسَه، وعَلِمَ ما في قلبه، إنّه كانَ يُقَال: إنه إذا طَالَ

المجلسُ كان للشيطان فيه مطمعٌ. أحضرْ طعامَكَ» .

إنّ الحديثَ عن الفتن وما ورد فيها من الآيات والأحاديث أخذ جانباً من عناية

المحدثين؛ فقلما يخلو كتاب من كتب السنة كصحيح البخاريّ، وصحيح مسلم،

وسنن أبي داود، والترمذي وغيرها كثير من كتاب أو باب «الفتن» ، قال الإمامُ

البُخاريُّ في صحيحهِ: «كتاب الفتن، باب ما جاء في قول الله تعالى: [وَاتَّقُوا

فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً] (الأنفال: 25) ، وما كان النبي صلى

الله عليه وسلم يحذر من الفتن» .

ونحن في هذا الزمان - زمان الفتن - بحاجة لتأمل الآيات والأحاديث الواردة

في الفتن، وأخذ العبر والعظات والأحكام، والخروج بفقه ما ينبغي عمله عِندَ الفتن

في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال عبد الرحمن بن أبزي: قلتُ لأبيّ بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان:

أبا المنذر! ما المخرج؟ قال: كتابُ الله ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه

عليك فكِله إلى عالمه [6] .

وكذا دراسة هدي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسلكهم عند الفتن

التي مرت بهم بدءاً من فتنة مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه.

قال أحمدُ بنُ حنبل: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين

قال: «هاجتْ الفتنة وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف؛ فما

خفَّ فيها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين» [7] .

وفي ظني أنَّ مراعاة تلك الوصايا الثلاث من أعظم الأسباب لحفظ المسلم من

الولوج في تلك الفتن التي تجعل طالب العلم في حيرةٍ واشتباه.

وبالمقابل تجد من لم يملك لسانه يقطع في أمور لو وردت على الخليفة الراشد

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها أهل بدر، واستخار الله فيها شهراً،

وربما ترتب على هذه المسائل عدم كف اليد عن دماء المسلمين المحرمة، وانتهاك

حرمة المسلم بالظنون والتخرصات.

ولو أنَّ كلَّ مسلم اشتغل بنفسه وعالج ما في صدره لوجد في ذلك شغلاً عن

الخوض في الفتن.

ومما ينبغي التفطن له:

أنه ليس من ملك اللسان واعتزال الفتن عدم الرد على شبهات المبطلين

واعتراضاتهم على أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وليس من الخوض في الفتن كذلك:

- تقرير مشروعية الجهاد في سبيل الله، وأنه ذروة سنام الإسلام.

- وبيان وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين.

- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

- والتحذير من البدع والخرافات، والمذاهب الهدامة من العلمانية والحداثة

وغيرهما.

بل إنَّ الكلام في هذه المسائل في هذا الزمان أصبح من أهم المهمات وأفضل

الجهاد لما نرى من محاولات عالمية جادّة لطمس معالم الإسلام في المسائل المتقدمة،

وتصويرها بصورة الإرهاب والمنافاة لحقوق الإنسان، وحرية الرأي، واحترام

الآخر بزعمهم.

وإنّ من أخطر الأمور على النشء المسلم عدم المعرفة التامة بأحكام الإسلام

في المسائل المتقدمة، وعدم تصورها التصور الصحيح الموافق للكتاب والسنة

الصحيحة، فينبغي على الجميع العمل، وبذل الجهد والطاقة في توضيح المفاهيم

السابقة، لينالوا شرف خدمة هذا الدين العظيم.

نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015