مجله البيان (صفحة 4487)

تحضير عملية تغيير الهوية بعد التفكيك السياسي في الصومال

المسلمون والعالم

تحضير عملية تغيير الهوية

بعد التفكيك السياسي في الصومال

إبراهيم عبد الله محمد [*]

تكاثرت التصريحات الأمريكية حول اتهام الصومال باحتضان أعضاء من

القاعدة وإيوائهم؛ حتى ملأت دنيا القرن الإفريقي صخباً إعلامياً متواصلاً، وخاصة

أنها تصدر من مختلف المسؤولين في الإدارات السياسية والإعلامية والعسكرية

الأمريكية، وكأن الصومال شارك عملياً ومباشرة في الزلزال الذي هز مدينتي

واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وذلك في سياق نبش

كل الملفات التاريخية ذات العلاقة بالاشتباكات الدامية التي جرت بين القوات

الأمريكية وسكان (مقديشو) بقيادة الجنرال (محمد فارح عيديد) عام 1993م،

وقراءة المعلومات والمعطيات الميدانية ذات التوثيق المشبوه والمزعوم من قِبَل ما

يسمى (بالمعارضة الصومالية) .

ويرى المراقبون في الصومال أن التصعيد الأميركي ضد الصومال بحجة

محاربة الإرهاب؛ يرمي إلى تحقيق أهداف أهمها إرادة الانتقام لجنودها الذين

سقطوا في مقديشو، والاطلاع على حجم التيار الأصولي في الصومال، ومن ثم

فقد رتبت الحكومة الصومالية بمهارة أفكارها وأوراقها في ثلاثة مسارات متناسقة

ومتكاملة ذات دلالات مفحمة:

أولاً: بدأت باستضافة الوفد الأمريكي الذي كان من بين أعضائه المسؤول

عن الملف الصومالي في السفارة الأمريكية في (نيروبي) .

ثانياً: إتاحة الفرصة للأسطول الأمريكي لمتابعة ومراقبة حركة السفن الداخلة

والخارجة في المياه الإقليمية والموانئ الصومالية، كتأكيد واضح بأن الصومال يقف

في صدارة القوى الدولية التي شجبت واستنكرت الهجمات في نيويورك وواشنطن،

وباعتبار الصومال البلد الإفريقي الأول الذي يواجه منذ 10 سنوات أعمال إرهاب

أمنية، وإفقار اقتصادي، وانقسام سياسي داخلياً وإقليمياً.

ثم ثالثاً: إفهام الأمريكيين - انطباعاً لا تلقيناً - أن الأصولية الإسلامية التي

يتردد ذكرها في إعلام ما يسمى (المعارضة الصومالية) - والمدفوعة من

الخارج - في سبيل التشهير والتسويق لفكرة وجود قواعد إرهابية في

(مقديشو، وبوصاصو) ؛ إنما هي جزء من الإرث الوطني والأصالة الصومالية

التي لها عمقها التاريخي في الآباء والأجداد، وسيبقى لها جذورها في الأبناء والأحفاد

كباقي الأصوليات في الأديان المختلفة؛ بما فيها النصرانية واليهودية والهندوسية

والبوذية؛ إذ لم يعد مقبولاً ولا مسلَّماً في العالمين العربي والإسلامي تحميل نعوت

التطرف والإرهاب على الأصولية الإسلامية فقط وتبرئة ساحات بقية الأصوليات

الأخرى؛ إضافة إلى أن نتائج الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية والفكرية

والعسكرية، والتي تهدف إلى تهميش دور العالم الثالث وتطويق حضور كفاياته في

الأصعدة المذكورة؛ تعادل وتماثل أضرار التطرف والإرهاب من حيث إلغاء حقوق

هذا العالم النامي وكرامته وسيادته.

وفي إطار جهود الحكومة الانتقالية الصومالية لإقناع الحكومة الأمريكية

بالصدق في خلو الصومال من رجال القاعدة؛ أصبح الصومال حريصاً على رؤية

دور أمريكي إيجابي في المنطقة ينضم إلى دور الدول المعترفة بالحكومة الانتقالية،

ويقيم معها علاقات الصداقة والتعاون، ويفسح المجال أمام عودة سفراء الدول التي

كانت لها علاقات دبلوماسية مع الصومال قبل الانهيار، وذلك في سبيل عودة جميع

أقاليم الصومال إلى الالتئام تحت الحكومة الانتقالية اجتثاثاً لجذور البؤس والانشقاق،

وإنهاءً لدواعي العنف والحروب والتشرذم السياسي باسم المعارضة التي تمارس

لعبة (الإرهاب والغزاة) ؛ من حيث إرعاب الصوماليين في أمنهم وسيادتهم وإثارة

القلاقل في الحدود الإقليمية، ولكن على الرغم من هذه الجهود يظل الموقف

الأمريكي يرفع وتيرة التصعيد والتهديد؛ تتجاذبه المخاوف والشكوك والتردد بين

القراءة الإثيوبية للوضع الصومالي، والتي ترسم واقعاً إسلامياً مخيفاً ذا علاقة

بالإرهاب المزعوم، وبين الصورة الحقيقية لهذه القوة التي لا تزيد عن كونها وجود

هوية وثقافة وعقيدة وتاريخ، وليس وجوداً حزبياً ولا ثورياً ولا سياسياً؛ عقب أن

تخلى الاتحاد عن حمل السلاح منذ منتصف التسعينيات؛ لتأكيد اتجاهه نحو

الإصلاح الاجتماعي، والمساهمة في حل مشكلات الإنسان الصومالي، وابتعاده

عن مظان الاتهام بالتطرف.

وقد اعترف المسؤول الأمريكي عن شؤون القارة الإفريقية في تصريح له في

7/2/2002م بوجود هذا الاتجاه الإصلاحي، وأن شباب الاتحاد الإسلامي في

الصومال انتشر انتشاراً اجتماعياً مهنياً وثقافياً، ولكنه على الرغم من ذلك رأى في

مجرد وجود هذه القوة الوطنية الإسلامية في الصومال واتجاهها الجديد تفريخاً

للعناصر التي سماها بالإرهابية وتهديداً لأمريكا، ومن ثم دعا إلى القضاء عليها؛

مما لم يدع مجالاً للشك في أن الولايات المتحدة تتبنى الغزو الإثيوبي للصومال،

وتتحين الفرص لإعلان الحرب الدينية على العرب والمسلمين؛ لا لأنها تخاف من

أفراد إسلاميين فقراء يعيشون في مجاهل قرى الصومال، ولا مقدرة لهم على

تغطية هموهم الاجتماعية والزراعية والصحية، وإصلاح شؤونهم التعليمية

والاقتصادية والأمنية؛ بل لأنها تؤمن بأن تنحية الإسلام بوصفه عقيدة وهوية

وطاقة قادرة على التحدي عن مراكز القيادة والريادة للحضارة العالمية؛ يزيد من

تعزيز وتثبيت مشروعها لجعل القرن الحالي مادياً وفكرياً وسياسياً قرناً أمريكياً

بدون منازع استراتيجياً وعالمياً، ولأنها تريد تصفية النهضة العربية في الصومال

بوصفها انتماء وثقافة ونضالاً مرحلياً وإقليمياً.

من هنا نرى أن تصريحات المسؤول الأمريكي عن شؤون القارة الإفريقية

جاءت خالية من أي مشاعر إنسانية أو حضارية تتعاطف مع الوضع الصومالي،

وتتضامن مع الجهد الدولي الساعي إلى إكمال عملية المصالحة في الصومال؛

لتكريس قيم العدل والحياد والوساطة والتسوية بين الصومال وإثيوبيا للقضاء على

بواعث الإرهاب؛ مما يعطي انطباعاً بأن الموقف الإثيوبي المتراجع عن معطيات

الاعتراف والمساندة للمصالحة الصومالية التي تجسدت بحضور رئيس وزراء

إثيوبيا حفل اختتام المصالحة في جيبوتي عام 2000م، والمتحول إلى انتهاز أي

مسلك سياسي وعسكري ودبلوماسي وإعلامي يؤدي إلى احتواء نتائج مؤتمر

جيبوتي؛ هو موقف يستند إلى الموقف الأمريكي السلبي نحو الاعتراف بالحكومة

الصومالية، ويستأنس بهذا الموقف كغطاء سياسي واقتصادي أمريكي قائم تحت

شعار مواجهة الإرهاب؛ الأمر الذي بات يرفع معنويات النظام الإثيوبي، ويزيد من

عزمه عندما يسمع أو يطلع على تصريحات ذلك المسؤول الداعي إلى حماية

دول جوار الصومال من الإرهاب الإسلامي؛ مع أن (لغة الحماية) التي تطرب

وتسعد إثيوبيا تظل منطقاً معكوساً ومغرقاً في الإيعاز والإيحاء بتنشيط النفوذ

الإثيوبي في الشأن الصومالي؛ لأن الطرف المحتاج للحماية والحصانة حقيقة من

الاعتداء والإرهاب هو الطرف الصومالي لا الإثيوبي!

قلق إثيوبي من الدور الكيني في المصالحة الصومالية:

بعد أن نجحت الجمهورية الصومالية في إعادة تعزيز علاقاتها مع الجمهورية

الكينية استثماراً لمكانة الرئيس (أرب موي) السياسية والتاريخية إفريقياً وإقليمياً،

وبمعطيات مناخ الأداء الديمقراطي نسبياً للسياسة الكينية المعارِضَة للتعاطي

الإثيوبي في الشأن الصومالي، وبوجود شخصيات سياسية بارزة من أصول

صومالية في مواقع مؤثرة في الرياسة والخارجية الكينيتين، وعقب قرار القمة

(لمنظمة الإيجات) التي انعقدت في 1/2002م في الخرطوم، والقاضي بتكليف

كينيا تولي إدارة ملف المصالحة الصومالية، وإثر الاعتراض الانعزالي الإثيوبي

على اتفاق بقية أعضاء المنظمة على الاقتراح الإريتري لجعل اللغة العربية لغة

رسمية للمنظمة بجانب الإنجليزية والفرنسية، بالإضافة إلى الانقسامات الجارية في

صفوف ما يسمى بـ (المعارضة الصومالية) في أديس أبابا؛ استمع العالم إلى

دعوة رئيس وزراء إثيوبيا للولايات المتحدة بأن تعتبر إثيوبيا شريكاً رئيسياً لها في

مكافحة الإرهاب، معلناً بأن القرن الإفريقي لن يشهد الاستقرار ما لم تتخذ أمريكا

سياسة عملية تجاه الإرهاب، وأن إثيوبيا لن تنعم بالسلام ما دام الصومال يشهد

الفوضى المستمرة، ولكنه لم يمتلك مقومات الصراحة والشجاعة لكي يعترف بأن

مصدر المشكلات الأمنية والسياسية في الصومال هو من أديس أبابا.

وقد فهم المراقبون في الصومال أن خطاب رئيس وزراء إثيوبيا أمام برلمان

بلاده كان تعبيراً عن القلق والانزعاج من ابتعاد ملف المصالحة الصومالية عن

السيطرة الإثيوبية وانتقاله إلى جيبوتي ثم إلى كينيا، وإخفاق ما يسمى بالمعارضة

الصومالية المسلحة التي تشكلت في إثيوبيا في مارس عام 2001م في إيقاف تمدد

نفوذ الحكومة الصومالية وتناميها داخلياً وخارجياً؛ لذا كان من الطبيعي - حسب

قراءتنا لذهنية القادة الإثيوبيين - أن يتم تحويل نزاعاتهم مع الصوماليين والبحث

عن حلٍّ لها إلى حلفائهم في الخارج، وهنا أراد رئيس وزراء إثيوبيا أن يبالغ في

تضخيم وسيلة الاستقطاب لعطف الولايات المتحدة فأسرع في اغتنام الفرصة وحوَّل

أزماته التي يفتعلها مع الصومال إلى موجة محاربة الإرهاب، وهو النهج نفسه

الذي تمارسه إسرائيل مع الشعب الفلسطيني المناضل، والمسلك نفسه الذي تسلكه

الطائرات الأمريكية والبريطانية ضد أمن العراق وسيادته؛ حيث إن الجانب الذي

يرتكب جرائم الاعتداء والإرهاب هو الذي يشكو ويتظلم؛ لأنه حريص على تنفيذ

استراتيجيته لإخضاع العرب في ظل غياب طموحات مماثلة لها من العالم العربي

تستجيب لهذه التحديات.

في المقابلة التي أجرتها الإذاعة البريطانية (القسم الصومالي) مع رئيس

الوزراء (حسن أبشر) أدان منطق إثيوبيا العدواني؛ مؤكداً أن النظام الإثيوبي

مُصِرٌّ على تنفيذ سياسة القضاء على الدولة الصومالية كلياً، وحينما سأله المذيع عن

كيفية القضاء على الدولة؟ أجاب السيد حسن أبشر بأن النظام الإثيوبي منهمك جداً

في عملية التفكيك الجغرافي والسياسي للصومال باستعمال القوة العسكرية، وعن

طريق ترويج أسماء الكنتونات الإقليمية مثل (صومال لاند، وبونت لاند، وباي

لاند، وجود لاند) التي صنعتها، وتوسيع هذه العملية لتشمل بقية الجغرافية

الصومالية، ولم ينس السيد حسن أبشر أن يذكِّر الزعامة الإثيوبية المعروف والدعم

الذي قدمه الصومال للمناضل الإثيوبي، وأشار رئيس وزراء الصومال إلى أن

الورقة الإثيوبية المقدمة إلى مؤتمر المصالحة الصومالية في نيروبي تدعو إلى

تجاوز رئاسة الرئيس عبد القاسم صلاد؛ إمعاناً في الرغبة في إعادة الأوضاع إلى

ما كانت عليه قبل انعقاد مؤتمر جيبوتي.

والمحللون الصوماليون الذين لم تستوقفهم كثيراً تصريحات (حسين عيديد)

للقسم الصومالي في الإذاعة البريطانية في الأيام نفسها، والتي يقترح فيها ضم 6

ملايين صومالي يعيشون في (الأوجادين) وفي منطقة (انفدي) في كينيا لقيام

الصومال الكبرى؛ ما ترددوا في فهم مغزى تصريحات (حسين عيديد) في أنه

ينفذ مخططاً إثيوبياً؛ وخاصة عندما تطوع (حسين عيديد) نفسه وادعى أن

تصريحاته جاءت في إطار قيام اتحاد فيدرالي موسع لجميع دول القرن الإفريقي

وشعوبه يلغي عروبة الصومال، حسب أقواله المنشورة في مجلة (المجلة) بتاريخ

3/3/2002م.

وهذا مؤشر إضافي يوضح مدى الاختراق السياسي والأخلاقي الذي سجله

النظام الإثيوبي في الفكر السياسي لدعاة المعارضة؛ لكي يسهموا في دعم مؤامرة

إلغاء عقيدة الصومال وعروبته؛ لقاء وعود كاذبة يعدهم بها النظام الإثيوبي

لإيصالهم إلى كرسي الرئاسة.

وحينما يوظف النظام الإثيوبي طاقاته العسكرية والسياسية والإعلامية في

سبيل تسريع عملية التفكيك السياسي والجغرافي في الصومال؛ فإنه لا يهدف إلى

مواجهة خطر إرهابي قادم من الصومال يهدد الأمن الداخلي الإثيوبي، وإنما يهدف

إلى بعد استراتيجي أبعد مدى وأوثق ارتباطاً بقضية الصراع الحضاري المصيرية،

وأقوى مداعبة في عقول ضباطه؛ إذ يتذكر الصوماليون تصريحات الكولونيل

(تسفاي) الموجود في مدينة (بيداوا) ، والذي عبر عن نيات إثيوبيا الدفينة حينما

شدد في تصريحه في 4/2001م على أن النظام الإثيوبي لن يسمح بقيام دولة عربية

إسلامية في الصومال.

وفي الحديث الصحفي الذي أدلى به رئيس إثيوبيا (زيناوي) لوكالة رويتر

في 19/2/2002م أشار إلى وجود أدلة عنده تثبت علاقة الحكومة الصومالية بـ

«الاتحاد الإسلامي» ، كما أن من بين ثلاثة خبراء شكَّلهم مجلس الشيوخ الأمريكي

لدراسة الوضع الصومالي، وتقديم المقترحات والآراء حول كيفية التعامل مع هذا

الوضع - لم يتبن وجهة النظر الإثيوبية إلا السفير السابق لأمريكا في أديس أبابا

(ديفيد شين) اليهودي الأصل، والذي ذكر في مقترحاته أن «الاتحاد الإسلامي

الصومالي» يسعى إلى تحقيق هدفين هما: إقامة دولة إسلامية في الصومال،

وتحرير أوجادين من إثيوبيا، والملاحظ أنه لم يأت بجديد؛ لأن كلا الأمرين لا

يزالان مطلبين قوميين تاريخيين لعموم الصوماليين وليسا بفكر سياسي خاص بفئة

صومالية معينة، كما أن رجال الدين في كل من إثيوبيا وأمريكا يعملون لتقوية

أنظمتهم السياسية الوطنية مع توحيد كلمة الدولة النصرانية؛ لمواجهة التحديات التي

من شأنها أن تهدد رسالة الكنائس العالمية!

وعلى صعيد آخر؛ فإن النظام الإثيوبي يريد أن يتجاهل أن جذور الأزمة

الصومالية الإثيوبية تنبع من الغزو الصليبي، والذي توسع على حساب الوطن

الصومالي في نهاية القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين لإقامة الدولة

المسيحية الكبرى في القرن الإفريقي؛ وذلك بمؤازرة الدول النصرانية الاستعمارية

ومساعدتها في ذلك الزمن، مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وبناءً عليه فلا يمكن

أن يعتبر تاريخ «الاتحاد الإسلامي الوطني الصومالي» الذي يعمل في خندق

الدفاع عن حقوقه الدينية والقومية السياسية قوة إرهابية بمجرد أنه يحمل عنواناً

إسلامياً، ويُبرَّأ في الوقت نفسه التاريخ والأعمال والأفكار الاستعمارية الإرهابية

التي خربت الديار الصومالية، ولا تزال تسعى إلى تفتيت الوحدة الصومالية.

ثم أين الإثم والانحراف إذا أقامت الحكومة الصومالية علاقات مع قوة إسلامية

وطنية صومالية، في حين تعتز الزعامة الإثيوبية بعقيدتها النصرانية وترفض في

طول تاريخها ظهور صورة مسجد في قنواتها التلفزيوينة تأكيداً لدور الكنيسة،

وتعتبر الزعامة الإثيوبية أيضاً تراب مدينة (أكسيوم) أرضاً مقدسة لا يدخلها

المسلم حسب المعلومات الشائعة المتوفرة لدى القوميات الإثيوبية؟! وهل هناك

إرهاب وإهانة وإذلال أقوى وأخطر من حرمان القوميات الإسلامية من الحياة

الكريمة، وتركهم يواجهون المجاعات المزمنة المهلكة نتيجة غياب وسائل التطور

العلمي والزراعي والصحي عن أقاليمهم؟!

إن كثرة الصراخ الإعلامي، وكلمات الخداع الإثيوبية للرأي العام العالمي

التي تعطي صورة مفزعة لقوة وجود التيار الأصولي في الصومال تعكس حقيقة

واحدة؛ هي أن النظام الإثيوبي اكتشف أن التحدي الإسلامي والوطني في كل من

(بوصاصو، ومقديشو) والجنوب لن يسمح لهذا النظام بتنفيذ استراتيجيته الرامية

إلى تغيير هوية الصومال، وتحويله إلى محمية تابعة له لا هوية لها ولا عقيدة ولا

عروبة ولا حضارة ولا كرامة.

إن الفاصل في المعادلة بين إثيوبيا الهادفة إلى تأمين أطراف خريطة

الإمبراطورية، وبين الصومال الباحث عن تعزيز سيادته وتكملة أجزاء أقاليمه؛

هو الحياد الإيجابي لموقف أمريكي متوازن في علاقاته مع مقديشو وأديس أبابا يتفهم

وضع المجتمع الصومالي، ويدعم الجهود العربية الإفريقية لإنقاذ هذا المجتمع

وانتشاله من مخلفات ركام الحروب الأهلية، كما تفعله الولايات المتحدة مع إثيوبيا

التي تحصل على المنح المالية والهبات والمعونات الاقتصادية، والدعم العسكري

والسياسي والإعلامي؛ حتى يطمئن الصوماليون ويتأكدوا من عدم وجود انحياز

أمريكي لإثيوبيا من منطلق ديني متعصب بناءً على ادعائها بأنها - أي أمريكا -

تؤمن بالديمقراطية؛ وتحترم الشرعية الدولية، وتطبق النزاهة في نظام علاقاتها

الدبلوماسية والسياسية مع العالم.

وفي هذا السياق؛ فإن ما ورد في آراء ومقترحات الخبيرين (روبرت

ماكفرسون، والدكتور كين مانج هوس) في 20/2/2002م في شهادتهما للحكومة

الأمريكية بأن الصومال ليس كأفغانستان، وليس فيه مخدرات، وبأن المطلوب هو

إقناع الناس في الصومال برعاية مصالحهم، ومساعدة الوسائل الإعلامية، وتنشيط

الحياة التجارية، والتعامل مع تجار الحيوانات لتوسيع تجارتهم، وأنه تنبغي

ملاحظة أن هناك صراعاً عربياً إثيوبياً على الصومال - حسب شهادتهما -؛

بمعنى أن إثيوبيا تسعى إلى إبعاد العرب عن الصومال؛ ما ورد في شهادة هذين

الخبيرين حول التعامل مع الصومال كان اتجاهاً إيجابياً يتناقض تماماً مع دعوات

إثيوبيا ومن يؤيدها من الأمريكيين لضرب الصومال، والتي ينطلق فيها الإثيوبيون

من اعتقادهم أن النكسات السياسية التي هددت مقومات الإنسان الصومالي منذ الحكم

الماركسي، وما تلاها من حروب أهلية ومجاعات مدمرة ومواجهات مع القوات

الأمريكية عام 1993م؛ لم تؤد إلى تفريغ الإنسان الصومالي من مضمونه الإسلامي،

ولا تقليص ثوابته التاريخية في وجدانه؛ الأمر الذي بات يشكل مصدر إحباط

وإزعاج للنظام الإثيوبي؛ حسب تصريحات لكل من رئيس وزراء إثيوبيا،

وعبد المجيد حسين لوكالة الأنباء (رويتر) في نهاية فبراير 2002م.

والإصرار الإثيوبي على استعداء أمريكا على الصومال لتغيير هويته يوحي

بأن الزعامة الإثيوبية بحاجة إلى من يذكرها ويحاسبها لتراجع محطات صراعها مع

الصوماليين، ولتعلم أن الإثيوبيين هم الذين أرهبوا الصوماليين وعملوا على تجزئة

الخريطة الصومالية وتقسيم سكان الصومال.

إن قراءتنا للمنظور الاستراتيجي الإثيوبي الموجه إلى الصومال والسودان

وجيبوتي تعطينا انطباعاً بأن النظام الإثيوبي يرى أن المسافة الفاصلة بينه وبين

تحوُّله إلى قوة إقليمية تخيف البلدان العربية المذكورة، ولا تهاب من مصر ولا من

ليبيا؛ أخذت في التقلص والانكماش ما دامت دول (منظمة الإيجات) قد اعتمدت

على مشروعية تقرير مصير الجنوب؛ ليفسح له المجال أمام الانفصال سلماً أو

عنوة لطي البعد الجغرافي الإفريقي للخريطة السوادنية، مع اقتناص كل فرصة

لإضعاف الصومال وإثارة كل ذريعة لإخراجه من هويته العربية الإسلامية؛ مما

يجعل الهم الأول للصوماليين اليوم هو إسقاط الاستراتيجية الإثيوبية والصمود للدفاع

عن هويته العربية الإسلامية؛ إذ إن انبعاث النهضة العربية الإسلامية وانتشار

معطياتها بين الشباب يظل أمضى الأسلحة الطبيعية القادرة على كسر الهجمة

الإثيوبية الظالمة ضد الصومال، فليس هناك إرهاب أخطر من إرهاب احتلال

الأرض الصومالية، واستباحة السيادة الوطنية، واستهداف الهوية الحضارية.

وما نسمعه من صرخات تحذير وتخويف إثيوبية لأمريكا من بروز أصولية

صومالية في القرن الإفريقي؛ هي أساليب تبين أن النظام الإثيوبي الذي اعتاد القدح

في كفاية الحكومة الانتقالية الصومالية، والتقليل من أهمية سلطتها في مقديشو؛

تنتابه نوبات من القلق وتساوره نظرات التشاؤم إزاء تصاعد نضال قوميتي

(الأوجادين، والأرومو) اللتين يتحرك أفرادهما بكل حرية وتحد في مساحات

واسعة في كل من الريف والطرق والقرى، في الوقت نفسه الذي تتنامى فيه

معارضة شعب «العفار» العربي المسلم للنظام الإثيوبي رغم اختفاء (سلطان علي

مرح) في أحضان النظام؛ مما يؤكد أن نظام الأقلية «التجراوية» الذي يحكم

القوميات الإثيوبية بقوة السلاح سيواجه في المستقبل غير البعيد تحدياً عسكرياً قوياً

من هذه الشعوب الثلاثة التي تحمل لواء التحرير والتعريب في القرن الإفريقي؛

لتصبح بحق القوة المرشحة لتقرير مصير القرن الإفريقي [1] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015