المسلمون والعالم
بيننا وبين فرنسا جبال من الجماجم
يحيى أبو زكريا [*]
عندما قام الرئيس الجزائري الأسبق (هواري بومدين) بتأميم المحروقات
قاطعت فرنسا البترول الجزائري وأسمته: (البترول الأحمر) عندها قال بومدين
لدى سؤاله عن العلاقات الجزائرية الفرنسية: «بيننا وبين فرنسا أنهار من الدماء
وجبال من الجماجم» . وساعتها كان عبد العزيز بوتفليقة وزيراً للخارجية، وكان
مقتنعاً بنظرية بومدين بشأن الطلاق الأبدي مع عدوة الأمس فرنسا. واليوم وعندما
أصبح عبد العزيز بوتفليقة رئيساً للدولة الجزائرية تخلى عن نظرية جبال الجماجم
وأنهار الدماء، وتبنى نظرية المصالحة التاريخية مع من قتل مليوني جزائري في
ظرف سبع سنوات. ألا يدل ذلك على مدى التغيرات التي عرفتها الجزائر التي ما
زالت تبحث عن ذاتها ودورها؟ وإذا كانت المصالحة الوطنية في الداخل الجزائري
ما زالت معلقة فكيف يبحث عنها بوتفليقة في باريس؟
لا يمكن على الإطلاق وصف العلاقات الجزائرية الفرنسية بالطبيعية؛ إذ منذ
استقلال الجزائر في الخامس من يوليو تموز 1962م، والعلاقات بين البلدين تمر
بحالة انسداد تارة وانفتاح تارة أخرى؛ والمفارقة أنّه رغم هذا التوتر في العلاقات
الثنائية فقد ظلت باريس سيدة الموقف اقتصادياً وثقافياً وأحياناً سياسياً في الجزائر.
ويُجمِع المراقبون كما يجمع المؤرخون أن فرنسا هي وراء هذا التوتر؛ لأنّه لا
يمكن بأي حال من الأحوال نسيان الحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر منذ
[1830م وإلى 1962م] حيث مارست فرنسا خلالها كل أنواع المسخ والتقتيل
والتعذيب وطمس الهوية وسلب خيرات هذا البلد المسلم، وكل هذه الصور وغيرها
لم يكن في وسع الجزائريين نسيانها؛ ففرنسا في نظرهم هي الدولة التي عطّلت
دورهم الحضاري على مدى 132 سنة. وبعد استقلال الجزائر ظلّت فرنسا تنظر
إلى الجزائر على أنها ولاية فرنسية، ولم تعترف حتى بالحرب الجزائرية الفرنسية؛
إذ إن ذلك أي هذا الاعتراف جرى في مقر الجمعية العمومية البرلمان في بداية
سنة 2000م، وبهذا المنطق الاستعماري نفسه تعاملت فرنسا مع الجزائر الفتية
المستقلة؛ فقد واصلت احتكارها لصناعة الطاقة - الغاز والنفط - تنقيباً واستخراجاً
وتوزيعاً وتسويقاً، كما كانت توفر الحماية للغتها التي كانت نافذة في الإدارة
والمدرسة والجامعة، وفوق هذا وذاك كانت تفرض على الإدارة الجزائرية
(تكنوقراطيين) جزائريين درسوا في المعاهد والجامعات الفرنسية وشكلوا فيما بعد
نواة ما يعرف بحزب فرنسا في الجزائر المتغلغل بقوة في الإدارة والمؤسسة
العسكرية. وإذا كانت علاقة الجزائريين بفرنسا أثناء احتلال هذه الأخيرة للجزائر
علاقة حرب ونضال بين قوة غاشمة ومستضعفين يسعون إلى الحرية؛ فإن
العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ 1962م وإلى الآن هي أشبه بفسيفساء كثيرة
الألوان والالتواءات.
فمنذ 1962م تاريخ استقلال الجزائر توالى على الحكم في الجزائر سبع
رؤساء هم على التوالي: (أحمد بن بلة) 1962 - 1965م، (هواري بومدين)
1965 - 1979م، (الشاذلي بن جديد) 1979 - 1992م، (محمد بوضياف)
جانفي 1992م جوان 1992م، (علي كافي) 1992 - 1994م، (اليامين
زروال) 1994 - 1999م، (عبد العزيز بوتفليقة) 1999م، إلى يومنا هذا.
وكان الحكم في فرنسا بدوره موزعاً بين اليمين واليسار، وكانت لفرنسا سياسات
متنوعة تجاه الجزائر وحسب الرؤساء الذين تناوبوا على الحكم في الجزائر.
* عهد بن بلة ومحاولة التمرد:
في عهد (بن بلة) حاولت فرنسا التمكين لمصالحها الاقتصادية والثقافية
والسياسية، وحاول (بن بلة) بدوره سحب هذه الأوراق من يد فرنسا؛ وذلك من
خلال التحضير لوضع قانون للتعريب جرت مناقشته في مجلس الشعب، ولكن
للأسف تمكنت القوى الموالية لثقافة المستعمر من تعطيل المشروع الذي استمرّ
معطّلاً إلى أواخر التسعينيات، وطلب (أحمد بن بلة) من وزير دفاعه هواري
بومدين أن يُقيل من الجيش الجزائري كل الضبّاط الجزائريين الذين كانوا في
الجيش الفرنسي وانضموا قبل الاستقلال وبعده بقليل إلى الجيش الجزائري، لكن
هذا لم يتحقق، وكانت حجة بومدين أنّه في حاجة إلى خبراتهم. وأطيح بـ (أحمد
بن بلة) ونعمة الطاقة ترفل فيها فرنسا دون غيرها.
* عهد بومدين والتأميم:
وعندما استلم (هواري بومدين) الحكم بدأت العلاقات الجزائرية الفرنسية
تدخل مرحلة الخطوط الحمراء وخصوصاً عندما أقدم (هواري بومدين) على تأميم
قطاع المحروقات، وخرجت فرنسا صفر اليدين من نعمة الطاقة الجزائرية،
وساعتها لجأت فرنسا إلى مقاطعة شراء النفط الجزائري الذي كانت تسميه:
(البترول الأحمر) وحضّت حلفاءها في الغرب على عدم شراء هذا البترول
الأحمر، وتصاعد الموقف الأمني بين الدولتين حيث كان (محمد بوديا)
المناضل الجزائري السابق والمقيم في باريس يقوم مع (كارلوس) المشهور عالمياً
بملاحقة أهداف عبرية في العواصم الغربية وعلى الأرض الفرنسية على وجه
التحديد، وهو الأمر الذي فهمت منه باريس بأنه حرب جزائرية على أرضها،
فقامت أجهزتها الأمنية بأشياء مماثلة على الأرض الجزائرية؛ حيث قام رجال
مخابرات فرنسيون بتفجير مبنى جريدة المجاهد الأسبوعي التابعة للحزب الحاكم
آنذاك (حزب جبهة التحرير الوطني) ، وشهدت العلاقات الثنائية بين البلدين
تراجعاً وخصوصاً بعد توقيع عقد لبيع النفط الجزائري لشركة البازو الأمريكية ولمدة
25 سنة، وربما هذا ما دفع (هواري بومدين) إلى القول لدى سؤاله عن العلاقات
الجزائرية الفرنسية: إنّه بيننا وبين فرنسا أنهار من الدماء وجبال من الجماجم.
* عهد بن جديد وسر مكالمة ميتران:
عندما وصل الشاذلي بن جديد إلى السلطة كانت موازين القوة في دوائر الحكم
قد رجحت كلية لصالح التيار الفرانكفوني الذي عمل أول ما عمل على إعادة
تصحيح العلاقة مع باريس، وكانت النتيجة أن قام الشاذلي بن جديد بزيارة باريس
ولأول مرة في تاريخ الجزائر المعاصرة؛ حيث كان ينص العرف السياسي
الجزائري غير المكتوب أن لا يقوم الرئيس الجزائري بأي زيارة إلى فرنسا العدوة
التقليدية للجزائر. وكان رضا مالك - أحد كبار المسؤولين والفرانكفونيين في آن
واحد الذي اصطحبه معه عبد العزيز بوتفليقة في زيارته إلى باريس رغم أنه لا
يتمتع بأي منصب سياسي رسمي - قد كتب يدعو إلى ضرورة طي صفحة الماضي
وقلب الظهر للثورة الجزائرية. وهذا التألق في العلاقات الجزائرية الفرنسية الذي
استمر على امتداد الحقبة الشاذلية سرعان ما خفت بعد إقالة الشاذلي بن جديد الذي
طلب منه فرنسوا ميتيران شخصياً وعبر مكالمة هاتفية إلغاء الانتخابات التي فازت
بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وكان له ما أراد، وهذا ما كشف عنه مؤخراً وزير
الدفاع السابق خالد نزار.
* عهد بوضياف والتسلل الأمريكي:
بعد تولي محمد بوضياف الحكم كانت الجزائر قد دخلت مرحلة الفتنة الكبرى،
واستمر وضعها الأمني مضطرباً في عهد علي كافي واليامين زروال، وكانت
باريس آنذاك تراقب الموقف وتشاهد بانزعاج التسلل الأمريكي إلى ملعبها القديم،
وانتقلت الفتنة الجزائرية إلى أراضيها؛ حيث تكهنت الصحف الفرنسية بأن هذه
الأعمال الأمنية هي من وحي المخابرات الجزائرية والغرض منها جرّ فرنسا إلى
الحرب الدائرة في الجزائر ودعم الحكم الجزائري.
والمفارقة أنه رغم مشهد التوتر في العلاقات الجزائرية الفرنسية فإن فرنسا
حافظت على قوة نفوذها الاقتصادي والثقافي والسياسي؛ وذلك من خلال الفئة
الفرانكفونية التي قدمت لفرنسا أعظم الخدمات، ولعلها الفئة التي أشار اليها الجنرال
شارل ديغول بقوله وهو يغادر الجزائر أثناء استقلال الجزائر أنه ترك في الجزائر
بذوراً ستينع بعد حين، وفي موضع آخر قال: سأعمل على أن تنتهي الجزائر
بالضربة القاضية بعد ثلاثين سنة، وبالفعل بعد ثلاثين سنة من عام 1962م دخلت
الجزائر مرحلة السقوط بالضربة القاضية.
* عهد بوتفليقة والمرحلة الجديدة:
وبوصول عبد العزيز بوتفليقة إلى سدّة صناعة القرار السياسي كانت الجزائر
قد دخلت مرحلة جديدة يحاول بوتفليقة من خلالها الانفتاح على عواصم القرار في
الغرب لمساعدته في المجال الاقتصادي وفي المجال السياسي والأمني.
وقد لجأ بوتفليقة إلى خطة ذكية لتدشين التقارب الفرنسي الجزائري؛ فقد ألمح
إلى أن الجزائر قد تخرج من تحت العباءة الفرنسية بتكثيف الزيارات الرسمية
للمسؤولين الأمريكيين إلى الجزائر، وإجراء مناورات عسكرية بين القوات
الجزائرية والأمريكية وهو ما أقلق باريس وجعلها تعيد حساباتها في علاقاتها مع
الجزائر صيانة لمصالحها الاستراتيجية والسياسية والثقافية والاقتصادية.
ويبقى القول إن الزيارة التاريخية لعبد العزيز بوتفليقة إلى باريس وزيارة
الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى الجزائر لن تلغي بين عشية وضحاها كل الغيوم
المتراكمة في سماء العلاقات الثنائية بين البلدين، وما زالت هناك أشواط قبل تحقُّق
ما اسماه بوتفليقة بالمصالحة التاريخية بين الجزائر وفرنسا.
ورغم أنّ بوتفليقة حمل لواء المصالحة إلا أنّ باريس ما زالت تشن حملة على
الجزائر مثيرة ورقة الجيش تارة ودوره في المجازر كل المجازر التي عرفتها
الجزائر، وتارة أخرى تثير الورقة القبائلية، وتطالب بتمكين منطقة القبائل من
حكم ذاتي وتمزيق الجغرافيا الجزائرية التي وحدتها دماء مليونين من شهداء
الجزائر.