مجله البيان (صفحة 4521)

دراسات في الشريعة

تأثير إلغاء سعر الفائدة في المجتمع

(1 ـ 2)

عدنان بن جمعان الزهراني

adnanzhrani@hotmail.com

* تمهيد:

لقد شهد الفقه الإسلامي شيئاً من التراجع، ليس لعدم مقدرة أصوله على تنزيل

الحكم الشرعي على الواقع، وكذلك ليس لقلة عدد المنتسبين إلى الفقه على نقص

المحققين فيهم، بل لقلة إدراك كثير من فقهائنا للّغة التي يحسن بهم إتباعها في

توجيه أمتهم؛ لأن الفقه ليس مجرد أحكام تلقى هكذا دون نظر إلى تأثر الناس بها،

وتلقيهم لها بالقبول، وهو أمر وإن كنا في غنى عنه في مرحلة سابقة؛ فإنه اليوم

في غاية الأهمية، وليس ذلك لأن الناس لم يكونوا بحاجة إلى تلقي الأحكام بالقبول

لتطبيقها في حياتهم في تلك المراحل السابقة، بل لأنهم كانوا أقل عرضة للموانع.

أما نحن اليوم فأمامنا موانع كثيرة، وشواغل أكثر، فغدا التشويق لازماً للغة

الفقه اليوم [1] ، مع السهولة التي يظهرها المثال الواقعي؛ مما يمسه الناس في

معاشهم، دون الاكتفاء بالعرض مع المثال الذي إنما خوطب به المرء قبل سنين

عديدة، وهذا ما وجدت كثيراً من الفقهاء في عزوف عن إدراكه، فضلاً عن

التعاطي الكَيِّس معه.

انظر إلى قضية الحجاب في كتابات المنفلوطي، بل وغيرها، ومثله الرافعي،

وغيرهم رغم قلتهم بل ندرتهم، وانظر إلى عمق تأثُّر الناس بها، وهم ليسوا في

عرضهم لتلك القضايا سوى أدباء متأثرين بالفقهاء، وقد صاغوا الفقه في قالب من

الأدب؛ يجعل الممتثل للشرع الحنيف فارساً ركب الجادة كي يصل إلى مراقي

الفلاح، وهم جعلوا المُعرض كحمار يحمل أسفاراً، ضمن سياق تصويري بديع،

وأقول جازماً لقد فعلوا بصنيعهم فوق ما صنعته الفتاوى على كثرتها هذا ما أحسبه،

ولهذا لاح لي أن أعرض شيئاً من قضايانا والتي جدَّ الحديث عنها وهو خَلِقٌ في

ثوب جديد، قال الرافعي في وحي القلم: «ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى -

كالإيمان، الجمال، والحب، والخير، والحق - ستبقى محتاجةً في كل عصر إلى

كتابة جديدة من أذهان جديدة» [2] .

وحديثنا هنا عن أمر قد تكلموا عنه عبر فضائيات قد كنا قبلها في غنى عن

التنزل في الحوار، وفي غنى عن كثير من القول المستند إلى دليل العقل الذي يجد

مصداقيته من المعادلة الرياضية؛ ليزداد الذين آمنوا إيماناً، وتذهب الريبة عن

غيرهم، فصرنا في حاجة لنعرض بعض فقهنا من خلال قصة، غير مقصرين في

كل ما يتطلبه قرع الحجة بأختها، مع الإعراض عن كل ما لا حاجة إليه؛ ليدرك

الناس سر الشريعة [3] ، ضمن سياقها الذي وردت خلاله، لا باعتبار الحكم جزءاً

لا صلة له بالكل، حيث يظن الرائي أنه أمام يد فُصلت عن جسد، أو أمام رقعة

قُطعت من ثوب.

لأننا عندما نتحدث عن حكم شرعي لا نملك أن نفهمه على نحو صائب إلا

عندما ننظر إلى المنظومة الإسلامية في شمول وتكامل، فليس تحريم الربا في

معزل عن حكمته علته، ولا ما هو مؤد إلى ما من أجله حرم الله تعالى الربا خارجاً

عن حكمه، وإلا فالشريعة ليست من عند الله تعالى، أو الحكم المظنون ليس هو

الشرع الحنيف، ولا شيء سوى هذين الاحتمالين، ولا يملك مؤمن سوى القول بأن

ما حسبناه من الشرع ليس منه؛ لأن الله تعالى لا يشك به عاقل، سبحانه.

والآن أعرض لذكر وقائع جلسة من مجالس الشورى التي تصورها الكاتب في

ذهنه، وهي جلسة عقدت لاتخاذ قرار بشأن ما يسمى بسعر الفائدة، وهي طريقة

لعلها جديدة في رد فتوى مجمع البحوث المصري، والتي تتعلق بالاستثمار لدى

البنوك مع ضمان نسبة من الربح، وهو ما سيجده القارئ بإذنه تعالى، والآن إلى

ذكر تلك الوقائع من محاضر ذلك المجلس.

- محضر الجلسة الخاصة بمناقشة مشروع إلغاء سعر الفائدة:

لقد انعقد مجلس الشورى في جلسة طارئة بتاريخ 14/10/1423هـ،

الموافق 18/12/2002م، وذلك لمناقشة المشروع المقدم من قبل اللجنة العليا

لدراسة أفضل السبل لرفع الفقر، وتحقيق رفاهية المواطن، وإقرارها.

عنوان المشروع: إلغاء سعر الفائدة.

أثره: رفع الفقر، وتحقيق رفاهية المواطن [4] .

مقدم المشروع: عدنان بن جمعان الزهراني.

أولاً: مسوّغات تقديم المشروع.

- محاولة جادة لتوفير فرص عمل جديدة لأبناء المجتمع؛ بمعنى الحد من؛

بل مجابهة البطالة.

- تشجيع الاستثمار على اختلاف مجالاته.

- الحد من الغلاء المستمر المعبر عنه بـ (التضخم الحاد) .

- ومن ثم المحافظة على القوة الشرائية للعملة، وتحقيق الاستقرار في

الأسواق.

وقبل كل ذلك رفع المقت الإلهي؛ من خلال إغلاق باب كبير من أبواب

الحرب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يوضح من خلال النظر

الاقتصادي المجرد مدى ما للشرع الإلهي من إعجاز يزيد من إيمان المؤمنين،

ويزيل الريبة عند غيرهم؛ ليعلم الجميع أن التشريع الإسلامي لا يمكن أن يكون قد

جاء من قِبَل البشر، وذلك من خلال ما سنرى في هذا المشروع.

ثانياً: عرض المشروع.

أصحاب المعالي:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ليس خافياً عليكم ما نتحمل من مسؤولية تجاه أبناء شعبنا؛ لأننا سنُسأل يوم لا

ينفع مال ولا بنون عن كل قول قلناه، وعن كل فعل فعلناه تحت مظلة هذا المجلس.

نحن لا نجتمع هنا لمناسبة خاصة، أو لمجرد أداء عمل تقليدي، إننا نخط

بأيدينا مستقبل أبنائنا، وما سنقوله ونقرره يدخل إلى كل بيت، ويتأثر به كل

شخص، فالله الله! في كل من ولانا الله أمرهم، فليس من جائع إلا وسنُسأل عنه:

لِم لَم نطعمه؟ ولا من عارٍ إلا وسنُسأل عنه: لِم لَم نكسه؟

لسنا نُسأل عمن أكل، ومن لبس، فضلاً عمن نقص ربحه، كسؤالنا عن

محتاج لِمَ احتاج ونحن نملك أن نرفع حاجته؟ أصحاب المعالي: ليس من غايات

اقتصادنا الإسلامي الحد من ثروة الأغنياء، ولكنه يجعل المال الذي بأيديهم دائراً؛

لينتفع منه جميع الناس على اختلاف طبقاتهم، وهو يحارب الثراء الذي يكون على

حساب الفقراء ونحوهم من أبناء المجتمع، واقتصادنا لا يقبل أن يفقد المال مسوّغ

وجوده؛ لأنه ليس غاية في نفسه، بل هو وسيلة لتمضي حياة المرء في يسر

وسهولة، وليكون ذلك المال عوناً على طاعة الله تعالى.

أصحاب المعالي:

النقود في اقتصادنا واسطة قد رضي بها الجميع لتبادل المنافع، ولا يقبل ديننا

أن يكون النقد (المعين) واسطة للنقد (نفسه) مع وجود فرق [5] ؛ سواء كانت

المبادلة حالّة [6] ، أو مؤجلة [7] ؛ لأنه عندها يفقد صفة الوسيط الأمين المعبر عن

صحة العملية التبادلية وسلامتها؛ لأنه ليس من المعقول ولا من المصدق حتى لو

تقبلته عقول بعض الناس؛ أن يكون النقد وسيطاً أميناً حالتئذ، بل لقد صار غاية

في نفسه؛ مما أفقده شيئاً من قيمته، وبالتالي فَقَد الإنسان شيئاً من قيمة عمله وجهده؛

مما يوغر صدره، ويهدر كرامته؛ لأن النقد أهم ما يعبر عن جهد الإنسان في

باب المعاملات (وهو الوسيط بين جهد الإنسان وباقي المنافع) ، فحين يتم

التغاضي عن شيء منه في عملية تبادلية (أي قبول مبدأ النقص أو الزيادة في أحد

العوضين حين يكونان من العملة نفسها، أو حتى عندما يكونان من عملة أخرى

شرط وجود الأجل) ؛ فإننا نتغاضى عن شيء من جهد الإنسان نفسه، وهو ما

يعني عدم الاكتراث للإنسان، وجعل النقد فوقه، وسيتحول الإنسان بعد ذلك من

الإنسانية إلى اعتبار الإنسان شيئاً من المادة نفسها، والتي لا روح لها بل ولا عقل.

أصحاب المعالي:

هناك فئة ترغب في زيادة النقود بيدها دون منفعة حقيقية يستفيدها المجتمع

من ذلك النقد؛ يعني زيادة دون عمل، نعم! هم تلك الفئة التي تدفع النقد ليكون هو

بنفسه سبباً لزيادته؛ بحيث لا يكون واسطة للتبادل، بل حتى حين يعلمون بوجود

تبادل وذلك لدى دخولهم فيما يسمونه استثماراً لا يبالون بنقص غيرهم ما داموا هم

في زيادة، ويضمن الآخرون لهم ولا شأن لهم بالمجتمع، ويغنمون حتى حين يغرم

الآخرون، فلا تبادل على وجه الحقيقة مع وجود زيادة ترجع إليهم.

يا لها من خدعة سنرى أثرها على المجتمع فيما بعد!

أصحاب المعالي:

هنا سؤالان أنتظر إجابتهما منكم، وهي التي ستكون مفيدة لنتحدث بوضوح

أكثر عن مشروعنا بشيء من التفصيل. وهما:

- هل سيكون من الأفضل عند صاحب رأس المال وليكن 000,000,100

ريال وضع ماله لدى بنك مقابل نسبة محددة مسبقاً، ولتكن 5% ربحاً سنوياً، أو

استثمار ما لديه من مال في مشروع قد يحقق ربحاً يصل إلى 10%، أو أكثر

سنوياً، مع احتمال خسارة قد تصل إلى النسبة نفسها للربح المتوقع، أو أكثر، أو

قد تجتاح المال كله؟

- البنك حين يستلم ذلك المبلغ؛ كيف سيستغله كي يضمن تسديده لتلك النسبة؛

لأنه قد ضمنها لذلك المودع أو المقرض، أو المستثمر! من قبل؟

أصحاب المعالي:

أريد جواباً يتفق مع رغبة غالبية أصحاب رأس المال، والذين وصفهم كبار

الاقتصاديين بعبارتهم المشهورة (رأس المال جبان) ، كما أرغب في جواب لا

يأخذ الاعتبارات الشرعية بالحسبان على أهميتها، بل لا أهمية لغيرها، إلا أنني

أريد ما نستطيع به مجادلة أصحاب الرأي الآخر بأسلوب لعله يكون أجدى نعم

سيكون الاختيار الأنسب هو الحصول على الربح المضمون ولو قلّ؛ لأنهم

سيجدون أنفسهم أكثر اطمئناناً.

وبعد ذلك سيقوم البنك بالأمر نفسه، وسيلجأ إلى وضع المبلغ لدى جهة أخرى

بنك، وهو المفضل هنا، أو غيره تقوم بدفع نسبة أعلى؛ ليصبح الفرق ربحاً

لصالح البنك الأول، وهكذا.

ولا بد تقودنا هذه السلسلة في النهاية إلى مستثمر يقبل تحمل عبء مغامرة

يدخلها مع احتمال الخسارة والربح، غير أنه مدين لتلك الجهة المقرضة بمبلغ تزيد

نسبته حسب حظه، ومدى طول السلسلة التي وصلت بالمبلغ إليه.

مع العلم بأن تلك الجهة المقرضة مضطرة للتساهل مع ذلك المستثمر من حيث

الضمانات، نظراً لرغبتها الشديدة في تحويل العبء عنها، خصوصاً حين لا تجد

من الجهات الاقتصادية البنوك من يعطيها هامشاً مناسباً للربح، فيكون ذلك

المستثمر وبشروط سهلة هو ملاذها، وهو من سيقبل دفع تلك النسبة بهامش مفيد،

ولنقُل بلغ ما سيدفعه المستثمر 9% سنوياً [8] .

أصحاب المعالي:

رجل يملك 100.000.000 ريال، سيضمن 5% ربحاً سنوياً من ذلك البنك،

والبنك سيعطيها بنكاً آخر بنسة 7% سنوياً، وهذا سيعطيها مستثمراً بنسبة 9%

سنوياً، والمستثمر في أحسن الأحوال [9] سيقوم بتأسيس صناعة في مجال من

المجالات، ولنفترض هنا أنه قام بعمل مصنع متكامل للسجاد نسأل الله تعالى له

التوفيق.

والسؤال الآن: كيف سيكون سعر تلك السلع التي يقوم المستثمر ببيعها؟

للإجابة نفرض أن تكلفة التصنيع تبلغ 10 ريالات للمتر، ونجعل 35%

مصاريف عمومية وإدارية، حين يقر مجلس الإدارة تلك النسبة؛ أي ستصبح تكلفة

المتر 13.5 ريالاً، وهامش الربح الذي قرره مجلس الإدارة 50% من سعر التكلفة؛

أي سيكون البيع بـ 6.75 + 13.5 = 20.25 ريالاً، هذا هو المقرر، ولكن

المستثمر تواجهه مشكلة خدمات الدين، وهي ما نسبته 9%، ولهذا سيتم وضعها

ضمن هامش الربح أو ضمن تكلفة المتر النهائية، وهو ما سيكون 1.2 ريال تقريباً

قبل وضع هامش الربح؛ ولذا سيزيد سعر المتر بالمقدار نفسه ليصبح 21.5 ريالاً

تقريباً.

هذا سعر البيع المناسب للمستثمر؛ فهل هو السعر الذي سينزل إلى السوق؟

الجواب: لا؛ لأن المستشار الاقتصادي للشركة قد أخذ بمبدأ الاحتياط من

وجود كساد ونحوه من الطوارئ، وهو ما جعل سعر المتر 60 ريالاً.

لماذا؟

لأنه سيكون مضطراً لتحميل كل متر سيتأخر بيعه عن عام ما نسبته 9%

على الأقل، وهي خدمات ذلك الدين، وعند وجود تأخير في بيع شيء من بضاعته

لن يتقبلها السوق إلا بعد وضع تخفيض (خصم) جيد عليها باعتبارها بضاعة

قديمة، وهكذا في كل متر يتأخر بيعه، بينما سعر تكلفته يزيد على الأقل 9%؛

فكيف سيكون التخفيض (الخصم) على شيء ستزيد كلفته مع الأيام، فكان

المخرج هو جعل سعر البيع للمتر الجديد 60 ريالاً؛ ليصبح التخفيض (الخصم)

على البضاعة القديمة لعامٍ 50%؛ أي 30 ريالاً، ولعامين 60% مثلاً؛ أي 24

ريالاً للمتر، وهكذا تقل آثار تراكم خدمات الدين [10] .

والملاحظ هنا أن المتضرر من الغلاء الشديد هو المستهلك.

كما لا بد من ملاحظة أن بعض المستثمرين سيلجأ إلى أمر آخر، وذلك عندما

لا يحبذون النزول إلى السوق بسعر عال منذ البداية، ذلك عندما توجد منافسة في

المجال نفسه، فعندها سيكون سعر البيع مماثلاً لما ينبغي أن يكون عليه الأمر،

وهو في مثالنا 21.5 ريالاً، ولكنه سيضطر إلى رفع مستمر للسعر آخذاً بالحسبان

خدمات الدين للبضاعة التي لم يتم بيعها [11] ؛ ليصير عبئاً تتحمله البضاعة الجديدة،

وهو ما نراه في معظم الحالات اليوم، وهو ما يعد شيئاً يسيراً ولكنه لا يلبث أن

يتفاقم ويضر بالمجتمع، وهو ما يعني وجود تضخم مستمر [12] قد لا تظهر آثاره

قريباً، ولكن عند وجود أقل طارئ يجد الناس أنفسهم أمام أموال عظيمة مهدرة

[13] ؛ لأنه بحَسْب المستثمرين سداد خدمات ديونهم، أما الديون نفسها فهم لا

يقدرون على سدادها في غالب الحالات.

ولو أرادوا فلن يكون إلا على حساب إغلاق أبواب كثير من الشركات، ولهذا

وقعت النمور الآسيوية في شر عظيم، عندما طلب بعض المقرضين [14] الحصول

على أموالهم، وإلا فهم سيعلنون أن الاقتصاد هناك لا يوثق به [15] ، فقامت البنوك

بطلب سداد الديون من المستثمرين، وهو ما لم يحدث، فرفعت قضايا حقوقية

قضائية في هذا الخصوص، وتم بيع شركات كبيرة بأبخس الأثمان [16] ، بعد

إعلان إفلاس كثير منها، وتم تسريح ألوف من الناس من أعمالهم؛ لأن الآلية التي

تعمل بها تلك الشركات لم تكن لتستطيع المنافسة لو وضعت في خطتها سداد الدين،

فلم يكن عند معظمها سوى آلية لسداد خدمات الدين، فعندما اضطرت البنوك لسداد

مبالغ كبيرة لبعض المستثمرين أغلقت أبوابها، وسرحت موظفيها، ومثلها كثير من

الشركات، لتظهر بسبب ذلك مأساة البطالة مع ما تجلبه من ويلات وفساد، فكم من

إنسان خسر عمله بسبب ما يسمى بسعر الفائدة؟! فهو كما ظهرت مسؤوليته عن

التضخم وهو ليس ينفي وجود عوامل أخرى إلا أنني أجادل في جعل هذا من أهم

عوامل التضخم - تظهر الآن مسؤوليته عن خسارة كثيرين لأعمالهم، بل عدم

وجود أعمال أصلاً - وكذلك هنا أقول: ليس هذا ينفي وجود عوامل أخرى، إلا

أنني أجادل في جعل هذا من أهم عوامل البطالة -، وهو ما يعني مزيداً من الفقر

والجوع، ومن ثم الجريمة والفساد [17] .

أصحاب المعالي:

كيف ستُعالج مأساة البطالة؟

هناك جواب على طرف لسان كل اقتصادي يحدده قولهم: (على الدولة

خفض سعر الفائدة) ، حتى لقد لجأ البنك المركزي الأمريكي إلى جعلها 25,1%

فقط [18] ، في أوائل شهر نوفمبر عام 2002م؛ لمواجهة البطالة التي ارتفعت

نسبتها كثيراً لديهم [19] ، وبعض الدول جعلتها أقل من ذلك، والسؤال هو: لماذا لا

يتم إلغاؤها ما دام وجودها يسبب البطالة، وعلاج البطالة في تخفيضها؟

هناك أجوبة للاقتصاديين لست بصدد تفنيدها [20] ، غير أنه من المناسب فهم

العلاقة بين سعر الفائدة والبطالة، فهو أمر يوضح عاملاً من أهم العوامل المسؤولة

عن وجود تلك الظاهرة.

أصحاب المعالي:

تصوروا أنه قد تم إلغاء سعر الفائدة تماماً.

ما الذي سيفعله أصحاب رؤوس الأموال، وفي مثالنا صاحب 100.000.000

ريال؟

سيقول بعضهم: لن يستثمر، بل سيفضل الاحتفاظ بالمال لديه.

أقول له: لا بأس؛ لكن عليه دفع 2.5% سنوياً للزكاة، يعني 25% خلال

10 سنوات.

وهذا لن نجد من يقبل به مهما قلنا عن جبن رأس المال.

ولذلك سنجده صاحب ذلك المصنع للسجاد، وسيكفيه البيع بـ 21.5 ريالاً

للمتر، والبضاعة التي تتأخر لن يتحمل بسببها عبئاً جديداً سوى التخزين، وهو

أمر يكاد ألا يذكر في مثل هذه الحالة، وسيكون ممكناً له أن ينافس في كلا الحالتين،

في الوقت الذي نجد العامل أكثر أماناً بسبب استقرار الوضع المالي لصاحب

الشركة، ومن ثم سيكون المجتمع أكثر استقراراً، ولن يكون ارتفاع الأسعار أمراً

لا مفر منه، وسنجد الاستثمار في كل زاوية، وسيبدع أصحاب رؤوس الأموال في

ابتكار أساليب لتثمير أموالهم [21] ، وسيكونون دائماً في حاجة ليد عاملة، وهو ما

يقضي على البطالة أو يحد منها على الأقل، وسيكون المجتمع في نمو مستمر

واستقرار.

أصحاب المعالي:

أهم ما يقوله بعض الاقتصاديين: إن نقص سعر الفائدة فضلاً عن إلغائه يؤدي

إلى النقص في سعر العملة؛ مما سيؤدي إلى التضخم (غلاء السلع) ، وذلك بسبب

كثرة المعروض من النقد [22] .

ولا نجادل أن ذلك سيؤدي إلى تنشيط الاستثمار، ويسهم في تقليل نسب

البطالة، إلا أنه يزيد في رغبة السوق في رفع الأسعار.

وأقول: لا بأس؛ لأن الغلاء حين يكون معقولاً يكون أقل سوءاً من البطالة،

لكن الحديث عن هذا الأمر كما لو كان مسلّماً به غير صحيح؛ لأننا نستطيع

مواجهة الغلاء من خلال الجهات التي تحمي المستهلك، وتعمل على استقرار

الأسواق [23] ، والسلاح الأهم هو توعية الناس وتوجيههم للنفقة في أوجه البر، لا

المبالغة في الرفاهية، والأخذ بالكماليات، وعلينا أن ندرك بأن حماية أمتنا في

اقتصادها ليس يكمن في إلغاء سعر الفائدة فقط على أهميته، بل من خلال فهم شامل

للإسلام ونظرته إلى الحياة، ونحو ذلك مما سبقت الإشارة إليه.

أصحاب المعالي:

إننا نستطيع أن ندير 1000.000.000 ريال (مليار) من خلال 10

أشخاص فقط، ليحركوها كيف شاؤوا، ولكن لو أراد صاحبه النزول إلى السوق

مباشرة والاستثمار فيه، فهو يحتاج لتشغيله إلى ما لا يقل عن 1000 رجل،

يزيدون أو ينقصون، وهم إلى الزيادة أقرب؛ لأننا في الحالة الأولى يمكن جعلها

في ديون أخرى أو نحو ذلك، مع وجود عبء على المبلغ [24] ، لكن عند النزول

المباشر سيتركز النشاط ضمن حدود ما يرغب المستثمر بذاته، مع عدم وجود

عبء سوى ما لا بد منه ليتحرك المال في تلك العملية الاستثمارية.

أصحاب المعالي:

الذي ذكرته من قبل لم أتعرض فيه إلى الجانب النفسي الذي يعكسه سعر

الفائدة، ويطبع به كثيرين من أبناء مجتمعنا، نعم! ودون مزيد من الشرح؛ إنه

يوجد تلك الشخصية التي تنعدم لديها روح المغامرة الشرعية، وهو الأمر الذي

تبعث عليه الزكاة؛ لأن رأس المال سيقرر الدخول في مغامرة شرعية (استثمار) ؛

لأنه إذا لم يفعل سيدفع 5,2% سنوياً لصالح الفقراء، وسيجد نفسه أمام طريقين؛

إما الاستثمار مع ما فيه من مخاطرة شرعية أو تقبل نقص 5,2%، وهي نسبة

الزكاة.

وكثيرون سيقررون الدخول في الطريق الأول؛ لأن الإنسان يحب الزيادة

بطبعه.

الغريب هنا أننا سنرى صاحب المال في الطريق الأول (الاستثمار) يفيد

المجتمع فوق تلك الفائدة التي تجلبها الزكاة حين يقرر سلوك الطريق الثاني، وهذا

سر بديع للتشريع الإلهي؛ فطبيعة حب الزيادة (وسمها لو شئت طمعاً) ، وهي في

نفسها سوء ومقت، هي التي حملت المرء على طريق يظنه يحقق ما تمليه عليه

تلك الطبيعة، إلا أنه سار عكسها تماماً وهو لا يشعر، فأخذ منه المجتمع أكثر

بكثير مما تأخذه الصدقة، لقد أخذت تلك الطبيعة 100% من رأس المال ليصبح

كله في يد المجتمع، من خلال ذلك الاستثمار، فاتضح بذلك سر بديع للتشريع

الإلهي، إنها طبيعة سيئة حركها الشرع ليرى الناس منها خيراً كثيراً من حيث لا

تشعر.

أصحاب المعالي:

أرجئ الحديث عن أمور أخرى لعلها لا تتصل بما نحن بصدده اتصالاً وثيقاً،

ولها عود بإذنه تعالى، والآن أتقدم بالشكر الجزيل لكم على حسن استماعكم، تاركاً

لكم حرية اتخاذ القرار بهذا الشأن، وفّق الله الجميع إلى كل خير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015