مجله البيان (صفحة 4514)

المسلمون والعالم

«هل» الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد؟!

أمير سعيد

amirsaid@hotmil.com

«الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد» ، لم يكن وزير خارجية الولايات

المتحدة الأمريكية الأسبق، ومنظّر استراتيجياتها الفريد «كيسنجر» ؛ متجملاً

بعبارات بلاغية براقة حين أطلق عبارته السابقة، فالوقت لم يعد فسيحاً لإلقاء

الخطب، وإطلاق التصريحات الرنانة؛ وإنما الوقت وقت تنفيذ استراتيجيات تعب

في وضعها العشرات من الباحثين البارزين من قادة اليمين «النصراني

الصهيوني» ، في العديد من مراكز صنع القرار الأمريكي لسنوات خلت.

ونحن كذلك؛ لم يعد لدينا وقت لنخطب أو حتى لنذرف الدمع، فلقد بلغت

السكِّين حد العنق، ولم نعد نملك سوى البوح بما يعتمل في نفوسنا السقيمة.. لا

نريد أن نستحضر ألماً؛ وإنما نريد أن نرسم صورة في خطوطها الأولى وحدودها

البدائية لما تنوي القوة الرئيسة الكبرى أن تفعله في منطقتنا العربية المسلمة؛ غير

غافلين عن أن الولايات المتحدة الأمريكية وقد جاءت بقضِّها وقضيضها،

وبأساطيلها وطائراتها وصواريخها ومدرعاتها ليست قدرنا المحتوم الذي لا يُردّ،

ولا تستطيع حاملات طائراتها العملاقة أن تستنقذ ذرة سلبتها ذبابة وقفت على أنف

رئيسها المغرور.

ماذا تخطط الولايات المتحدة للمنطقة العربية بعد إنهاء عدوانها على العراق؟

أو بعبارة أكثر دقة: ما هي تداعيات الضربة العدوانية على العراق؟

سؤال أصبح طرحه الآن ضرورة حتمية تفرضها تطورات أزمة الخليج،

وزحف اليمين «النصراني الصهيوني» على أعتاب مدائننا، ليس فقط على

الشعوب العربية المسلمة المقهورة؛ وإنما كذلك على الرؤساء والملوك والحكومات،

فقبل مئات السنين ظن الخليفة المغرور «المستعصم» آخر خلفاء بني العباس أن

الزحف التتري الرهيب لن يصل إلى مدينته؛ مرتكناً إلى تصوره الذي عبر عنه

بقوله: «سيتركون لي بغداد» !! وغني عن البيان أن الخليفة الذي استند إلى

طمأنة وزيره الشيعي «ابن العلقمي» قد قُتل مغدوراً، ودُمرت عاصمة خلافته،

في واحدة من أكبر المجازر التي عرفها التاريخ.

والحاصل أن الإدارات العربية ترتكن إلى الظن عينه؛ حينما اطمأنت إلى أن

الولايات المتحدة الأمريكية ستدع لها عواصمها؛ مسقطة بذلك حقائق التاريخ،

وحتمية السنن، وخصائص الأمم.

فالولايات المتحدة الأمريكية ورثت خصائص عديدة من الدولة الرومانية

القديمة؛ لعل من أبرزها أنها تؤمن بالنظرية نفسها التي آمن بها الرومان، والتي

تنبني على الإطاحة بالأعداء قبل أن تقوم لهم قائمة، وهذا المنطق الروماني هو

نفسه ما نصت عليه استراتيجية الأمن القومي الأمريكي المعروفة باسم «الدفاع

الوقائي» أو «الدفاع الاستباقي» ، وهو ما عبر عنه بوضوح «زيجينيو

بريجينسكي» المستشار الأسبق للأمن القومي الأمريكي في كتابه (ساحة الشطرنج

الكبرى) ، فقال: «إن الهدف قصير المدى للاستراتيجية الأمريكية هو تكريس

النفوذ الأمريكي؛ بهدف منع ظهور أي تحالف معاد يمكن أن يتحدى الزعامة

الأمريكية» .

ولكن لنتجنب الربط بين الإمبراطوريتين الرومانية والأمريكية وما يستتبعه

من سبر أغوار التاريخ، ولنعبر إلى حدود المستقبل حيث ترنو الولايات المتحدة

الأمريكية إلى تدجين دول المنطقة قيادة وشعوباً؛ وفق رؤية أمريكية شاملة تستند

إلى محاور محددة تتلخص فيما يأتي:

1 - المحور السياسي:

«حانت لحظة استعمارية جديدة» هذا عنوان المقال الذي كتبه منذ شهور

«سبستيان مالابي» في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، بهذه

الكلمات الأربع اختزل الكاتب البارز المحور السياسي للتخطيط الأمريكي في

المنطقة العربية، فقبل 86 عاماً عندما وضع الفرنسي «بيكو» والبريطاني

«سايكس» خريطتهما للمنطقة العربية؛ لم يكن يدور بخلدهم أن تخطيطهم بالقلم

«الرصاص» سيدوم كل هذه المدة الطويلة، وأن حدود الاحتلال المصطنعة

سيذب عنها أصحاب البلاد العربية الأصليون أكثر من صُنَّاعها؛ والحق أن الحدود

التاريخية، وإن غابت عن مخيلاتنا نحن؛ فإنها لم تغب يوماً عن أذهان صُنَّاع

السياسة الغربية في المنطقة العربية، وليس يدعو إلى الدهشة أن تجد حديث

المفكرين الغربيين يتناول الشام ككتلة واحدة، أو الجزيرة العربية ككيان واحد،

أو أن يبحث في الفروق بين الحجازيين والنجديين، أو أن يرصد القواسم المشتركة

بين شيعة إيران والعراق والسعودية والبحرين.

الغرب نفسه لم ينظر إلى المنطقة إلا ككتلة واحدة جرى تفتيتها وفق

«اجتهاد» (سايكس - بيكو) ؛ حينما كانت بريطانيا وفرنسا هما الدولتين

الاحتلاليتين العظميين في العالم؛ ليتم إدارة المنطقة بشكل جيد يحد من القلاقل

وييسر استنزافها.

وحين أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة الفاعلة في العالم الآن؛

أصبح معها «اجتهاد» (سايكس - بيكو) جزءاً من التاريخ، وأضحى التفكير في

«اجتهاد» آخر يضع مصالح اليمين «النصراني الصهيوني» فوق سلم أولوياته

له رواج كبير لدى مراكز صنع القرار الصهيو أمريكي.

والقصة قديمة، بدأت حينما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب

العالمية الثانية قوة عظمى، فغدت تشجع الثورات «الاستقلالية» في المنطقة،

وتمد نفوذها الاقتصادي عبر احتكاراتها النفطية في المنطقة العربية، لكنها تبلورت

بصورة واضحة حين تراءى للولايات المتحدة الأمريكية أنها أصبحت القوة العظمى

الوحيدة في العالم؛ حيث عمل واضعو استراتيجياتها على رسم ملامح مرحلة

(سايكس - بيكو) الثانية، ولعل أبرز ما رشح إلينا من ملامح تلك المرحلة؛ هو

خريطة الشرق الأوسط الجديدة التي تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية فرضها على

المنطقة، والتي تتضمن تقسيماً جديداً للمنطقة العربية يأخذ بالاعتبار ضرورة إنقاذ

الكيان الصهيوني في فلسطين من مأزقه الحالي، وإخضاع كامل الدول العربية؛

سواء بتقسيمها، أو خلخلة بنائها من الداخل لتهيئ المجال لتدجينها أمريكياً ... هذه

الخريطة صنعها يهوديان بارزان في الإدارة الأمريكية هما «بول وولفتز» نائب

وزير الدفاع الأمريكي، و «ريتشارد بيرل» رئيس مجلس السياسة الدفاعية،

وهما من صقور تيار اليمين «النصراني الصهيوني» المهيمن على الإدارة

الأمريكية الحالية.

وهذا الأخير «ريتشارد بيرل» قدم في عام 1996م تقريراً أصدره مركز

يشرف عليه معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية المتقدمة [1] ؛ طرح فيها تقسيماً

جديداً للمنطقة على غرار اتفاقية (سايكس بيكو) 1916م، و «بيرل» مع هذا

يعد الآن مسؤولاً مباشراً عن تنفيذ ما نظَّر له مسبقاً من خلال نفوذه في حملة

الولايات المتحدة الأمريكية العدوانية على شعب العراق المسلم، ومسؤولاً كذلك عن

«تبشيرها» بشرق أوسط ديمقراطي جديد.

الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت على لسان وزير خارجيتها «كولن باول»

عن مبادرة سياسية جديدة لترسيخ النظام الديمقراطي في المنطقة العربية؛ فهل تعني

بذلك نوعاً من التحرير من أَسْر الديكتاتوريات التي تحكمها؟ أكثر الناس تفاؤلاً،

وأقربهم التصاقاً بالمنظومة الغربية، وولاءً لزعيمتها الأمريكية؛ لن يملك الزعم

بأنها ترمي من خلال هذه المبادرة إلى إحداث ثورة ديمقراطية تطلق الحريات

الأساسية في الدول العربية، إن مغزى التخطيط الأمريكي خلاف ذلك، فهي حين

أطلقت مبادرتها الديمقراطية في ألمانيا الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية

كانت تقصد من ورائها تدجين ألمانيا، وقصقصة ريشها واستعداداتها المستقبلية

لمواجهة الولايات المتحدة. وقد يطرح منظورها نمطاً مشابهاً للحالة الألمانية في

الدول العربية، ويروجون لبضاعتهم تلك برغبة الولايات المتحدة في أن تبدل بحالة

الإحباط والقهر والذل والفقر السائدة في الدول العربية والتي أفرزت تلك الجماعات

والأحزاب الإسلامية «المتطرفة» و «الإرهابية» التي عجزت عن التغيير

السلمي الهادئ في ظل الديكتاتوريات العربية، فلجأت إلى «العنف والإرهاب»

أن تبدل بها حالة رفاهية وحرية لا تنتج نماذج كهؤلاء التسعة عشر الذين دمروا

برجي مركز التجارة والبنتاجون؛ بعد أن أنتجتهم «فلسفة القمع العربية» على

حد الافتراض الأمريكي.

هم الآن يروجون لهذه الأطروحة من خلال مبادرة (الشراكة من أجل

الديمقراطية والتنمية) لـ «كولن باول» ، ومن خلال العديد من توصيات المعاهد

البحثية الأمريكية، وعشرات المقالات في كبريات الصحف الأمريكية،

وتصريحات مفكري السياسة الأمريكية.

ولنلتقط من ذلك أنموذجين هنا:

الأنموذج الأول: يطرحه د. «بي دبليو سينجر» في تقرير أصدره

«مركز بروكينجز للدراسات المستقبلية» ، يقول فيه: «إن إخفاق (الدولة)

في العالم الإسلامي ساهم بشكل كبير في تدعيم شعور بالسخط العام تجاه

الولايات المتحدة الأمريكية، فالكثير من المسلمين يرون أن الإدارة الأمريكية

تحافظ على الوضع الراهن» المخزي «الموجود حاليّاً في البلدان الإسلامية؛ وأنها

تؤيد حالة» انعدام الكرامة «و» الذل «التي تشهدها الشعوب الإسلامية كل

يوم؛ نتيجة لتصرفات حكوماتها التي لا تتأخر عن استغلال سلطتها في جميع

المجالات، والقضية الفلسطينية خير مثال على ذلك. باختصار؛ الإدارة الأمريكية

يُنظر إليها على كونها الراعي للنظام الظالم، وممثلاً أساسيّاً لازدواج المعايير. إن

الشعور العام بالاغتراب في العالم الإسلامي، بالإضافة إلى فقدان التقدم

السياسي والاقتصادي؛ قد ساهما في خلق المناخ الذي أفرز هجمات الحادي عشر من

سبتمبر وتمهيده، وما تبعها من ردود أفعال كثيرة في العالم الإسلامي. وحتى لو

استطاعت الإدارة الأمريكية اللحاق بزعماء القاعدة والقبض عليهم؛ فإن العاملَيْن

اللذين سبق أن ذكرناهما في أول الفقرة سيزالان موجودَيْن، ومن ثم يصير

» الإصلاح «السياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي من أولويات

الاستراتيجية الأمريكية، وهذا» الإصلاح «يمكن بالطبع أن يحقق أعظم المنافع

للحكومات الإسلامية نفسها؛ خاصة إذا أرادت الأخيرة الاحتفاظ بنظامها ... إن

التحدي الذي يسيطر على أذهان صانعي القرار الأمريكي اليوم؛ يتمثل حقيقة في

كيفية كسر تلك الحلقة التي يسير في فلكها السلطوية والفقر والإحباط والإرهاب مع

الاحتفاظ في الوقت نفسه بالمصالح الأمريكية.

إذا كان غياب الحرية والشفافية يمثل الجذر الأساسي للمشكلة؛ فإن

» الدمقرطة «يمكن أن تكون الطريق الأوحد للمساهمة في التخلص من حالة

الاغتراب التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية.

إن» الدمقرطة «يمكن أن تساهم في إيجاد حلول لمشكلات كثيرة في العالم

الإسلامي؛ منها: ضعف الحكومات النابع من الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة،

والعنف النابع من الصراعات الدائرة مع إسرائيل والهند وغيرها، وتأييد

المتطرفين من قبل العامة التي يتم استبعادها من المشاركة السياسية.

» الدمقرطة «ليست بالمهمة السهلة؛ فهي تستلزم جهوداً مكثفة من قبل

الإدارة الأمريكية.. تستلزم وضع أجندة أمريكية جديدة تجاه العالم الإسلامي..

تستلزم» دوراناً للخلف «، وإعادة النظر في العقود الماضية للسياسة الأمريكية،

فسياسة» الاستثناء «التي كانت تطبقها الإدارة الأمريكية سابقاً حيال الحكومات

الإسلامية المتحالفة لن يكون لها مجال في السياسة الخارجية الأمريكية؛ وإنما

سيجيء بدلاً منها سياسات أخرى تحض على حقوق الإنسان، وتحض على مبادئ

الشفافية والإصلاح، ليس هذا فقط؛ بل ستكون هذه السياسات شرطاً أساسيّاً لتقديم

برامج المعونات الأمريكية.

والمعضلة في هذا الأمر بالنسبة للإدارة الأمريكية هي أنها في الوقت الذي

ستقوم بالضغط فيه على تلك الحكومات الإسلامية؛ ستكون في أشد وفي أمس

الحاجة إلى تلك الحكومات؛ إذ إن الأخيرة تعد فاعلاً أساسيّاً تعتمد عليه واشنطن في

اقتلاع جذور الجماعات الإرهابية، ولنا في النظام السوري الذي يعد بعيداً كل البعد

عن النظام النيابي خير مثال.

أما المعضلة الثانية؛ فتتمثل في كون عملية» الدمقرطة «عملية غير

مضمونة، فالتاريخ يشهد على أنها عملية مؤلمة وبطيئة للغاية، فضلاً عن تضمنها

مخاطر عديدة تهدد باندلاع أعمال عنف من جانب الجماعات المتطرفة.

والسؤال أو الـ dilemma الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف تدفع الإدارة

الأمريكية نحو» الدمقرطة «بدون التعرض لمخاطر اندلاع العنف الذي يشنه

الإسلاميون الراديكاليون؟ فمن خلال» الدمقرطة «يمكن للإسلاميين الراديكاليين

وللجماعات المعارضة بوجه عام أن يَنْفُذُوا من» ثغرة الحرية «ليستولوا على

الحكم، كما حدث في الجزائر؛ الأمر الذي لا يصب نهائيّاً في المصلحة الأمريكية.

وأخيراً؛ تكمن المعضلة الثالثة في كيفية التعامل الأمريكي مع الأحزاب

الإسلامية، والتي ستتألق مع هبوب رياح» الدمقرطة «! ومن المنطقي أن تبدأ

الإدارة الأمريكية في فتح علاقات جديدة وإيجابية مع هذه الأحزاب؛ راغبة من

وراء ذلك في» تحسين «و» تعديل «رؤيتها للولايات المتحدة الأمريكية.

والحق يُقال؛ إن التفوق العسكري الهائل لدى الولايات المتحدة الذي ظهر

جلياً في أفغانستان، والذي سيظهر في العراق لم يقابله للأسف الشديد تفوق مماثل

في النطاق السياسي؛ فحتى الآن لم تستطع الإدارة الأمريكية بلورة خطة محكمة

عن كيفية التعامل مع الواقع السياسي في الدول الإسلامية، وتعد أفغانستان مثلاً حيّاً

لذلك.

خلاصة الأمر: أن الإدارة الأمريكية ملزمة إلزاماً شديداً بإيجاد سبيل لتدعيم

وتشجيع» الأصوات المعتدلة «التي تؤيد الإصلاح والتسامح؛ وذلك من خلال

امتصاص كل مصادر الضيق التي تغذي ظهور الراديكاليين، والذكاء هنا أن يتم

كل ذلك دون المساس بالمصالح الأمريكية في العالم الإسلامي» .

الأنموذج الثاني: هو ما طرحه المفكر الأمريكي «هاس» في محاضرة له

بمجلس العلاقات الخارجية، جاء فيها: «قد يتساءل الناس عن توقيت حديثنا عن

الديمقراطية، وبالطبع عن الدوافع لإثارة هذه القضية في هذا الوقت خصوصاً؟

وقد يشير بعض إلى أن حديثي هذا المساء يأتي وسط جهود دولية مضاعفة لجعل

العراق ينصاع لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقد يرى آخرون في

كلامي حول الديمقراطية إما محاولة لإخفاء مصلحتنا في تغيير النظام في العراق،

وإما كإشارة لعدائنا تجاه شعوب العالم الإسلامي، وبالطبع سوف يذهب بعض إلى

حد القول إن الحديث الأميركي حول الديمقراطية يهدف إلى قلب الأنظمة في الشرق

الأوسط، أو سوف يُستخدم كعملية تأديبية ضد الذين ينظر اليهم كأعداء لأميركا.

اسمحوا لي أن أتناول بعض هذه المخاوف:

أولأً: ليس هناك برنامج عمل مخفي، إن الأساس المنطقي الأميركي في

تشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي هو في الوقت نفسه لمصلحتنا ولمصلحة

غيرنا، فالمزيد من الديمقراطية في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية هو أمر جيد

بالنسبة للشعوب التي تعيش هناك، لكنه أيضاً جيد بالنسبة للولايات المتحدة،

فالبلدان المبتلاة بالجمود الاقتصادي والافتقار إلى فرص العمل، وبالأنظمة السياسية

المغلقة، وبالسكان المتكاثرين بسرعة؛ تغذي العداوة لدى مواطنيها، ويمكن أن

تكون تلك المجتمعات كما تعلمنا من التجربة القاسية أرضاً خصبة لتربية المتطرفين

والإرهابيين الذين يستهدفون الولايات المتحدة بحجة دعمها للأنظمة التي يعيشون في

ظلها.

الأمر الآخر الذي له أهمية معادلة؛ هو أن الهوة المتزايدة بين العديد من

الأنظمة الإسلامية ومواطنيها قد تُعطّل قدرة تلك الحكومات في التعاون حول قضايا

ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة، هذه الضغوطات الداخلية سوف تحدّ

كثيراً من قدرة العديد من أنظمة العالم الإسلامي على توفير العون، أو حتى الموافقة

على الجهود الأميركية الرامية إلى مكافحة الإرهاب، أو التعامل مع انتشار أسلحة

الدمار الشامل. ( ... )

قد يقول بعض إن الولايات المتحدة على استعداد فقط لمساندة النتائج الانتخابية

التي ترضيها. ليس الأمر كذلك؛ الولايات المتحدة سوف تساند العمليات

الديمقراطية حتى إذا كان الذين مُنحوا السلطة لا يختارون سياسات نحبذها، لكن

دعوني أوضح هذه النقطة؛ علاقات الولايات المتحدة مع الحكومات حتى لو

انتُخبت بنزاهة سوف تتوقف على كيفية معاملة هذه الحكومات لشعوبها، وكيف

تتصرف على المسرح الدولي بالنسبة لقضايا تبدأ من الإرهاب مروراً بالتجارة

وعدم انتشار المخدرات.

نحن ندرك تماماً عندما نشجع الديمقراطية؛ أن التحرك المفاجئ نحو

الانتخابات الحرة في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية

إلى الحكم، لكن السبب لا يكمن في كون الأحزاب الإسلامية تتمتع بثقة السكان

الساحقة، بل لأنها في الغالب المعارضة المنظمة الوحيدة للحالة الراهنة التي تجدها

أعداد متزايدة من الناس غير مقبولة.

بعد الذي قلته؛ دعونا لا نترك مجالاً لسوء الفهم: الولايات المتحدة لا

تعارض الأحزاب الإسلامية تماماً، كما لا تعارض الأحزاب المسيحية أو اليهودية

أو الهندوسية في الديمقراطيات ذات الأسس العريضة، إن طريقة استقبالنا لنتائج

انتخابات الشهر الماضي في تركيا تبرهن بوضوح على هذه النقطة، لقد عبّر عن

ذلك رئيس وزراء تركيا عبد الله جول، على أحسن ما يرام؛ عندما قال بعد إدلاء

القَسَم قبيل تسلمه منصبه:» نريد أن نثبت أن الهوية الإسلامية يمكن أن تكون

ديمقراطية، ويمكن أن تكون شفافة، ويمكن أن تتماشى مع العالم المعاصر «.

والأميركيون على ثقة بأن الشعب التركي قادر على إثبات كل هذا، ونريد أن

نساعدهم في ذلك» .

تعليق:

نلاحظ في النموذجين محاولة الترويج للولايات المتحدة الأمريكية التي تعد

أكبر دولة داعمة للدكتاتوريات العربية؛ بأنها الآن قد تابت عن «غيها» بعد أن

امتد وبال الديكتاتورية إليها! وأنها الآن بصدد «تحرير» الدول العربية من ربقة

القمع والقهر! وكذلك نلاحظ التقليل من خشية الولايات المتحدة من وصول أعدائها

من الإسلاميين إلى سدة الحكم عبر صناديق الانتخابات، وهو ما تدرك الولايات

المتحدة أنه مجاف للحقيقة وللواقع؛ إذ لم تقبل الولايات المتحدة بحال هذا السبيل،

والذي ربما يروج له ضغطاً على الحكومات غير الديمقراطية في المنطقة لدفعها

لتقديم آخر تنازلاتها للدولة العظمى، أو تحذيراً لشعوب المنطقة التي تجاوزت

كراهيتها للنظام العالمي والذي تقوده الولايات المتحدة مداها المقبول لدى طغاة

واشنطن.

وبالإجمال: فإن ما يتوقع للمنطقة العربية في ظل ما سبق أن تتغير الخريطة

السياسية للدول العربية استناداً إلى رؤية تقضي تماماً على الأنظمة المارقة،

وتستبدل بها أنظمة تامة الولاء لها، وتقليم أظافر الدول الصديقة التي تسعى إلى

نوع من الدور المحوري بين الدول العربية، وفرض المزيد من التبعية السياسية

على الدول «الصديقة» ، وتدجين الجميع داخل الحظيرة الأمريكية وفق أنظمة

سياسية جديدة قد تستدعي تقسيم بعض الدول الكبيرة؛ بما يجعلها أكثر طواعية في

المستقبل، وقطع الطريق على الإسلاميين في استقطاب الآلاف من الناقمين على

الولايات المتحدة الأمريكية وأنظمة حكمهم.

2 - المحور الأمني:

تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تكريس النفوذ الأمني في المنطقة كقوة

احتلالية؛ سواء في بعض البلدان أو على تخومها، وهو ما يعني الإذعان الكامل

من جانب الدول العربية لكل التنازلات المطلوبة منه، والتي يأتي على رأسها

التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني، وضمان سيطرته وقيادته للمنطقة؛ في ظل

وجود قوات أمريكية مقاتلة في دول الخليج والأردن واليمن وجيبوتي، بالإضافة

لأساطيل الولايات المتحدة في الخليج والبحر المتوسط وبحر العرب، وهو ما

يجعل الدول العربية واقعة بالفعل تحت حصار أمريكي محكم.

بعد ضرب العراق تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد قضت على أقوى قوة

عسكرية عربية كانت تخشى أن تهدد الكيان الصهيوني، وتكون كل العواصم

العربية في مدى صواريخ كروز وتوماهوك، وعلى مرمى حجر من قواعدها

المنتشرة هنا وهناك.

ولعل السؤال المطروح بقوة هذه الأيام في ظل ذعر حكومي وشعبي عربي:

هل ستكتفي الولايات المتحدة بضرب العراق أم سيمتد عدوانها إلى عدد من الدول

العربية، والتي من أبرزها سوريا ومصر؟

والإجابة عن هذا السؤال تستدعي سؤالاً مغايراً: وهل تبدي هذه الدول أي

عداوة للولايات المتحدة، أو تُحْجم عن تقديم تنازلات؟ هذان السؤالان يذهبان بنا

إلى الغرض العسكري من ضرب العراق وتفكيك قواه العسكرية، والذي يميط اللثام

عنه الاسم الكودي المبتكر للضربة والذي اتخذه الأمريكان شعاراً لها:

«بولوستب» ؛ أي ضربة لعبة الـ «بولو» ، وهو يعني فيما يعنيه تسديد

ضربة قوية ومكثفة لمركز الثقل في العراق المناوئ للولايات المتحدة الأمريكية،

وبالتبعية ستسقط إثر ذلك كل الدول العربية الأقل قوة بالتداعي المعروف في اللعبة

الشهيرة.

بادئ ذي بدء؛ ينبغي أن نقر بأن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية تعتمد

بصورة أساسية على تقليل الخسائر ما أمكن في صفوف قواتها، وأن سقوط الآلاف

من قواتها في العراق أو في أي مكان آخر هو خط أحمر يعمل البنتاجون على عدم

الاقتراب منه، فهو يعمل كما هو معروف على الاعتماد شبه التام على القصف

الجوي والصاروخي لأهداف «العدو» الاستراتيجية، وهذا يجرنا إلى التساؤل:

لماذا هذا الحشد العسكري الضخم إذن، والذي يكاد يبلغ أكثر من 150 ألف جندي

أمريكي وبريطاني؟ غالب الظن أنه ووفق معطيات متناغمة أن هذا الحشد

الأمريكي ليس مقصوداً به ضرب العراق وتغيير نظام حكمه فحسب؛ بل المقصود

هو البقاء فيه لفترة طويلة تبدأ أقل تقديراتها من ثلاث سنوات، من دون تحديد للحد

الأقصى لبقائها هناك، ومن ثم نقل مركز ثقل الوجود الأمريكي في المنطقة العربية

من دول مجلس التعاون الخليجي إلى العراق.

وهذا الوضع الذي اختارته الولايات المتحدة يتوقع أن يؤدي إلى ما يأتي:

1 - تهديد جميع الدول العربية ودول المنطقة المحيطة بالعراق من خلال

الوجود الأمريكي الكثيف في العراق.

2 - تحكم الولايات المتحدة الأمريكية في أسعار النفط، وكميات ضخ منظمة

«أوبك» ، ومن ثم فرض مزيد من الضغط السياسي على الدول المحيطة.

3 - سحب البساط من تحت أرجل الدول المؤثرة إقليمياً لصالح دول أخرى

موالية كلية للولايات المتحدة؛ مما سيؤدي لاختلال توازنات قوى المنطقة، فالكبير

في المنطقة يصبح صغيراً، والصغير كبيراً بفعل ارتمائه في أحضان الولايات

المتحدة.

4 - النأي بقوات الاحتلال الأمريكية عن التمركز في أماكن تثير المسلمين

ضدها [2] .

5 - تشجيع الولايات المتحدة على المضي قدماً في تقسيم الدول العربية؛

حيث لا تجد في الوقت الراهن ما يمنعها من تقسيم العراق بعد احتلاله.

6 - هزيمة العراق من شأنها إثارة القلاقل الشعبية في دول المنطقة،

واهتزاز «شرعية» تلك النظم، وهو ما يدفعها أكثر إلى تشجيع قوات الاحتلال

الأمريكية على دعمها، ومن ثم الارتماء في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية

أكثر من أي وقت مضى.

7 - سيؤدي الوجود الكثيف والمزمن إلى حد ما إلى تشجيع تنامي التيارات

التي تؤمن بالتغيير ومواجهة قوات الاحتلال الأمريكية في المنطقة عبر السلاح؛

حيث ستجد تربة خصبة في وجود تلك القوات في الدول العربية والإسلامية لتجنيد

أنصار جدد، ولن تفلح أي محاولات لاستيعاب المتعاطفين مع هذا التيار ضمن

منظومة ديمقراطية على النمط الأوروبي؛ أولاً: لأن هذه الديمقراطية لن تحل

مشكلة الاحتلال، وثانياً: لاستحالة وجود مثل هذه النظم الديمقراطية من الأساس

في الدول العربية للحؤول دون ازدياد نفوذ التيار الإسلامي السلمي. ومن ثم فإن

من المرجح أن يجعل ذلك من المنطقة مسرحاً للصراع «العسكري» بين قوت

الاحتلال الأمريكية وقوى إسلامية؛ تستلهم خطى تجربة «حماس» و «الجهاد

الإسلامي الفلسطينية» في مقاومة الاحتلال.

3 - المحور الثقافي والاجتماعي:

الوضع في الجانب الثقافي والاجتماعي في المنطقة سيكون صعباً ومعقداً

وقاسياً للغاية ما لم تحدث مفاجآت محض قدرية، فالولايات المتحدة عازمة على

تغيير البيئة التي تزعم أن «الإرهاب» يُستنبت في تربتها.

في أعقاب حرب الخليج الثانية خرجت تظاهرة نسائية في إحدى الدول

العربية تطالب بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، وبغضِّ النظر عن مناقشة هذه القضية

من الناحية الشرعية؛ من حيث كون الخلاف فيها سائغاً أو غير سائغ (إذ الفتاوى

تتغير بتغير الأحوال، كما هو معلوم في علم الأصول) ؛ فإن المراقبين رأوا فيها

نوعاً من ممارسة الضغط الأمريكي على تلك الدولة، والسعي لتوطئة أنماط سلوك

شعبها لتقبل «تعديلها» بما يتواءم مع نمط السلوك الغربي؛ من خلال الهياكل

النسوية المرتبطة بمنظمات حكومية وغير حكومية في الولايات المتحدة الأمريكية.

هذه الحادثة التي جاءت عقب انتصار الولايات المتحدة في حرب الخليج

الثانية ونجاحها في «تحرير» الكويت؛ تمثل إرهاصاً لما تنتظره المنطقة من

زلزلة اجتماعية وثقافية تفرضها السيطرة شبة التامة للولايات المتحدة على المنطقة

العربية.

ويتمثل ذلك فيما يأتي:

- إعادة بلورة أنظمة التعليم والإعلام في العالم العربي بما يخدم أهداف اليمين

«النصراني الصهيوني» ، فالولايات المتحدة تريد من العرب حذف كل تاريخ من

شأنه رفض الصهيونية، ووفق تقرير نشرته جريدة الأسبوع المصرية (12/1/

2003م) ؛ فإن معلومات أشارت إلى أنه قد جرى بالفعل تشكيل لجنة داخل

الخارجية الأمريكية أطلق عليها «لجنة تطوير الخطاب الديني في الدول العربية

والإسلامية» ؛ تحمل على عاتقها تحقيق أمور لاحظنا أنه قد شُرع في تنفيذها

بالفعل، ومن المنتظر أن ترتفع معدلات تطبيقها فيما بعد العدوان على العراق.

من هذه الأمور على سبيل المثال:

1 - رأت اللجنة أن لفظة «الجهاد» يجب أن يتم قصر معناها على جهاد

النفس فقط من دون القتال أو التحريض عليه.

2 - فسرت تلك اللجنة لفظة «اليهود» في القرآن والسنة على أنه يعني

مجموعة من البدو المتنقلين الذين عاشوا في الماضي السحيق، وأنهم اختلفوا مع

النبي صلى الله عليه وسلم على أمور مجهولة، والمقصود بلفظة: «اليهود» هم

أولئك القوم من دون يهود العصر والصهاينة!!

3 - تقترح الخطة أن يتم إلغاء مقررات التربية الدينية (باعتبارها مغذية

للإرهاب) ، وأن تخصص المدارس يوماً كاملاً للقيم الأخلاقية بديلاً عنها؛ حيث

يقوم التلاميذ في هذا اليوم ببعض الأعمال الصالحة للمجتمع، وإقامة محاضرات

عن التسامح ونبذ الإرهاب.

4 - العمل على تنشئة جيل قادم لا يرى أن دينه يحتكر الحق والصواب،

وأن عليه تقبل الآخرين باعتبارهم أصحاب ديانات صحيحة.

5 - جعل المسجد نادياً اجتماعياً (شبيهاً بالوضع الكنسي) ؛ للمرأة فيه دور

ريادي كما للرجل.

- وضع الأقليات غير المسلمة في وضع مساو لوضع المسلمين في العالم

العربي، ففي مقال نشره «آلان وودز» منذ عدة أسابيع وهو مفكر غربي تلقى

أفكاره رواجاً لدى النخبة الأمريكية قال فيه: «إن الشرق الأوسط لن يستقر إلا إذا

أصبحت أقلياته من يهود وأقباط وأكراد وغيرهم متساوين في الحقوق مع الأغلبية

الساحقة من العرب والمسلمين» ، هذا الكلام ونظائره تضعه الإدارة اليمينية

الأمريكية في صدر أولوياتها لترتيباتها القادمة للمنطقة لمرحلة ما بعد رحيل صدام

حسين.

- تفعيل دور المرأة والمنظمات النسائية المشبوهة في العالم العربي بما يخدم

أهداف الصهيونية العالمية.

4 - المحور الاقتصادي:

- تبني الولايات المتحدة الأمريكية جل استراتيجيتها الاقتصادية في المنطقة

العربية على بسط سيطرتها على آبار النفط الغنية في الخليج، واستنزاف آخر لتر

من نفط العرب؛ إذ توقن الولايات المتحدة الأمريكية بأن خروجها والاقتصاد

العالمي من حالة الركود التي يعيشها الآن مرهون بوضع يديها على احتياطي النفط

العراقي الضخم الذي يتجاوز بكثير الـ 12 مليار برميل المعلنة رسمياً في العراق،

ويعد أكبر احتياطي نفطي في العالم، ومنع أسعار النفط من أن تتجاوز حداً معيناً؛

هو أقصى حدود السعر الأمثل للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تستفيد من

انخفاضه من جهة، كما تستفيد شركاتها النفطية العملاقة من ارتفاعه من جهة أخرى.

- على الرغم من التكلفة الباهظة المتوقعة لحرب الخليج الثالثة فإن من

المتوقع أن يدفع فاتورة الحرب كما جرت على ذلك السنن التاريخية الطرف

المهزوم، وليس هذا الطرف هو العراق وحده، بل جميع الدول العربية تشاركه

الهزيمة، والتي تقع جميعها في براثن الطرف الأقوى المنتصر [3] .

- قضية اللاجئين المتوقعة للحرب والذين يتوقع أن يبلغوا نحو 900 ألف

عراقي يتوقع لجوؤهم للدول المجاورة للعراق وفقاً لتقديرات منظمة الأمم المتحدة؛

مما سيشكل عبأ اقتصادياً إضافياً على كاهل الدول المجاورة للعراق.

- قضية الآثار الصحية والبيئية للحرب في حال استخدمت الولايات المتحدة

«اليورانيوم المخصب» بكثافة أعلى من الحرب السابقة، أو أقدم الرئيس العراقي

على حرق بعض آبار النفط لديه يتم اعتبارها أيضاً كلفة إضافية للحرب.

إذن التحكم في أسعار النفط وهبوطها المتوقع، ودفع فاتورة الحرب، وقضية

اللاجئين، والآثار الصحية والبيئية للحرب، بالإضافة إلى تأثر دخول الدول

العربية من السياحة؛ كلها تعد من الآثار السلبية للعدوان على العراق واحتلاله،

وتظل أكبر الآثار الاقتصادية السلبية هو ما يتعلق بالنفط، فبعملية حسابية بسيطة

نشير هنا إلى أن انخفاض سعر النفط دولاراً واحداً يؤدي إلى خسارة الدول العربية

المصدرة للنفط 6 مليارات دولار في السنة، بل إن السعودية وحدها تخسر من

جراء ذلك نحو 27 مليار دولار سنوياً، هذا إذا انخفض سعر البرميل دولاراً واحداً؛

فماذا إذا وصل سعره إلى 15 دولاراً للبرميل على سبيل المثال؛ عندها ستكون

الخسارة نحو 78 مليار دولار سنوياً، ومعروف أن الموازنات العامة في بلدان

الخليج ترتبط بإيرادات صادراتها من النفط، ومن ثم فإنه إذا استمر إنفاقها على

مستواه الحالي والعالي سيكون هناك عجز هائل في هذه الموازنات، ومن هنا لا بد

أن تستعد الدول العربية النفطية من الآن ببرنامج للتقشف، كما أنه ما دام أن إنتاج

وصادرات النفط هي الدخل الرئيس للدول الخليجية؛ فإن هذا الدخل سيتراجع ومعه

نصيب الفرد منه، ولذلك لا بد من تهيئة المجتمعات الخليجية لما هو قادم،

والاستعداد لحالة طويلة الأجل من التقشف والاعتماد على الذات في سوق العمل؛

بمعنى أن قدرة المواطنين الخليجيين على الاستمرار في مظاهر الرفاهية،

والاعتماد على العمالة الأجنبية في أداء كل شيء نيابة عنهم ستتراجع.

في المقابل؛ فإن ارتفاع أسعار النفط بمقدار دولار واحد للبرميل يزيد

المدفوعات الأميركية من الواردات النفطية بمقدار 4 مليارات دولار سنوياً، فارتفاع

أسعار النفط من 12.3 دولاراً للبرميل عام 1998م إلى حوالي 17.8 دولاراً

عام 1999م، وصولاً إلى 27.6 دولاراً عام 2000م، واستمرار السعر عند

مستوى مرتفع في عام 2001م؛ أثر بشدة في الاقتصاد الأميركي، لقد كان النفط

عنصراً رئيساً في تدهور الوزن النسبي لهذا الاقتصاد على المستوى العالمي،

فالولايات المتحدة كانت تحقق فائضاً في التجارة النفطية بلغ 27 مليار دولار سنوياً

في المتوسط خلال الفترة ما بين عامي 1974م و1983م، تحولت الآن إلى تحقيق

عجز قدره 46 مليار دولار سنوياً، وكانت نتيجة ذلك تحقيق عجز إجمالي قدره 19

مليار دولار في الميزان التجاري الأميركي؛ أي أن ارتفاع أسعار النفط ساهم في

تحويل الميزان التجاري من تحقيق الفوائض إلى العجز.

ومعروف أن العراق كان دائماً في موقع متقدم بالنسبة لصقور منظمة

«أوبك» ؛ سواء في مناداته بتأميم البترول أو السعي إلى رفع أسعاره، واتخاذ

الإجراءات اللازمة لذلك، أو حتى اتفاقيات التنقيب، وشروط التعامل مع

الشركات العالمية العاملة في هذا المجال، ومن هنا كان العراق يمثل عقبة كبيرة

أمام الأميركان في هذا المجال، وكان لا بد من إزالة هذه العقبة بأية صورة

ممكنة.

* دول المنطقة الأكثر تأثراً بالعدوان على العراق:

غني عن البيان أن دولاً كثيرة دولية وإقليمية ستتأثر بشكل أو بآخر بالعدوان

على العراق؛ منها على سبيل المثال الولايات المتحدة نفسها، وروسيا، والصين،

وفرنسا، وربما كوريا الشمالية أيضاً، لكننا سنقتصر على دول المنطقة المحيطة

بالعراق؛ مضمنين الولايات المتحدة ضمن الدول الأخرى، وهي:

1 - فلسطين [4] :

الذي كان يعنيه هنري كسينجر في عبارته الشهيرة «الطريق إلى القدس يمر

عبر بغداد» هو أن إنقاذ الكيان الصهيوني من ورطته السياسية والأمنية

والديموجرافية؛ لا بد أن يتم من خلال تحطيم أكبر قوة عسكرية عربية قريبة من

الكيان الصهيوني، وأن أي محاولة لتفتيت الدول العربية لتصبح متقاربة مع الكيان

الصهيوني من حيث عدد السكان لا بد أن تتم عبر تدجين العراق.

وإذ ظل تدمير القوة العراقية حلماً يراود صقور الكيان اليهودي في فلسطين؛

فلا يمكن فصل ذلك عن انطلاقه من واقع عقدي يميني «نصراني صهيوني»

يؤمن بأن تدمير مملكة بابل «الملعونة» هو السبيل الوحيد لضمان عدم زوال

«إسرائيل» [5] .

ولا يفوتنا أن كثيراً من التقارير المخابراتية التي سُربت عمداً تتحدث عن

خطة «ترانسفير» فلسطينية جديدة؛ تستهدف ترحيل ملايين اللاجئين الفلسطينيين

لتوطينهم إلى الأبد في العراق في أحسن الأحوال، أو ترحيل مئات الآلاف من

الفلسطينيين المقيمين في فلسطين في أسوأ الأحوال.

في سياق الورطة الصهيونية نفسه يظل سلاح الاستشهاد الإسلامي في

فلسطين هو أمضى أسلحة الردع التي يحسب لها اليمين «النصراني الصهيوني»

ألف حساب؛ برغم التفوق الهائل للآلة العسكرية الأمريكية [6] ؛ مما حدا به إلى

التحرك عسكرياً لرفع غائلة الاستشهاد عن أعناق يهود، وهو ما عبر عنه

«جيمس جلاند» الكاتب البارز بصحيفة «واشنطن بوست» وهو أحد

مناصري اليمين «النصراني» في يوليو الماضي، حين دعا إلى استخدام التفوق

العسكري الأمريكي لإعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط؛ لئلا يتحول

إلى منبر للفوضى، وحماية لـ «إسرائيل» .

2 - مصر:

تبدو القاهرة غير مستعدة لمناطحة القوة العظمى الوحيدة في العالم؛ لذا فمن

المستبعد أن تتعاطى معها واشنطن بالشكل نفسه الذي تتعاطى به مع بغداد.

فالقاهرة تفهم تلقائياً من ضرب العراق أنها تفقد كيانها كدولة عربية رائدة،

وتفهم تلقائياً أنها تخضع للابتزاز الأمني من خلال اتفاقية (ماشاكوس) السودانية

التي تمس الأمن القومي المصري في الصميم، وتفهم تلقائياً أن عليها تلميع

شخصية «البابا شنودة الثالث» بطريرك الكرازة المرقسية المصرية، والاحتفاء

به أينما حل أو ارتحل على نحو لا يحظى به شيخ الأزهر نفسه، ومنح الأقباط

مزيداً من التنازلات والمزايا؛ برغم تهديد الولايات المتحدة المبطن لها عبر تشجيع

الأقباط على الاستقلال بدولة ممسوخة، وتفهم تلقائياً أن عليها تغيير مناهجها

التعليمية وخططها الإعلامية؛ بما يحد من العداء للصهيونية، وبما يميع تربية

الجيل الناشئ، وتفهم تلقائياً أن عليها لجم الإسلاميين بكل تشكيلاتهم؛ و «ترشيد»

الدعوة الإسلامية في المساجد ووسائل الإعلام.

وتفهم في المقابل أنها بصدد تصاعد العداء الشعبي للصهيونية والأمريكان،

وأنها ربما تشهد صحوة لتيارات المعارضة، وتفهم أنها ستتضرر ضرراً اقتصادياً

بالغاً من تدهور قطاع السياحة؛ بعد أن أوشكت أن تسترد «عافيتها» ... تفهم

القاهرة كل ذلك، لكنها اختطت لذاتها خطاً «غير تصعيدي» لا يتقاطع مع

ترتيبات الولايات المتحدة للمنطقة؛ بحيث لا تستعدي الولايات المتحدة عليها.

3 - إيران:

«ما أشيع عن اتصالات جماعات المعارضة العراقية (الشيعية) بالولايات

المتحدة لقلب نظام الحكم في العراق، يُتفهم في إطار أن لهذه الجماعات مواقفها

وقراراتها المستقلة تماماً» حميد رضا آصفي، المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية

الإيرانية (صحيفة إطلاعات 2/7/2002م) .

هذا الموقف الباطني الإيراني الذي لا يستبعد معه المحللون أن يتحالف

الإيرانيون مع «الشيطان الأكبر» لخلق توازن إقليمي، مثلما هو الحال مع تركيا

«العلمانية» التي لا تجد هي ولا إيران غضاضة في التحالف لمنع استقلال

الأكراد في أي من بلديهما أو العراق، فالولايات المتحدة قد توفر للشيعة وضعاً

أفضل في عراق ما بعد الحرب، وهو ما يسيل له لعاب الإيرانيين بالطموح نحو

دولة عراقية شيعية على غرار نظام الملالي في إيران، لكن هذا المشهد ليس وردياً

هكذا على الدوام؛ فإيران تعلم أنها حال احتلال العراق تكون قد وقعت بين كفي

الكماشة الأمريكية في العراق وأفغانستان، فإذا أضفنا لذلك تحديد الولايات المتحدة

الأمريكية اسم «إيران» ضمن «محور الشر» ، والعبء الذي سينوء به كاهل

الإيرانيين الشيعة إذا وقعت «العتبات المقدسة» في أيدي جنود «الشيطان

الأكبر» ؛ فإن وضع إيران سيكون أسوأ حالاً بعد الحرب منها قبلها.

4 - تركيا:

يؤثر غزو العراق كثيراً في الاقتصاد التركي العليل، فالخبراء الاقتصاديون

يقدرون الخسارة التركية من جراء عملية عسكرية في العراق بنحو 150 مليار

دولار، وهو رقم هائل، وإذا أضفنا إلى ذلك أن خسارة تركيا منذ حرب الخليج

الثانية قدرت بنحو 100 مليار دولار لم تستطع تركيا إلى اليوم التعافي منها؛ فإن

المشكلة تصبح حينئذ مضاعفة.

كما أن تشجيعاً من قبل الولايات المتحدة للأكراد على الاستقلال في الشمال

العراقي (3.8 ملايين كردي) سيدفع أكراد تركيا (12 مليون كردي) إلى

التطلع نحو الاستقلال أيضاً؛ لذا فليس غريباً إذن أن يصوت 83% من الأتراك

حسب استفتاء أجرته شبكة التلفزة التركية (TGRT) برفض المساعدة أو مشاركة

قواتهم في الحرب؛ مؤكدين التساؤل عما يمنع الولايات المتحدة من ضرب تركيا

غداً؟

وقد صُوّر الغزو الأمريكي للعراق في تركيا على أنه «كابوس من صنع

صديق» ، هذا الكابوس لا شك أنه يؤرق أيضاً حكومة الإسلاميين في تركيا،

والتي تقف عاجزة عن منع تحقيقه أو على الأقل منع استخدام الولايات المتحدة

لقواعدها في ضرب العراق؛ لذا فقد تحرك رئيس وزراء تركيا عبد الله جول في

جولة حكيمة، قصد منها رفع اللائمة الشعبية من على حكومته؛ لإخفاقها في منع

الجريمة التي تنفذها الولايات المتحدة على شعب العراق المسلم؛ محاولاً إظهار

تباين الرؤى بين الحكومة والعسكر أمام الشعب التركي.

5 - سوريا:

يدفع الغزو سوريا بنظرها إلى «التعاون الأمني» أكثر مما هو عليه الآن،

والتسليم للولايات المتحدة والكيان الصهيوني بتصفية وجود حركات المقاومة؛

وخصوصاً حركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي» السُّنِّيتين الفلسطينيتين،

والحركة الشعبية لتحرير فلسطين العلمانية، وحزب الله الشيعي الجعفري،

ويتوقع ألا تنتظر سوريا لتفكر طويلاً في المطلوب أمريكياً منها، فهي أيضاً تقع

بين شقي رحى العراق «الأمريكي» والكيان الصهيوني.

6 - الأردن:

يتوقع له أن يزداد وضعه الاقتصادي بؤساً؛ إذ كان يحظى بوضع تجاري

استثنائي خاص مع العراق، وفي أسعار النفط تحديداً، ولا ينتظر أن يتحسن

وضعه إلا إذا صعد هاشمي على سدة الحكم في العراق.

* كلمة أخيرة:

قد لا يكون في كثير مما تضمنته السطور السابقة ما يدعو إلى التفاؤل،

فالسكين كما قلت بلغت حد العنق.. لكن أليس ثمة أمل؟ نعم إن الدول تزدهر

وتضمحل، وتنضج وتذبل، وتشب وتهرم؛ تماماً مثلما وصف العلامة ابن خلدون

في مقدمته الرائعة.. وما نرى الولايات المتحدة إلا بسبيل الهرم، وإن من مبادئ

الاستراتيجية أن الدولة التي تبعثر جيشها هنا وهناك يصيبها ويصيبه الوهن، وأن

أعباء التوسع تنوء بحملها الإمبراطوريات فتنكسر عواتقها، وهذا كله يدعو للتفاؤل؛

بيد أنه لا يصح أن يكون هو المعول عليه ابتداء؛ إذ إن هذه الأمة العظيمة تليدة

الحضارة لا يصح أن ينهض بدورها أحد غيرها، وغُبنٌ لها أن نخالها لن تنهض،

والولايات المتحدة لم تبلغ بعد حد «يأجوج ومأجوج» الذين يقف الرجال أمامهم

ساكنين بانتظار الدواب تنخر أنوفهم ... هذه الأمة ستنهض، وسيطل بدرها الزاهر

من جديد.. هذا هو قدر الله لها؛ فمنذ سقوط الخلافة العثمانية لم تُر هذه الأمة وهي

يحدوها شعور بالحاجة إلى الاتحاد وإن لم يجاوز إلى الآن حده العاطفي مثلما نراها

اليوم. حاربها الفرس والرومان فطويت حقبتهم، وكاد لها الإنجليز والفرنسيون

فزالت دولتهم.. ولقد مضوا ومضى غيرهم ... مضى الصليبيون، ومضى التتار

لا بل ذاب التتار فيهم فأسلموا مضوا جميعاً.. وبقي الإسلام كما هو شامخاً في

خلوده ... [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015