المسلمون والعالم
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
مخطئٌ من يظن أن المسلمين الصادقين أصبحوا لقمة سائغة في أيدي أعدائهم..
ومغرورٌ من يمني نفسه بسهولة المعركة الطويلة معهم.. وواهمٌ أو مغفلٌ من
يعتقد أن تلك المعركة ستنتهي بإنهائهم، أو احتوائهم، أو إلجائهم إلى التخلي عن
رسالتهم الموكولة من الله إليهم بأن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ويملؤوا
الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً.
فهؤلاء المسلمون رغم استضعافهم أداة إلهية قدرية؛ سيُجري الله تعالى بها
سننه، ويحقق بها وعده بانتشار نوره وانتصار دينه، وانكسار أعدائه، [هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ]
(التوبة: 33) .
صحيحٌ أن المسلمين الآن ضعفاء في تفرقهم، مشتتون بجراحهم، ضائعون
بفقدان القيادة العالمية الواحدة الراشدة، وصحيحٌ أن ظلالاً من الذل لا تزال تخيِّم
على رؤوس الأمة، بعد طول مخاصمة لمعقد العز والتمكين المتمثل في ذروة سنام
الدين.. ولكن هذه كلها أعراض لأمراض سرعان ما تزول بزوال أسبابها.. والأيام
تثبت هذا، فلا تزال العودة إلى الله تعود بالمسلمين رويداً رويداً إلى آفاق رحبة من
رحمة الله، فنرى ونسمع عن مستجدات ما كان أحد يحلم بها قبل بضع سنوات؛
حيث أصبح الإسلام وأهل الإسلام عصب المادة الإخبارية التي تجذب اهتمام العالم،
وتثير خوف المجرمين، وتستلفت انتباه التائهين الضالين، والذين ربما يقبل
الكثير منهم على السؤال عن هذا الدين، ومنهاجه، وجوهر دعوته. وفي هذا ما
فيه من بلاغ لكلمة الله للعالمين، والتي ما كان أحد يستطيع جلب انتباه العالم لها
بمثل هذه القوة وهذا التركيز؛ لولا مكر الكفار الذي ينقلب عليهم، [وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (الأنفال: 30) ، فالكفار مكروا بالمسلمين في
فلسطين، ويمكرون بهم في أفغانستان، والشيشان، وفي كشمير، والعراق،
والسودان، وهم يواصلون المكر الآن في قائمة إضافية تضم ستين دولة، كما قال
(كبير الأوباش) قبل عام.
فماذا أثمرت حملات أعداء المسلمين إلى الآن؟ وما هي ملامح المرحلة
الجديدة من الحرب المفتوحة على الإسلام باسم الحرب على الإرهاب؟ .. لنتجول
مع تلك المشاهد لنرى: كيف يسوق الله تعالى لنا البشريات بقبول دعوات
الصالحين بنصرة إخوانهم المستضعفين وتحويل استضعافهم إلى قوة؛ حتى يصبح
الأمر كما قال سبحانه: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ] (القصص: 5-6) ، وتلك
المنة لا نشك بأنها ستُكلل بانتشار عام لكلمة الإسلام كما أخبر سيد الأولين والآخرين
صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها،
وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها» [1] .
* فلسطين: عطاء بلا غطاء
بالرغم من المعاناة والشدة والتضييق الذي عانى ويعاني منه الشعب الفلسطيني
بعد اندلاع الانتفاضة الثانية؛ فإن ما يعانيه الطرف اليهودي في المقابل يتزايد مع
الأيام، وهذه سنة الله مع الصادقين إذا انحازوا إلى طريق الجهاد بوصفه حلاً أخيراً،
بل وحيداً لكسر شوكة العناد لدى الأعداء، [إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] (النساء: 104) ،
وبرغم ما يعيشه المجاهدون الفلسطينيون من حصار وأذىً متعدد الأشكال؛ فإنهم
يبرهنون كل يوم أن في مقدور الفئة القليلة أن تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله،
واليهود اليوم هم الفئة الكثيرة بما معها من كثرة السلاح، وحملة السلاح، ونوعية
السلاح المتفوق في البر والبحر والجو، ومع هذا؛ يشاء الله تعالى أن يجري على
أيدي الفئة القليلة المستضعفة العزلاء من الفلسطينيين ألواناً من الإذلال والرعب
والإهلاك لليهود، يتضاعف على جميع ما قدمته الأنظمة «الثورية» والحركات
«النضالية» ، وما أنجزته الحكومات بحروبها ومشاريعها السلمية الرسمية وغير
الرسمية، يعبر عن هذا الكاتب الأمريكي اليهودي الشهير: «توماس فريدمان»
بقوله: «لقد أدت العمليات والتفجيرات التي قام بها الفلسطينيون خلال شهرين إلى
قلب البلد رأساً على عقب، وأفقدت (إسرائيل) أكثر مما فقدته مع أي جيش عربي
خلال السنوات الخمسين الأخيرة، وأصبحت (إسرائيل) اليوم مستعدة أكثر من أي
وقت مضى للبحث بجدية في موضوع الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي
احتلتها عام 1967م» .
ما الذي جعل ذلك اليهودي يصرح بهذه الحقيقة؟ .. إنه في ذلك لا يعبر إلا
عن واقع ملموس محسوس، بل ومُحصىً في قوائم أصبحت مذاعة؛ فإجمالي عدد
العمليات التي قام بها المجاهدون في فلسطين من الفصائل كافة بلغ (317) عملية،
يعلم الجميع أن كل عملية منها تبث الذعر في قلوب ملايين اليهود في العالم لا في
داخل فلسطين فقط، فإذا أسفرت عملية منها عن قتلى، ورأى اليهود منظر الدماء
على الشاشات في النشرات؛ فإن هذا يُطَيِّر النوم من عيون أحرص الناس على
حياة.
العدد المذكور من العمليات أسفر عن مصرع (437) يهودياً، كان كل واحد
منهم يُشَيَّع إلى لعنة الله في الخفاء، دون هتافات أو مظاهرات كتلك التي يُشَيِّع بها
الفلسطينيون شهداءهم، والسبب في ذلك: خوف اليهود من المزيد من القتلى، أما
عدد الجرحى من مجموع تلك العمليات فقد بلغ (2683) جريحاً، والجريح هنا قد
يكون بصيراً تحول إلى أعمى أو أعور، أو سليماً تحول إلى قعيد أو كسير أو
مريض، وكل واحد من هؤلاء يظل قابعاً داخل إطار في لوحة كئيبة رعيبة
يشاهدها أهله وأصدقاؤه ومعارفه كل يوم؛ مما يزيد من تمكن الرهبة في قلوب
اليهود، وصدق من قال: [لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ
يَفْقَهُونَ] (الحشر: 13) ، إن الميت قد يُنسى بعد حين، أما المصاب فإنه تذكار
لتجديد الوساوس والأفكار عند كل يهودي كي يولي الأدبار، أو يسعى للهجرة نجاة
بجلده.. (انج سعد فقد هلك سعيد) !
وما لا تذكره الإحصاءات من ضحايا العمليات الجهادية غير القتلى والجرحى
هو عدد من يسقطون صرعى الجنون، والأزمات النفسية المزمنة، والكوابيس
المخيفة، وأفلام الرعب في أحلام المنام واليقظة، وصدق الله: [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] (الأنفال:
12) ، فليس من سبيل لإلقاء هذا الرعب إلا بضرب الأعناق ونثر الأشلاء،
وليس من سبيل لإكراه العدو على كف شره إلا هذا الرعب، وهذا ما يقوم به أُسُود
فلسطين، ثبَّت الله أقدامهم!
إن هذا الرعب المبثوث هو أقوى ورقات التفاوض، وأنجح وسائل الضغط،
وأسرع رسائل المطالبة؛ فهو أدعى لقبول الخصم لمبدأ الجلوس للوصول إلى حلول
غير ظالمة. وقد جرب الفلسطينيون على المستوى الرسمي كل وسائل الملاطفة
والمجاملة والتذللات والتنازلات؛ فلم يُجْد ذلك ولن يُجْدي مع اليهود نفعاً، بل
سيزيدهم ذلك إصراراً على التهام ما تبقى من حقوق الفلسطينيين.
صحيح أنهم يزدادون شراسة في الانتقام لضحاياهم، ولكن ذلك لا بد أن يكون
له سقف ونهاية، فلا بد أن ينكسر اليهود في النهاية تحت وطأة هذا الحوار الساخن
الجاد الذي لا يستطيع اليهود أن يفهموا حواراً غيره.
كلما صرخ اليهود من وقع ضربات المجاهدين على أم رؤوسهم؛ انبرى
العلمانيون الفلسطينيون في التباكي على عملية السلام، والاعتراض على استمرار
الانتفاضة، أو الدعوة إلى عدم عسكرتها، بل إن منهم من لم يمنعه الحياء من أن
يطالب أطفال الانتفاضة بالكف عن رجم جنود اليهود بالحجارة!! تلك الحجارة التي
يلتقطها الصبية والشباب من أطلال البيوت المهدمة، والمنشآت المدمرة!!
يقول هؤلاء المطالبون: لا نريد أن نعطي لليهود ذريعة للاستمرار في
العدوان..! هؤلاء لم يفهموا بعد من هم اليهود ... أو يفهمون ولكنهم يتغابون؛
فمتى كف اليهود عن العدوان؟ وهل كانوا في حاجة إلى ذرائع عندما نفذوا سلسلة
المذابح التاريخية السابقة واللاحقة ضد الفلسطينيين العزل؟! هل كان في عام
1948م من يقذفونهم بالحجارة؟! وهل نشأت حرب 1967م بعد عمليات استشهادية
ضد مدنيين أو عسكريين إسرائيليين؟!
ما نستطيع أن نقوله: إن استمرار أعمال الجهاد هي السبيل الوحيد لإيقاف
اليهود وغيرهم عند حدهم، فهذا مفهوم السيرة والتاريخ، ومنطوق القرآن والسنة:
[فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] (النساء: 84) ، فَكَفُّ بأس الكفار في
فلسطين وغيرها مرهون بإقامة شرعة القتال التي فرطت فيها الأمة عقوداً طويلة.
أما (بدعة) التفريق بين المدنيين والعسكريين؛ فنحن لا نعرف في شرع الله إلا
محاربين ومسالمين، فليثبت المعترضون على قتل من يسمون بالمدنيين
الإسرائيليين أنهم مسالمون، ثم ليثبتوا بعد ذلك أن العسكريين منهم لم يستهدفوا
مدنيين مسلمين! فإذا كانت عساكرهم تستهدف مدنيينا فعلينا أن نعمل بقول الله
تعالى: [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ] (النحل: 126) ، وقوله:
[وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا] (الشورى: 40) ، وقوله: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] (البقرة: 194) .
بل إنني أريد التنبيه - من وجهة نظر شخصية - على (بدعة) أخرى،
وهي بدعة (التفريق بين يهود الداخل ويهود الخارج) ، وأقول «بدعة» على
اعتبار عصمة الدم، فاليهود في عصرنا كلهم محاربون إلا من أثبتت الدلائل أنهم
بخلاف ذلك، وعلى ذلك؛ فما لم تترتب مضرة راجحة من استهدافهم خارج
فلسطين، كما استهدفوا هم عشرات القيادات والرموز خارج فلسطين، إذا لم توجد
مضرة راجحة في ذلك فهم هدف مشروع، ومن هنا؛ فلا مُسَوِّغ للتبرؤ من
العمليات التي تستهدف المصالح اليهودية خارج فلسطين إذا كان من يقومون بها
يُعفون المجاهدين في الداخل من تبعة المسؤولية عنها. لقد رأينا مدى الرعب والقلق
والانزعاج لدى اليهود في (إسرائيل) عندما استُهدفت مصالحهم خارج فلسطين،
وعلى أيدي غير الفلسطينيين في عمليتي (مومباسا) ، فقد فرضت هاتان العمليتان
منذ لحظة تنفيذهما على كل أجهزة الأمن الإسرائيلي وعلى رأسها (الموساد)
تبعات أضخم وأعظم من إمكاناتها؛ لرصد الأنشطة المعادية لليهود في أطراف الدنيا
الأربعة ومتابعتها، وهم الذين اعتادوا أن ينفذوا عملياتهم في كل أنحاء العالم في
أمان؛ دون أن يجدوا حتى من يحاول التحقق من نسبة الجريمة لهم.
فلماذا يبيح العالم لليهود أن يحولوا الكرة الأرضية ساحة للنشاط الإجرامي لهم،
ويريد بعضنا أن يُحصر العمل ضد اليهود في قلعتهم المحصنة داخل فلسطين فقط،
بل إن هناك من يريد حصر القضية ضد اليهود على الفلسطينيين كما يفعل عرفات
عندما طالب غير الفلسطينيين بأن يكفوا عن (المزايدة) باسم فلسطين، وما علم
ذلك الـ (مخذول) بأن القضية الفلسطينية ما أضيرت من أحد بمثل ما أضيرت
من أمثاله؛ رغم أنه يمثل الرمز (الرسمي) للفلسطينيين!
عمليتا (مومباسا) اللتان نُفذتا ضد «فندق إسرائيلي» و «طائرة إسرائيلية»
في وقت واحد؛ فتحتا صفحة جديدة من الصراع مع اليهود لها ما بعدها، فنعتقد
أن (ذراع إسرائيل الطويلة) التي طالما تغنى الإسرائيليون بعدم قدرة حكومات
العالم كله على تحديها؛ قد وجدت من الآن ذراعاً أطول تستطيع أن تبترها أو تشلها،
أو تلويها على رقاب من استطالوا بها على الإسلام وأهله.
لقد عبَّر عن رعب الإسرائيليين وهلعهم من هذه العملية المعلق الإسرائيلي
«إينان هار» ؛ عندما كتب في صحيفة يديعوت أحرونوت في (92/11/2002م)
مخاطباً المسؤولين الإسرائيليين: «كُفُّوا عن الحديث عن دحر الإرهاب، وذراع
إسرائيل الطويلة القادرة على قطع أذرع أعداء (إسرائيل) ، وأَقْبِلُوا على التفكير
السياسي السليم لمحاولة إيجاد حل سياسي ... الحقيقة الآن هي أنه ليس بمقدور
عشرة شارونات، ولا مئة موفاز، ولا ألف نتنياهو دحر الإرهاب بوسائل عسكرية
فقط!» . وكتب معلق آخر هو «بن كسبيت» في صحيفة (ها آرتس) بُعيد
الحادث واصفاً حال اليهود بعد عمليتي (مومباسا) في كينيا، وعملية (بيسان)
قرب الأردن في اليوم نفسه؛ فقال: «نشعر أننا وصلنا إلى طريق مسدود ...
حتى السفر بهدوء إلى الخارج لم يعد آمناً (يشير إلى محاولة إسقاط الطائرة
الإسرائيلية) ، لم يبق لنا الآن إلا رائحة الخوف نشمها في كل مكان!» . وعلقت
صحيفة (معاريف) على عملية (مومباسا) بمقال تحت عنوان (ليس من نصير)
قالت فيه: «إن الخطر بات في كل مكان.. في كل ردهة من فندق، وفي كل
مدرج إقلاع ... وفي كل مطعم أو ملهى.. ليس أمامنا مكان نهرب إليه، حتى
الأمن خارج البلاد سلبوه منا!» .
ونحن نقول للإسرائيليين: لقد مضى عهد «تنت» و «نتن» و «شارون»
و «شيمون» و «أهارون» ، كما قد ولى عهد (سلام الشجعان) وجاء زمان
جند الإسلام، داخل فلسطين وخارجها، هؤلاء الذين يعملون في العراء بلا غطاء
من حكومات أو جيوش أو منظمات أو هيئات تناصرهم وتدعمهم؛ فماذا لو بُذل لهم
الدعم، ووُفِّرت الإمكانات؟! ... اللهم كن لهم عوناً ونصيراً!
* أفغانستان: طالبان وغلام الأخدود
عندما سقطت دولة طالبان الصغيرة الفقيرة على أيدي الأمريكان الظالمين
الغاشمين؛ كنت أقول ولا أزال: لو كان ثمن سقوط دولة طالبان اليوم هو سقوط
إمبراطورية الظلم الأمريكية غداً؛ فإن طالبان لم تسقط.. ولم تُهزم، بل ولم تمت؛
فهي كالشهيد الحي الذي يريق دمه ليحقن دماء غيره، وكالشمعة المشعة التي تحترق
لتضيء طريق الظلام. كنت أقول هذا على افتراض السقوط النهائي لها، وهو ما
لم يحدث، وكنت أستلهم في ذلك دروس قصة غلام الأخدود الذي صوَّب الملك
الجبار سهم الجريمة لإسكات قلبه الصغير؛ ليحي الله بذلك قلوب الملأ الكبير ...
ولهذا فإن الغلام عندما سقط مدرجاً في دمائه؛ أَسقَط َفي الوقت نفسه كيان الجبروت،
وكشف زيفه، وعرَّى باطله، وأظهر للناس أن هناك إلهاً واحداً عدلاً لهذا الكون
يقول للشيء كن فيكون، وأن مشيئته نافذة في الجبارين ولو بعد حين؛ فمن الذي
انتصر إذن: الغلام أم الملك الجبار؟! كلنا يعرف الإجابة عن هذا السؤال.
أما السؤال الثاني وهو: من الذي انتصر في حرب أفغانستان: أمريكا أم
طالبان؟! فهذا سؤال ستُعرف إجابته الواضحة عندما يتضح مصير الحرب العالمية
الثالثة التي انطلقت من أفغانستان ضد حزب الرحمن في شتى أنحاء العالم، ولكن
الانتظار لن يطول؛ ففضائح أمريكا تتكشف يوماً بعد يوم، والتقارير التي تتوافد
عن حالة المعركة القائمة الآن بين المجاهدين في أفغانستان وبين القوات المشتركة
المشركة تحت زعامة الولايات المتحدة؛ تقول الكثير عن عناصر الجواب عن
السؤال السابق.
والمفاجأة الكبرى التي توردها وتقررها هذه التقارير أن الغلام لم يمت، وأن
مشروعه للشهادة أمام الملأ قد تأجل ليتحول إلى مشروع إحياء عام للروح التي
فقدتها هذه الأمة، ففقدت بفقدها الدنيا والدين والتمكين، وهي روح الجهاد الأكبر
لإعلاء كلمة التوحيد.
خسائر الولايات المتحدة على أيدي المجاهدين حقيقية وكبيرة، وهي مرشحة
للزيادة في ظل تقارير متواترة عن نجاح المجاهدين في إعادة تنظيم صفوفهم، بل
وإعادة فتح بعض المعسكرات. وقد نشرت جريدة (نيوزويك) تقريراً يقول بأن
90% من قيادات المجاهدين في أفغانستان ما زالوا أحياء طلقاء! هذا عن القيادات
.. وفي داخل أفغانستان؛ فماذا عن الأتباع، وعن الخلايا النائمة والمتناومة في
شتى أرجاء العالم؟!
إحدى العمليات داخل أفغانستان سقط فيها باعتراف أمريكا (40) قتيلاً،
وأصيب (345) ، والحكومة الأفغانية العميلة نفسها تعترف بسقوط (110)
أمريكيين، ولكن المخابرات الروسية والهندية تكذبها وتقول: إن خسائر أمريكا في
أفغانستان بلغت حتى الآن (400) قتيل، وهناك أطراف أخرى ربما تكون ذات
اطلاع واسع على مجريات الأحداث في الداخل الأفغاني تذكر أرقاماً أخرى، فالقائد
السابق حكمتيار يقول إن الخسائر البشرية الأمريكية في أفغانستان لا تقل عن
(650) قتيلاً، أما مصادر طالبان- الأكثر اطلاعاً - فتوصِّل عدد من قُتلوا بأيدي
المجاهدين إلى (1200) جندي أمريكي، وتقول إن جثثهم تُنقل إلى أمريكا عن
طريق باكستان عبر بعض دول الخليج بأعداد متزايدة.
هذا المعدل في الخسائر البشرية كبير بالمقاييس المعتادة، ومرعب بالمقاييس
الأمريكية التي تزن الجندي الأمريكي بألف من البشر أو يزيد، والقادة العسكريون
الأمريكيون الذين يخرجون كل حين لإذاعة أنباء عن النجاح في مطاردة (فلول)
المجاهدين؛ تزعجهم هذه الإفاقة السريعة للجهاد في أفغانستان بعد مصيبة الغزو
الذي تسبب فيه وأعان عليه المنافقون، فالأمريكيون بين شرَّيْن: إما البقاء الدامي
في أفغانستان، وإما الانسحاب الذليل كما حدث في الصومال بعد مقتل مئتين من
جنود المارينز هناك، وكذلك الانسحاب الصامت من الفلبين مؤخراً، وإذا حدث هذا
في أفغانستان واضطرت أمريكا كما اضطرت أستراليا بعد بالي إلى سحب قواتها
من أفغانستان؛ فإنها ستكون فضيحة الدهر لأمريكا، وسيكون هذا سقوطاً مدوياً لهذه
القوة الشريرة التي لم تتمكن إلى الآن من تحقيق هدف واحد من أهداف حملتها على
أفغانستان؛ سوى إحلال الخوف محل الأمن، والفجور محل الاستقامة، والفساد
محل الإصلاح في طول البلاد وعرضها.
أفغانستان بعد عام من غزوها:
والنتائج الأولية للأوضاع في أفغانستان بعد عام من اضطرار طالبان لترك
المدن؛ توحي بأن الشعب الأفغاني يوشك أن يجتمع مرة أخرى على زعامة طالبان
في الجهاد، فالأسباب التي دعت هذا الشعب للجهاد الأول وهي الاحتلال والغزو
الأجنبي تتكرر اليوم، والأسباب التي دعته للالتفاف حول طالبان وهي انتشار
الفساد والجرائم تتكرر أيضاً بشكل أفظع؛ حيث أشارت مثلاً تقارير الأمم المتحدة
مؤخراً إلى ثبوت بلاغات عن حدوث (240) حالة اغتصاب في العاصمة
الأفغانية وحدها، هذا عن المُبلَّغ عنه؛ فماذا عن الذي لم يُبلَّغ عنه وسط شعب
يفضل الموت على العار؟! ... مصادر طالبان تؤكد أن عدد حالات الاغتصاب -
فضلاً عن السرقة، وقطع الطرق، وسلب الإتاوات.. وغيرها - وصل إلى
(730) حالة، مع أن المثبت في دواوين تلك الحركة عن جرائم الاغتصاب خلال
سنوات حكمها الخمس؛ لا يزيد عن ثلاث حالات اغتصاب أقيم الحد فيها على
المجرمين.
والمسلمون في العالم سيكتشفون أيضاً مع الوقت أن العار الأكبر الذي ظل
العالم يعيِّر به حكومة طالبان ظلماً - وهو الاتجار بالمخدرات - قد عاد الآن بعد
طالبان على يد الحكومة (الإصلاحية) التي تدَّعي أنها إسلامية؛ لتصبح أفغانستان
الدولة الأولى في العالم في تصدير المخدرات، فهي تصدر الآن ما قيمته (70%)
من إنتاج العالم للأفيون. ومعروف أن الأمم المتحدة وعلى لسان مسؤولها في
أفغانستان (الأخضر الإبراهيمي) كانت قد أعلنت عام 1999م خُلُوّ أفغانستان من
حقول الأفيون في ظل حكومة طالبان، كل هذه الأسباب وغيرها ستدفع الصادقين
من شعب أفغانستان للالتفاف مرة أخرى حول المجاهدين الصادقين من أبناء الشعب
الأفغاني وما أكثرهم! .
لم أرد بتناولي للشأن الأفغاني أن أسرد إحصاءات، فربما تتوافر هذه
الإحصاءات بشكل أوسع في مصادر أخرى، ولكن الذي أردت لفت النظر إليه؛ أن
فرص انتعاش الحركة الجهادية في أفغانستان تتزايد يوماً بعد يوم، وهذا يعني ما
يلي:
- أن مخططات أمريكا في منطقة آسيا الوسطى، والتي عرقلتها طالبان أثناء
مدة حكمها، يتوجه إليها التهديد من جديد بسبب طالبان وهي خارج الحكم،
والمؤشرات كلها تدل على عدم قدرة حكومة كرزاي (الذي سُرقت سيارته من
القصر) على توفير الأمن والاستقرار، فهي عاجزة عن الخروج بسلطتها عن
حدود كابل، بل عن حدود القصر الجمهوري الذي تحميه فرق المرتزقة
المستوردين من أمريكا بالأجرة.
- أن رقعة الجهاد الإسلامي في آسيا الوسطى ستتوسع وتزداد في البلدان
المحيطة بأفغانستان؛ إذا اضطرت أمريكا للانسحاب من هناك تحت وقع الخسائر
البشرية المتزايدة، والتي لن تصبر على المزيد منها الجرذان الأمريكية البيضاء.
- أن فضيحة تحالف الشمال الذي أقسم بعض قادته على عدم السماح
لـ (ذبابة) بأن تطأ أرض أفغانستان، وظهور حجم الكارثة التي جلبها هؤلاء
إلى بلادهم باستدعاء الأمريكان وتمكينهم من أرض أفغانستان؛ سيعمق الفجوة
بينهم وبين الشعب الأفغاني مع الزمن، وسيزيد من الشروخ بينهم وبين مناوئيهم
في السلطة، وهو ما سيعود بمزيد من التفكك والضعف على السلطة المركزية
التي يخوض وزير الدفاع فيها صراعاً مسلحاً مع (نائبه) دوستم؛ في أضحوكة
من أضاحيك الزمان التي تستثير الاستهجان!
- إن صدقت توقعاتنا بتحول أفغانستان إلى ساحة صراع بين أمريكا
وغرمائها الآخرين من غير المجاهدين؛ فإن الولايات المتحدة سوف تجد نفسها على
أرض أفغانستان في مواجهة عداء مستحكم من كل من الصين وروسيا وإيران
وباكستان، فكل تلك الدول متضررة بشكل أو بآخر من عزم أمريكا على نصب
خيمتها الدائمة في أفغانستان، ولا أزال أعتقد بأن الروس وبرغم كل مظاهر النفاق
للأمريكان لن يضيعوا فرصة توريط أمريكا في أفغانستان كما ورطتهم أمريكا فيها
بدعمها السابق للجهاد الأفغاني؛ حيث زودت المجاهدين بصواريخ «ستالينجر»
ليقاتلوا الروس نيابة عنها، وليتولى المسلمون الأفغان بدمائهم ودماء أطفالهم
ونسائهم وشيوخهم؛ إنهاء الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا لصالح الأمريكان؛
كي يتحقق ما تحدث عنه نيكسون في كتابه (نصر بلا حرب) !
- وأخيراً؛ نستخلص من قصة الغزو الأمريكي لأفغانستان منذ بدأ وحتى الآن:
أن العائق الوحيد دون قدرة طالبان على العودة للحكم، وعدم قدرتها قبل ذلك على
الاستمرار فيه؛ يرجع إلى السيطرة الجوية الأمريكية التي لا يملك المجاهدون
وسائل مواجهتها وكسر تفوقها، ولكننا لا نستبعد في ظل حرص القوى المحيطة
بأفغانستان على توريط أمريكا هناك أن تلجأ تلك القوى إلى دعم المجاهدين نكاية في
الأمريكيين، وإذا صحت الأنباء التي تحدثت عن عثور القوات الأمريكية على
صواريخ صينية حديثة الصنع في حوزة المجاهدين بعد بعض عملياتهم؛ فإن ذلك
سيكون عامل ضغط هائل على الأمريكان؛ يجعلهم يستيقنون أنهم قد وقعوا بالفعل
في الورطة الكبرى عندما قرروا غزو أفغانستان.
* الشيشان: دور كبير لشعب صغير
لا يتعدى شعب الشيشان كله، برجاله ونسائه وشيوخه وأطفاله عدد سكان
محافظة نائية من محافظات مصر مثلاً، فعددهم لا يزيد عن المليونين، ومع هذا؛
فإن ذلك الشعب الأبي المجاهد كان ولا يزال يُصَدِّر للدنيا كلها أسمى معاني الصبر
والفداء، ولا يضير شعب الشيشان أننا كنا لا نسمع به قبل أن يُبرز الإعلام قضيته
إبان الغزو الروسي الأخير لبلادهم، إنهم جزء من بلاد القوقاز التي تعد شعوبها من
أسبق الشعوب النائية عن جزيرة العرب دخولاً في الإسلام، فقد أرسل إليهم الخليفة
الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العام الثامن عشر للهجرة؛ كلاً من
الصحابيين الجليلين حذيفة بن اليمان، وعياض بن غنم رضي الله عنهما ليبلغوهم
دعوة التوحيد، فاستجاب الكثيرون منهم، ولم يكد يمر من الزمن ست سنوات حتى
خضعت بلدان جنوب القوقاز كلها لحكم الإسلام، ولم تأت عهود الخلافة الأموية
والعباسية إلا وشعوب القوقاز ومنهم الشيشان يمثلون جزءاً فعالاً من كيان الأمة
الإسلامية، وكانت روسيا آنذاك إمارة مغمورة كريهة السمعة، فبلدهم (موسكوفيا)
كان يقطنها وثنيون همج، وصفهم المؤرخون بأنهم من شر خلق الله طبعاً،
وأقذرهم سلوكاً، وأكثرهم فساداً وإفساداً؛ فهم لا يعرفون حلالاً ولا حراماً، ولا
يغتسلون من جنابة، ولا يتطهرون من نجس، ولا يفيقون من شرب الخمر. إلا أن
أولئك الرعاع انتقلوا خلال قرون تالية من وثنية الأصنام إلى وثنية الصلبان،
وتقوَّت روسيا بجيرانها من البيزنطيين النصارى، وبدأت تستأسد على المسلمين
حولها في بلاد القوقاز عن طريق أعمال القرصنة التي كانت تقوم بها قبائل
النورمان الذين تشكلت منها روسيا، ولكن المسلمين أخضعوهم لحكم الإسلام في
القرن السادس الهجري، وجعلوهم يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون، وحتى
أواخر القرن الخامس عشر الميلادي كان الروس يؤدون الجزية للحكام المسلمين في
القوقاز، ولكن الأمر تغير بعد سقوط الأندلس عام (898 هـ / 1492م) ؛ إذ
تكالبت الأمم على المسلمين، وكان الروس من شر المتكالبين، فراحوا يبادئون
المسلمين بالعدوان في بلاد القوقاز وغيرها، ويلحقون بهم أعظم الأذى، حتى
بلغت ذروة ذلك على يد رمز الإجرام الروسي «إيفان الرهيب» ؛ ذلك السفاح
الذي استباح مدينة (قازان) عاصمة القوقاز وقتها، وأمر بقتل جميع سكانها؛ في
أبشع مجازر التاريخ عام (959هـ/ 1552م) .
واستمر شعب القوقاز في معاناة طويلة من بطش الروس؛ في ظل انشغال
الممالك الإسلامية في مصر وإيران وغيرها بالصراعات الداخلية والخارجية، ولكن
الخلفاء العثمانيين تنبهوا فيما بعد لمأساة بلاد القوقاز مع الروس، فخاض العثمانيون
مع الداغستانيين ومن أسلم من التتار؛ حروباً طاحنة ضد الروس، ثأروا فيها
لإخوانهم القوقازيين، وظلت الأمور بين المسلمين والروس بين مد وجزر، حتى
جاء القرن الثامن عشر فجرد الروس حملة بقيادة زعيمهم المسمى «بطرس الكبير»
فاستولى على بلاد الشيشان وداغستان وأخضعها كلياً لحكم النصارى، وفرض
الروس النصرانية على المسلمين في عهد الملكة «كاثرين» ، فاضطر الثابتون
منهم إلى الإسرار والاستتار بدينهم في ظل قهر الكنيسة التي عمَّدتهم بالإكراه، وأتم
الروس حلقات السيطرة على كثير من الشعوب الإسلامية بنهاية القرن الثامن عشر
للميلاد، وفي القرن الذي يليه بدأت بقايا الشعوب القوقازية ومنها الشيشان في
التمرد على الإكراه في الدين الذي يمارسه النصارى عليهم، وبدأت حركات جهاد
ضد الروس، وتزعمهم في ذلك القائد الشيشاني «الشيخ منصور» ؛ حيث نجح
في تنظيم جهاد المسلمين ضد الروس بدعم من العثمانيين، وتمكن ذلك المجاهد من
إذلال الروس وإلحاق الهزائم بهم في معارك عديدة، ولكن هذا الشيخ أُسر بعد ذلك،
وخلفه الإمام «مولا» الداغستاني، ثم جاء بعده الزعيم الشيشاني الشهير «الإمام
شامل» ، وكان شامل الأمس كشامل اليوم حفظه الله مجاهداً عنيداً صلباً، لا تكسره
الابتلاءات، ولا تضعفه الهزات.. على مدى خمسة وثلاثين عاماً متواصلة من
الجهاد ضد الروس، ولم يتمكن الروس من القضاء على حركته العسكرية إلا بعد
أن حشدوا له ثلت الجيش الروسي، فتصدت قوات مكونة من مئتي ألف مقاتل
روسي لمهمة القضاء على الإمام شامل.
لم تخمد جذوة الجهاد على أرض القوقاز على الرغم مما واجهها من أهوال
على يد حكم القياصرة في روسيا، ولما قامت الثورة الشيوعية الروسية عام 1917م
كان أهل القوقاز مستعدين لإعلان (جمهورية الجبل المستقلة) ، ولكن الإلحاد
الروسي الشيوعي الذي خلف الإجرام النصراني أبى أن يترك المسلمين وشأنهم،
بل ازداد الروس عتواً وإجراماً بعد تحولهم عن النصرانية إلى الإلحاد المطلق، وقام
سفاح روسيا المعاصر «ستالين» بأبشع الجرائم ضد الشعوب في هذا العصر،
فقتل من الشعب الشيشاني الصغير نصف مليون نسمة، وكان هذا العدد في وقته
يوازي نصف الشعب الشيشاني، وأرغم «ستالين» الباقين على الهجرة إلى
مجاهل سيبيريا بعد الحرب العالمية الثانية؛ ليتأكد بشكل نهائي من التخلص من ذلك
الشعب العنيد في جهاده وصموده، لكن الله تعالى شاء أن تنتهي إمبراطورية
«ستالين» ، وأن يبقى شعب الشيشان شوكة في حلوق الروس.
ولما سقط اتحاد الإلحاد السابق؛ تكرمت روسيا كارهة بمنح الاستقلال للعديد
من الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي، إلا أنها أبت أن تمنح الشعب
الشيشاني استقلاله منذ أوائل التسعينيات وحتى اليوم. وكانت قد اجتاحت قبل ذلك
أرض الشيشان إلى أن اضطرت للانسحاب منها عام 1996م؛ تحت ضغط الجهاد
الشيشاني، ثم عادت واجتاحت العاصمة جروزني في أواخر عام 1999م في عهد
السكران أبداً «يلتسن» . ولما جاء «بوتين» ؛ اعتمد في دعايته الانتخابية على
وعد الشعب الروسي بحسم القضية الشيشانية لصالح الروس، ومعنى ذلك ألا يسمح
لهم أبداً بالاستقلال، واستمر الشيشانيون في جهادهم حتى يومنا هذا.
مغزى الجهاد الشيشاني ضد الروس:
في ضوء تلك الملابسات التاريخية، وفي سياقها الطويل والثقيل الذي
عرضناه باختصار؛ لا بد أن نتفهم إقبال المجاهدين المستضعفين في الشيشان على
خطوة نقل عملياتهم الجهادية إلى داخل روسيا؛ بدءاً من عملية احتجاز رهائن في
أحد المسارح بالعاصمة موسكو مؤخراً، لا بد للمسلمين في العالم أن يتفهموا أبعاد
تلك الخطوة الأخيرة، وهي نقل الصراع إلى العمق الروسي، فالشعب الشيشاني
الذي سئم صمت العالم كله نعم كله، بما فيه العالم الإسلامي والعربي أصبح يشك
في تواطؤ هذا العالم مع الروس ضده؛ حيث لم تُقدم أي دولة في العالم على إدانة
جرائم روسيا المتواصلة ضد شعب الشيشان الذي ينزف على مسمع ومرأى من
الجميع. أراد المجاهدون الشيشانيون أن يستلفتوا أنظار هذا العالم النائم إلى ما
يحدث لشعبهم، فقرروا الخروج بعملياتهم من داخل الحدود الشيشانية إلى داخل
الحدود الروسية؛ لعل ذلك يكون بلاغاً للعالم أن هناك شعباً يتعرض للفناء دون أن
يأبه به أحد. ليست هذه الرسالة فقط هي ما يريد المجاهدون المستضعفون الأقوياء
في الشيشان أن يوصلوه إلى المسلمين وغير المسلمين في العالم، ولكن الواضح
أنهم أرادوا من وراء ذلك التحول الجذري في عملياتهم الجهادية أن يحققوا الأهداف
الآتية:
- تخفيف الضغط على المجاهدين والمدنيين في الداخل الشيشاني بنقل
المعركة إلى داخل العمق الروسي؛ حيث سيتسبب التوتر الأمني الناشئ عن ذلك
في تشتيت التركيز الروسي على ضرب المجاهدين داخل الشيشان، وسينشأ عن
هذا توزع جزء كبير من المجهود العسكري والأمني الروسي إلى حماية المنشآت
والمصالح الحيوية للروس داخل العاصمة وغيرها من المدن الروسية.
- الاستنفار الأمني داخل حدود روسيا سيضاعف من المشاكل التي يعاني منها
الاقتصاد الروسي المتداعي، ومن شأن الضائقة الاقتصادية أن تضغط على الشعب
الروسي؛ فيضغط بدوره على حكومته لتراجع سياستها الخرقاء في الشيشان،
وحيث يستهلك الإنفاق العسكري بوجه عام ثلث الميزانية الروسية الحكومية للتنمية؛
فإن الأمر لم يعد يحتمل في نظر الجماهير (الكادحة) المزيد من شد الأحزمة.
- من شأن هذه العمليات داخل روسيا أن تضاعف الشروخ وتعمق الخلافات
بين الزعامات الروسية شيباً وشباباً، سياسيين وعسكريين؛ إذ إن المشكلة
الشيشانية من أشد عوامل الاختلاف والتنازع داخل القيادة الروسية، وهذه الخلافات
ستكبِّر مع الوقت علامة الاستفهام المتسائلة بحساب الربح والخسارة عن جدوى
البقاء العسكري في الشيشان؟
- نقل المعركة إلى داخل روسيا سينشئ رعباً شعبياً روسياً يشبه ما حدث في
أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر، ومن شأن هذا الرعب أن يدفع المواطن الروسي
كما يدفع الآن المواطن الأمريكي لكي يتساءل: لماذا نفقد أرواحنا وندفع أبناءنا إلى
المجهول وراء الحدود؛ في حروب لا تدر علينا سمناً ولا عسلاً، بل تدور دوائرها
على اقتصادنا بالكساد، وأمننا بالفراغ، ومواقفنا السياسية والعسكرية بالانشغال
الزائد؟! يضاف إلى ذلك أن في روسيا عائلات وأقارب لـ (130) ألف جندي
ممن يوصفون بـ «الأبطال الوحوش» ، سيظل الشعب الروسي يتساءل عن
الحكمة في استمرار عودة العشرات منهم كل حين في النعوش!
- إذا تكررت مثل هذه العمليات واستمرت وهذا ما يصرح به قادة المجاهدين
فإن شعبية الرئيس الروسي ستتداعى، وسيتحول في نظر شعبه من درجة رجل
السياسة الرفيع، إلى دركة الطائش الرقيع الذي فعل أسوأ مما فعله الدب الأحمق مع
صاحبه؛ عندما ألقى على رأسه حجراً كبيراً ليقتل الذبابة التي وقفت على أنفه.
وقد بدأت هذه النظرة إلى «بوتين» تتبلور بعدما تسبب في قتل معظم الرهائن
الذين كان يريد إنقاذهم؛ بسبب قراره الغبي باستعمال الغاز السام (المجهول) الذي
أودى بحياة العشرات.
- إضافة إلى كل ما سبق؛ فإن المجاهدين يريدون بمثل تلك العمليات أن
يرسلوا إلى الروس رسالة يقولون فيها: إن شعبكم لن يبقى في مدنه وقراه آمناً ما
دام شعبنا لا يبقى في مدنه وقراه آمناً، وإن المدنيين منكم ليست دماؤهم أقدس من
دماء المدنيين عندنا، ولا أطفالكم أعز من أطفالنا، ولا نساؤكم أولى بالأمان
والسلامة من نسائنا، ومسارح اللهو عندكم ليست أولى بالبقاء من مصانعنا
ومزارعنا ومتاجرنا التي تحترق كل يوم، وليست أرواح بضع عشرات منكم بأثمن
من أرواح ثمانين ألفاً من الشيشان قُتلوا خلال تلك الحرب الإجرامية الظالمة.
أعجب ما في الأمر أن تلك الرسالة البليغة جاءت إلى روسيا، بل إلى العالم
أجمع منقوشة على أرواح رهط من الفتيات اللواتي جئن إلى عاصمة الطغيان
التاريخي لمشاركة الرجال في الجهاد، متلفعات بمروط الموت والشهادة؛ ليقلن لكل
رجال المسلمين وغير المسلمين: إن في أمة الإسلام نساء يُوزنَّ بآلاف الرجال.
* أكراد العراق.. ووميض أمل في الآفاق
مع تزايد سرعة العد التنازلي لبدء الهجوم الأمريكي على العراق؛ يتساءل
المرء في حيرة: ما العمل.. وما الأمل؟ .. هل أصبح التهام الثعبان الأمريكي
للعراق قدراً مقدوراً؟ وهل أصبح طريق اليهود إلى الفرات ممهداً ريثما يتمهد
الطريق إلى النيل؟ .. يحز في النفس أن من أفاعيل صدام الآثمة أنه كاد أن يفرغ
العراق من الأحرار الأبطال الذين كان يمكننا أن نعقد الأمل بعد الله على جهادهم
وفدائهم، وتصديهم للغزو القادم.
و «البعث العراقي» الذي لم يقدم شيئاً حقيقياً في (أم المعارك) يوم أن كان
في عز قوته وعناده وكامل سلاحه وعتاده، هذا «البعث» لا نظن أن يصمد
طويلاً هذه المرة، إلا إذا أحيا الله من بين مواته من يُخلص العودة، ويغير الراية،
ويصحح المنهج. ولا يمكن أيضاً انتظار خير من «رافضة العراق» إلا إذا كان
عملاً خالصاً لصالحهم ومدخراً في رصيدهم؛ فالعراق عراقهم إن كان شيعياً، وهو
عدوهم إن كان سُنِّياً. أما بقية الأمة العراقية فقد استخفهم صدام فأطاعوه إلا من
رحم الله! ولكن هذه الأمة ولاَّدة، وهي كالغيث الذي لا يُدرى الخير في أوله أم في
آخره، ولن يعدم شعب من شعوب المسلمين أن يُخرج رجالاً أبطالاً في أي وقت
من الأوقات، وبخاصة في أوقات المحن وأزمنة الشدائد.
الاستباحة الأمريكية القادمة للعراق ستفرض بإذن الله نشوء حركات جهادية
صادقة، ولئن كنا لا نسمع عن كيان واضح لأهل السنة العراقيين في بغداد وما
حولها اليوم؛ فإن الأخبار المتواردة من خارج بغداد - خصوصاً في كردستان
العراق - تشير إلى انبعاث روح إسلامية سنية جهادية؛ نحسبها صادقة في لهجتها،
وسليمة في منهجها.
أكراد العراق - وعلى عكس ما يظن الكثيرون - مخزون هائل، وطاقة
جبارة ذات رصيد تاريخي عظيم يمكن أن يشيع روحاً جديدة في العراق، وهذه
الروح قد أطلت بالفعل على مناطق من كردستان العراق، استطاع المجاهدون
الأكراد أن يحرروها من سيطرة الأحزاب العلمانية الضالة، ويقيموا فيها حياة
إسلامية مستقلة. وهي تجربة قابلة للاتساع في ظل الشعور بالقهر الذي يعاني منه
الأكراد في العراق وغير العراق، فالعالم كله يتنكر لهذا الشعب، ولا يعترف بحقه
في أن تكون له دولته وكيانه المستقل؛ مع أن الأكراد يزيدون عن خمسة وعشرين
مليوناً في كل من العراق وسوريا وإيران وتركيا، فحتى في عصر القوميات
الذي كانت القومية الواحدة لشعب فيه تكفي سبباً لسماح العالم لأهلها بأن يقيموا دولة؛
لم يُسمح للأكراد بإقامة دولة.
نحتاج إلى إلمامة سريعة بتاريخ الأكراد؛ حتى نصل الخيوط بين ما كان وما
هو كائن الآن، وبين ما نتوقع أن يكون من شأنٍ لأهل السنة من أكراد العراق،
والذين نعتقد أن على أهل السنة من العرب أن يمتزجوا معهم في وحدة اعتقادية؛
تنفي خبث الروابط الجاهلية القائمة على غير الدين؛ سواء كانت عرقية أو حزبية
أو مذهبية.
الشعب الكردي - كما يُذكر في أدبياته - شعب عريق، كانت أرضه مهداً
ثانياً للبشرية بعد الطوفان، فسفينة نوح عليه السلام استوت على «الجودي» كما
نص القرآن و «الجودي» اسم للجبل الذي يقع في أرض كردستان على الحدود
العراقية التركية اليوم، وقد كان للأكراد دولة تسمى بهذا الاسم «جودي» أو
«كودي» قبل الإسلام، وكانت لهم كذلك مملكة «ميديا» المذكورة في
التوراة، والتي قضى عليها قورش الإخميني الفارسي (المعتقد بأنه ذو القرنين)
عام 550 قبل الميلاد.
بعدما جاء الإسلام؛ أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العام السابع
عشر للهجرة صحابيين جليلين إلى بلاد الكُرد، وهما: القعقاع بن عمرو،
وعياض بن غنم رضي الله عنهما، وعُرض الإسلام على أهل هذه البلاد بعد فتحها،
فاعتنق أكثر الأكراد الإسلام طوعاً، ووجدوا فيه ملجأً وملاذاً من مظالم الفرس.
وأصبحت كردستان جزءاً من نسيج الأمة، وفي عهد العباسيين أصبحت كردستان
ولاية إسلامية مستقلة تمثل البوابة الشرقية للخلافة، واعتمد العثمانيون على شجاعة
الأكراد في معاركهم، وكوَّنوا منهم ما كان يعرف بـ (فرق الانكشارية) لصد
هجمات الدول الصليبية التي كانت تتناوب التكالب على أطراف الدولة العثمانية،
ولعل هذا كان أحد الأسباب في حرص النصارى الإنجليز والفرنسيين على تشريد
الشعب التركي في اتفاقيات «سايكس بيكو» بعد الحرب العالمية الأولى التي
انتهت بسقوط الخلافة العثمانية آن ذاك.
عُرف الأكراد طيلة التاريخ الإسلامي بالبسالة والشجاعة الفائقة، وأكثر ما
اشتهر عنهم في ذلك كان على يد القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي الكردي،
والذي فتح الله عليه فتحين، كل فتح منهما أعظم من الآخر؛ الأول هو: تحرير
بيت المقدس من الصليبيين عام 583هـ، والثاني: تحرير مصر من العُبيديين
الفاطميين الملحدين قبل تحرير فلسطين وبيت المقدس.
ولأن المناطق التي يقطنها الأكراد ذات طبيعة جبلية فقد أثر ذلك على طبيعة
هذا الشعب؛ من حيث الجسارة والصبر والتعود على الشدائد، ففي أرض كردستان
الحاوية لأطراف من العراق وتركيا وسوريا وإيران؛ تقع أشهر سلاسل الجبال في
الشرق الأوسط، وهي سلسلة (زاجروس) ، وأرض الأكراد غنية بموارد عظيمة
وعلى رأسها النفط، وبخاصة في كركوك العراق التي يسيل لها الآن لعاب قوى
الاستعمار الجديد.
تاريخ الأكراد ليس جهاداً وفداءً فقط، بل هناك الكثير من أعلام العلم والهدى
هم من الأكراد، ومنهم: ابن الصلاح، وابن الحاجب، والآمدي، وابن خلكان،
والآلوسي، والزهاوي.. وعَلَم آخر عظيم، ومجدد في العلم والدين هو الإمام
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني أو (الحوراني) ، ف (حوران) من أرض
كردستان.
لهذا فلن نعجب إن أخرج الله من بين أكراد العراق اليوم مثل هؤلاء العظماء،
ولا نقول هذا إحياء لعصبية أو عنصرية، بل إيماءً إلى المعنى العظيم الذي أشار
إليه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن معادن الناس فقال: «خيارهم في
الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» [2] ، وخيار معادن المسلمين عُرف منهم:
صهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي.. وغيرهم.
ما أريد أن أقوله: إن الجميع الآن يترقب ما سوف يحدث على أرض العراق
إذا غزاها الأمريكيون وحلفاؤهم ثم تسلل إليها اليهود وأشياعهم ... ماذا يمكن أن
تكون عليه الحال هناك لو نُصبت خيمة عسكرية أمريكية جديدة في العالم الإسلامي
يراد لها أن تدوم؟!
توقعاتي بأن العراق سيكون بؤرة جهادية جديدة للمستضعفين الأقوياء؛
سيتحيز إليها المجاهدون من كل حدب وصوب، وستكون أرض كردستان والله أعلم
المنطلق في ذلك، أو أحد المنطلقات المهمة في ذلك؛ ففي كردستان الآن أراض
خالصة للمجاهدين، يقيمون فيها شرع الله، ويتولون إدارتها باستقلال تام، وهو ما
دفع قوات «جلال الطالباني» إلى أن يتفانى في القضاء عليهم، ولكن الله تعالى
مكن للمجاهدين في كردستان وفي مدينة (حلبجة) خاصة؛ فهم يوقعون خسائر
فادحة بقوات طالباني، أحد الكرزايات المنتظرين في عهد ما بعد صدام؛
فالمجاهدون من جماعة (أنصار الإسلام) [3] أحبطوا هجمات لتلك القوات في آخر
يوم من رمضان الماضي، قضوا فيها على عنصر من عناصر «جلال الطالباني» ،
والذين نفذوا تلك العملية كانوا أربعة من المجاهدين فقط.
المعركة في العراق ستطول، ولن تكون كما يتمنى بوش (في أسرع وقت،
وبأقل خسائر، وبأدنى التكاليف!) .. لن تكون كذلك؛ لأن بوش سبق أن تمنى
هذا في أفغانستان، وأمنياته الآن في خبر كان، فالعراق ليس هو صدام، وشعب
العراق ليس هو البعث، فلئن سقط صدام وسقط بعثه؛ فإن عاصمة الخلافة
العباسية (بغداد) ستكون بإذن الله إحدى قلاع الجهاد المظفر على أطراف جزيرة
الإسلام.
* الفلبين: أول الغيث قطرة
بعد ستة أشهر من إرسال بوش قوة عسكرية إلى الفلبين لـ (دحر) ما سماه
بالإرهاب هناك؛ اضطرت تلك القوات أن تعود من حيث جاءت في أواخر ديسمبر
2002م؛ بعدما اكتشف الأمريكيون كما جاء على لسان الجنرال «دونالد
وورستران» «أن القضاء على الإرهابيين ليس مهمة سهلة» معتبراً أن «من
المبكر الحديث عن نهاية الإرهابيين في الفلبين» !
ووصف الجنرال «دونالد» الإرهاب الذي أصبح ندَّ أمريكا المعاصر بقوله:
«عدونا متحرك، لا يملك بنية تحتية ثابتة، ويتنقل بمجموعات صغيرة، ولديه
شبكة معلومات جيدة، وهذا ما يجعل مهمتنا ليست سهلة» .
إنهم يعدون كل محاولة للمسلمين للخروج عن سيطرة الكفار إرهاباً!!
الإرهاب هو إرهاب النصارى في الفلبين وغيرها؛ ففي الفلبين أعدت الحكومة
النسوية هناك قوة قوامها مئتا ألف جندي مسلح بشكل كامل لمواجهة المجاهدين
الفلبينيين، هذا إلى جانب «المتطوعين» من الميليشيات الشعبية النصرانية
المسماة (بيجي لانتي) ، والبالغ قوامها عشرون ألف مقاتل، والتي فوضتها
الحكومة في نشاطات هدم المنازل، وإتلاف المزارع، وقتل المدنيين، وحرق
المساجد، حتى لا تُحرج أمام الرأي العمي العالمي! هذه الميلشيات لا تكتفي في
إجرامها ضد المسلمين باستعمال الرصاص والقنابل، بل تتفنن في استعمال السيوف
والخناجر لزيادة الإرهاب للمدنيين المسلمين.
وهذه الجماعة (الدينية) المتطرفة التي لم يدرجها بوش في قوائم الإرهاب؛
يؤجج أحقادها القسس الرسميون، وقد كان إقدام أحد هؤلاء القساوسة على إلقاء
محاضرة تحريضية ضد المسلمين في مدينة (جامبونجا) الجنوبية سبباً في نشوء
جماعة «أبو سياف» ؛ ففي عام 1991م عقد ذلك القس تلك المحاضرة، وأثار
حماس النصارى لمواجهة المسلمين، فكان من بين الحضور: (عبد الرزاق
جنجلاني) المكنَّى بـ (أبي سياف) ، ولم يكن معروفاً في ذلك الوقت، فلم يتمالك
نفسه بعد المحاضرة إلا أن تربص بالقس فقتله وهرب، فأُعجب به بعض الشباب
وانضموا إليه، وتكونت بذلك جماعة «أبو سياف» التي رأت أن ما يفعله
النصارى بالمسلمين كافٍ لإسقاط كل حرمة لهم.
قبل جماعة «أبو سياف» ؛ كانت هناك الجماعة الأخرى الأكبر والأقدم،
وهي: «جبهة تحرير مورو» بزعامة «سلامات هاشم» ، وهذه الجماعة تعتمد
الجهاد أيضاً في الفلبين ولكن بأسلوب يختلف عن طريقة (الجهاد المطلق) التي
تمارسها جماعة «أبو سياف» ، فهم يركزون على العسكريين، وفي داخل
المناطق المحتلة فقط، وهي على كل حال من المنظمات المدرجة في قائمة
(الإرهاب) الأمريكية، وتسيطر «جبهة تحرير مورو» على ما مساحته 90% من
أرض جزيرة (مينداناو) في الجنوب، بينما يسيطر الجيش الفلبيني على النسبة
الباقية، وتسعى الجبهة إلى نزع اعتراف من الحكومة الفلبينية باستقلال ذلك الإقليم
الذي تقطنه غالبية من المسلمين، إلا أن الحكومة الفلبينية، وبتأييد من العالم
النصراني ترفض هذا المطلب العادل وغير المتعارض (نظرياً) مع شريعة الغاب
المسماة بـ (الشرعية الدولية) .
المجاهدون الفلبينيون يشرفون على عدد كبير من المعسكرات في أرضهم
الخاصة بهم، تبلغ (46 قاعدة) ، يتدرب فيها حسب مصادر الجبهة 120 ألف
مجاهد، معظمهم مسلح بأسلحة خفيفة، ومع هذا فهم يواجهون جيش دولة كامل بكل
ما لديه من أسلحة جوية وبرية وبحرية! ويجيء بوش.. ويشفق على «المساكين»
في الفلبين، فيرسل قواته المغوارة لحسم الأمر.. فيُحسم الأمر بعد نصف عام
بفضيحة مدوية لكنها مخفية، فتسحب أمريكا بهدوء الجنود الألف الذين أرسلتهم بعد
فشل الحملة.
وكما قلت: فأول الغيث قطرة؛ فاليوم الفلبين، وغداً أفغانستان، وبعد غد
... و ... و ... [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف:
21) ، نعم أكثر الناس لا يعلمون!