دراسات تربوية
سليمان بن عبد الله الطريم
جعل الله سبحانه وتعالى بحكمته الدنيا الغرارة العاجلة، الدنية الفانية دار
ابتلاء وامتحان ليتميز بها من عباده الأحسن عملاً، والأكثر خيراً، والأرفع درجة
ومنزلاً، والأفضل طاعة ونسكاً.
قال تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ
وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ]
(فاطر: 32) . وقال تعالى: [الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً] (الملك: 2) .
قال ابن كثير رحمه الله: «ليبلوكم أي: يختبركم أيكم أحسن عملاً، ولم يقل
أكثر عملاً بل أحسن عملاً، ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً لله عز وجل
على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم» [1] .
وهي دار ابتلاء وفتنة بالمنحة والمحنة. قال تعالى: [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً] (الأنبياء: 35) .
وقال ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: «أي نختبركم بالمصائب تارة،
وبالنعم أخرى، فننظر: من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط؛ كما قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ونبلوكم أي نبتليكم: بالشر
والخير فتنة بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام،
والطاعة والمعصية، والهدى والضلال» [2] .
ومن أسباب الفتنة عداوة الشيطان، ووسوسته للإنسان، وهي عداوة بينة
ظاهرة، قديمة مستمرة، حذر الله منها، وأمر بالتوقي من شرها، وأوجب معاداته
بصدق الإيمان، ومخالفته بطاعة الرحمن.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ
يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا
مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ] (فاطر: 5-6) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أي لا يفتنكم الشيطان ويصرفنكم عن
اتباع رسل الله، وتصديق كلماته؛ فإنه غرارٌ كذاب أفاك» [3] .
قال مطرف بن عبد الله الشخير: «وجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين،
ووجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة» [4] .
وهذه العداوة الإبليسية أبدية حسدية خطيرة لا ينتهي عداؤها إلا بمضي
الأعمار، وقيام الأشهاد، أو بفساد الأعمال وموافقة الشيطان، وحسدية لا تنفك
عُقدها بمصانعة بمال يدفع، أو مصيبة ببدن تقع، أو بفترة عن الاجتهاد في العمل
الصالح تعرض، أو بمرحلة من العمر تمر وتنقضي بل وسوسة وحسد أبدي حتى
عند الموت وسكراته، وفي خلوات المرء وجلواته، وفي يقظته ونومه وغفلاته،
والله وحده هو المستعان عليه، وبالله تعالى وحده المعتصم، وإليه سبحانه الملجأ
والمستعاذ.
وهي عداوة - أعاذنا الله منها - خطيرة متنوعة السلاح، قوية الفتك، شديدة
الأثر، متعددة الأساليب، مختلفة الوسائل.
قال تعالى واصفاً حال عداوته: [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] (الأعراف: 16-17) .
وقال تعالى في التحذير من الشيطان بعد طرده ولعنه وأنه عدوٌ مضل مبين،
وأنه يورد موارد الردى ويضل عن طريق الهدى، وعن نور الحق إلى ظلام الكفر
والبدعة والمعصية بالأماني الغرورة، والوعود المكذوبة والأوامر المخالفة للفطر.
يقول سبحانه وتعالى: [إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً
مَّرِيداً * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ
وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ
مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً]
(النساء: 117-120) .
وقد حذر الله عباده من عداوة الشيطان والركون إلى إغوائه وإضلاله، والبُعد
عن اتباع خُطواته؛ فإن عاقبتها الفاحشة والمنكر، ومآلها الخسران المبين.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ] (النور: 21) .
قال ابن كثير رحمه الله: «وهذا تنفير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها
وأوجزها وأحسنها، وخطوات الشيطان طرائقه ومسالكه، وقال ابن عباس رضي
الله عنهما: عمله، وقال عكرمة: نزغاته، وقال قتادة: كل معصية فهي من
خُطوات الشيطان» [5] .
وخُطوات الشيطان هي خطى متلاحقة، ودركات متتابعة، وصور متنوعة:
إفراطٌ وتفريط، وشهوات وشبهات، وسخرية واستهزاء، ومعصية لله ومعاداة
للرسول صلى الله عليه وسلم، ونبذٌ لكتاب الله، وتحكيم للهوى.
والشيطان يجمل الفعل القبيح، ويزين الأمر المشين، ويحسن عمل السوء،
ويغوي ويغري بالمال والمنصب والجاه ومتعة الحياة، ويجري من ابن آدم مجرى
الدم، ويفتح باب الأمل والتسويف، ويستدرج بالحيلة والكذب.
وقال تعالى: [وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 43) ،
وقال تعالى: [أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً] (فاطر: 8) ، وقال تعالى:
[وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ] (الزخرف: 37) .
فالشيطان وجنده وجميع حزبه لا يأمرون إلا بالشر ولا ينهون إلا عن الخير
يأمرون بالكفر لا بالإيمان وبالشرك لا بالتوحيد، وبالبدعة لا بالسنة، وبالمعصية لا
بالطاعة، وبالمنكر لا بالمعروف، وبالتفرق لا بالاجتماع، ويأمرون بتغيير خلق
الله لا باتباع شرائع الإسلام وسنن الفطرة.
قال ابن كثير رحمه الله في التحذير من عداوة الشيطان وكيده لبني آدم: «إن
الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل
إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة من العدو الشيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبل
مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم
من قبل» [6] .
ومن عداوة الشيطان الشديدة أنه قعد لابن آدم في كل طريق خير يخذِّل عنه،
وقعد له في كل طريق شر يدعو إليه ويحثه عليه.
وفي الحديث: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام
فقال: تُسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ ! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة،
فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل؟!
فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد؛ فهو جهد النفس والمال
فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال. فعصاه فجاهد. فمن فعل ذلك كان حقاً
على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق
كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقع من على دابته كان على الله أن يدخله
الجنة» [7] .
ولما كان هذا العدو بهذه القوة والشراسة فيحتاج العبد الضعيف إلى ركن شديد
وسلاح واق، وحماية صلبة، وقوة ضاربة؛ ترد العدو على عقبه خاسئاً حسيراً،
وتصده عن مقاصده مدحوراً، ولا أشد منعة، وأقوى حماية، وأعظم تحصيناً يجده
العبد من الإيمان بالله عز وجل، والاعتصام بكتابه، ومتابعة رسوله صلى الله عليه
وسلم، واتخاذ منهاج السلف الصالح منهاجاً، وطريق أهل السنة والجماعة طريقاً،
معرضاً عن مقالات أهل الأهواء والمبتدعين، وشبهات المضلين، وأقوال الجاهلين
من الذين يجادلون في آيات الله عز وجل بغير علم، ويخوضون في آيات الله بغير
حجة ولا برهان.
وهذا الإيمان والتوحيد بأصوله الاعتقادية والقولية والعملية هو النجاة يوم
القيامة، والفلاح في الدنيا والآخرة.
ويزكي المرء نفسه، ويزيد إيمانه، ويقوي يقينه، ويطرد شيطانه بكثرة
الإخبات والطاعة، والتزلف بالعبادة بأداء الواجبات، وترك المنهيات، والتقرب
إلى الله بالنوافل والمندوبات.
ومن حصون الإيمان الشامخة الراسخة حصن العلم النافع الذي يؤخذ من أهله،
ويتلقى من مظانه على المنهاج السديد، والدين القويم، والصراط المستقيم،
والعلم الشرعي مأرز [*] للمؤمن من شبهات الشيطان، ونور له في معرفة أحكام الله
وحكمه في الشريعة، وأسراره في الكون.
والعلماء ورثة الأنبياء في بيان الدين، وكشف الشبهات، ودلالة الخلق على
حق الخالق، وأثر علمهم النافع على الشيطان وحزبه شديد؛ فهو يهدم صروحهم،
ويخرب حصونهم، ويفرق صفوفهم، ويكسر شوكتهم، ويحل ما عقدوا، ويفتح ما
أغلقوه، ويغلق ما فتحوه، ويرد إلى الحق من حرفوه، وكما يهدون بإذن الله من
أضلوه، وينصرون بالحق من خاصموه؛ ففضلهم على الحق ظاهر، وخيرهم إلى
الناس واصل، ونفعهم بإذن الله إلى العباد سابغ.
ومن أسباب النجاة من نزغات الشيطان وكيده الاستعاذة بالله وحده، والالتجاء
إليه سبحانه من شر وسواسه، وشر أتباعه؛ فهو الملاذ سبحانه وبه المعتصم؛ ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
قال تعالى: [وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ] (فصلت: 36) .
وقد أنزل الله تعالى سورة في حفظ عباده المؤمنين حيث قال: بسم الله
الرحمن الرحيم [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ
الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ]
(الناس: 1-6) .
وأمر سبحانه وتعالى بالاستعاذة من كيد جنده، وشر حزبه الذين يفسدون في
الأرض ولا يصلحون، يسعون فيها فساداً، ويعيثون فيها خراباً فينشرون الرذيلة،
ويحجبون الفضيلة، ويجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان.
قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (غافر:
56) .
وأمر سبحانه عباده المؤمنين بالإعراض عن مجالس خوضهم، ومقاعد جدالهم
التي لا يقصدون فيها حقاً، ولا يريدون خيراً، ويظهرون فيها استهزاء وسخرية
وشراً.
قال تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ
الظَّالِمِينَ] (الأنعام: 68) .
ومن عواصم نزغات الشيطان، ونفثاته المسمومة، ونفخه المحموم،
الاعتصام بذكر الله بالعشي والإبكار، وعند أطراف الليل والنهار فهو حرز مكين،
وحصن حصين، قال تعالى: [قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ
عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ] (الأنبياء: 42) .
وحث سبحانه على دوام ذكره، وكثرة استغفاره، والصبر على طاعته؛ فهي
زاد في طريق دعوته ونشر رسالته، وعون على القيام بحقوق عبوديته، وفيها
انشراح الصدر وسروره، وطمأنينة القلب ونوره، وراحة البال وحبوره، ورضى
النفس وسعادتها، قال تعالى: [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] (الرعد: 28) ،
وقال تعالى: [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ
وَالإِبْكَارِ] (غافر: 55) ، وقال تعالى: [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ
تَرْضَى] (طه: 130) .
ومن موانع تأثير الشيطان على العباد، ومنعه من تحقيق الفساد، ورد كيده
وكيد الفجار والكفار قوة التعلق بالله، ولزوم التعوذ بالله، والالتجاء إلى الله، وقد
جعل الله سبحانه وتعالى لعباده أذكاراً عاصمة، وأوراداً حافظة، وأسباباً واقية إذا
اعتصم بها العبد عُصم، وإذا حفظها العبد حُفظ، وإذا تسربل بها وقي؛ وذلك حين
يتلقاها بقلب موقن خاشع، وفؤاد بصير شاكر، وعمل صالح راشد فتحفظ المسلم
قياماً وقعوداً، ودخولاً وخروجاً، وغياباً وحضوراً، وراحة ونوماً وإقامة ومكثاً،
وسعياً في الحياة وضرباً في الأرض؛ فحاله حال الذاكر الشاكر الذي رطب لسانه
بذكر ربه ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً، وتضرعاً وخفية.
قال تعالى: [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (الأعراف:
55) .
وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده، وتربيته ومنهاجه بيان الأوراد
المندوبة المشروعة، والأذكار المسنونة المرغوبة التي كثرت حسناتها، وعظمت
درجاتها، ودل فضلها وأثرها في حفظ المرء من الشيطان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا
خرج الرجل من باب بيته أو من باب داره كان معه ملكان موكلان به؛ فإذا قال:
بسم الله، قالا: هديت، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قالا: وقيت، وإذا
قال: توكلت على الله، قالا: كفيت، فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل
قد هدي وكفي ووقي؟» [8] ، وفي رواية عن أنس رضي الله عنه يقال له:
«كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان» .
ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه عليها في سلامة
فطرتها، وطهارة نفوسها وصلاح قلوبها، وبركة عيشها، وإحرازها وذريتها من
الشيطان وذريته علم أمته ونصحها في بيان الأدعية والأوراد والآداب في كل
الأحوال والأزمان والمواضع من الأقوال والأفعال عند الطعام والشراب، وعند
دخول وخروج الخلاء، وعند وقوع المصيبة وحصول البلاء، وعند النوم والجماع.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: «لو أن
أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما
رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً» [9] .
وعن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دخل
الرجل بيته فذكر عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء،
وإذا دخل فلم يذكر عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند
طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء» ، وفي رواية: «وإن لم يذكر اسم الله عند
طعامه، وإن لم يذكر اسم الله عند دخوله» [10] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة
عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة،
فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس
كسلان» [11] .
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ذكر الله عز وجل لتكون هذه
الأذكار حرزاً مانعاً منه، وحجاباً ساتراً عنه.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة وأخرجه الإمام البخاري:
«من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل
شيء قدير في يوم مائة مرة كان له عدل ذلك عشر رقاب، وكتبت له مائة
حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى
يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك» [12] ،
وللحديث روايات أخر.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله
العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه، من الشيطان الرجيم قال: أقط [13] ، قلت:
نعم، قال: فإذا قال ذلك حُفظ مني سائر اليوم» [14] .
ووجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى الاستعاذة من الشيطان وشركه إذا
أصبحوا، وإذا أمسوا، وإذا ناموا بوصيته العظيمة لصاحبه الصديق رضي الله عنه
فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق قال: «قل اللهم فاطر
السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا
أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، قال: قلها إذا أصبحت، وإذا
أمسيت، وإذا أخذت مضجعك» [15] .
والعلاج حين يلبِّس الشيطان على العبد صلاته فيما رواه عثمان بن أبي
العاص أنه: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد
حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبِّسها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك
ثلاثاً. قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني» [16] .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن طريق الوقاية من الشيطان وكيده هو
العلم بمداخله ومخارجه ووساوسه وخواطره، ومعرفة عسكره وجنده، وأنصاره
وحزبه، وكذلك معرفة منهجه الضال الفاسد في إغراء الشهوات، وإيراد الشبهات،
واتخاذ الحياة الدنيا مستقراً ومقاماً، ونهاية ومآلاً، وما الحياة الدنيا إلا ممر ومعبر
إلى الدار الآخرة، وحياة قصيرة فانية، قليلة زائلة.
قال تعالى: [اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ
فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَكُونُ
حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ
الغُرُورِ] (الحديد: 20) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «إن الله سبحانه بحكمته سلط على العبد
عدواً عالماً بطرق هلاكه، وأسباب الشر الذي يلقيه فيه، متفنناً فيها، خبيراً بها،
حريصاً عليها لا يفتر يقظة ولا مناماً ... أحدها: وهي غاية مراده منه أن يحول
بينه وبين العلم والإيمان، فيلقيه في الكفر؛ فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح ...
فإن فاتته هذه وهُدي للإسلام حرص على ما يتلو الكفر وهي البدعة، وهي أحب
إليه من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها؛ لأن صاحبها
يرى أنه على هدى، وفي بعض الآثار يقول إبليس: أهلكت بني آدم بالذنوب
وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء؛ فهم
يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ... فإن ظفر منه بهذا
صيره من رعاته وأمرائه، فإن أعجزه شغله بالعمل المفضول عن ما هو أفضل منه،
فإن أعجزه ذلك صار إلى تسليط حزبه يؤذونه ويشتمونه ويبهتونه ويرمونه
بالعظائم ليحزنه، ويشغل قلبه عن العلم والإرادة وسائر أعماله.
فكيف يمكن أن يحترز منه من لا علم له بهذه الأمور؟ ولا بعدوه؟ ولا بما
يحصن منه؟ فإنه لا ينجو من عدوه إلا من عرفه، وعرف طريقه الذي يأتيه منه،
وجيشه الذي يستعين به عليه، وعرف مداخله ومخارجه، وكيفية محاربته، وبأي
شيء يحاربه، وبماذا يداوي جراحه، وبأي شيء يستمد القوة لقتاله ودفعه. وهذا
كله لا يحصل إلا بالعلم؛ فالجاهل في غفلة وعمى عن هذا الأمر العظيم» [17] .
ووحي الشيطان وإيحاؤه مصدر تلقي لحياة شركية، أو خصال جاهلية بما
يزينه من كفر وشرك، وفتن وبدع، وضلال وفساد؛ فهو الآمر لهم، الناهي فيهم،
المطاع بينهم، قد اتخذوه إلهاً ومعبوداً، ومصدقاً ومحبوباً، وقد حذر الله عباده
المؤمنين من طاعته وعبوديته والتلقي عنه، قال تعالى: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي
آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] (يس: 60) .
والإلقاء بخواطر شيطانية، ووساوس إبليسية بزخرف من القول، وغرور
من الأماني هو سبيل إبليس لإضلال بني آدم، وحقيقته وعدٌ مكذوب، وعهد
منقوض، وشرٌ محتوم، وأمرٌ مشؤوم، يوردهم فيه إلى النار وبئس الورد المورود.
والمسلم الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، فيستيقظ من غفلته
وينهض من رقدته، ولا يدع الشيطان يصيب مقاتله بسهامه المسمومة، ويهتك ستر
عرينه بجنوده، ولا يمكنه من خلال وساوسه وخُطواته إلى خدش أصول عقيدته،
ومباني ديانته، ومعالم شريعته، فيعتصم بالله وحده ليعصمه، ويستعيذ بالله وحده
ليعيذه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.