مجله البيان (صفحة 4522)

الفهم الجزئي للقواعد الشرعية وأثره السلبي في إبطاء إقامة الحجة الرسالية

دراسات في الشريعة

الفهم الجزئي للقواعد الشرعية

وأثره السلبي في إبطاء إقامة الحجة الرسالية

قاعدة الهجر أنموذجاً

د. جمال أحمد بادي [*]

jmbadi@hotmail.com

يهدف هذا المقال إلى بيان أن الفهم الجزئي لموضوع الهجر من قِبَل بعض

الدعاة باعتبار بعض النصوص الواردة فيه، وإهمال بعضها الآخر، مع إغفال

القواعد الشرعية التي أصَّلها العلماء من أئمة الهدى للتعامل مع المجتمعات عند غلبة

الشر أو اختلاطه بالخير للموازنة بين المصالح اجتلاباً وتكميلاً، والمفاسد درءاً

وتقليلاً، كان سبباً في إبطاء إقامة الحجة على المدعوين وإيصال رسالة الإسلام

إليهم بل استمرار كثير منهم في الإقامة على ما هم عليه من الخطأ بسبب آثار تلك

النظرة الجزئية.

كما يحاول المقال تلمس أسباب هذه الظاهرة، ثم يبين الأثر السلبي العملي

المترتب على إعمال تلك النظرة الجزئية الانتقائية على كلا الطرفين من الدعاة

والمدعوِّين.

* التعريف بالهجر وبيان ارتباطه بالمقاصد الشرعية:

يدخل الهجر تحت قاعدة (الولاء والبراء) ، ومفهوم هذه القاعدة الشريفة لدى

أهل السنة والجماعة هو: الحب في الله والبغض في الله؛ فهم يوالون أولياء

الرحمن، ويعادون أولياء الشيطان، وكل بحسب ما فيه من الخير والشر [1] .

وقد دل على هذه القاعدة قوله تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ

الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] (الأنعام: 68) .

وقوله تعالى: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا

وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ

جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً] (النساء: 140) .

وقوله تعالى: [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ

اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ] (هود: 113) .

وقوله تعالى: [لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] (المجادلة:

22) .

ومن السنة النبوية المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:

«ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما

سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن

يقذف في النار» [2] .

ومنها حديث أبي أمامة: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله،

فقد استكمل الإيمان» رواه أبو داود.

ومن مفردات الهجر التي نص عليها العلماء: عدم مجالسة المهجور،

والابتعاد عن مجاورته، وترك توقيره، وترك مكالمته، وترك السلام عليه، وترك

التسمية له، وعدم بسط الوجه له مع عدم هجر السلام والكلام، وعدم سماع كلامه

وقراءته، وعدم مشاورته [3] .

وقد بين العلماء الأجلاء أن الهجر مرتبط بمقصد شرعي وهو رد المخطئ عن

خطئه عموماً سواء أكان الخطأ معصية أم بدعة أو غير ذلك من المخالفات الشرعية،

فإن لم يتحقق هذا المقصد أو ترتب على القيام بالهجر مفسدة راجحة وهو أمر

يحتاج إلى حسن تقدير المآلات قبل القيام بالفعل أصلاً أصبح الهجر في حكم الملغي

وتصبح المؤالفة هي الأصل.

وقد يكون الفعل الواقع من مستحق الهجر عملاً شركياً أو كفرياً في أزمنة

وأمكنة انتشار الجهل بالدين وقلة أو عدم وجود من يبصرهم أو يقيم الحجة عليهم لا

سيما مع وجود الشبهات والتأول فيصبر على صاحبه ويؤالف مع الحرص على

بيان الحق له وإقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة عنه.

والهجر بهذا الاعتبار يمكن النظر إليه على أنه وسيلة إصلاح وليس مجرد

عقوبة شرعية، وهو البعد الذي يرمي هذا المقال إلى توضيحه وبيانه.

والنظر إليه على أنه وسيلة إصلاح لا يلغي النظرة الأخرى على أنه عقوبة

شرعية، ولا يتعارض معها، ولكنه زاوية نظر أخرى صحيحة تفتح الباب نحو

آفاق دعوية آنية ومستقبلية أرحب في باب إقامة الحجة الرسالية وإبلاغ دين الله عز

وجل للخلق.

وهذه الزاوية من النظر مبنية على تأصيلات الإمام الشاطبي في الموضوع؛

حيث اعتبر أعلى وأول وأشد وأهم حد (أي عقوبة) للمبتدعة هو تعليمهم

وإرشادهم.

وقال قريباً من قوله هذا الإمام ابن تيمية في نهاية رسالته (الحموية) ما نصه:

(وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القدر، والحيرة مستولية عليهم، والشيطان

مستحوذ عليهم رحمتهم، وترفقت بهم) [4] .

لأجل ذلك كله اشترط العلماء ضوابط محددة لإعمال الهجر الشرعي منها [5] :

1 - مراعاة المقصود الشرعي للهجر.

2 - مراعاة شرطي قبول الأعمال وهما الإخلاص والمتابعة، والحذر من

متابعة هوى النفس.

3 - التأكد والتثبت، قبل الإقدام على الهجر من أن الأمر مما دلت النصوص

والقواعد الشرعية على أنه مخالفة، ثبوته عن الشخص وعدم أخذ الناس بالتخرص

والظن، خلو صاحبه من الموانع والأعذار كالجهل والتأول ونحوهما.

4 - مراعاة المصلحة والمفسدة المترتبة على الهجر، ومراعاة قواعد الترجيح

عند تعارض المصالح والمفاسد، بتحقيق أكمل المصلحتين، وتفويت أعظم

المفسدتين.

5 - مراعاة اختلاف مراتب المعاصي والبدع وسائر المخالفات.

6 - مراعاة اختلاف الأماكن التي ظهرت فيها المخالفة، وحال أهلها من

حيث ما هو الأفضل في حقهم: الهجر أم المؤالفة؟ وحال الدعاة أنفسهم قوة وضعفاً

أو قلة وكثرة.

* أسباب ظاهرة الفهم الجزئي لموضوع الهجر:

لا شك أن هذه الظاهرة لم تأت من فراغ، ولم تكن آنية الوقوع، وإنما

حصلت لأسباب مختلفة فيما يلي بعضها:

1 - قراءة كتب العلماء السابقين التي ألفت في زمن أقيمت فيه الحجة،

وغلب عليه الخير والصلاح، وتمايز فيه الخير من الشر، ثم تطبيق تلك الأحكام

على الواقع المعاصر الذي اختلفت واختلطت فيه الأمور، واختلت الموازين،

وتلبس فيه الخير بالشر.

2 - قراءة كتب السلف عموماً دون الرجوع إلى آراء الجهابذة من العلماء

المعاصرين المشهود لهم بالعلم والتقى الذين نص بعضهم على اعتبار زماننا هذا في

الجملة ليس زمان هجر وإنما زمان مؤالفة وصبر [6] .

3 - البحث عن سبل نصرة (المواقف الدعوية الخاصة) المبنية على ردود

الفعل.

4 - الإخفاق في جمع كافة النصوص الواردة في الموضوع الناتج عن عدم

الدقة وقلة التحري، أو الخطأ في منهج النظر وتفسير النصوص أصلاً.

قد يتعمد صاحب النظر الجزئي إهمال بعض النصوص قصداً ودونما شعور

أحياناً بسبب اختلاف النظرة إلى الموقف لا سيما إذا كانت مخالفة للصورة الذهنية

المتشكلة بسبب خلفية الأحداث والمستجدات، أو تأويل تلك النصوص بما يتوافق

مع الصورة الذهنية المتشكلة تأويلاً لا تسوِّغه قواعد تفسير النصوص وفق منهج

أهل السنة والجماعة.

5 - وجود خلاف في مسائل علمية دقيقة وخفية من مسائل الاجتهاد قد لا

تتضح لكل أحد من الناس بسبب اختلاف قدرات الفهم والإدراك، وقد يكون فيها

أكثر من رأي للسلف مع تكافؤ الأدلة بين تلك الآراء بحيث لا يسهل ترجيح رأي

على آخر، وقد تكون مبنية على آثار مختلف في صحتها وثبوتها عن قائليها

فيعاملها الداعية معاملة المسائل الجلية والواضحة والمتفق عليها بين السلف.

6 - ارتباط إعمال قاعدة الهجر بالتحزب للشيخ أو الطائفة أو الجماعة أو

المذهب، وغالباً ما يقع هذا الأمر بسبب التأول؛ وذلك بتصور من يقع منهم الهجر

أنهم وشيخهم أو طائفتهم أو جماعتهم هي المتبعة للحق والسنة وما كان عليه

السابقون، وأن من أوقعوا عليهم الهجر من المخالفين لهم في مسألة ما أو مجموعة

مسائل وإن كان الحكم عليهم من باب الخطأ هم مبتدعة ضالون يجب هجرانهم.

ووقوع الفهم الجزئي في هذه الحال من حيث تنزيل القاعدة على الواقع.

وقد كان هذا السبب ولا يزال عاملاً مباشراً وراء تفرقة وتشتت الدعاة أفراداً

وجماعات في شتى بقاع العالم الإسلامي ويتجدد ضحاياه كلما تجددت مقتضياته.

وهو قد لا يخلو من حظ للنفس أحيانا كما أنه مبني في الغالب والأعم على الظن

والتوهم في الحكم على الآخرين وتصنيفهم.

ويا للعجب كيف تصبح هذه القاعدة - أي الهجر، والتي هي مقصودة لردع

وزجر العصاة ومحاولة لردهم لصف المجتمع المتماسك الذي نشزوا عنه بأفعالهم

ومخالفاتهم سبباً في تفريق كلمة المؤمنين وتصدع صفهم وتشتت كلمتهم في المجتمع

المسلم الواحد، وتعارض بذلك إعمال قاعدة أرسخ وآكد ألا وهي قاعدة التآلف

والاجتماع والوحدة التي هي الأساس والأصل والتي لا قيام لكيان الأمة إلا بها ولا

استقرار لمجتمع مسلم إلا على تشييد معالمها ورصف لبناتها.

وتصبح قاعدة الهجر هنا سلاحاً في يد مجموعة أو طائفة ما يشهر في وجه

كل مخالف خارج إطار تلك الطائفة.

وهو من آثار التربية الحزبية بأنواعها المتعددة المذكورة آنفاً. وهو مما يستدعي أن

يضعه المربون في حسبانهم لإيجاد المخرج العلمي والإيماني المناسب له حين يقع،

ووضع السبل الكفيلة بمنع وقوعه أصلاً؛ إذ لا ضرر ولا ضرار كما هو متقرر في

قواعد الشريعة الغراء.

وكم من محارب للحزبية وهو مغرق فيها ولا يدري ولا يشعر. وهذا الحال

يدخل فيه جانب نفسي مبني وقائم على جانب إدراكي حسي لا يمكن التخلص من

مؤثراته السلوكية السلبية إلا بالتخلص من أسر العوائق الحسية الإدراكية المسيطرة

وهو مما يؤدي بدوره إلى تقويم التصور والذي يقود إلى تقويم السلوك.

* أثر النظرة الجزئية على المدعوين والدعوة:

1 - سوء التعامل مع الأقارب بما فيهم الوالدان والأهل، مما ولد أحياناً عقوقاً

مسوَّغاً أو قطيعة رحم أو تسبب فيها. من ذلك سوء طريقة التعامل مع الوالد أو

الوالدة إذا كان أحدهما مقارفاً لمعصية مثلاً، وقلة احترامهما والتأدب معهما بحجة

مخالفتهما واستحقاقهما للهجر، وقد يترتب على ذلك طرد الوالدين لولدهما من البيت

إبعاداً وتخلصاً، وفي بعض الأحيان يختار الداعية ترك بيت والديه والابتعاد عنهما

تديناً وقربة في زعمه، والنتيجة حصول العقوق من طرف الابن والذي يعتبر

مفسدة أكبر وأعظم من المعصية أو المخالفة التي تسببت فيها، وبقاء الوالدين أو

أحدهما على المخالفة قد يمتد لزمن يطول أو يقصر. ولا يستدل هنا ببعض حالات

الأعيان التي أدى الهجر فيها إلى نتيجة إيجابية؛ فإن القواعد الشرعية لا تعارَض

بالوقائع وحالات الأعيان، وإنما بقاعدة شرعية أرجح.

2 - سوء التعامل مع الأصدقاء وعموم الناس والمجتمع باعتبارهم مخالفين

تجب عزلتهم وعدم مخالطتهم، وينشأ عن ذلك العبوس والتجهم في وجوههم وقابلية

الاستفزاز من أقل تصرف خاطئ يصدر منهم والإغلاظ عليهم في القول واختيار

العبارات الجارحة والقاسية في توجيههم والتي تولد لديهم مزيداً من العناد والتحدي

وقلة الاستجابة للموعظة والذكرى. ولاعجب أن يأمر القرآن المؤمنين باللين في

القول عند الأمر والنهي: [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] (طه: 44) ،

وقوله تعالى: [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً] (البقرة: 83) ، وقوله تعالى: [وَقُل

لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ] (الإسراء: 53) .

3 - الخطأ في الموقف قولاً أو فعلاً واتخاذ القرار غير المناسب الذي لا

يراعي مآلات الأفعال. فقصور التصور يؤدي إلى الخطأ في الحكم والذي يؤدي

بدوره إلى الخطأ في اتخاذ القرار. ومن ذلك الشدة مع الجاهل الذي لم يجد من

يعلمه، وحديث العهد بالإسلام الذي لم تتسنَ له فرصة دراسته والتمكن فيه،

وصاحب الشبهة الذي لم تقم عليه الحجة بعد.

4 - ويتبين مما ذكر آنفاً استمرار بقاء المنكر على حاله دون تغيير أو إزالة

وذلك في الغالب الأعم بل ازدياده في بعض الأحيان عما كان عليه من ذي قبل وهو

خلاف مقصد الشارع في الأمر والنهي، كما أنه خلاف مقصد الشارع فيما شرع

الهجر له.

* أثره السلبي على الدعاة أنفسهم وعلى أسلوبهم في الدعوة:

1 - التعصب والتحزب نتيجة التقوقع الناتج عن تكرار المواقف الخاطئة

والانعزال عن الناس والمجتمع ويترتب عليه انحسار مساحة تأثير الدعاة على كافة

الأصعدة وبين شتى أصناف الناس.

2 - حصر الدعاة أنفسهم في دائرة ضيقة للدعوة واطمئنانهم لذلك، وهو

مدخل للشيطان لصرف الداعية عن الخير والأمر به، واكتفائه بما قد قام به من

عمل ظاناً حصول الإعذار بذلك.

3 - قلة الصبر وسرعة نفاده، ودوره سلباً على أهم مقومات الدعوة وأركانها،

بل وفقدانه تماماً في بعض المواقف أحوج ما يكون الداعية إليه مخالفاً بذلك ما أمر

به وحث عليه.

يقول تعالى: [وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (آل عمران:

186) ، ويقول عز وجل: [وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ]

(لقمان: 17) ، ويقول سبحانه: [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ

تَسْتَعْجِل لَّهُمْ] (الأحقاف: 35) ، ويقول عز من قائل: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ

وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (وَالعصر: 3) .

4 - ارتفاع حدة الخطاب ونبرته مع المخالف وسرعة التأثر والغضب مع

العصاة وعموم المخالفين.

يقول تعالى في هذا الشأن لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: [وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ

غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِك] (آل عمران: 159) ، ويقول النبي صلى الله

عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه» [7] .

5 - الغلو في «البغض» والمعاداة للمخالفين وإن صح سببه ومقتضاه، عن

الحد الشرعي القائم على الاعتدال والتوسط وقد جعل الله تعالى لكل شيء قدراً.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أحبب حبيبك هَوْناً

ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هَوْناً ما عسى أن يكون حبيبك

يوماً ما» [8] .

وجاء في نصيحة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأحد أبنائه: «لا

يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً» .

6 - التباس الأمور على صغار طلبة العلم والدعاة الذين هم في بداية الطريق،

ووقوعهم في الحيرة نتيجة المواقف والتطبيقات الخاطئة المبنية على الفهم الجزئي

لقاعدة الهجر، وقد يقع بعضهم في التقليد الأعمى لأصحاب تلك المواقف، ويتحمس

لها، بل وقد يبالغ بعض أولئك المبتدئين في الأمر أكثر من متبوعيهم في تطبيق

القاعدة وإعمالها، وعند زفِّه خبرَ ما قام به إلى من اقتدى به عاجله ذلك المتبوع

بالثناء والمديح والإطراء والدعاء له بالصبر على الطريق الذي قلَّ سالكوه وعز

طالبوه، فيزداد إصراراً على مواصلة المشوار الخاطئ وهو يعتقد سلامته وصحته.

وقد تؤدي تلك الحيرة ببعض أصحابها من صغار طلبة العلم والدعاة إلى كثرة

التنقل بين الآراء والتوجهات، كما قد تؤدي بالبعض الآخر إلى الفتور والزهد في

الدعوة والأمر بالمعروف والانعزال عن المجتمع والتاثير فيه.

7 - السعي في إيذاء المخالف باعتباره مخالفاً زعماً وتأولاً وإلحاق الضرر به

بأي صورة كانت من باب أنه مستحق للعقوبة، ومن ذلك الوشاية والسعي به عند

القاضي أو الحاكم أو غيرهم من أصحاب السلطة والقرار في المجتمع، ومنها

استعداء الناس عليه وإعطاء صورة غير مرضية عنه للآخرين والتي غالباً ما يكون

فيها حظ للنفس وانتصار لها على الغير وإن أدى ذلك إلى المبالغة وأنواع من

التأويل، ومنها السعي في حرمان المهجور من الخير وتولي الوظائف بحجة عدم

استحقاقه لذلك واتباعاً لسيرة السابقين الأولين مع مخالفيهم من أهل البدع والضلال.

ويبقى الحديث عن سبل علاج هذه الظاهرة السلبية ومحاولة التقليل منها في

صفوف الدعاة. ومن ذلك تقوى الله فيما يفعل الداعية أو يذر، ومحاسبة النفس

ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، والحرص على سلامة منهج الدعوة وتحري

التنزيل السليم للقواعد على الواقع، وطلب العلم النافع وفق منهج سديد، ولا سيما

قبل الإقدام على عمل الطاعات حتى تتحقق متابعة الشرع مع حسن النية والقصد،

وحسن التخلص من رغبات النفوس وحظوظها.

إن من أعظم الخطأ اعتبار الدعاة أنفسهم قد جاوزوا القنطرة وعدم اعتبار

أنفسهم أنهم في الوقت الذي يكونون فيه دعاة لا يمنع أن يكونوا مدعوين، فيحاور

بعضهم بعضاً، ويستمع بعضهم لنصح بعض؛ هدفهم تحقيق مقاصد الشريعة،

وغايتهم إرضاء الله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015