مجله البيان (صفحة 4485)

المسلمون والعالم

التنافس الدولي في القارة الإفريقية

راوية توفيق [*]

كانت القارة الأفريقية محلاً للمنافسة بين القوى الدولية الكبرى لعهود طويلة،

فقد بدأ الاحتكاك الأوروبي بأفريقيا عن طريق المستكشفين والتجار والبعثات

التبشيرية منذ القرن الخامس عشر حيث أبحرت السفن البرتغالية إلى سواحل غرب

أفريقيا، وأنشأ البرتغاليون عدداً من الحصون الساحلية مارسوا من خلالها تجارة

مربحة في الذهب والعاج والعبيد.

وقد ازدهرت حركة تجارة العبيد في تلك الفترة، وشارك فيها تجار هولنديون

وبريطانيون وفرنسيون إلى جانب البرتغاليين فيما أطلق عليه: «مثلث

الأطلنطي للتجارة» حيث كان التجار الأوروبيون ينقلون العبيد الأفارقة عبر

المحيط الأطلسي للعمل كمزارعين في الأراضي الأمريكية، ثم تنقل المحاصيل

الزراعية إلى أوروبا لبيعها.

وفي أواخر القرن التاسع عشر تدافعت القوى الأوروبية للسيطرة على القارة

الأفريقية فيما أطلق عليه: «التكالب الاستعماري على أفريقيا» والذي كرسه

مؤتمر برلين 1884م بوضع القواعد العامة لتأسيس مناطق الهيمنة للقوى الأوروبية

الرئيسية (بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، ألمانيا) في القارة الأفريقية.

وقد صورت هذه القوى الأوروبية مهمتها على أنها تهدف إلى نشر الحضارة

والمدنية في كافة مناطق العالم المتخلف ومنها أفريقيا، إلا أن هذا الاستعمار كان

السبب الحقيقي لتخلف القارة؛ حيث استنزف مواردها الطبيعية ووجهها لخدمة

الاقتصاد الأوروبي [1] .

وفي أواخر خمسينيات وستينيات القرن العشرين بدأت الدول الأفريقية تحصل

على استقلالها تباعاً. ورغم تراجع أهمية ومكانة القوى الأوروبية التقليدية التي

كانت تسيطر على أفريقيا إلا أن التنافس الدولي في القارة استمر مع تغير الفاعلين

الرئيسيين.

ففي ظل نظام القطبية الثنائية الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية حلت

الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق محل القوى الأوروبية التقليدية مع

اعتراف الولايات المتحدة بمصالح تلك القوى التقليدية في القارة الأفريقية؛ فقد

انتقل الصراع بين القطبين في مرحلة الحرب الباردة إلى الساحة الأفريقية، ولكن

اهتمام القطبين بالقارة في تلك الفترة تركز على محاولة استقطاب الدول الأفريقية

بهدف العمل على زيادة كل طرف لنفوذه واحتواء الطرف المضاد.

ومع نهاية الحرب الباردة ظهرت عدة مؤشرات ودلائل على تراجع الأهمية

الاستراتيجية للقارة الأفريقية، وظهر اتجاه بارز في أدبيات العلاقات الدولية يؤكد

أن القارة الأفريقية لم تعد تحتل أهمية كبيرة للدول الكبرى الأوروبية أو للولايات

المتحدة الأمريكية مستنداً في ذلك إلى تناقص معدلات المعونات والقروض الموجهة

من تلك القوى إلى القارة الأفريقية، أو الربط بين تقديم المعونات وبين مدى التزام

الدول الأفريقية بالتحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان فيما أصبح يعرف باسم:

«المشروطية السياسية» . وفي الوقت نفسه أدى بروز دول أوروبا الشرقية

واتباعها نهج الإصلاح الاقتصادي إلى لفت انتباه القوى الكبرى إلى هذه الدول،

وتخصيص قدر متزايد من المعونات والقروض إليها على حساب المعونات

والقروض الموجهة إلى الدول الأفريقية.

وبذلك فإن القارة الأفريقية تضاءلت أهميتها على المستوى الجيوبوليتيكي؛

حيث تراجعت أهميتها الاستراتيجية كمسرح للصراع بين المعسكرين الشرقي

والغربي. كما تراجعت أهميتها تنموياً؛ حيث عاد مركز الثقل إلى دول وسط

وشرق أوروبا باعتبارها تمتلك بنية أساسية اقتصادية مناسبة إلى حد بعيد لعمليات

التحول نحو الليبرالية واقتصاد السوق. ولكن مع منتصف التسعينيات بدأ اتجاه

تهميش القارة الأفريقية في التراجع؛ حيث برز التنافس الاقتصادي بين القوى

الكبرى (خاصة الولايات المتحدة وفرنسا) في القارة. فإذا كانت الأهمية السياسية

والعسكرية للقارة قد تراجعت بعد انتهاء الحرب الباردة إلا أن القوى الكبرى عاودت

الاهتمام بالقارة اقتصادياً منذ منتصف التسعينيات. ومن ثم كان انتهاء الحرب

الباردة دافعاً لتغير صور ومظاهر الاهتمام بالقارة مع دخول عناصر جديدة اهتمت

بالتواجد الاقتصادي في القارة (الصين، واليابان، وغيرهما) [2] .

ويقتضي التعرف على أبعاد ومظاهر التنافس الدولي في أفريقيا في فترة ما

بعد الحرب الباردة تحليل أهداف ومصالح وأدوات القوى الكبرى الأساسية الفاعلة

على الساحة الأفريقية، وهو ما يحاول المقال إلقاء الضوء عليه بشيء من التفصيل.

* السياسة الأمريكية في أفريقيا:

في فترة الحرب الباردة لم تكن الدبلوماسية الأمريكية جادة في التدخل في

القضايا الأفريقية بشكل مباشر، وكانت تركز في سياستها تجاه أفريقيا على تحقيق

أربعة أهداف رئيسية هي: احتواء المد الشيوعي، حماية خطوط التجارة البحرية،

الوصول إلى مناطق التعدين والمواد الخام، ودعم ونشر القيم الليبرالية الخاصة

بالديمقراطية وحقوق الإنسان. إلا أن المتغيرات الدولية الجديدة وقيادة النظام أحادي

القطبية أدى إلى إعادة توجيه السياسة الأمريكية نحو أفريقيا، وإعادة ترتيب

أولوياتها وأهدافها [3] .

* الأهداف والمصالح الأمريكية في القارة الأفريقية:

ترتبط السياسة الأمريكية في أفريقيا بعدة مصالح. فمن الناحية الاقتصادية

تهدف الولايات المتحدة إلى فتح أسواق جديدة في مناطق مختلفة من العالم ومن

أبرزها القارة الأفريقية التي تتسم بوجود فرص هائلة للاستثمار وأسواق مفتوحة

للمنتجات الأمريكية يؤيدها في ذلك الشركات الأمريكية الهادفة إلى توسيع نطاق

الاستثمارات الخارجية، وفتح الأسواق الأفريقية الواسعة أمام السلع الأمريكية [4] .

ويمكن تلمُّس أهداف التحرك الاقتصادي الأمريكي في أفريقيا من خلال

التقرير الذي صدر عن مجلس العلاقات الخارجية في منتصف عام 1997م بعنوان:

«تعزيز العلاقات الاقتصادية للولايات المتحدة مع أفريقيا» والذي أوصى بأن

تكون الولايات المتحدة في مقدمة الدول الصناعية الكبرى التي تستفيد من الفرص

الجديدة في أفريقيا.

واستناداً إلى ذلك عملت الإدارة الأمريكية السابقة للرئيس كلينتون على تطوير

التجارة الأفريقية وبرامج التنمية الاقتصادية، وهو ما اتضح من خلال عدة

مؤشرات أهمها زيارة الرئيس كلينتون إلى القارة الأفريقية عام 1998م؛ حيث

أطلق خلال زيارته مبدأ أو شعار: «التجارة لا المساعدات» كسبيل إلى ازدهار

القارة. وقد جاء إعلان هذا الشعار في إطار سعي إدارة الرئيس الأمريكي السابق

إلى تأسيس شراكة أمريكية أفريقية جديدة تكرست فيها مع الإدارة الأمريكية الجديدة

بعد موافقة الكونجرس على قانون النمو والفرص في أفريقيا الذي يقوم على دعم

الدول الأفريقية بالمساعدات الاقتصادية، وفتح الأسواق الأمريكية أمام سلع

ومنتجات دول القارة بشرط نجاح هذه الدول في تحقيق بعض الشروط المتعلقة

بالديمقراطية والتحرر الاقتصادي [5] .

ولا شك أن تحقيق الأهداف الاقتصادية الأمريكية في القارة الأفريقية يتطلب

تنافساً حاداً مع الدول الأوروبية التي سيطرت على الثروات والموارد الطبيعية

للقارة لعهود طويلة؛ وخاصة أن الولايات المتحدة تسعى إلى تغيير نسب التبادل

التجاري بين أفريقيا والعالم الخارجي لصالحها وهي النسب التي تحتل فيها الدول

الأوروبية النصيب الأكبر.

ومن الناحية السياسية ترفع الولايات المتحدة مبدأي: الديمقراطية، وحقوق

الإنسان كركيزتين أساسيتين للسياسة الخارجية الأفريقية؛ إلا أن هذه المبادئ مجرد

أداة تستغلها السياسة الأمريكية لتحقيق مصالحها وليست هدفاً تسعى إلى تحقيقه.

فالمصالح الأمريكية تتجه في بُعدها السياسي إلى تطوير العلاقات مع دول القارة

الأفريقية بما يخدم ويعزز المصالح الأمريكية الحيوية في القارة، وتتعامل مع هدف

تشجيع الديمقراطية لدى النظم الأفريقية الحاكمة بمبدأ النسبية؛ حيث ترتبط بمدى

الاهتمام الأمريكي بحالة كل نظام سياسي على حدة تبعاً لطبيعة المصالح التي قد

تختلف من دولة إلى أخرى. كما تهدف الولايات المتحدة بالأساس في علاقتها مع

أفريقيا إلى الحد من النفوذ الأوروبي، والانفراد بالنفوذ في القارة من أجل الحفاظ

على الزعامة العالمية.

وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف السياسية تعمل الولايات المتحدة على تشكيل

نخب جديدة في أفريقيا موالية للغرب عموماً وللولايات المتحدة بشكل خاص، وهم

من تسميهم الولايات المتحدة بالقادة الجدد في أفريقيا أمثال ميليس زيناوي في أثيوبيا،

وأسياسي أفورقى في إرتريا، ويوري موسيفيني في أوغندا [6] .

ومن الناحية العسكرية والأمنية تسعى الولايات المتحدة إلى تحسين قدرة القارة

على التعامل مع المشكلات الأمنية المؤثرة على الأمن العالمي بصفة عامة وعلى

الأمن الأمريكي بصفة خاصة وأهمها الإرهاب. كما تسعى إلى دعم الحلول السلمية

للنزاعات المسلحة في القارة في مناطق البحيرات العظمى والقرن الأفريقي

وجنوب السودان بشكل يحقق مصالحها. وفي هذا الإطار بادرت الولايات المتحدة

بتشكيل قوة تدخل أفريقية لمواجهة الأزمات استناداً إلى المبادرة الخاصة بمواجهة

الأزمات الأفريقية. بالإضافة إلى ذلك تركيز الولايات المتحدة على قضايا الإسلام

السياسي في القارة؛ وخاصة بعد تفجير سفارتيها في كينيا وتنزانيا [7] .

* دوائر حركة السياسة الأمريكية في أفريقيا:

تهتم السياسة الأمريكية بصفة عامة بتدعيم علاقتها بالقوى الرئيسية في القارة،

فتهتم في هذا الإطار بتدعيم علاقتها مع نيجيريا التي تمثل أكبر شريك تجاري

للولايات المتحدة في أفريقيا وثالث مصدر للنفط للولايات المتحدة. وتسعى السياسة

الأمريكية إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في غرب أفريقيا من خلال

إعادة تقويم سياستها مع نيجيريا بما يحقق عودة الحكم المدني إليها. وفي هذه

الإطار أيضاً تنظر الولايات المتحدة إلى جنوب أفريقيا باعتبارها حليفاً استراتيجياً؛

إذ تمثل ثاني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في أفريقيا، وتعتمد عليها في

تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في منطقة الجنوب الأفريقي.

بالإضافة إلى ذلك تركز الولايات المتحدة على بعض المحاور الإقليمية ذات

الأهمية الاستراتيجية لتحقيق مصالحها في القارة الأفريقية، ومن أهم هذه المحاور:

1 - منطقة البحيرات العظمى: تغير الموقف الأمريكي من الأنظمة الحاكمة

في المنطقة مع أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات؛ حيث سعت الولايات المتحدة

إلى تحقيق هدفين أساسيين في المنطقة هما: إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية في

وسط أفريقيا، ومحاولة عزل نظام حكم الجبهة الإسلامية في السودان. ولذلك

عملت الولايات المتحدة على تدعيم وتعزيز روابطها العسكرية والاقتصادية مع

أوغندا بزعامة رئيسها موسيفيني التي اعترفت لها الولايات المتحدة بدور إقليمي

متميز، وساعدتها على لعب دور أكبر بكثير من إمكانياتها، ورواندا تحت حكم

الجبهة الوطنية التي تمثل الأقلية من التوتسي. وقد شملت هذه الروابط تقديم

مساعدات عسكرية للبلدين من خلال برنامج المبيعات العسكرية الخارجية التي

يديرها البنتاجون، وبرنامج المبيعات التجارية الخاصة، وبرنامج التعليم والتدريب

العسكري الدولي.

ومن جهة أخرى دعمت الولايات المتحدة موقف الحكومتين الرواندية

والأوغندية الداعم لتحالف قوى المعارضة في الكونغو الديمقراطية بقيادة لوران

كابيلا حتى استطاع كابيلا إسقاط نظام موبوتو عام 1997م، وشجعت التدخل

الأجنبي في شؤون الكونغو بحجة دعم حركة التحول الديمقراطي بها. وعندما

تراجع كابيلا عقب توليه السلطة عن وعوده للولايات المتحدة شجعت تمرداً عليه

تدعمه رواندا وأوغندا بهدف الإطاحة به؛ إلا أنه استطاع أن يحصل على مساندة

دول أخرى مثل زيمبابوي وأنجولا وناميبيا وهو ما وسع نطاق الصراع في منطقة

البحيرات العظمى بتحويل الحرب الأهلية في الكونغو إلى حرب إقليمية واسعة.

2 - القرن الأفريقي: أفضت التطورات التي شهدتها منطقة القرن الأفريقي

في أوائل التسعينيات إلى ظهور ترتيبات وأوضاع إقليمية جديدة؛ حيث انهار نظام

منجستو في أثيوبيا، ونظام سياد برى في الصومال، واستقلت إريتريا مما ساهم

في إعادة ترتيب ميزان القوى بين السودان وجاراتها. وقد حرصت الولايات

المتحدة في هذا الإطار على الاحتفاظ بعلاقات وطيدة مع النظم المجاورة للنظام

السوداني، وتأمين وجودها في المنطقة. فجاء التدخل الأمريكي في الصومال

والزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لتفقد أوضاع القوات

الأمريكية المرابطة في الصومال عام 1992م، وهو التدخل الذي أعطى للولايات

المتحدة خبرة سيئة أثرت على تدخلها العسكري المباشر في النزاعات الأفريقية فيما

بعد.

ومن ناحية أخرى تحتفظ الولايات المتحدة بعلاقات خاصة مع أثيوبيا وهي

علاقات لها بُعد تاريخي قديم ومعروف منذ العهد الإمبراطوري. ويأتي الاهتمام

الأمريكي بأثيوبيا في إطار النظر إلى قضية المياه كورقة ضغط يمكن إثارتها في

مواجهة الدبلوماسية المصرية، أو الترويج لمقولات حرب المياه في القارة الأفريقية.

كما يأتي هذا التحالف الأمريكي الأثيوبي في إطار استراتيجية حلف المحيط التي

تتبعها الولايات المتحدة والتي تهدف إلى إقامة تحالفات مع الدول والجماعات الإثنية

والدينية المعادية للعرب، ومحاصرة الأمن القومي العربي خاصة في امتداده

المصري والسوداني، وإحكام الطوق على المنطقة العربية واختراقها من خلال

محور أثيوبيا - إسرائيل - تركيا. وبذلك كان يبدو مع بداية التسعينيات أن

الولايات المتحدة تعدُّ أثيوبيا لدور إقليمي مركزي حتى تكون مرتكزاً لها في منطقة

البحر الأحمر [8] .

3 - الدور الأمريكي في الأزمة السودانية [9] : منذ وصول نظام الإنقاذ إلى

الحكم عام 1989م انتهجت الولايات المتحدة ضده سياسة المواجهة، وأعلنت إدانتها

لنظام الخرطوم لانقلابه على سلطة ديمقراطية منتخبة، واتهامه بانتهاك حقوق

الإنسان ومساندة الإرهاب، والمسؤولية عن استمرار الحرب الأهلية في الجنوب،

وإعاقة جهود الإغاثة الدولية في مناطق القتال. وقد استمرت هذه السياسة طوال

عهد كلينتون فوضعت الولايات المتحدة السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب

عام 1993م بعد ضغوط شديدة من الكونجرس، وعملت على خلق إطار إقليمي

معاد لحكومة الخرطوم شمل أوغندا وإريتريا وأثيوبيا، وقدمت دعمها السياسي

للتجمع الوطني المعارض الذي مثل الواجهة الأساسية للمعارضة وللجيش الشعبي

لتحرير السودان في الجنوب بزعامة جون جارانج.

ومن ناحية أخرى سعت الولايات المتحدة إلى تدويل القضية السودانية،

وأيدت علناً خطة الإيغاد (الهيئة الحكومية للتنمية في الشرق الأفريقي) التي تنص

على تأكيد حق أهل الجنوب في تقرير مصيرهم عبر استفتاء شعبي في حالة رفض

النظام السوداني إقامة دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية. كما رفضت الولايات

المتحدة على لسان وزيرة خارجيتها السابقة مادلين أولبرايت المبادرة المصرية

الليبية التي تقوم على التأكيد على وحدة السودان.

ومع وصول الإدارة الأمريكية الجديدة في الولايات المتحدة إلى السلطة سعت

الولايات المتحدة إلى تحسين علاقاتها بالسودان، وبدأت السودان تبدي حرصها على

التعاون الأمني مع الولايات المتحدة حتى قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد

ظهرت عدة مؤشرات تبرز التحول في السياسة الأمريكية تجاه السودان؛ فقد أصدر

مجلس الأمن برفع العقوبات التي فرضها على السودان منذ عام 1996م. وامتنعت

الولايات المتحدة عن التصويت وهو ما اعتبره البعض تعبيراً عن تقدير الولايات

المتحدة للتعاون الأمني مع الحكومة السودانية. كما عطلت الإدارة الأمريكية تشريعاً

أقره مجلس النواب بحظر تسجيل الشركات الأمريكية في البورصة الأمريكية إذا

شاركت في التنقيب عن النفط في السودان.

وأهم الخطوات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية الجديدة حيال السودان تمثل في

تعيين السيناتور السابق جون دانفورث كمبعوث رئاسي إلى السودان، وهو الذي

تمكنت الولايات المتحدة من خلاله في فترة قصيرة أن تؤثر في عدة تطورات على

الساحة السودانية بداية من توقيع اتفاق جبال النوبة، ودعم جهود مكافحة عمليات

الرق، وحتى الاتفاق الإطاري الأخير الذي وقعته الحكومة السودانية مع الحركة

الشعبية في كينيا (يوليو 2002م) والقائم أساساً على وثيقة أمريكية تعطي الجنوب

الحق في تقرير المصير بعد ست سنوات كفترة انتقالية.

وبذلك يمكن إجمال السياسة الأمريكية في القارة الأفريقية في عدة توجهات

رئيسية من أهمها التركيز على مناطق إقليمية معينة، واختيار دولة أو أكثر

لممارسة دور القيادة فيها، طرح قضايا معينة ووضعها على أجندة السياسة الأفريقية

للولايات المتحدة وعلى رأسها الإرهاب والجريمة الدولية، العمل على محاصرة

النظم غير الموالية والتي تدعم التطرف والإرهاب من وجهة النظر الأمريكية،

وتأمين وتعزيز فرص الاستثمار والتجارة في المنطقة؛ ولكن في ظل إطار من

المشروطية الاقتصادية والسياسية يسعى إلى فرض النمط الغربي للتنمية على الدول

الأفريقية.

* القوى الأوروبية وأفريقيا:

يرجع الارتباط الأوروبي بالقارة الأفريقية إلى عهود طويلة؛ فقد تمكنت

القوى الأوروبية من احتلال القارة وتقسيمها بعد مرحلة طويلة من الكشوف

الجغرافية، والمحاولات الفردية من قبل بعض الدول الأوروبية. وقد استطاعت

القوى الأوروبية أن تحافظ على مصالحها في القارة؛ فحتى في ظل نظام القطبية

الثنائية الذي تراجعت فيه أهمية ومكانة القوى الأوروبية التقليدية التي كانت تسيطر

على أفريقيا راعت الولايات المتحدة مصالح حلفائها الأوروبيين في مناطق نفوذهم

التقليدية في القارة، وسمحت لهم بالقيام بأدوار متزايدة في المواقف والأزمات

المختلفة، بل إن الدبلوماسية الأمريكية في تلك الفترة قامت على اعتبار القارة

الأفريقية مسؤولية خاصة للأوروبيين مقابل اعتراف الدول الأوروبية بمسؤولية

الولايات المتحدة الخاصة في أمريكا اللاتينية.

وفي ظل النظام العالمي الجديد في التسعينيات نشأت بيئة جديدة أثرت على

الطرفين الأوروبي والأفريقي، ومن ثم على شكل ومضمون العلاقات فيما بينهما؛

فقد وجدت الدول الأوروبية التي طالما احتفظت بمكانتها المتميزة في القارة الأفريقية

أنها أصبحت في مواجهة تحديات ومخاطر جديدة أهمها الهيمنة الأمريكية والمنافسة

الشديدة من جانب القوى الاقتصادية الجديدة مثل اليابان والصين وغيرهما. ولذلك

عملت الدول الأوروبية على تدعيم علاقاتها بالقارة الأفريقية على عدة مستويات

وفي عدة أبعاد؛ ففي إطار التعاون الجماعي يوجد عدة أطر للتعاون في الأبعاد

الاقتصادية والأمنية. فمن الناحية الاقتصادية تتعدد أطر التعاون، ومن أهمها:

- إطار اتفاقية لومي: وهو أحد أهم قنوات العلاقات متعددة الأطراف التي

تربط دول الاتحاد الأوروبي مع الدول الأفريقية جنوب الصحراء ودول المحيط

الهادي والكاريبي. وقد وُقِّع في إطارها أربع اتفاقيات بدأت الأولى عام 1975م

وضمت 46 دولة من دول أفريقيا والمحيط الهادي والكاريبي، وتوسعت العضوية

حتى ضمت حوالي 69 دولة في اتفاقية لومي الرابعة التي طبقت في الفترة من

1995-2000م.

وقد حرصت دول الاتحاد الأوروبي على تجديد الاتفاقية بعد انتهائها؛ حيث

صاغت اتفاقية جديدة هي اتفاقية كوتونو في يونيو 2000م.

واتفاقيات لومي هي أساساً اتفاقيات تنموية استطاعت الدول الأفريقية الاستفادة

منها سواء في النظام التجاري المعمول به، أو المعونات المالية الممنوحة لأغراض

التنمية. إلا أن الحوار بين دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول الأفريقية ودول

المحيط الهادي والكاريبي في الفترة التي سبقت إعلان اتفاقية كوتونو الأخيرة كشف

عن إدخال عناصر جديدة إلى اتفاقية التعاون بين الجانبين؛ حيث طرحت قضايا

الحوار السياسي والحكم الجيد وحل الصراعات كمبادئ أساسية للاتفاق الجديد،

وهي المبادئ التي أشارت إليها اتفاقية لومي الرابعة.

ومن الجدير بالذكر أن طرح الولايات المتحدة لقانون النمو والفرص في

أفريقيا السابق الإشارة إليه كان الغرض منه منافسة إطار اتفاقيات لومي مما يعد

مظهراً من مظاهر التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية في

أفريقيا.

- إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية: يلاحظ أن الدول الأوروبية في

تعاملها مع القارة الأفريقية عملت على فصل الشمال الأفريقي عن الجنوب الأفريقي؛

فإذا كان إطار اتفاقيات لومي قد تعامل مع دول أفريقيا جنوب الصحراء فإنها

شكلت إطاراً جديداً للتعامل مع دول الشمال الأفريقي؛ من خلال مشروع الشراكة

الأورومتوسطية.

وقد أسس مؤتمر برشلونة 1995م هذا الإطار تعبيراً عن وضع أساس جديد

للعلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط بما فيها دول شمال

أفريقيا. ويقوم هذا الأساس على شراكة اقتصادية وأمنية وسياسية. ففي المجال

الأمني أورد إعلان برشلونة خمسة مبادئ أساسية هي: حل المنازعات بالطرق

السلمية، الالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، نزع أسلحة الدمار الشامل،

مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، احترام مبدأ المساواة في السيادة وعدم التدخل

في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وفي المجال الاقتصادي أكد الإعلان على

أهمية تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة ومستدامة، وإقامة منطقة تجارة

حرة بشكل تدريجي حتى عام 2010م، والحوار بين الطرفين في قضايا الديون

والمساعدات.

ويعد هذا المشروع بدوره مثله كمثل الإطار الأول معبراً عن التنافس

الأوروبي الأمريكي في القارة. فتأييد الاتحاد الأوروبي لمشروع الشراكة الأوروبية

المتوسطية يصطدم مع تأييد الولايات المتحدة للمشروع الشرق أوسطي. كما أن

منطقة الشمال الأفريقي هي منطقة تنافس أمريكي فرنسي؛ حيث طرحت الولايات

المتحدة في يونيو 1998م مشروع شراكة اقتصادية أمريكية مغاربية مع دول

المغرب العربي الثلاث تمهيداً لإقامة منطقة للتجارة الحرة تتنافس بها مع العلاقات

الخاصة التي تربط الدول الأوروبية بهذه الدول [10] .

أما عن التعاون الجماعي على المستوى الأمني فقد سعت الدول الأوروبية بعد

مذابح رواندا إلى دعم الدبلوماسية الوقائية، وبحث إمكانية تشكيل قوات أفريقية

لحفظ السلام في إطار الدور الأساسي الذي يمكن أن تلعبه منظمة الوحدة الأفريقية.

وقد حاولت دول الاتحاد الأوروبي منع نشوب الصراعات في القارة الأفريقية

من خلال مشاركتها في عمليات الإنذار المبكر، والمشاركة في الدبلوماسية الوقائية،

والمشاركة في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام.

ومن أمثلة النزاعات التي حاولت دول الاتحاد الأوروبي التدخل لحلها الحرب

الأثيوبية الإريترية؛ حيث أرسل الاتحاد الأوروبي وفداً ثلاثياً يضم ممثلين عن

ألمانيا والنمسا وفنلندا إلى أديس أبابا في مهمة وساطة لمحاولة تهدئة الصراع بين

البلدين [11] .

وفي إطار العلاقات الخاصة التي تربط بين بعض الدول الأوروبية وأفريقيا

تجدر الإشارة بشيء من التفصيل إلى العلاقات الفرنسية الأفريقية وسياسة فرنسا في

أفريقيا.

* السياسة الفرنسية في أفريقيا [12] :

تعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على

الحركة والفعل في الساحة الأفريقية؛ حتى قيل إن أفريقيا تمثل أحد عوامل ثلاثة

لمكانة فرنسا الدولية بجانب مقعدها الدائم في مجلس الأمن والقدرة النووية.

وقد حافظت فرنسا على علاقاتها بالدول الأفريقية التي استقلت عنها نتيجة

لسياسة تعاونية محكمة ودقيقة طبقتها مع هذه الدول في المجالات العسكرية

والاقتصادية والثقافية. ومنذ انتهاء الحرب الباردة تأثر النفوذ الفرنسي في أفريقيا

نتيجة عدة اعتبارات أهمها: انخفاض الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا لدى القوى

الغربية بصفة عامة، والنشاط الأمريكي المتزايد المنافس لفرنسا في القارة.

* المصالح الفرنسية في القارة الأفريقية:

تتشعب المصالح الفرنسية في القارة ما بين مصالح اقتصادية وسياسية

واستراتيجية أمنية. فمن الناحية الاقتصادية تتركز المصالح الفرنسية في القارة في

البحث عن أسواق لتصريف المنتجات والسلع الفرنسية المصنعة والحصول على

مواد أولية لتنمية الصناعات الفرنسية؛ خاصة أن فرنسا تعاني نقصاً في هذه المواد

داخل أراضيها.

وقد استطاعت فرنسا تدعيم وجودها الاقتصادي في القارة الأفريقية من خلال

العديد من الآليات ومن أهمها التجارة البينية؛ فما زالت فرنسا المستورد الأول

للمواد الخام والمصدر الأول للسلع المصنعة في بعض الدول الفرانكفونية،

والاستثمارات التي تعتبر من أهم الاستثمارات الأجنبية في بعض الدول الفرانكفونية

(كوت ديفوار والجابون) ، وإنشاء شبكة مواصلات واسعة تربط بين الأجزاء

المختلفة للقارة الأفريقية وبين هذه الأجزاء وفرنسا، بالإضافة إلى منطقة الفرنك

الفرنسي التي ترتبط بها ست عشرة دولة من غرب ووسط أفريقيا، وتتيح لمواطني

هذه الدول التعامل بالعملة الفرنسية.

وكانت فرنسا في فترة الحرب الباردة تركز على تحقيق هذا الهدف؛ إذ

أدركت أن المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سيكون مجالها الرئيسي

أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، ومن ثم يصبح المجال الدولي الوحيد الذي يمكن

أن يظل مفتوحاً أمام النفوذ الفرنسي بعيداً عن المنافسة مع الدولتين العظميين هو

القارة الأفريقية. إلا أنه مع انتهاء الحرب الباردة تراجعت الأهمية الاقتصادية

لأفريقيا لدى فرنسا، ولم تعد أفريقيا تمثل اهتماماً اقتصادياً أولياً حتى أصبحت

أفريقيا تعتمد على أقل من 5% من نسبة التجارة الفرنسية؛ كما لم تعد تستقبل سوى

أقل من 20% من حجم الاستثمارات الفرنسية المباشرة في العالم.

ومن الناحية السياسية تهدف فرنسا إلى تحويل الفرانكفونية من تجمع ثقافي

إلى حركة سياسية لإنشاء تجمع سياسي فرانكفوني في أفريقيا له صوت سياسي

يؤخذ به في الساحة الدولية، وهو ما يعني إنشاء تيار سياسي مناهض للتيار

الأنجلوسكسوني- الأمريكي تجتمع تحت مظلته جميع الدول الهادفة إلى الحد من

الهيمنة الأمريكية. كما تسعى فرنسا في هذا الإطار إلى الحفاظ على استقرار

الأنظمة الأفريقية.

وفي سبيل تحقيق هذا الهدف السياسي توظف فرنسا أدوات اقتصادية وثقافية؛

فهي تسعى إلى إنشاء شبكات للتعاون والتبادل الاقتصادي والتكنولوجي لدعم التنمية

في الدول الفرانكفونية. كما تتميز فرنسا مقارنة بالدول الغربية الأخرى في استخدام

الأداة الثقافية معتمدة في ذلك على اللغة المشتركة؛ فاللغة الفرنسية هي السائدة في

دول غرب ووسط القارة، والمؤسسات التعليمية والمراكز الثقافية المنتشرة في

الأرجاء المختلفة للقارة بالإضافة إلى إطار المنظمة الفرانكفونية التي تضم كافة

الدول الناطقة بالفرنسية ومنها الدول الأفريقية والتي توسعت لتضم دولاً غير

فرانكفونية.

ومن الناحية العسكرية والأمنية كانت فرنسا في فترة الحرب الباردة تهدف إلى

منع انتشار النفوذ السوفييتي في القارة أو الحد من انتشاره. وبعد انتهاء الحرب

الباردة أصبح الخطر الرئيسي الذي يتهدد المصالح الفرنسية في أفريقيا هو الولايات

المتحدة التي تحاول ان تدعم تواجدها بالقارة، والإسلام السياسي الذي أخذ يتزايد

في التسعينيات في القارة الأفريقية على أطراف الصحراء وفي القرن الأفريقي

وخاصة أن نسبة المسلمين في بعض الدول الفرانكفونية نسبة مرتفعة. كما تسعى

فرنسا إلى السيطرة على المواقع الاستراتيجية في بعض الدول الأفريقية. فقد

اهتمت على سبيل المثال بإنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي لمراقبة المدخل الجنوبي

للبحر الأحمر.

وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف تعتمد فرنسا على عدة آليات أهمها القواعد

العسكرية التي أنشأتها في ست دول أفريقية [13] ، قوة التدخل السريع التي أنشأتها

فرنسا وفقاً لخطة عسكرية جديدة اعتمدتها عام 1993م، وتوجد هذه الآلية في

جنوب غرب فرنسا وتستطيع أن تتدخل في وقت قصير في كل أنحاء القارة، وعقد

اتفاقيات الدفاع العسكري المشترك مع عدة دول (منها الكاميرون، أفريقيا الوسطى،

جيبوتي، كوت ديفوار، وغيرها) ، واتفاقيات التعاون والمعونة الفنية مع عدة

دول (منها بنين، بوركينافاسو، بوروندي، الكونغو، غينيا، السنغال، توجو،

وغيرها) . كما أنشأت فرنسا عام 1997م برنامجاً لدعم المؤسسات والتجمعات

الإقليمية لمساعدتها على حفاظ الأمن في القارة.

ومن أمثلة الحالات التي شهدت تدخلاً عسكرياً فرنسياً في القارة التدخل

الفرنسي في رواندا عقب مذابح 1994م لصالح حكومة الهوتو، ومساندة الرئيس

التشادي إدريس ديبي بقوات خاصة ضد المظاهرات الشعبية التي اندلعت عام

1996م. كما نظمت فرنسا عام 1998م في إطار برنامج التعاون مع المنظمات

الإقليمية في أفريقيا مناورات عسكرية بالسنغال بالتعاون مع الجماعة الاقتصادية

لدول الغرب الأفريقي، وأخرى في الجابون بالتعاون مع الجماعة الاقتصادية لدول

الوسط الأفريقي.

* دوائر حركة السياسة الفرنسية في أفريقيا:

تسعى فرنسا في استراتيجيتها الجديدة في القارة إلى توسيع شبكة علاقاتها

بحيث تتخطى مناطق نفوذها التقليدية إلى دول أفريقية جديدة كانت تابعة للنفوذ

البريطاني والبرتغالي والبلجيكي. وبصفة عامة فإن فرنسا تهتم بوجودها في نفس

مناطق الاهتمام الأمريكي؛ ولذلك تحتدم المنافسة بين البلدين في مناطق البحيرات

العظمى والقرن الأفريقي والغرب الأفريقي.

ففي منطقة البحيرات العظمى ساندت فرنسا نظام الرئيس موبوتو سيسي سيكو

في زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) في مواجهة كابيلا الذي دعمته الولايات

المتحدة. وكان انهيار نظام موبوتو دافعاً لظهور العديد من الاتجاهات التي أكدت

قرب نهاية النفوذ الفرنسي في أفريقيا، وتدخلت عسكرياً في رواندا عقب المذابح

الإثنية عام 1994م لصالح حكومة الهوتو.

وفي السودان نشأت المنافسة الفرنسية للولايات المتحدة الأمريكية من خلال

مساندة فرنسا لنظام البشير في السودان، والذي كان العدو الأول للولايات المتحدة

في المنطقة. وقد ساندت فرنسا النظام الإسلامي في السودان لعدة أسباب أهمها

الرغبة في إيجاد مرتكز لها في منطقة البحيرات العظمى بعد أن تراجع نفوذها في

هذه المنطقة، واستخدام فرنسا لحكومة الإنقاذ - خاصة في فترة وجود حسن

الترابي في الحكم في الوساطة بين الجماعات الإسلامية في الجزائر وفرنسا التي

كانت تسبب لفرنسا الكثير من المشكلات الأمنية والاجتماعية في الداخل بالإضافة

إلى تدفق البترول في بحر الغزال واحتمالات وجوده في الشمال أيضاً.

وقد استطاعت فرنسا بمساندتها لحكومة الإنقاذ أن تؤجل نسبياً تطبيق الخطة

الأمريكية؛ إلا أن الوجود الأمريكي في السودان في الفترة الماضية أصبح مكثفاً مع

تراجع الدور الفرنسي الذي اقتصر في تصريحات دبلوماسية بشجب الحرب وتأييد

مبادرة الإيغاد.

وفي منطقة القرن الأفريقي تتنافس فرنسا مع الولايات المتحدة من خلال

نفوذها في جيبوتي، وهي أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في أفريقيا، بالإضافة إلى

العلاقات الطيبة التي تربطها بنظام أسياسي أفورقي في إريتريا؛ حيث تدعمها

فرنسا باستثمارات ومساعدات فنية ومالية. كما كان لها موقف إيجابي مع جبهة

التحرير الإريترية منذ عام 1982م. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن فرنسا

عضو في نادي أصدقاء الإيغاد.

وفي منطقة الغرب الأفريقي يوجد احتكار فرنسي للأسواق في دول غرب

أفريقيا الفرانكفونية تحاول الولايات المتحدة منافسته. كما يوجد تنافس أمريكي

فرنسي في منطقة الجنوب الأفريقي. وعندما تحفظت جنوب أفريقيا على مبدأ

«التبادل التجاري وليس المعونات» الذي أيدته الولايات المتحدة استغلت فرنسا

هذا الموقف ولوحت باستعدادها لتقديم برامج للتعاون الفرنسي الأفريقي تعتمد في

جانب منها على المساعدات الاقتصادية والمالية.

* الخاتمة:

يتضح من العرض السابق أنه مع منتصف التسعينيات ساد التنافس على القارة

الأفريقية بين الأقطاب المتعددة للنظام الاقتصادي الدولي نتيجة تزايد فرص استغلال

القارة استثمارياً وتجارياً. ورغم احتدام التنافس بين الولايات المتحدة والقوى

الأوروبية (خاصة فرنسا) على الساحة الأفريقية كما اتضح من خلال سياستهما

وردود أفعالهما تجاه أحداث القارة، فإن هناك من المحللين السياسيين من يتحفظ

على هذا التنافس بعدة اعتبارات منها أن القوى الأوروبية والولايات المتحدة حلفاء،

ولن يتصارع بعضهم مع بعض بشأن طموحات كل منهما على الساحة الأفريقية،

كما يشير البعض إلى إحياء النمط القديم في السياسة الأمريكية الذي يؤكد على أن

تكون للولايات المتحدة سياستها الخاصة في أفريقيا، ولكن في إطار التنسيق

والتعاون مع القوى الأوروبية ذات الميراث الاستعماري والخبرة الطويلة.

ولكن التنافس الدولي لا يقتصر على القوى الأوروبية والأمريكية فقط؛ فهناك

قوى جديدة صاعدة في أفريقيا من أهمها اليابان والصين. وقد تطورت سياسات تلك

الدول تماشياً مع الأوضاع الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة. فاليابان انحصر

دورها في البداية على تقديم المساعدات إلا أنها مع أواخر الثمانينيات أعلنت سياسة

جديدة تقوم على محاور ثلاثة: المساعدات، والتبادل الثقافي، وحفظ السلام.

وعملت اليابان على دعم التنمية في القارة الأفريقية وإثارة انتباه المجتمع الدولي

تجاه أفريقيا بعد الاتجاه إلى تهميشها؛ وذلك بدعوتها لعقد مؤتمر طوكيو الدولي

الأول لتنمية أفريقيا - المعروف باسم تيكاد - عام 1993م ثم عقد المؤتمر الثاني

عام 1998م. وبصفة عامة تركز اليابان في علاقتها مع أفريقيا على الجانب

الاقتصادي مستخدمة في ذلك عدة أدوات أهمها المساعدات والاستثمارات والعلاقات

التجارية. وتعد اليابان الدولة الأولى المانحة للمساعدات في أفريقيا منذ بداية

التسعينيات.

أما بالنسبة للصين فقد تحول اهتمامها بالقارة من دعم حركات التحرير في

أفريقيا في الخمسينيات إلى تبني سياسة ترتكز على المصالح العامة والاستراتيجية

بعيدة المدى لكلا الطرفين. كما تطورت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين من

الاعتماد على قناة واحدة في صورة مساعدات صينية حكومية إلى تعاون متبادل في

صورة مشروعات مشتركة، وقروض بفائدة منخفضة بالإضافة إلى تطور العلاقات

في مجالات الثقافة والتعليم.

ويعد هذا التنافس الذي تعددت أقطابه دليلاً على عودة الاهتمام بالقارة

الأفريقية؛ وهو ما تجسد في الفترة الأخيرة في دعم الدول الصناعية الكبرى

لمشروع الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا (المعروف باسم نيباد) ولكن لا يزال

السؤال مطروحاً: هل مشروع التنمية الجديد يعبر بالفعل عن شراكة جديدة، أم أنه

مجرد مؤشر جديد على التنافس الدولي في أفريقيا، ومحاولة لفرض النموذج

الغربي للتنمية على الدول الأفريقية؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015