مجله البيان (صفحة 4474)

قضايا دعوية

حوار مع أحد الأقطاب!

عبد البارئ أحمد العطار

بحكم انتمائي إلى أكثر من فصيل لأبناء الدعوة الإسلامية المعاصرة؛ فقد

كانت الحساسية على أشدها بيني وبين المتصوفة؛ لدرجة أنني كنت لا أطيق مجرد

سماع مصطلح «صوفي» أو «متصوف» أو «صوفية» ؛ من كثرة ما

كان يصل إلى مسامعي من كلامهم عن «الحب الإلهي» و «العلم اللدنِّي»

و «الفناء» و «الكشف» و «العشق والوجد» و «الإلهام» و «المشاهدة»

.. إلخ.

وعند التعمق في فهم مدلولات تلك المصطلحات عند القوم؛ تجد بالنظر الأول

وبادي الرأي ما يصطدم مع عقيدة أهل السنة والجماعة بشكل مباشر أو غير مباشر،

والمسألة ليست آراءً تُقبَل أو تُرَدّ، ولكنها عقيدة حاسمة وصارمة يعتقدها القوم

وينافحون عنها بكل ما أوتوا من قوة وعزم؛ سواء وافقت الدين الإسلامي أو خالفته؛

بحجة أنها «الحقيقة» التي لا يُشترط لها عندهم في ثبوتها موافقة الشريعة؛

فهي أي الحقيقة دين الخواص وأهل اليقين! أما الشريعة بعلومها الظاهرة وآلاتها؛

فهي دين العوام الذين لم يصلوا بعد إلى مراد الله من وضع الشريعة ابتداءً!

وشاء الله أن أكون واحداً منهم في فترة من حياتي، وكنت لا أجد تفسيراً لما

يرد في أورادهم من مبهمات ومشكلات غير مفهومة تشبه طلاسم السحرة وأحاجي

الدجالين، كالاعتماد على الحروف المقطعة في فواتح السور كسورة (مريم، وطه،

وق) في غالب أذكارهم، أو كوجود بعض الجمل الشركية كقولهم: «اللهم

انشلني من أوحال التوحيد» ، أو كطلب المدد والعون من المخلوق، وإهمال حق

الخالق في ذلك، نعوذ بالله من هذا كله وأمثاله وما يقرب إليه.

ثم شاء الله بعد هذا الزمن الطويل أن أتعرف على شيخ الطريقة الشاذلية في

بلدتي، وهو من الوجهاء الذين يشار إليهم بالبنان؛ فهو يحفظ القرآن وأوراد

الشاذلية وأحزابهم ك (حزب البحر، وحزب النصر، وحزب البر) وغيرها،

ويعرف الكثير عن حياة شيخه أبي الحسن علي الشاذلي، وقد اتفق معي في مقدمة

الحوار أن الصوفية هذه الأيام تخالف ما كان عليه أئمة التصوف في العصور

الماضية، ويسيئون إليهم بأفعال ليست من الدين في شيء، بل ويتجرؤون بنسبة

هذا إليهم زوراً وبهتاناً، ووجدتها فرصة مناسبة للعودة إلى موضوع التصوف بعد

ما تركتهم سنوات وسنوات، وقد وصلتُ حسب زعمي إلى مرحلة من النضج

الفكري والفهم النقي، والإلمام ببعض علوم الشريعة التي تؤهلني للفرقان بين الحق

والباطل.

ولتحليل ما عليه هؤلاء تحليلاً شرعياً يتفق مع مقررات العقول السليمة؛ قلت

لهذا الشيخ: هل يمكنني قراءة كتاب ولو مختصراً عن حياة أبي الحسن الشاذلي..

كيف تربى ونشأ وترعرع؟ وما هو منهجه في التعليم ووصاياه لأتباعه؟ فاستجاب

جزاه الله خيراً، ففي اليوم التالي مباشرة أحضر لي كتاباً بعنوان: «الشيخ أبو

الحسن الشاذلي.. نبذة من سيرته وأوراده» ، وأخذت في قراءة الكتاب لعلِّي أجد

فيه ما ينفع، وكنت قد قرأت قبل ذلك للرباني عبد القادر الجيلاني وهو من أئمة

التصوف في زمانه كتابَيْ: «الفتح الرباني» و «آداب السلوك» ، ونفعني الله

بهما كثيراً، وقد زكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، فاستراح قلبي لما كان عليه من

الحرص على الطاعة والبعد عن المعصية، والتطلع الدائم إلى تزكية النفس من

حظوظ الدنيا وشهواتها. وأخذت أقرأ في الكتاب الذي أعطانيه؛ فإذا بي أجد درراً

من الحكم الباهرة، وحثاً على اتباع السنة والتحذير من الانحراف عنها، يقول أبو

الحسن الشاذلي: «ما ثَمَّ كرامة أعظم من كرامة الإيمان ومتابعة السنة، فمن

أعطيها وجعل يشتاق إلى غيرها فهو عبد مفتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم

بالصواب، كمن أُكرم بشهود الملك فاشتاق إلى سياسة الدواب!» [1] .

ويقول رحمه الله: «إذا عارض كشفك الكتاب والسنة؛ فتمسك بالكتاب

والسنة واضرب بالكشف عُرض الحائط، وقل لنفسك: يا نفسي! إن الله تعالى قد

ضمن لكِ العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لكِ في جانب الكشف ولا

المشاهدة ولا الإلهام؛ لأنه لا ينبغي العمل بالكشف ولا المشاهدة ولا الإلهام إلا بعد

عرضها على الكتاب والسنة» [2] .

ويقول أيضاً رحمه الله موصياً أتباعه أو إخوانه: «لا تنقل قدميك إلا حيث

تأمن غالب معصيته تعالى، وحيث ترجو ثوابه تعالى، ولا تصحب إلا من تستعين

به على طاعة الله تعالى، ولا تصطفي لنفسك من الناس إلا من تزداد به يقيناً في

معرفة الله عز وجل» [3] .

وفي الصفحة نفسها يوضح المؤلف منهج الشيخ في علاج غفلة الناس، فينقل

عنه قوله: «إذا ثقل الذكر على لسانك، وكثر اللغو في حديثه، وانبسطت

الجوارح في شهواتك؛ فاعلم أنه من عظيم أوزارك، ولكون النفاق في قلبك،

وليس لك طريق إلا التوبة والصلاح والاعتصام والإخلاص في دين الله تعالى»

إلى أن يقول: «إذا رأيت رجلاً يدعي حالاً يخرجه عن أمر الشرع فلا تقربن

منه» .

وكان رحمه الله محباً للعلم مبغضاً للجهل، وكان «من طريقته أن لا يدخل

أحد في إخوانه إلا بعد تبحره في علوم الشريعة وآلاتها، وكان يعتبر الجهل والرضا

به من أكبر الكبائر، حتى كان يقول: لا كبيرة عندنا أكبر من اثنتين: حب الدنيا

بالإيثار، والمقام على الجهل بالرضا به» [4] .

ويقول المصنف بعد ذلك ناقلاً عن ابن مغيزل في المفاخر العلية: «كان

يحضر مجالس الشيخ أبي الحسن في مصر أساطين العلم وسلاطين العلماء من

أمثال العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، وعبد العظيم المنذري، وابن

الصلاح، وابن الحاجب وغيرهم» [5] ، وبعد انتهائي من قراءة الكتاب شكرت

للشيخ الذي أعطانيه، وقلت له: الآن أدركت حجم الهوة بين صوفية الأمس وما

عليه أدعياء التصوف اليوم؛ إذ لا وجه معقولاً للمقارنة، فليس بينهم حتى مشابهة

في بعض الأحوال. ثم دخلت معه في مناقشة حول الكتاب، فقلت مبتدئاً الحديث:

إذا كان القرآن والسنة هما الدستور وطريق النجاة كما قرر الشيخ في تعاليمه؛

فلماذا تخالفون هذه التعاليم وأنتم تعتقدون إمامة الشيخ وصدق كلامه؟

قال: كيف؟

قلت: ألست معي في أن كل ما خالف الكتاب والسنة فهو من قبيل البدع

والزيادات التي يحاسب العبد عليها أمام ربه تعالى؟

قال: بلى!

قلت: في حلقات ذكركم ترقصون وقوفاً، وتتمايلون مع ألفاظ الشرك بشكل

يدفع إلى السخرية!

قال: وماذا تقصد بألفاظ الشرك؟

قلت: طلب المدد من غير الله مثلاً، وكذا الاستعانة بالمخلوق فيما لا يقدر

عليه إلا الله قولاً أو فعلاً.

فقال: عندي البراهين على صحة كل هذا.

قلت: هاتوا برهانكم.

قال: أما الذكر وقوفاً أو قياماً فقد أثنى الله تعالى على الذاكرين في كل

الأحوال، فقال عز وجل: [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم] (آل

عمران: 191) ، وقال سبحانه عن أصحاب الكهف: [إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] (الكهف: 14) ، فهذا نص على القيام بالذكر في أكثر من

موضع في القرآن الكريم!

قلت مستغرباً: لي اعتراضان:

الأول: أن الرقص شيء والقيام شيء آخر؛ فهل معنى القيام في الآيات هو

الرقص والتطويح؟!

الثاني: وهل معنى الذكر في الآيات قائماً هو طلب المدد من غير الله تعالى،

أو الذكر المكرر بالمضمر كقولكم: يا هو يا هو ... إلخ؟! ألم يعلمنا رسول الله

صلى الله عليه وسلم أن أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأن كلمة الإخلاص هذه هي

أفضل ما قاله هو والنبيون من قبله؟ ألم يعلمنا أن نربع على أنفسنا في الدعاء؛

فإننا لا ندعو أصم ولا غائباً بل ندعو سميعاً قريباً، وهو معنا أينما كنا، وأقرب

إلينا من حبل الوريد؟!

قال: قد يكون عندنا بعض المخالفات في الهيئة وأظنها لا تتجاوز الكراهة،

فالقصد هو الذكر ولا نقصد شركاً، والأعمال بالنيات.

قلت: يشترط شيخكم فيمن يريد أن يكون معه على الطريق أن يتبحر في

علوم الشريعة، وها أنتم تخالفون الشرط؛ إذ لو كنتم تعلمون بدهيات الشرع لعلمتم

أن النية وحدها لا تكفي؛ إذ لا يُقبل العمل عند الله إلا بالنية الصالحة مع المتابعة

للسنة، وهما شرطا قبول الأعمال، فالنية بلا متابعة بدعة، والمتابعة بغير نية

نفاق، ودليل الشرط الأول أنت ذكرته، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما

الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» [6] ، ودليل الشرط الثاني أنت قد أهملته،

وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»

[7] ؛ أي مردود على صاحبه وغير مقبول؛ لأنه من البدع التي حث الشارع

على تركها والبراءة من أصحابها إن هم أصرُّوا عليها بعد العلم.

فابتسم قائلاً: هكذا أنتم معشر السُّنية - يقصد (أهل السنة والجماعة) - كل

شيء لا يعجبكم تقولون إنه بدعة، حتى إن كان مجهولاً بالنسبة لكم.

قلت: معاذ الله! هذا حكم جائر وقضاء ظالم، أسأل الله أن لا يؤاخذك بما

تقول، وعموماً بيني وبينك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ هل

ترتضيهما حَكَماً؟

قال: نعم.

قلت موضحاً للبدعة حتى يفهم: قال العلماء: إن سنة رسول الله صلى الله

عليه وسلم التي وصلت إلينا ويجب علينا العمل بها أقسام أربعة: قولية، عملية،

إقرارية، تركية.

1 - القولية: هي ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لنا وأمرنا به وجوباً أو

استحباباً.

2 - الفعلية: هي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لتأكيد الأمر في القول

أو لبيان الجواز.

3 - الإقرارية: هي ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أو عُرض عليه وأقره.

4 - التَّرْكية: هي ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وجوداً أو عدماً.

قال: ما معنى الوجود والعدم؟

قلت: الترك الوجودي هو ترك الشيء مع وجود المقتضي له، والترك

العدمي هو ترك الشيء لعدم وجود ما يقتضيه، ومن هنا كانت القاعدة الأصولية

«ترك العمل بالشيء في عهد النبوة مع وجود المقتضي له دليل على عدم

المشروعية» .

قال: وضِّح فإن الأمر قد أُغلق عليَّ والتبس ولا أستطيع فهمه؟

قلت: سأضرب لك مثالاً من الواقع الذي تعيشونه معشر الصوفية.

قال: تفضل.

قلت: لماذا تحتفلون بموالد المقبورين وإن كانوا جميعاً كما تزعمون من أولياء

الله الصالحين، وقد سلَّمنا لكم جدلاً بذلك؛ رغم أن الواقع كشف زيف هذه الدعوى

في كثير من الأضرحة في مصر؟

قال: محبة وتكريماً.

قلت: هل أنتم خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: كلا.

قلت: هل أولياؤكم خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: كلا.

قلت: لم يحتفل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمولده رغم وجود

المقتضي؛ وهو حبهم له حتى كانوا يتمنون فداءه بالأهل والمال، وليس بعد ذلك

تكريم، فأنت الآن أمام خيارات ثلاثة:

1 - أنتم أفضل من الصحابة.

2 - أولياؤكم أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3 - أنتم على ضلالة.

أما الأول والثاني؛ فنعوذ بالله من اعتقاده، وأما الثالث فهو الأقرب إلى الحق

والعدل والصواب؛ إذ لو كان ما تصنعونه خيراً لسبقونا إليه، ولأرشدنا إليه خير

البشر صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيراً إلا ورغَّبنا فيه، وما ترك شراً إلا

ورهَّبنا منه، والعمل الذي تركه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود

مقتضاه وقدرتهم عليه والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ليس مشروعاً في

حقنا؛ إذ هذا كالإجماع على بطلانه شرعاً وابتداع مَنْ فعله [8] ، ولا أظن أنكم أوفى

لأوليائكم من وفاء الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه

وسلم رمز التضحية والفداء.

قال: هذا شأنكم تكبِّرون الصغيرة وقد أوتيتم جدلاً.

قلت: أعوذ بالله أن نجادل إلا بالحق لندحض به الباطل، وقد أجازه لنا ربنا

عز وجل فقال: [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125) .

قال: ألا تريد أن تكون معنا؟ قلت: فرقتم الأمة إلى شيع وأحزاب، وخالفتم

الاعتصام والوحدة، وأسرعتم خلف ما تشتهون، ثم تريدونني معكم؟! ليتكم اتبعتم

مبادئ شيخكم؛ فلو اعتقدتموها لوجدتموني معكم دون أن تطلبوا ذلك، ولكنكم سرتم

في واد غير الذي سلكه إمامكم رحمه الله، فأنا معه ولست معكم.

وهنا تذكرت أئمة الصوفية كالإمام الجنيد، والإمام ابن القيم، وإبراهيم بن

أدهم، ومعروف الكرخي، والإمام ابن رجب، والجيلاني، والرفاعي، وكذا

الشاذلي، رضي الله عنهم أجمعين، ورحمهم الله رحمة واسعة، وألحقنا بهم في

الصالحين، فقد كانوا مدارس في الفقه والتوحيد والتزكية.

نسأل الله حسن الخاتمة، والوقاية من بدع المتأخرين، وهدايتهم جميعاً إلى ما

يحبه ويرضاه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015