مجله البيان (صفحة 4469)

المشروعية العليا في الإسلام وأثرها في العلاقات الدولية

دراسات في الشريعة

المشروعية العليا في الإسلام

وأثرها في العلاقات الدولية

د. عثمان جمعة ضميرية

drothmamjd@hotmail.com

جعل الله تعالى الإنسان كائناً اجتماعياً؛ فهو مدني بطبعه، يميل إلى اللقاء

بالآخرين والحياة معهم في مجتمع يقوم على جملة من القواعد والنظم التي تضبط

علاقته بربه، وعلاقته بالآخرين من حوله، وتضبط معالم حياته الاجتماعية

والاقتصادية والدولية؛ فهو إذن بحاجة إلى شريعة تنظم حياته وعلاقاته وارتباطاته.

ولما كان الإنسان بحكم تكوينه العقلي والنفسي، وبسبب خضوعه للهوى

أحياناً، والمصالح الذاتية والدوافع الخاصة أحياناً أخرى عاجزاً عن أن يضع لنفسه

منهجاً متكاملاً خالياً من العيوب؛ فقد تكفَّل الله تعالى بذلك، رحمةً منه وفضلاً،

وأرسل رسله وأنزل كتبه وشرائعه ليقوم الناس بالحق والعدل، وليقيم بذلك الحجة

على الناس: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ

بِالْقِسْطِ] (الحديد: 25) ، [رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ

حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] (النساء: 165) ، وجعل الله تعالى لكل أمة من الأمم سبيلاً

ونظاماً ومنهجاً يتسق وحياتها الفطرية، ويحقق لها مصالحها العاجلة والآجلة:

[لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا] (المائدة: 48) .

وهذه الصفة الربانية والصبغة الدينية للتشريع الإسلامي تأتي في قمة الفوارق

بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية التي يرتضيها البشر لأنفسهم في القديم

والحديث، ولها أثرها الكبير في خضوع المؤمنين جميعاً لشرع الله تعالى؛ لأنه

يقوم على أساس ديني، مما يضمن له حسن الامتثال؛ بخلاف القوانين الوضعية

التي تضبط إن استطاعت الظاهر من حياة الناس، ولكنها لا تستطيع أن تضبط

البواطن، ولا أن تصل إلى أعماق النفوس أو أن تعرف دخيلتها، لتقدم لها ما

يناسبها من علاج تشريعي؛ لذلك لا نجد لها من الهيبة والاحترام ما نجده للتشريع

الإلهي الذي يقوم على الوحي المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،

وهو الوحي الذي تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه.

* نظرية المشروعية المعاصرة:

ولذلك تلجأ القوانين الوضعية إلى اختراع مبادئ ونظريات، تضمن خضوع

الدولة وخضوع الناس لسلطة القانون وأحكامه، فنشأت نظرية «المشروعية» .

ولم يستعمل الأقدمون كلمة «مشروعية» كثيراً، ولكنها أصبحت في هذا

العصر ذات معنى عريض ومكانة عظيمة؛ فهي أساس النظام، وبها يُعرف أن

أمراً من الأمور حقٌّ وعدل أو باطل وظلم، وبها يُعرف أن الأمر محظور أو مباح؛

فهي في المصطلح الحديث تدل على سيادة القانون في دولة من الدول، وتطلَق

بالذات على خضوع الدولة للقانون.

وهذه السيادة تختلف في مفهومها وصفاتها في كلٍّ من النظامين الوضعيين

اللذين تخضع لهما المجتمعات العصرية، وهما: النظام الفردي (وصورته

الرأسمالية) والنظام الموضوعي (وصورته الاشتراكية) .

ففي النظام الفردي: تكون المشروعية هي ما يسنُّه البشر من النظم العليا،

وهي الدستور والقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية الممثلة في الهيئات المنتخبة

عن الشعب؛ فنظام المجتمع كله يخضع للدستور ثم للقوانين، ويجب أن تكون

اللوائح والقرارات والعقود، وكل وضع آخر، خاضعاً لهذين المصدرين.

وأما في النظم الموضوعية: فهناك مُثُلٌ عليا تسود المجتمع، ويجب أن

يخضع لها الدستور نفسه، وكذلك القوانين من باب أوْلى؛ فلا قيمة لهما إلا إذا

وافقا هذه المشروعية العليا وطابقاها [1] .

* سلبيات المشروعية المعاصرة:

وهذا المبدأ الذي نادت به القوانين الوضعية، وجعلته حلاً للحكم المطلق،

وصاغت من أجله الدساتير والقوانين، والوثائق العالمية، والمعاهدات الدولية،

والمنظمات الإقليمية، هذا المبدأ هو نفسه لون من ألوان الظلم والاستعباد والتسلط؛

لأنه يعطي فئة من البشر حقَّ التشريع والحاكمية وسنَّ القوانين التي يخضع لها مَنْ

تطبق عليهم؛ إذ من السهل عليهم أن يصوغوا من الظلم قواعد، ومن الباطل

قوانين، ويجعلوها أوثاناً عصرية..

وكل ما تَفَتَّقَ عنه العقل البشري في المجال القانوني من ضمانات لسيادة

القانون لا يقوم على دعائم ثابتة ولا أسس راسخة، وكل ما قيل عن جمود الدساتير

وعدم قابليتها للتعديل يسقط بحركة مضادة، دونما حاجة إلى إجراء تعديل دستوري

أو شعبي، وأحياناً لا يستغرق التعديل الدستوري بضعة دقائق، تلبية لرغبة

المتنفذين من أصحاب السلطة، رغم كل ما يقال عن ثبات القواعد الدستورية.

وما قيل عن الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)

كان في عالم الواقع أثراُ بعد عين، إلى جانب ما قيل عن الرقابة القضائية (رقابة

دستورية القوانين) .. قد يكون حبراً على ورق، عندما نفتقد ذلك المستوى الرفيع

من الذين يوكل إليهم ذلك.. وهذا كله ينتقص هذه المشروعية من أطرافها بوسائل

متعددة، فلا تجد هذه المشروعية لها سبيلاً إلى عالم الواقع، وما نجده من استعباد

القويّ للضعيف، والدولة الكبرى للصغرى، والثورات العسكرية، وإنكار حقوق

الإنسان.

كلُّ هذا الذي تقدّم: أمثلةٌ صارخة على أن هذا المبدأ في القانون الوضعي إنما

هو صرخة في واد، أو فكرة مجنحة في عالم الخيال ... يحاولون الوصول إليها فلا

يستطيعون [كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً]

(النور: 39) .

* هذه هي المشروعية الإسلامية:

فإذا عدنا إلى الإسلام دين الله الخالد الذي أتم الله به علينا النعمة، ورضيه لنا

ديناً؛ حيث قال: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ

الإِسْلامَ دِيناً] (المائدة: 3) ؛ فإننا نجد أن القرآن الكريم قد أرسى قاعدة الشرعية

على أصول ثابتة؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي له الحكم ابتداءً، هو

المشرع، وهو الحاكم: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاه] (يوسف:

40) .

وقد نزع الله تعالى سلطة التشريع من البشر، ولم يمنح هذه السلطة لأحد منهم:

[أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] (الشورى: 21) .

فالله سبحانه وتعالى هو الذي أنزل هذه الشريعة وهذا المنهج الخالد: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا

مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) . حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما

هم في الحقيقة لا يشرِّعون وإنما يتلقون الوحي من الله عز وجل، ولكن الوحي قد

يكون وحياً متلواً أو غير متلو؛ فقد قال الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم:

[وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى] (النجم: 3) .

* العلماء لا يشرعون:

وأما العلماء والفقهاء المجتهدون فإنهم لا يشرّعون، وإنما يستنبطون الأحكام

من النصوص الشرعية ضمن قواعد الاجتهاد وتفسير النصوص، وإن كان بعض

المعاصرين من العلماء يطلقون لفظ «التشريع» على بعض الأحكام الاجتهادية مما

لا نص فيه مما يتصل ببعض جوانب الحياة. وليس من غرضنا في هذه العجالة أن

نبحث في صحة هذه التسمية والإطلاق أو عدم صحتهما.

ولأن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالأمر والنهي والحكم؛ فقد حكم بالكفر

على الذين جعلوا لأنفسهم حق التشريع من دون الله أو مع الله بالتحليل أو التحريم؛

فقال عن اليهود والنصارى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ

وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ] (التوبة: 31) . وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه

الآية لعدي بن حاتم عندما قدم عليه ليُسْلِم، كما جاء في حديثه الذي يقول فيه:

«أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا

عدي! اطرح هذا الوثن من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في

» سورة براءة «، فقرأ هذه الآية: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ

اللَّهِ] (التوبة: 31) ، قال: فقلت: يا رسول الله! إنَّا لسنا نعبدهم. فقال:

أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت:

بلى! قال: فتلك عبادتهم» [2] .

وقد اعترف المشركون أنفسهم بأنهم وقعوا في الشرك؛ لأنهم توجهوا بالشعائر

لغير الله، وحللوا وحرموا من دون الله، فقال الله تعالى عنهم: [وَقَالَ الَّذِينَ

أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ

مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (النحل:

35) وبذلك يتهاوى كل ما يقال عن سلطة الأمة في التشريع، أو حكم الشعب

للشعب باسم الشعب، وهو ما أُطلِقَ عليه اسم «الديمقراطية» ، وغير ذلك من

الشعارات الزائفة.

* ما هي المشروعية ومدلولاتها؟

وإذا أردنا تحديد المشروعية الإسلامية العليا التي يتقيد بموجبها كلُّ ما يصدر

عن المكلَّف من قول أو فعل أو تصرُّف؛ فإننا نجد أنفسنا أمام معنى لغوي استُمِدَّ

منه المعنى الشرعي، (وفي كل التعريفات نجد ذلك) ؛ فالمشروعية مشتقة من

الفعل (شرع يشرع) وهو فعل يفيد البدء في السير على أساس منظم، أي على

أساس من التنظيم المسبق. ومنه: الشارع وهو الطريق المعدّ للسير، والمشروع:

هو الفكرة المنظمة، والتشريع: وهو القاعدة العامة المنظِّمة (بكسر الظاء) وكذا

منه الشرع والشريعة والمشرع أو الشارع.

وتطلق المشروعية عند علماء الفقه الإسلامي على الدليل الشرعي الذي يدل

على حكم من الأحكام التكليفية الخمسة، فنقول مثلاً: الدليل على مشروعية البيع

قوله تعالى: [وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ] (البقرة: 275) .

ومضمون المشروعية الإسلامية هو التضامن في تنفيذ ما أمر الله تعالى به،

وفي منع ما نهى الله تعالى عنه [3] ؛ فقد قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا

اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا

وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً

وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ

هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 102-104) . وقال أيضاً: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ

وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 2) .

ويمكن أن نقول: إن مضمون المشروعية الإسلامية هو الحفاظ على مقاصد

الشريعة العامة، وهي الضروريات والحاجيات والكماليات ... إذ هو مقصود

الشريعة [4] .

وبذلك تتقيد جميع الأحكام بهذه المشروعية الإسلامية العليا، ويمتد نطاقها

ليشمل علاقة الدولة بالأفراد، وعلاقة الأفراد ببعضهم.

ومن هنا أيضاً تتميز أحكام العلاقات الدولية والتنظيم الدولي الإسلامي عنها

في ظل القانون الدولي الحديث؛ حيث تقوم في الإسلام على هذا التضامن؛ فإن

وحدة الأمة الإسلامية التي تسكن دار الإسلام إنما تظهر فيها أحكام الشريعة

الإسلامية، وهذه الوحدة المتماسكة لا يجوز أن يقوم بينها وبين غيرها علاقة

الحرب إلا لأجل إعلاء كلمة الله تعالى؛ فلا يجوز أن تشن على سائر البلاد حرباً

بقصد الاغتناء الاقتصادي أو فتح الأسواق أو تأمين المواصلات أو غير ذلك، وإنما

الهدف الوحيد الذي يسوِّغ الحرب هو الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى؛ ولذلك قال

عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن الرجل يقاتل حميَّةً ويقاتل رياءً: أيُّ ذلك في

سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [5] .

* الالتزام الذاتي بقواعد العلاقات الدولية:

وتؤدي هذه المشروعية أيضاً: إلى أن تقوم أحكام العلاقات الدولية (بين

المسلمين والكافرين) على الالتزام الذاتي بقواعد العلاقات الدولية كجزء من قانونهم

الداخلي، أي ولو بدون معاهدة أو عرف دولي، وبصرف النظر عن قوة الدولة

الإسلامية وسيادتها وقدرتها على الدول الأخرى؛ فالقانون الدولي الإسلامي يستند

إلى أساس ثابت للإلزام شأنه في ذلك شأن أي قانون إسلامي آخر في البلاد، وحتى

الالتزامات المفروضة بمقتضى معاهدات ثنائية أو متعددة الأطراف «دولية» فإن

لها نفس الأساس. فهو التزام ذاتي سببه التكليف الشرعي باعتبار أن أحكام الشريعة

الإسلامية خطاب ملزم للمسلم في ذاته، فهو يطبق أحكام وقواعد السِّيَر في مجالها،

كما تطبق أي قاعدة شرعية أخرى في مجالها. وكلها على وجه الالتزام وعلى وجه

حكمها الشرعي من الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهية أو التحريم؛ فإنه على

سبيل المثال إذا طلب العدو الهدنة أو الذمة فيجب إجابته إلى ذلك فرضاً بنص

القرآن الكريم على ذلك: [وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ

اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَه] (التوبة: 6) ، [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى

اللَّهِ] (الأنفال: 61) . وفي الحديث الصحيح عن سليمان بن بريدة عن أبيه في

الدعوة إلى الإسلام قبل القتال: « ... فإن هم أبوا الإسلام فاسألهم الجزية، فإن

أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» [6] .

وكذلك اعتبار عقد الأمان ملزماً لنا وحدنا دون من يُعقَد معهم من المشركين،

وكذلك لا ننتهز فرصة ضعف للإجهاز عليه، ولا يجوز للمسلمين قتل الصبي أو

المرأة في الحرب إلا في أحوال خاصة كما لو اشتركوا فعلاً بالقتال، استثناء من

القاعدة العامة، ولا يجوز الغدر بهم حتى ولو غدروا هم [7] . وهذا الالتزام الخاص

منشؤه أننا مخاطَبون بأحكام الشريعة دونهم، وهم ليسوا مخاطبين بفروعها ولا

يلتزمونها [8] ، فالتزامنا بها التزام أصيل وناشئ عن خضوعنا لله تعالى في كل

أعمالنا.

وقد كانت الدولة الإسلامية في أوج قوتها وعنفوان سيادتها تلزم نفسها بأدق

آداب الإسلام في القتال والمعاهدات، ولو لم يلتزمها من تحاربهم، إلا إذا ساغ في

الشرع رد العدوان بمثله [9] .

وأساس الإلزام بهذه الأحكام وسائر الأحكام أنها أوامر الله سبحانه وتعالى

لعباده؛ فهو وحده الحاكم الآمر الواجب الطاعة، وهو مقتضى الإيمان بالله وتوحيده

وعبادته، ولذلك اتفق العلماء على أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى، وأنه لا أحد

يستحق أن ينفذ حكمه على الخلق إلا مَنْ كان له الخلق والأمر سبحانه وتعالى.

* الوقائع التاريخية مشاهدة:

ثم جاء الواقع التاريخي مَعْلَماً شاهداً صادقاً على ذلك، والوقائع الدالة على

ذلك كثيرة تَعزُّ على الحصر، نجتزئ منها بثلاثة أمثلة:

أولها: فيما يتصل بالقاعدة العامة فيمن تُوَجَّه إليهم العمليات الحربية؛ ومن لا

يجوز أن نقتلهم في الحرب، والعمدة في ذلك، بعد النصوص القرآنية والنبوية،

هو وصية الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ فقد بعث أبو بكر

الصديق يزيد بن أبي سفيان على جيش، فخرج معه يمشي وهو يوصيه، فقال:

«يا خليفة رسول الله! أنا الراكب وأنت الماشي؛ فإما أن تركب وإما أن أنزل.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أنا بالذي أركب ولا أنت بالذي تنزل؛ إني

أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله. ثم قال: إني موصيك بعشر فاحفظهن:

1 - إنك ستلقى أقواماً زعموا أنهم قد فرَّغوا أنفسهم لله في الصوامع، فَذَرْهُمْ

وما فرَّغوا أنفسهم له.

2 - وستلقى أقواماً قد حلقوا أوساط رؤوسهم من الشعر، فافلقوها بالسيف

يعني الشمامسة.

3 - ولا تقتلن مولوداً (صبياً) .

4 - ولا امرأة.

5 - ولا شيخاً كبيراً (هَرِماً) .

6 - 7 - 8 - ولا تقطعنَّ شجراً بدا ثمره إلا لنفع، ولا تحرقنَّ نخلاً ولا

تغرقنَّه، ولا تقطعنَّ كرماً. (وفي لفظ: لا تخربنَّ عامراً، ولا تغرقنَّ نخلاً ولا

تحرقنَّه» ، وفي آخر (لا تعقرنَّ شجرة إلا شجراً يمنعكم قتالاً أو يحجز بينكم وبين

المشركين) .

9 - 10 - ولا تذبحن بعيراً أو بقرة ولا شاة، ولا ما سوى ذلك من المواشي

إلا لأكل «. وفي رواية:» ولا تهدموا بِيعة «. وفي أخرى:» ولا تغلنَّ، ولا

تجبننَّ، ولا تفسدنَّ ولا تعصينَّ «. وفي رواية ثالثة:» ولا تغلنَّ، ولا تجبننَّ،

ولا تفسدنَّ ولا تعصينَّ « [10] .

الثاني: حكم القاضي المسلم حاضر بن جُمَيْعٍ على جيش المسلمين في

الخروج من سمرقند [11] بعد فتحها دون إنذار؛ تحقيقاً لهذا العدل المطلق؛ فلما

استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال أهل سمرقند لسليمان بن أبي

السري عامل عمر على تلك البلاد: إن قتيبة بن مسلم قد غدر بنا وظلمنا وأخذ

بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف؛ فائذن لنا فليفِدْ منا وفد إلى أمير المؤمنين

يشكو ظلامتنا؛ فإن كان لنا حق أُعطيناه؛ فإن بنا إلى ذلك حاجة. فأذن لهم،

فوجَّهوا منهم قوماً فقدموا على عمر، فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها

المسلمين على غدر. فكتب عمر إلى سليمان بن أبي السري: إن أهل سمرقند قد

شَكَوْا إليَّ ظلماً أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم. فإذا

أتاك كتابي فأجلِسْ لهم القاضي، فلْينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخْرِجْهم إلى

معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم القاضي

حاضر بن جُمَيْع الناجي، فحكم بإخراج المسلمين إلى معسكرهم، وأن ينابذوهم بعد

ذلك على سواء، فيكون صلحاً جديداً أو ظفراً عنوة. فقال أهل سمرقند: قد خالطنا

هؤلاء القوم وأقمنا معهم وأمنونا وأمنَّاهم؛ فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب ولا ندري

لمن يكون الظفر، وإن يكن لنا قد كنا اجتلبنا عداوة في المنازعة، فنرضى بما كان

ولا نجدد حرباً. فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا [12] .

والثالث: حادثة أخرى فريدة، حين ردّ أبو عبيدة رضي الله عنه على أهل

الذمة في بلاد الشام ما جُبِي منهم من الجزية والخراج؛ لأنه كان قد اشترط لهم أن

يمنعهم ويدافع عنهم، وهو لا يقدر على ذلك لما رأى تجمُّع الروم، وقال لهم:

» إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه بلغنا ما جُمِع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم

علينا أن نمنعكم، وإنَّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم

على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. فلما قال لهم ذلك وردُّوا

عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم. فلو كانوا

هم لم يردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يَدَعوا لنا شيئاً « [13] .

* سلبيات العلاقات الدولية الوضعية:

هذا؛ بينما تقوم العلاقات الدولية الوضعية في القديم والحديث على الأنانية

وحب الذات، ولا تقيم وزناً للقيم الأخلاقية ولا المبادئ الإنسانية ولا المعاهدات

والمواثيق الدولية؛ فقد دانت الدول الغربية والأوروبية بتعاليم فيلسوفها مكيافيلي،

فيما أودعه بكتابه» الأمير «الذي ذهب فيه إلى أن» لا وجه لتطبيق قواعد

الأخلاق في أمور الدولة «، وأباح فيه للأمير أن يتظاهر بالرحمة والإنسانية

والتدين، ويفعل عكس ذلك متى دعت إليه المصلحة.

وكان يدعو إلى تكوين دول أكبر من الإمارات الصغرى للوقوف في وجه

الدين الإسلامي [14] .

واتخذ الملوك والقواد العسكريون مبادئ مكيافيلي شعاراً لهم، وسار الزعماء

الغربيون المعاصرون على المنهج نفسه؛ فاتجهت ميول الساسة نحو الفوضى

الأخلاقية، وقامت على أساس الغش والخداع والوقيعة والدسائس. فغدت الحروب

في غاية القسوة والغدر والجور، وأصبحت المعاهدات والمواثيق الدولية حبراً على

ورق، أو لا تساوي الحبر الذي كتبت به. ثم قامت تلك الدول الغربية الاستعمارية

قديماً وحديثاً باستغلال الشعوب الضعيفة واستنزافها، كما تقوم ببسط سيطرتها

ونفوذها على الدول الضعيفة والصغيرة، وإفساد عقيدتها وأخلاقها، وبعد ذلك تملي

إرادتها عليها، بشكل ظاهر مباشر أو بشكل مستتر خفي، وهو لون من ألوان

الاستعمار الصليبي الجديد باسم جديد وتحت شعار جديد؛ شأنها في ذلك شأن الأناني

في علاقته مع الناس، مما يثير الصراع ويفشي الظلم، ويسوِّغ الغدر، ويبرر

الواسطة مهما كانت بالغاية الأنانية التي تستهدف المصلحة الخاصة مهما كان

الضرر الذي تلحقه بالغير.

وواقع العلاقات الدولية اليوم شاهد ناطق بذلك، وما قضايا المسلمين في بقاع

كثيرة من العالم ببعيدة عنا. ومن أقرب الأمثلة على ذلك: الحروب التي اصطلى

المسلمون بنارها وغدر قوادها وهمجيتهم وإفسادهم: في البوسنة والهرسك، وفي

الشيشان، وفي الفلبين، وفي الحبشة، وفي الصومال، وفي زنجبار، وفي الهند،

وأخيراً في حرب الدول المتحالفة من قوى الصليبية العالمية ضد المسلمين في

أفغانستان.

وأما الحال في فلسطين فهي وصمة عار في جبين الغربيين الذين يدّعون

الحضارة والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ويرفعون الشرعية الدولية

والمبادئ الإنسانية، ويتغنون بقواعد القانون الدولي العام.

* وشهد شاهد من أهلها:

ولعله من المناسب بعد هذا الذي أشرنا إليه: أن نستدعي شاهداً من أبناء

الحضارة الغربية المعاصرة؛ من أساتذة القانون الدولي والعلاقات الدولية، ليدلي

بشهادته حيال الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية في الحضارة الغربية

المعاصرة، وهي شهادة فوق الشبهات؛ لأن صاحبها من أبناء تلك الحضارة ويعيش

في كنفها، وهو أيضاً في موقع المسؤولية العلمية في هذا الجانب؛ ذلكم هو

البروفيسور (جوزيف فرانكل) ، في كتابه:» العلاقات الدولية « (ترجمة

الدكتور غازي القصيبي) . وفيه ينتهي القارئ إلى أن العلاقات الدولية المعاصرة

ترتكز أساساً، إن لم يكن كلياً، على أساسين اثنين: المصلحة الوطنية، والقوة.

1 - المصلحة الوطنية:» المصلحة الوطنية هي المفتاح الأساسي في

السياسة الخارجية، ويرتد هذا المفهوم في جوهره إلى مجموع القيم الوطنية، تلك

القيم النابعة من الأمة والدولة في نفس الوقت، غير أن هذا المفهوم لا يخلو من

غموض.. وإذا كان من الصعب بيان المقصود بالمصلحة الوطنية بفكرة مجردة؛

فإن من المستحيل أن نجد إجماعاً على ما تعنيه في قضية معينة.

إن الجدل المتكرر حول السياسة الخارجية يتركز حول التفسيرات المختلفة

لمتطلبات المصلحة الوطنية..

ليس من الضروري أن نعرِّف المصلحة القومية تعريفاً ضيقاً يستبعد

الاعتبارات الخلقية والدينية وما على شاكلتها، وإنما تقتضي فاعلية هذه المصلحة،

غير أن هذا لا يعني أنه ليس بوسعهم البتة الاتفاق على شيء ما، بل على العكس

كثيراً ما يتفقون، وإن كان هذا الاتفاق ينطلق أيضاً من مصالحهم الوطنية، فإذا

وافق سياسي على تقديم تنازلات فإنه لا يفعل ذلك إلا إذا اقتنع أن عمله سيعطي

دولته بعض المزايا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة..

إن فكرة المصلحة الوطنية مبنية على وجود قيم في الجماعة الوطنية؛ هذه

القيم التي يمكن أن تعتبرها من نتاج ثقافتها ومعبراً عن روح تجانسها ... غير أن

العلاقة بين هذه القيم وبين الأهداف السياسية المحددة تتطلب شرحاً أكبر. إن القيم

تنتمي إلى مجال «ما يجب أن يكون» وليس من الضروري أن تترجم إلى أهداف

سياسية محددة ... إن النظم القيمية يعوزها اليقين عامة، بل إنها أحياناً تتضمن قيماً

متضاربة، وهو ما يثير مشكلة: أيٌّ من هذه القيم الواجب التطبيق في الحالات

المفروضة؟ ... وقد تتعقد الأمور أكثر من ذلك، وقد يستهدف الساسة التضليل من

وراء تصرفاتهم، بل إنه طبقاً لنظرية فرويد لا يعرفون بالضبط حقيقة الدوافع التي

تسيِّرهم، وأخيراً فإن الثقافات المختلفة لا تعطي الأهمية لنفس القيم.. ولقد كان

الإنسان يسعى طوال تاريخ الفكر السياسي إلى تصوير قيمة عليا تتخذ معياراً عاماً

لتصرفاته؛ وللأسف فإن مجرد وجود نظريات متناقضة في هذا الموضوع يعني

الشك في إمكانية أن تكون أي منها صحيحة كل الصحة. ومعيار المصلحة الوطنية

رغم شعبيته شديد الغموض.. وعندما تصطدم قيمتان أو أكثر فيما بينها فإن الأهمية

النسبية لأي منها يجب أن تقدر وترسى ... وهذا التصنيف للقيم ليس سهلاً؛ لأن

التركيز على أهميتها يتراوح من حالة إلى أخرى، وكثيراً ما تحكمه العواطف ... «.

ولا بد أن يستنتج القارئ من الشرح السابق صعوبة تعيين المصلحة الحقيقية

الوطنية، وأنه ليس من الضروري أن تكون محكومة بمعايير موضوعية، كما

يستنتج قابليتها للمرونة والتكيف في يد صانع القرار، وسيكون في إمكانه نتيجة

لذلك أن يقيِّم مدى أهلية المصلحة الوطنية لأن تكون أساساً قوياً للعلاقات الدولية.

2 - القوة:» إن مشكلة القوة تدخل جميع أنواع العلاقات الدولية: في

الحروب والمنافسات تدخل القوة بمعناها العسكري، وفي التعاون يدخل التهديد

بالقوة لقمع أحد الأطراف. يدور عالم السياسة كله حول ممارسة القوة والبحث عنها.

غير أن القوة في السياسة الدولية أوضح بكثير وأقل قيوداً من القوة في السياسة

الداخلية. ولهذا فكثيراً ما تسمى السياسة الدولية بسياسة القوة ... ولقد أدى

الدورالهام الذي تلعبه القوة في العلاقات الدولية إلى نشوء مدرسة فكرية تفسر

العلاقات الدولية على ضوء مفهوم القوة ... ولكن بالرغم من أن القوة تلعب دوراً

هاماً في السياسة الدولية فإنها في الأساس وسيلة لتحقيق قيم وطنية، والسياسة

الدولية لا تحددها القوة التي تملكها الدولة فحسب، وإنما تحددها بدرجة أكبر القيم

التي تعتنقها هذه الدول، ومفهوم المصلحة والوطنية التي تحكم سلوك الدول لا يقف

عند اعتبارات وحدها « [15] .

وبهذه الشهادة ننهي المقال. [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ

يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015