دراسات في الشريعة
(1 ـ 2)
محمد بن عبد الله الدويش [*]
شأن وسائل الإعلام وأثرها في نقل الكلمة وإبلاغها لا يخفى على أحد؛ فهي
تصل إلى متلقيها في أي مكان على وجه الأرض، وتسهم في تشكيل مواقف الناس
وسلوكياتهم وقيمهم.
ولذا كان لا بد للدعاة إلى الله عز وجل من أن يتطلعوا إلى استثمار هذه
الوسائل في إبلاغ الدعوة وإيصالها للناس.
ولما كانت معظم وسائل الإعلام المؤثرة التي تصل رسالتها إلى فئات واسعة
من الناس ليست في يد الصالحين، ويغلب عليها الفساد والانحراف كانت المشاركة
في هذه الوسائل محل إشكال شرعي وتوقف كثير من الدعاة إلى الله عز وجل؛ فهل
يسوغ لهم أن يشاركوا فيها برغم ما تحويه من مخالفات شرعية وانحرافات؛ بل
هي تحمل لواء الفساد والترويج له ونشره في الأمة؟ أم أن هذا الفساد والانحراف
الذي يغلب عليها يمنع من المشاركة فيها والاستفادة منها؛ إذ الدعوة إلى الله تعالى
لا بد من أن تكون على بصيرة ومنهج شرعي، ومن ثَمَّ فالوسائل التي يسلكها الدعاة
إلى الله عز وجل في تبليغ دعوتهم للناس ينبغي أن تخلو من أي مخالفة شرعية؟
لذا كان لا بد من تحرير مسألة المشاركة في وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة، وهل
يسوغ للدعاة أن يستخدموها في نشر دعوتهم أم لا؟
وحيث إن هذه المسألة من المسائل الحادثة ولم يكن فيها نص بخصوصها فلا
بد من بحثها من خلال القواعد الشرعية وبخاصة قواعد المصالح والمفاسد؛ إذ
أصل المشاركة في هذه الوسائل تحقق مصالح ويلزم منها مفاسد؛ فمن نظر إلى
المفاسد وغلَّبها رجَّح جانب الحظر والسلامة، ومن نظر إلى المصالح وغلَّبها رجَّح
جانب الإقدام والمشاركة.
وأحسب أن هذه المسألة لا تعدو الاجتهاد في الموازنة بين المصالح والمفاسد،
والعمل جارٍ على هذا عند العلماء والخاصة والعامة.
ولا يكاد يخلو أمر أو نهي في الشريعة، أو عمل من أعمال الناس الدينية
والدنيوية من مفاسد ومصالح: ففي الجهاد ذهاب الأنفس. وفي خروج المرأة
للصلاة وفي الحج والعمرة المستحبين للرجل والمرأة: فتنة وافتتان بين مقطوع به
أو مظنون. وفي خروج الرجل والمرأة لحاجتهما تعرُّض لفتن مظنونة أو مقطوعة.
وفي التجارة تعرض لمثل ذلك في سفر أو سوق. وفي الجهاد مع أئمة الجور
تثبيت لسلطانهم الجائر، ولكن لما اشتمل ذلك على حرب الكفار وبث الدعوة:
اغتفرت هذه المفسدة.
فالمصلحة الخالصة عزيزة الوجود كما قال ذلك العز بن عبد السلام [1] .
ومن ثم فبحثنا لهذه المسألة سينطلق من استعراض المفاسد والمصالح الناشئة
عن المشاركة وحصرها، والترجيح بينها بما نرى أنه أقرب إلى رعاية المصالح
الشرعية، مع ذكر الأدلة الشرعية المتعلقة بالموضوع منعاً أو جوازاً إن وجدت.
والورع في هذه المسائل ليس هو الترك والمفارقة على كل حال؛ بل إن
الورع هو في القيام بأمر الله تعالى واتباع ما كان الأشبه بأنه من مراده ورسوم دينه؛
سواء كان ذلك بالفعل أو الترك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما،
أو دفع شر الشرين وإن حصل أدناهما» [2] .
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: «إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن
تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه
وتعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن: 16) ، وإن تعذر الدرء
والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات
المصلحة. قال الله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا] (البقرة: 219) حرمهما لأن مفسدتهما
أكثر من منفعتهما.. وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصَّلنا المصلحة مع
التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما، وقد يتوقف
فيهما» [3] .
* المصالح المترتبة على المشاركة في وسائل الإعلام:
في هذا المبحث سنتناول عرضاً للمصالح التي يراها القائلون بالمشاركة،
وجواب المانعين عنها:
المصلحة الأولى: تبليغ الدعوة:
وسائل الإعلام المعاصرة وسيلة لتبليغ الدعوة، وقد فرض الله تبارك وتعالى
تبليغ الدين والدعوة إليه، وهذا أمر واجب لا خيار فيه، ولئن كان النبي صلى الله
عليه وسلم اتَّبع الوسائل المتاحة في عصره؛ فالواجب على الدعاة اليوم أن يسعوا
لتبليغ الدعوة بالوسائل الأنجع، والأكثر مخاطبة لجماهير الناس؛ ووسائل الإعلام
المختلفة اليوم أقدر على إبلاغ الرسالة وإيصالها للناس [4] .
وأجيب عنها: بأن المطلوب تحقيق البلاغ المبين وإظهار دين الله تعالى على
سبيل العموم والشمول، ووسائل الإعلام تحرم ذلك؛ فيتعذر في قنواتها الحديث عن
الولاء والبراء، وجهاد أعداء الله تعالى، بل قد تمنع الحديث عن الربا وحقوق
الرعية ونحو ذلك؛ فلا يعرض من الإسلام إلا طائفة من العبادات والأخلاق ...
فيحصل من ذلك التشويه والتضليل، وقد ورد في الحديث: «إنه لا يقوم بدين الله
إلا من أحاطه من جميع جوانبه» [5] .
ويُرَدُّ على هذه الإجابة بأنه يتحقق في هذه الوسائل بعض البلاغ وإن لم يتحقق
البلاغ التام، وهذا أمر معهود في غيرها من الوسائل الدعوية، كترك المحاضرين
والكتاب والخطباء بيان بعض الحق حتى لا يؤدي ذلك إلى مفسدة عدم وصول
دعوتهم للناس؛ فلا يختص هذا بوسائل الإعلام.
ومن المعلوم أنه لا يُبلَّغ من الدين إلا ما يمكن علمه والعمل به: قال الإمام
ابن تيمية: «.. والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكُّن من العلم بما
أنزل الله، والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن
العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن
بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل ببعضه كمن انقطع عن العلم
بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلاً؛ وهذه أوقات الفترات؛ فإذا حصل
من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول
شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بُعِثَ به شيئاً فشيئاً.
ومعلوم أن الرسول لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة
جملة؛ وكما يقال: إذا أردت أن تطاع فائمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه
والمحيي لسنته لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به؛ كما أن الداخل في الإسلام لا
يمكن حين دخوله أن يلقَّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب،
والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويُذكر له جميع
العلم فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم
يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي
بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول صلى الله عليه وسلم
عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر
بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء
هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع..» [6] .
المصلحة الثانية: شمول تأثيرها:
وهذا الشمول معلوم مشاهد لا يحتاج إلى وقفات. وأجيب عن هذه المصلحة
بأن هذا الشمول قد يتأتى عبر وسائل أخرى دون المشاركة في تلك الوسائل
الموبوءة.. كالخطبة والموعظة والدرس والكتاب والشريط السمعي والمرئي
والمطويات والهاتف.
والجواب عن هذا الإيراد بأن وسائل الإعلام أوسع في شمولها من الخطبة
والموعظة والشريط ونحوها، ومن ذلك:
أ - هناك طائفة ممن لم تبلغهم رسالة الإسلام أصلاً، ويموت كل يوم منهم
آلاف على الكفر، وهم لم يسمعوا بدعوة الإسلام، أو لم تبلغهم بطريق صحيح،
ومسؤولية هؤلاء تقع على عموم المسلمين، وكثير منهم لا يمكن الوصول إليه
ومخاطبته إلا من خلال وسائل الإعلام العامة.
ب - هناك طوائف كثيرة من المسلمين لا يستمعون للمواعظ والأشرطة، ولا
يقرؤون الكتاب الإسلامي، أو لا تصل إليهم هذه الوسائل، وهؤلاء يعيشون في
غفلة وإعراض عن الدين، فيحتاجون لموعظة تؤثر في قلوبهم، أو حديث عن
محاسن الإسلام، أو خطاب يحرك عواطفهم ومشاعرهم، وكثيراً ما رأينا من
المسلمين من أفاق بعد غفلة، واهتدى بعد ضلال وإعراض؛ لأنه استمع أو قرأ
لداعية أو واعظ. وليس من طريق لهؤلاء إلا وسائل الإعلام التي تخاطب عامة
الناس.
ج - هناك طوائف أمية لا تقرأ الكتاب والصحيفة، فليس من سبيل لهم إلا
عبر التلفاز أو المذياع [7] .
د - يجد معظم المسلمين حاجة ملحَّة إلى التفقه في الدين، والإجابة عن
أسئلتهم واستفتاءاتهم، وتخليصهم من كثير من البدع والخرافات التي يقعون فيها،
وليس كل منهم يتيسر له البحث أو يجد من يسأله ويستفتيه عن قرب، ومن ثم
فالاستفادة من هذه الوسائل في نشر الأحكام الشرعية وتعليم الناس بها جزء من
الواجب الشرعي في الدعوة ونشر العلم وتبليغه.
المصلحة الثالثة: قوة تأثيرها:
فهي تملك من التأثير ما لا تملكه غيرها؛ فمع أن جمهور المتعاملين معها أكثر
من جمهور سائر الوسائل، فهي تتفوق على كثير من الوسائل المتاحة في تأثيرها
على الناس وجذبها لهم؛ فالتلفاز يجمع بين الصورة والصوت والحركة، وأساليب
الإخراج التي تدفع المشاهد إلى الاستمرار والإقبال، والمذياع يستمع الناس إليه
وهم في سياراتهم، أو في متاجرهم وأعمالهم، والصحيفة يجدها الإنسان في أي
مكان، ويقرؤها في جميع أحواله [8] .
وأجيب على ذلك بأن عندنا من الوسائل ما هو أقوى تأثيراً من وسائل الإعلام
كخطبة الجمعة مثلاً؛ فلو أُحسِنَ اغتنامها والانتفاع بها لكان في ذلك خير كثير؛ فلا
يعني كثرة المتابعين لوسائل الإعلام أن ثمة تأثيراً متحققاً.
المصلحة الرابعة: توفير الجهود والطاقات:
فهي تختصر الجهود والأوقات، فتخاطب قطاعاً عريضاً من الناس بجهد
وتكلفة أقل. إننا حين نريد إيصال الرسالة إلى عدد معين من الناس فهذا يتطلب منا
عدداً من الدعاة، ووقتاً وجهداً وسفراً.. إلخ، وكثيراً ما تعوقنا الإمكانات وتقعد بنا
القدرات عن القيام بكثير من الواجبات الدعوية؛ لكن وسائل الإعلام تتيح لشخص
واحد أن يخاطب الآلاف والملايين بجهد محدود وهو في مكانه.
وليس الأمر ضناً بالجهود عن أن تبذل للدعوة للدين؛ لكن المطالب أكثر من
الإمكانات المتاحة حين نريد التعامل من خلال الوسائل الأخرى.
المصلحة الخامسة: أنها وسيلة لإنكار المنكرات:
فالمشاركة في وسائل الإعلام قد تكون وسيلة لإنكار المنكرات التي تظهر فيها؛
فكثيراً ما تنشر الصحف كتابات فيها من المنكرات والمخالفات الشرعية بل الكفر
والردة في أحيان كثيرة ما ينطلي على كثير من المسلمين، أو يشعرهم بالهزيمة
والضعف؛ فحين ينكر هذا المنكر من خلال المنبر والموعظة؛ فالخطاب في معظم
الأحوال يتجه إلى طائفة أخرى غير تلك الطائفة التي قرأت ما نشر وتأثرت به،
بل معظمهم لا يبلغه الإنكار حين يكون من خلال هذه الوسائل.
فليس من سبيل أنجع وأبلغ من الإنكار من خلال المنابر التي سمع الناس منها
المنكر؛ ففيه إبلاغ وإعذار، وفيه إشعار لأهل المنكر بأن للحق أنصاراً وأعواناً،
وفيه إعلاء لهمة الغيورين وإعلامهم بأنه لا يزال للحق ناصر.
والأمر لا يقف على مجرد منكر معين ورد في مقالة أو حلقة مسموعة أو
مرئية، بل قد يكون حديثاً حول منكر عام يتكرر بصورة وأخرى، كالسخرية
بالدين، والدعوة للاحتكام لغير الشريعة، والدعوة للسفور والاختلاط، ونحو ذلك.
وأجيب عنه بأن وسائل الإعلام المقروءة كثيراً ما تُعرِض عن نشر ذلك
الإنكار، وكثيراً ما تمتنع الصحف عن نشر بعض ما يبعثه أهل العلم إليها، وأما
الإنكار على الوسائل المرئية والمسموعة فهو أبعد كما هو واقع.
ويُردُّ على هذه الإجابة بأن الواقع أن الصحف كثيراً ما تنشر الرد والتعقيب
حين يكون بلغة هادئة، وحين تمتنع عن الرد فقد أدى المشارك ما عليه.
والوسائل المسموعة والمرئية يستطيع المشارك فيها إنكار كثير من المنكرات
التي تُعرَض فيها في الجملة؛ فكثيراً ما يتحدث أهل العلم عن تحريم الغناء
والمعازف والنظر الحرام مثلاً، وغير ذلك، ويعرض هذا الحديث في وسائل
الإعلام، والداعية الحصيف يستطيع أن يبلغ ما يريد للناس بالصورة التي تمكنه،
والأمر لا يتوقف على اللغة الصريحة والمباشرة والتعبير الحاد، أو التعيين لأحاد
الأشخاص والمؤسسات.
المصلحة السادسة: تعريف الناس بالدعاة وطلبة العلم:
فالمشاركة في وسائل الإعلام العامة وسيلة لتعريف الناس بالدعاة وطلبة العلم
وإبراز قيادات في المجتمع؛ فالقطاع العريض من الناس إنما يعرف من يسمع له أو
يقرأ له في وسائل الإعلام، وحين يبتعد الدعاة إلى الله وطلبة العلم عن المشاركة
في هذه الوسائل العامة، فستبقى فئات كبيرة من المجتمع لا تسمع بهم ولا تعرفهم،
وتنحصر دائرة تأثيرهم في محيط ضيق من الناس.
والتعريف بهم أمام الناس ليس بحثاً عن الظهور وسعياً وراء الشهرة بقدر ما
هو وسيلة لتوسيع دائرة تأثيرهم وانتشار دعوتهم.
وأجيب على ذلك بأن التعريف يتحقق بعدة وسائل لا محذور فيها.. وثمة
علماء ودعاة قد عرفوا واشتهروا وصار لهم ذكر حسن ولسان صدق مع اجتنابهم
هذه الوسائل.
ويرد على هذه الإجابة بأن تحقق التعريف لبعض الناس دون المشاركة في
وسائل الإعلام، لا يعني أنه يمكن أن يتحقق لغيرهم، فثمة عوامل تاريخية وعلمية
كان لها أثر في التعريف بهم، أما من بعدهم ومن دونهم فلا يزالون بحاجة لمزيد
من التعريف والتواصل مع طبقات واسعة من المجتمعات لن تعرفهم إلا من خلال
هذه الوسائل، ولو أن هؤلاء شاركوا في وسائل الإعلام لتحقق لهم قدر أكبر من
التعريف والانتشار.
المصلحة السابعة: تخفيف الشر والفساد:
فالمشاركة في وسائل الإعلام وسيلة لتخفيف الشر الذي يظهر فيها؛ فكل وقت
يشغل بالخير فهو على حساب فساد ومنكر كان يمكن أن يعرض فيها، والتخفيف
من الشر والفساد إذا لم يمكن أن يزال بالكلية مطلوب شرعاً.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل متولٍّ ولايات، ومُقطَع إقطاعات،
وعليها من الكُلَف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله،
ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره
وولى غيره فإن الظلم لا يُترَك منه شيء؛ بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف
تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا
يمكنه إسقاطه.. فأجاب الشيخ رحمه الله: «إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم
بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على
إقطاع خير من استيلاء غيره، كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء في الولاية
والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك؛ بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل
إذا تركه بما هو أفضل منه، وقد يكون ذلك عليه واجباً، إذا لم يقم به غيره قادراً
عليه» [9] .
المصلحة الثامنة: حماية الناس من المضلين وأهل الأهواء:
كثيرٌ من الوسائل الإعلامية تلتزم بنسبة من البرامج والزوايا الدينية لأغراض
ودوافع شتى؛ فحين يعتذر عنها الأخيار وطلبة العلم، فلن تزول المفسدة، بل
سيجد هؤلاء من يتصدى لتقديم البرامج الدينية من أهل البدع والأهواء، أو
أصحاب المطامع الدنيوية وغيرهم، وذلك له أثر في إضلال الناس وصدهم عن
الدين باسم الدين، وكثيراً ما كان هؤلاء فتنة للناس.
وقد يعترض على هذه المصلحة بأن أهل الفجور قد يتواطؤون في اختيار
الشيخ المناسب، وهؤلاء لا يرعون المنهج الصحيح، وفي هذا تفريط.
والجواب أن هذه مصلحة ضمن مصالح كثيرة، وليست هي المصلحة
الوحيدة، ثم إن الواقع أنه يمكن أن يشارك طائفة من أهل العلم والدعاة من غير
أهل الترخص أو الأهواء.
* المفاسد المترتبة على المشاركة:
إن هناك طائفة من المفاسد تترتب على المشاركة في وسائل الإعلام المعاصرة
بوضعها الحالي، وهذه المفاسد تتفاوت من حيث أصل وجودها؛ فما يوجد في
التلفاز قد لا يوجد في الصحف، وما يوجد في الصحف قد لا يوجد في الإذاعة.
كما أنها تتفاوت أيضاً في درجة وجودها؛ فالمفسدة التي توجد في صحيفة
معينة قد تكون أقل منها في أخرى، والتي توجد في قناة فضائية قد تكون أشدَّ منها
في قناة محلية، وهكذا.
ومن ثَمَّ فما نذكره هنا إنما هو محاولة لحصر المفاسد المتصور وقوعها،
وليس شرطاً أن تكون المفسدة المعينة موجودة في كل وسيلة من الوسائل، لكن كل
وسيلة لا تخلو من قدر من هذه المفاسد.
المفسدة الأولى: التصوير وغيره من المنكرات:
فالظهور فيها قد يؤدي إلى الوقوع في المنكر؛ فالتصوير ملازم لكل مشاركة
تكون من خلال التلفاز، وقد جاء الشرع بالنهي عن التصوير لذوات الأرواح
والتغليظ على من فعله.
«عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أخبرته أنها اشترت نُمْرُقة فيها
تصاوير؛ فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله،
فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله
صلى الله عليه وسلم ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه
النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسَّدها، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذَّبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم.
وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة» [10] .
عن سعيد بن أبي الحسن، قال: «كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ
أتاه رجل فقال: يا أبا عباس! إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني
أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول: من صوَّر صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها
الروح وليس بنافخ فيها أبداً. فرَبا الرجل ربوة شديدة واصفرَّ وجهه؛ فقال: ويحك!
إنْ أبَيْتَ إلا أن تصنعَ فعليك بهذا الشجر كل شيء ليس فيه روح» [11] .
والأحاديث في النهي عن التصوير كثيرة، وكل ما يحدث من أنواع تصوير
ذوات الأرواح فهو داخل في عموم النهي عن التصوير.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: «ولا شك أن البروز في التلفاز مما قد يتحرج
منه بعض أهل العلم من أجل ما ورد من الأحاديث الصحيحة في التشديد في
التصوير ولعن المصورين» .
ومما يحصل من المنكرات في المشاركة في هذه الوسائل: الاختلاط مع
العاملين والعاملات فيها ومعظم العاملين في هذه الوسائل ممن لا يلتزمون بحدود الله.
وأجيب عنه:
أولاً: بأن التصوير التلفزيوني فيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه مباح وليس داخلاً في أحاديث النهي عن التصوير، وقد قال بذلك
بعض أهل العلم المعتبرين، فلا تعارض.
الثاني: أن التصوير إنما حُرِّم تحريم وسائل، وما كان كذلك فقد قرر بعض
أهل العلم بأنه يباح عند الحاجة.
قال ابن القيم: «وتحريم الحرير إنما كان سداً للذريعة؛ ولهذا أبيح للنساء
وللحاجة والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة: ما حرم لسد الذرائع فإنه يباح عند
الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حرم النظر سداً لذريعة الفعل وأبيح منه ما تدعو
إليه الحاجة والمصلحة الراجحة، وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سداً
لذريعة المشابهة الصورية بعُبَّاد الشمس وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حرم ربا
الفضل سداً لذريعة ربا النسيئة وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا» [12] .
وقال أيضاً: «وما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة أو المصلحة
الراجحة كما يباح النظر إلى الأَمَة المستامة والمخطوبة ومن شهد عليها أو يعاملها
أو يطبها» [13] .
الثالث: أنه داخل في عموم التصوير، ومحرم تحريم مقاصد؛ لأن فيه
مضاهاة لخلق الله، ولو سلَّم بذلك من يرى المشاركة فإنه يقول: إن هذا قد
عارضته مصلحة أرجح من مفسدة التصوير.
المفسدة الثانية: تزكيتها:
فالظهور في وسائل الإعلام والمشاركة يعده بعض الناس إقراراً لما يعرض
فيها وتزكية لها، أو تهويناً من مفاسدها؛ فمعظم ما يعرض فيها إنما هو من الباطل
والفساد، وما نزال نسمع كثيراً من الناس حينما ينصحون بالابتعاد عما يعرض في
هذه الأجهزة من فساد ومنكرات يحتجون بأن الدعاة وأهل العلم يشاركون فيها، وأنه
لو كان فيها مخالفة شرعية لما شارك هؤلاء، أو لأنكروا ما فيها من المنكرات.
وهذه المواقع التي تعرض البرامج الدينية قد تلحق بمساجد الضرار التي
ظاهرها الخير والإيمان، وباطنها ما ينافي ذلك؛ فالذين اتخذوا هذه المواقع الدينية
يريدون الشهرة والدعاية.
قال القرطبي: «قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة
فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه» [14] .
وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله باباً بعنوان: (لا يُذبَح لله في
مكان يُذبَح فيه لغير الله) واستدل بالآية: [لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً] (التوبة: 108)
على سبيل القياس، قال الشيخ سليمان بن عبد الله: «ووجه الدلالة من الآية على
الترجمة من جهة القياس؛ لأنه إذا منع الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن القيام لله
في هذا المسجد المؤسس على هذه المقاصد الخبيثة مع أنه لا يقوم فيه إلا لله، فكذلك
المواضع المعدة للذبح لغير الله لا يذبح فيها الموحد لله؛ لأنها قد أسست على
معصية الله والشرك به» [15] .
ولا ريب أن المواقع الإعلامية في الجملة أسست للصد عن سبيل الله تعالى،
ونشر الرذيلة وإشغال الأمة باللهو والمجون وسفاسف الأمور.
وأجيب عليه:
1- أن الواقع قلة من يحتج بمشاركة هؤلاء على تزكيتها، وكثير ممن يحتج
بذلك إنما يفعله تسويغاً لموقفه.
2- أنه ليس كل مشارك يعد الناس مشاركته تزكية لهذه الوسائل، فهذا إنما
يكون في الغالب بالنسبة للأئمة المقتدى بهم.
3- أن عامة الناس يعلمون أن هذا المتحدث لا يقر ما في هذه الوسائل فهو
ليس من القائمين عليها، ولا يطلع على معظم ما تقدمه، وهو إنما يستثمر هذه
الفرصة لتقديم ما عنده للناس.
والمحكَّم في ذلك هو واقع غالب الناس ولا عبرة بالنادر.
وأما إلحاقها بالذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله فهو غير صحيح لأمرين:
الأول: أن هذا الرجل يستطيع أن يذبح في أي مكان غير هذا المكان،
والدعاة إنما لجؤوا لهذه الوسائل لأن تبليغ الدين لفئة من المجتمع لا يصل إلا بهذه
الطريقة فلا يصح هذا الإلحاق.
الثاني: أن الذبح لغير الله شرك، والذبح لله عبادة؛ فالمسألة إذن من الأمور
التعبدية، ويخالف ما هاهنا بعدم وجود التعبد المحض.
ويلزم من الامتناع عن الدخول في كل مكان عُصِيَ الله فيه: أن تمنع أشياء
كثيرة كالتدريس في جامعة فيها منكرات، فالجامعات الآن فيها منكرات إما في
أنظمتها، أو مناهجها، ومع ذلك لم يترك العمل فيها كثير من الصالحين، ولم يعدَّ
غيرهم مثل هذا العمل تزكية لهذه الجامعة. أو طباعة كتاب في مطبعة يطبع فيها
كتب فساد وإضلال.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع فيها منكرات كأسواق الجاهلية
ومنتدياتها.
ورُدَّ على الاستدلال بذهاب النبي صلى الله عليه وسلم لأسواق الجاهلية، بأنه
كان يعلن فيها إنكاره لما هم عليهم، ويعيب آلهتهم ويسفه أحلامهم، وليس هذا
كحال المشاركين في وسائل الإعلام.
المفسدة الثالثة: أن المشاركة تجرئ بعض الناس على اقتنائها:
إن المشاركة في هذه الوسائل تجرئ طائفة ممن لا يقتنونها على اقتنائها بحجة
أنهم يريدون استماع ورؤية هذه البرامج الخيرة، أو قراءة الزوايا والأعمدة التي
يكتبها المصلحون والدعاة؛ لكن ذلك يقودهم ويدعوهم إلى الاسترسال في متابعة
غيرها مما تعرضه من المنكرات، وإن كان صاحبها حازماً مع نفسه فقد تقع في يد
أهل منزله ممن لا يحسنون استخدامها.
وتبدو هذه الصورة كثيراً في اقتناء أعداد بعض المجلات التي تظهر فيها
مقالات أو زوايا إسلامية، فما يلبث مقتنوها أو من يجدها من أهل بيته أن يسترسل
في متابعة سائرها.
وأجيب عليه: بأن عامة الناس لا يحتجون بذلك إلا في مقام المجادلة
والمكابرة، وهم يعلمون أن الداعية إنما يستثمر هذه الفرصة التي أتيحت له؛ فلا
بديل لديه سوى هذه الوسائل، والذين يقتنون هذه الوسائل لأجل مشاركة الدعاة قلة
بالنسبة لمن يتابعونها سواء أشارك فيها الدعاة أم لم يشاركوا، والعبرة بالأغلب؛
فلا ينبغي أن نهمل دعوة الملايين من الناس من أجل عدد يسير ممن يترخصون
ويتساهلون باقتناء هذه الأجهزة، وهذا الأمر متحقق في وسائل أخرى فخروج
رجال الحسبة لإنكار المنكرات في الأسواق قد يتسبب في فتنة بعضهم، والتدريس
في المدارس قد يؤدي إلى فتنة المعلم بالمردان، ومع ذلك فلغلبة المصلحة وندرة
المفسدة لم يُمنع ذلك.
وبأن نسبة أولئك لا تساوي شيئاً في مقابل الآخرين ممن يقتنونها سواء أَشارك
فيها الدعاة أم لم يشاركوا.
المفسدة الرابعة: وجود المناقضات لما يقرره الدعاة:
كثيراً ما يعقب البرامج الدينية ما يعارض ما طرح فيها ودعت إليه، أو
يعرض في الصفحة نفسها التي ينشر فيها الداعية مقاله ما يناقض ذلك، وذلك يشعر
الناس أن القضية ليست جادة، أو أن ما يقال لا يمكن تطبيقه، أو تسويغ تلك
المخالفات، أو الوقوع في الازدواجية، أو أن يقال بأن هذا الداعية ساذج ومغفل
يسخر به أمثال هؤلاء.
وبناء على ذلك تفقد هذه البرامج تأثيرها ومصالحها التي تراد من وراء
المشاركة فيها، أو تقل وتتضاءل.
ثم إن هذه الوسائل ينطبق عليها ما ورد من النهي عن الخوض في آيات الله،
ومجالسة أصحابه.
قال تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ] (الأنعام: 68) .
قال القرطبي: «فأدَّب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية؛
لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزئون بالقرآن؛ فأمره
الله أن يعرض عنهم إعراض منكِر. ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر
منكراً، وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يُعرض عنه إعراض منكِر ولا يُقبِل عليه»
[16] .
ولا يخفى أن ما في برامج الإعلام من الفسق والفجور واللهو، ويقترن مع
شيء من البرامج الدينية لا ينفك أن يكون استخفافاً وعبثاً بآيات الله تعالى.
وقال الجصاص: «أمر الله نبيه بالإعراض عن الذين يخوضون في آيات
الله وهي القرآن بالتكذيب وإظهار الاستخفاف إعراضاً يقتضي الإنكار عليهم وإظهار
الكراهة لما يكون منهم إلا أن يتركوا ذلك ويخوضوا في حديث غيره. وهذا يدل
على أن علينا ترك مجالسة الملحدين وسائر الكفار عند إظهارهم الكفر والشرك وما
لا يجوز على الله تعالى إذا لم يمكنا إنكاره» [17] .
وقال سبحانه: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ]
(النساء: 140) .
قال القرطبي: «فدل على وجوب اجتناب أهل المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛
لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله تعالى: [إِنَّكُمْ
إِذاً مِّثْلُهُمْ] (النساء: 140) فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم
يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا
بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه
الآية» [18] .
ولا ريب أن برامج الإعلام مشحونة بهذا الخوض في آيات الله تعالى،
والتوثب على شرعه، وإذا تقرر اجتنابهم والقيام عنهم؛ فكيف يسوغ اللحوق بهم
بدعوى المشاركة في الإصلاح؟ مع تعذر الإنكار عليهم من جهة، وتعذر التصرف
بالتعديل والتحوير في تلك المشاركات من جهة أخرى. والله المستعان.
وكما قال ابن العربي: «والخوض هو المشي فيما لا يتحصل حقيقة» [19] .
وهذا وصف ينطبق على برامج الإعلام.
قال الجصاص: «فإن قيل: فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد
عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه؟ قيل له: قد قيل في هذا إنه ينبغي له أن
يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه، من نحو ترك
الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي، وترك حضور
الجنازة لما معه من النواح، وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب، فإذا
لم يكن هناك شيء من ذلك فالتباعد عنهم أوْلى، وإذا كان هناك حق يقوم به لم
يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره لإنكاره
وكراهته» [20] .
ويجاب على ذلك: بأنه لا شك بأن هذا ليس في محل النزاع؛ فالحديث ليس
عن تسويغ ما تفعله وسائل الإعلام إنما في المشاركة فيها؛ حيث هي الوسيلة
المتاحة لتبليغ الدعوة لفئة من الناس لا يمكن تبليغهم إلا من خلالها.
وبأن ما يعرض فيها من منكر لا يعرض في الوقت نفسه الذي يقدم فيه
الداعية برنامجه وحديثه، وحتى حين يعقبه مباشرة، فهو غير مصاحب لبرنامجه
الذي يقدمه ويعتبره الناس مسؤولاً عما فيه.
قال الشيخ ابن عثيمين: «ثم هذا المنكر الذي يُعرَض كما يقول السائل لا
يعرض في الوقت الذي أنت تلقى فيه الخير، بل هو منفصل عنه، فيكون من أراد
استمع إليه وشاهده، وإذا جاء الوقت الذي فيه المنكر يغلق المذياع أو التلفاز وينتهي
منه» [21] .
وبأنه ينكر هذه المنكرات على سبيل العموم، والنهي إنما هو لمن لم ينكر.
المفسدة الخامسة: سيطرة أهواء المفسدين عليها:
فالذين يديرون هذه الأجهزة والمؤسسات الإعلامية هم في الأغلب ما بين مفسد
صاحب فكر هدام، أو صاحب هوى وشهوة لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، أو
دول لا تخدم إلا مصالحها، وهؤلاء هم أصحاب القرار في هذه المؤسسات
والأجهزة، ومن ثَمَّ فإنهم لن يسمحوا بالمشاركة إلا لفئة من الناس دون أخرى، ولن
يسمحوا بأن ينشر إلا ما لا يتعارض مع أهوائهم ومبادئهم.
وسيجد المشارك فيها أنه لا يستطيع أن يقول كل ما يريد، وأن هناك كثيراً
مما يجب أن يعرض للناس في هذه الوسائل تقف دونه شهوات هؤلاء وأهواؤهم،
فلو أنه لم يتحدث أمام الناس أصلاً لالتمسوا له العذر، أما وهم يرونه صباح مساء
على الشاشة، أو يقرؤون له على الصحيفة فسوف ينتظرون رأيه وفتواه في مسائل
كثيرة مما لا تسمح بها أهواء القائمين على هذه الأجهزة.
وأجيب عليها: بأن ما يقوله الداعية هو الحق الذي يستطيعه، وهو لا يكلَّف
إلا بما يستطيع؛ قال عز وجل: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن: 16) ،
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» [22] .
ومن القواعد الفقهية المقررة أن الميسور لا يسقط بالمعسور؛ فالقادر على
بعض السترة يستر بها القدر الممكن، ومن لا يحفظ إلا بعض الفاتحة يجب عليه أن
يأتي به. وهكذا فمن لا يستطيع إلا قول بعض الحق يجب عليه أن يقوله.
ثم إن قول الداعية لبعض الحق الذي يستطيعه وسكوته عما لا يستطيعه ليس
قاصراً على وسائل الإعلام وحدها؛ فالخطيب والمحاضر والمؤلف والأستاذ قد
يمتنعون عن قول بعض الحق مراعاة لمصلحة بقائهم ونشرهم كثيراً من الخير الذي
يستطيعون نشره.
المفسدة السادسة: عدم أمانة القائمين عليها:
إن القائمين على هذه المؤسسات والأجهزة الإعلامية ليسوا أهل ثقة وأمانة؛
فهم لا يُؤمَنون من التحريف والتغيير، والحذف والإضافة، وكثيراً ما يضعون
عناوين بالخط العريض أثناء المقابلات الشخصية، أو المقالات المنشورة، وهذه
العناوين ليست بالضرورة من نص ما قاله المتحدث، أو تكون مبتورة من سياقها
فيفهم منها الناس غير ما قصد صاحبها، خاصة أن كثيراً منهم يكتفي بقراءة
العناوين.
وأحياناً تسجل حلقة في ظرف أو وقت معين، ثم تذاع في غير الوقت الذي
سجلت فيه، إما في مناسبة بدعية أو وطنية، فيفهم منها الناس غير ما قال صاحبها،
وأحياناً يُعمَد إلى محاضرة أو مقالة طرحت في وقت ما فتعرض في وقت آخر.
ومن ذلك ما تفعله بعض المؤسسات الإعلامية من تسجيل حلقات عن مكانة
النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته، ثم تذيعها وتبثها وقت الاحتفال بالمولد.
وأجيب على ذلك: بأن الأغلب السلامة من الحذف والتغيير، وإذا حصل
حذف شيء مما قاله المتحدث أو الكاتب فسيبقى خير كثير، ثم المشارك في هذه
الوسائل يجتهد في صياغة ما يريد بقدر يوصل الحق للناس ويمكن عرضه في هذه
الوسائل، ومن حقه لو حصل تصرف في ما نشره أن يعقب على ذلك.
المفسدة السابعة: الإقرار بالواقع السيئ:
فالأنظمة الفاسدة اليوم هي التي ترعى أجهزة الإعلام وتسيطر عليها في
الغالب، وهذه الأجهزة تتحدث باسمها وتمارس الترويج لها وتسويغ واقعها السيئ،
والمشاركة في هذه الوسائل تعني الإقرار بواقع هذه الأنظمة وتلبيسها على الناس،
خاصة أنه قلما يخلو حديث يعرض من خلالها إلا ويدعو لها بالحفظ والبقاء
والتمكين، أو يدعو الناس لطاعتها والخضوع لها.
وأجيب عليه: بأن المشاركة لا تعني ولا تستلزم إضفاء الشرعية، وإلا لزم
منه الاقتناع عند استخدام كل مؤسسة نفيها هذه الأنظمة.
أما المديح فهو يعود إلى نوعية المشاركين، ولو شارك الأكفاء الجادون لما
برزت هذه الظاهرة.
ثم إن الواقع أن هناك من يشارك ولا يقع في هذا المحذور.
المفسدة الثامنة: إضعاف التطلع لإنشاء إعلام إسلامي:
ذلك أن الواجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يسعوا إلى إيجاد مؤسسات
إعلامية مستقلة تخلو من المنكرات التي تلازم الإعلام المعاصر، وتسلم من تسلط
أهل الفساد، فتقول الحق، وتبينه واضحاً للناس.
والمشاركة في الوسائل القائمة اليوم مما يضعف البحث عن هذا البديل،
والسعي في إقامة هذا الواجب الشرعي، وتوجيه الطاقات والإمكانات لإحيائه.
وأجيب عليه: بأن وجود القنوات والمؤسسات الإسلامية لا يكفي؛ فالمطلوب
مخاطبة فئات لا يتابعون هذه الوسائل، ولا يزال المتابعون للوسائل الإسلامية
شريحة محدودة من المجتمع.
المفسدة التاسعة: التساهل والترخص:
إن المشاركة فيها تؤدي إلى التساهل والترخص؛ وذلك واضح في حال كثير
ممن يشارك في هذه الوسائل؛ فهو يجامل الناس في فتاويه، ويجاري واقعهم في
كثير مما يقوله، ويتدرج الأمر لديه بين السكوت عن شيء من الحق، إلى تسويغ
الباطل والدفاع عنه، وإضفاء المشروعية عليه.
وأجيب على ذلك: إن المشاركة ممكنة دون الترخص، وقد حصلت
مشاركات من بعض الدعاة دون أن يقعوا في ذلك، ثم إن الترخص يحصل من
أصحابه في مواقف كثيرة وليس قاصراً على المشاركات الإعلامية، والتخلص من
هذا الداء لا يكون بترك المشاركة في الوسائل الإعلامية إنما يتحقق الورع وتقوى
الله في الفتيا ونشر العلم.
المفسدة العاشرة: فتنة المال والشرف:
المشاركة في هذه الوسائل مدعاة لوقوع المشارك في فتنة المال والشرف؛ فهو
يتلقى أجراً مادياً مقابل مشاركته، مما قد يدعوه إلى التعلق بالمال والسعي للمحافظة
على بقاء مشاركته في هذه الوسائل، ولو على حساب الحق.
وفتنة الشرف حاصلة في حق كثير ممن تتحقق شهرته بسبب هذه الوسائل؛
فهي تعطي المشارك شهرة واسعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لهما من حرص المرء على المال والشرف
لدينه» [23] .
وأجيب عليه: بأن هذه ليست قضية مختصة بوسائل الإعلام، بل هي واردة
في غيرها من المجالات كتولي المناصب التي يراد من ورائها نصرة الدين وخدمة
الدعوة، وهي واردة في كثير من المشاركات الدعوية، وها نحن نرى بعض الدعاة
اكتسبوا شهرتهم دون مشاركة في هذه الوسائل، وهذا يلزم منه أن نمنع كل مجال
دعوي يكون سبباً لاشتهار صاحبه.
أدلة أخرى للمانعين:
واستدل المانعون أيضاً ببعض القواعد الفقهية، ومنها: تغليب الحظر على
الإباحة، وأقل الأمر في ذلك أن يتورع المسلم عما يشك فيه ويستريب منه، وقد
قال صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع
في الشبهات وقع في الحرام، كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» [24] .
وأجيب على ذلك: بأن الورع المشروع إنما هو حين يكون التعارض بين
المبيح والحاظر، والأمر في هذه المسألة ليس كذلك؛ فالمعارض هنا مما يجب
القيام به في أصله، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين تحدث عمن
امتنع من قتال الكفار مع الإمام الجائر: «وصاحب هذا القول تورع فيما يظنه
ظلماً، فوقع في أضعاف ما تورع عنه بهذا الورع الفاسد، وأين ظلم بعض ولاة
الأمر من استيلاء الكفار، بل من استيلاء من هو أظلم منه؟ فالأقل ظلماً ينبغي أن
يعاون على الأكثر ظلماً؛ فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها،
وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين،
حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين» [25] .