المسلمون والعالم
التعدي والتصدي في حرب الإرادات
بين أمريكا والعراق
د. سامي محمد صالح الدلال
منذ أواخر القرن التاسع عشر كانت الولايات المتحدة تبني ترسانتها العسكرية
وفق مفهوم الحرب المتوازنة، وحققت انتصارها المذهل في هذا الاتجاه بعد حوالي
قرن من الجهد والعمل والأبحاث والحروب، وكان قمة ذلك عندما تفتت الاتحاد
السوفييتي فأصبحت الدولة المتفردة بالقوة الكاسحة في العالم ابتداءً من القرن الواحد
والعشرين، وبعد أن تحقق لها ذلك شرعت في الدخول في حروب على ما يسمى
بحرب الإرهاب؛ فهل هي مستعدة لذلك؟!
ننظر إلى الموضوع من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: من حيث الواقع فإن الولايات المتحدة (أو أي دولة أخرى)
غير محصنة داخلياً ضد الأعمال الإرهابية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما تتميز به
هذه الأعمال من التخفي والمباغتة والانتشار والاستمرارية والاستعداد للموت فإن
على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في وضعها الأمني برمته؛ حيث إن المرافق
الحيوية التي يمكن أن تطالها تلك الأعمال في الولايات المتحدة لا حدود لها.
إن ترتيب أوضاع أمنية تفصيلية لكل مرفق (وعددها بالملايين) غير ممكن مهما
وضعت لها من ميزانيات أو حشدت لها من طاقات أو وظفت لأجلها من إمكانيات،
ولذلك فإن الانتصار في هذا المسار غير ممكن.
وعلى هذا الأساس فإن هذه الجبهة ستبقى مفتوحة، وإن السهام من خلالها
ستبقى نافذة ومستمرة ولا حل لها عملياً ما دام أن الأعمال الدافعة لمعاداتها ما زالت
قائمة.
الوجه الثاني: بعد أن انهار الاتحاد السوفييتي وجهت أمريكا قواها لمواجهة
تنامي الصحوة الإسلامية في العالم، وخاصة أن هذه الصحوة أصبح لها امتدادات
كالشرايين في جميع أنحاء المعمورة بما فيها أوروبا والولايات المتحدة نفسها. وقد
رأى المحللون الاستراتيجيون الأمريكيون أن هناك محطتين يجب التوقف عندهما:
المحطة الأولى: أن كثيراً من الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي أخفقت في
الحد من تعاظم هذه الصحوة، أو إيقاف امتدادها.
المحطة الثانية: أن هذه الصحوة قد تبلورت في بعض الأماكن بطريقة
أفرزت أوضاعاً جهادية، كما حصل في فلسطين وأفغانستان والشيشان والفلبين
وكشمير وأرتيريا والصومال والبوسنة والهرسك وكوسوفا وغيرها. بل إنها
نجحت في أفغانستان في السيطرة على مقاليد الحكم تحت علم الطالبان، كما كانت
قد نجحت على نحو ما في السودان. وقد وجد أولئك الاستراتيجيون الأمريكان
(يهوداً ونصارى) أن التعامل مع هاتين المحطتين يكون على الوجه التالي:
1 - فيما يخص المحطة الأولى: لا بد من إيجاد موقع قدم عسكري حقيقي
ضاغط وفاعل في المواقع الاستراتيجية التي تمثل المصالح الحيوية للولايات
المتحدة، وذلك في داخل دول العالم الإسلامي، وأن لا يكتفى بالدولة العبرية فقط.
2 - فيما يخص المحطة الثانية: إن التشخيص الأمريكي لبؤر المقاومة
المتناثرة في أصقاع العالم قد تجاوز اعتبار تلك البؤر ذات بواعث محلية تبتغي
تحرير بلادها من نير الأنظمة الأجنبية المتسلطة عليها لتقيم على أنقاض استعمارها
أنظمة إسلامية تضيء مناهج الحياة، إلى اعتبارها بؤراً تنتظم تجمعات جهادية
لتشكل رؤوس جسور إرهابية في زعمها في أمريكا وأوروبا وروسيا وغيرها من
الدول، ولذلك فإن على أمريكا أن تقود تحالفاً عسكرياً عالمياً للقضاء على تلك البؤر
في مراكز انطلاقها.
ولتحقيق الأهداف البعيدة وفق هذا المنظور لا بد لأمريكا أن توظف مساري
(الحرب على الإرهاب) كأداة إشعال، والحرب غير المتوازنة لقطف الثمرة،
بمعنى أنه لا بد من حصول أعمال إرهابية تخص المصالح الحيوية الأمريكية لتكون
ذريعة لأمريكا للتدخل العسكري المباشر في الدول الإسلامية.
وفي هذا السياق يمكن إيجاد تفسير منطقي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر؛
ومن خلال استعمال الولايات المتحدة لهذين المسارين فإنها تبتغي الوصول إلى
حضور صليبي في البلاد الإسلامية لا يكون فقط قادراً على وأد أي توجه إسلامي
يبتغي تغيير الواقع الحالي الذي يحتكم إلى الدساتير الوضعية والقوانين البشرية إلى
واقع آخر يحتكم إلى الشريعة الإسلامية، بل يكون قادراً كذلك على تبديل أي نظام
حاكم حتى وإن كان علمانياً يرى الأمريكان واليهود أن استبداله يحقق لهم مصلحة
أكبر في المرحلة القادمة.
وفي هذا الإطار نستطيع تفسير ما تعده أمريكا الآن للعراق الذي يحكمه
البعثيون العلمانيون.
الوجه الثالث: إن الولايات المتحدة قد وضعت لنفسها معالم شبه تفصيلية
لطبيعة خطة المرحلة القادمة، وقد ذكر (بوش) أن تنفيذها يستغرق حوالي عشر
سنوات. وخلاصتها فرض الهيمنة الأمريكية على العالم وخاصة البلاد الإسلامية
(هذا من حيث الظاهر، لكن من حيث الحقيقة فإن اليهود سيمتطون صهوة الجواد
الأمريكي لتحقيق تلك الخطة باسم الولايات المتحدة) .
إن هذه الخطة الرهيبة تستوجب خوض عدد من الحروب، وكل حرب بحاجة
إلى فتيل إشعال يسوِّغ لـ (أمريكا) القيام بضربتها العسكرية لفريستها. وقد
جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في هذا السياق. فإذا كان فتيل الإشعال
خافتاً فإنها تحاول أن تؤججه، كما هو الحال في فتيل إشعال الحرب على العراق
وهو مطالبتها له بنزع أسلحة الدمار الشامل، فإن لم تتمكن من ذلك فما هو الحل؟!
هنا جاء ابتكار بوش بطرح نظرية عدوانية سماها «الحرب الاستباقية» .
ومعناها أن تبادر الولايات المتحدة بشن حرب على أي دولة في العالم دون سابق
إنذار بمجرد ادعاء الولايات المتحدة أن تلك الدولة تشكل خطراً عليها. وطبعاً لن
تعدم الولايات المتحدة الوسيلة لإبراز نوعية ذلك الخطر، والذي هو في كل
الأحوال لن يخرج عن قولها إن هذه الدولة أو تلك تشكل تهديداً لمصالحها الحيوية،
ومن ثم فهي خطر داهم ينبغي إزالته فوراً!! وبهذه النظرية استوفت الولايات
المتحدة تعريف العمل الإرهابي بما يخدم مصالحها ليس إلا، ولكن من خلال
إمكانات دولة امبراطورية.
* أهداف شن الحرب على العراق:
ابتداء لا بد من إبراز متوالية الأسئلة الآتية: قبل غزو العراق للكويت في
الثاني من آب عام 1990م ما كان دوره في المنطقة؟ وبعد أن خرج مهزوماً في
حرب الخليج الثانية لماذا استبقى المنتصرون نظامه ولم يسقطوه؟ وهل كان
بإمكانهم إسقاطه ولم يفعلوا، أم لم يكن ذلك بإمكانهم؟ وهل إسقاطه كان مطروحاً
أصلاً قبل بدء الحرب، أم المطروح إبقاؤه واحتواؤه؟ وإذا كان المطروح إبقاءه
واحتواءه؛ فلماذا يريدون الآن إسقاطه؟! هل استنفد دوره وفقد مسوِّغات استمراره؟
إن الإجابة عن تلك الأسئلة بحاجة إلى مبحث منفصل، ولكن يمكن تلخيصها
ببضعة أسطر فيما يلي:
لقد دعم المستعمر الصليبي إنشاء الأحزاب القومية والوطنية في البلاد العربية
بغية استقطاب الجماهير تحت شعارات علمانية تعادي الإسلام وتجهض تحرك
أتباعه.
وكان حزب البعث العربي الاشتراكي من أبرز الأحزاب التي أحرزت
نجاحات علمانية باهرة حققت تماماً أهداف المرحلة بعد أن تبوأ حكم العراق
وسوريا. ثم أفلح الأمريكان وحلفاؤهم في إسقاط حكم الشاه في إيران عندما شرعت
آماله في تجاوز ما حدد له، ثم قرروا تحطيم القوى العسكرية الإيرانية والعراقية معاً
فأدخلوهما في حرب ضروس استهلكت إمكانياتهما، مستغلين في ذلك الخلفية الطائفية
المتناقضة لكلا الحكمين؛ مما أخرج الصراع القديم بينهما من بطن التاريخ ونثره على
سطحه. وقد حققت تلك المرحلة التي انتهت عام 1988م أهدافها جزئياً؛ حيث نجح
الطرفان في استبقاء قوى عسكرية هائلة في حوزتهما بعد أن وضعت الحرب
أوزارها، وكان ذلك خارج نطاق المخطط. هنا برزت المرحلة الثالثة وهي
التخطيط للبقاء في منطقة الخليج وضمان استمرار هذا البقاء.
ولذلك فنحن الآن على أبواب المرحلة الرابعة، وهي المرحلة التي ستبدأ بشن
الحرب على العراق تحت مظلة الحرب على الإرهاب، مستفيدة من نجاحاتها في
المرحلة الثالثة.
إن أهداف شن هذه الحرب على العراق متعددة المرامي، بعيدة الغايات،
ومتنوعة «التكتيكات» ، ويمكن إجمالها بما يلي:
1 - إن الصحوة الإسلامية في العراق أخذت في السنوات الستة المنصرمة
منحى جماهيرياً امتدادياً استطاع أن يتجاوز أسوار حزب البعث ويتغلغل بين
أروقته، رغم حالات القمع التي تستخدمها السلطة ضده دون هوادة. وهذا يعني أن
حزب البعث بدأ يفقد شيئاً فشيئاً مسوِّغات وجوده، وخاصة أنه لم يجد مفراً في
الأعوام الأخيرة من استخدام المصطلحات الإسلامية في أدبيات خطابه للجماهير في
محاولات مستميتة لإبقاء التفافها حوله. وقد أخذ ذلك منحى الالتصاق بالإسلام
السني لمقابلة الثقل الشيعي في جنوب العراق وبعض ضواحي بغداد. وإن
الاستمرار على هذا النحو لن يكون في صالح تحقيق المخططات الأمريكية
(النصرانية - اليهودية) ، بل سيكون مجهضاً لها. ولذلك فإن إسقاط نظام الحكم
القائم الآن في بغداد سيبعثر هذه الأوراق ويخلط ترتيبها، وهو هدف قائم بذاته.
2 - إن المخطط الشمولي الذي تبناه النصارى واليهود في مواجهتهم العالمية
لنهوض العملاق الإسلامي وانتشار الصحوة الإسلامية في أرجاء المعمورة هو
إرساء أنظمة حكم علمانية تحت مسمى الديمقراطية والتي تحت مظلتها ستكون
الفرص متاحة لجميع التيارات غير الإسلامية والإسلامية (بشكل محدود) للمشاركة
في الحكم. وستسعى الولايات المتحدة لتكون جميع البلدان في العالم، وخاصة
الأقطار الإسلامية، محكومة بالدساتير البشرية. وباسم الديمقراطية ومن خلالها
توضع القوانين والتشريعات التي تحول بين الإسلاميين وبين السيطرة على مفاتيح
«اللعبة» . وبإدارة هذه المسرحية الدولية بمهارة فإن المنهج البشري سيبقى حاكماً
باسم الديمقراطية، والمنهج الرباني سيبقى منحسراً باسم الديمقراطية؛ لأن
الديمقراطية فوق الجميع ويحتكم إليها الجميع وتحكم على الجميع. ضمن هذا
المنظار فإن الهدف الثاني من شن الحرب على العراق وإسقاط نظام الحكم القائم فيه
هو إقامة نظام ديمقراطي يحقق الأغراض المنشودة.
3 - تريد أمريكا أن يعرف العالم كله، حكومات وشعوباً، أن تفرد الولايات
المتحدة بالقوة العسكرية العاتية شيء معناه: أن على جميع تلك الحكومات والشعوب
أن تنصاع للإرادة الأمريكية وتذل لسطوتها وتخضع لجبروتها، وأن العراق عندما
تمرد على تلك الإرادة صببنا عليه جام غضبنا وهشمناه بمطرقتنا ليعلم الجميع عِظَم
قوتنا وشدة قهرنا. تلك رسالة ثانية تتضمن معنى التأله تريد أمريكا إرسالها
للمعنيين في أقطار الأرض (بعد أن أرسلت مثلها عبر أفغانستان) .
4 - إقامة نظام في بغداد تابع لها على غرار الوضع الأفغاني. وقد يتطلب
ذلك في المرحلة الأولى إبراز شخصية ديكتاتورية تستطيع أن تسيطر على
الأوضاع باستخدام سطوة الدولة، وتمهد في المرحلة الثانية لإقامة النظام
الديمقراطي الأمريكي.
5 - تحويل العراق إلى بحيرة عسكرية أمريكية؛ حيث يتوقع أن تقوم
الولايات المتحدة بإنشاء عدة قواعد لها في العراق، في كل من الجنوب والشرق
والغرب. وأما الشمال حيث يسيطر الأكراد فإن إقامة قاعدة عسكرية أمريكية فيه
سيخضع لبعض المفاوضات، والتي ستنتهي بالموافقة على إقامتها مقابل بضعة
ملايين من الدولارات وتشييد بعض المنشآت.
6 - تحقيق الهدف السابق معناه أن إيران ستكون محاصرة أمريكياً من
الجهات الأربع، بوجود القواعد الأمريكية في كل من أفغانستان شرقاً والعراق
والخليج غرباً وتركيا شمالاً، وحاملات الطائرات في المياه جنوباً (وغرباً) .
وأما سوريا فستكون محاصرة بالقواعد الأمريكية من العراق شرقاً، ومن تركيا
شمالاً ومن (دولة العدو الصهيوني) والبحر المتوسط غرباً، ومن قواعد الخليج
جنوباً. ويترتب على ذلك أيضاً فرض سياسة أمريكية على منطقة الخليج تتضمن
في كثير من الأحيان التدخل في شؤونها الداخلية بغية تقليص حركة الصحوة فيها
وتجفيف منابعها، والحد من المناهج التعليمية الشرعية فيها، وفرض المناهج
التعليمية العلمانية، وإعادة صبغ هويتها الإسلامية بألوان العولمة الأمريكية،
وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة والأسرة.
7 - سيترتب على تحقيق نصر أمريكي على العراق في حال حدوثه تخفيف
جذوة الانتفاضة الفلسطينية أو إطفاؤها، وسيكون ذلك مقدمة لهدم المسجد الأقصى
وتشييد الهيكل اليهودي على أنقاضه.
8 - كما سيترتب على ذلك توقيع اتفاقيات سلام جائرة بين كل من الكيان
اليهودي وسوريا ولبنان (والعراق فيما بعد) . وقد تستغل الدولة العبرية الموقف
لشن حرب على كل من سوريا ولبنان لتفرض شروطها في تلك المعاهدات. وحينها
يمكن أن تفتتح أبواب التطبيع مع اليهود على مصراعيها، وتغرق البضائع اليهودية
الأسواق العربية والإسلامية، وسينساح العهر اليهودي في جميع أنحاء البلاد
الإسلامية.
9 - إن سقوط العراق بين يدي الأمريكان سيقلب حالة التوازن الدولي
(المختل أصلاً) رأساً على عقب، وستكون أمريكا في وضع أفضل وأقوى
استراتيجياً لفرض إرادتها على روسيا والصين والهند، وكذلك لابتزاز الاتحاد
الأوروبي وتسخيره في خدمة مصالحها.
10 - إن من أهم أهداف هذه الحرب أن تسيطر الولايات المتحدة على
الثروات الطبيعية الغنية في بلاد الرافدين، وعلى منابع النفط العراقي؛ مما يتيح
لها فرصة التحكم في أسعار النفط العالمية بما يحقق لها مصالحها. وكذلك يتيح لها
التحكم في مفاصل الاقتصاد العالمي والتلاعب بتوازنات البورصات الدولية.
11 - قالت كونداليزا رايس: إن أمريكا ستأخذ على عاتقها إعادة إعمار
العراق بعد انتهاء الحرب. ومعنى ذلك أن النية مبيتة لدى الحكومة الأمريكية
لتدمير البنية التحتية العراقية، وتشمل المطارات، والموانئ، ومحطات السكك
الحديدية، والطرق، ومحطات القوى الكهربائية، ومراكز تنقية المياه، والسدود،
(كما حصل في أفغانستان) . مما سيؤدي إلى انتعاش الشركات الأمريكية لسنوات
طويلة، وسيخسر العراق عوائده البترولية، ربما لعقود ممتدة تسديداً للفواتير
الأمريكية.
12 - وإن من أهداف هذه الحرب إضعاف أو إيقاف مشاريع التنمية في دول
الخليج؛ حيث إنها ستكون مضطرة للمساهمة بحصة كبيرة في تكاليف الحرب؛
بحجة أن الأمريكان ما فعلوها إلا لإزالة الخطر العراقي الماحق الذي يهدد كياناتهم
السياسية.
13 - بعد إقامة النظام الأمريكي في العراق سيكون الحال ممهداً لشن حرب
على إيران تحرق الأخضر واليابس، وتحقق أهدافاً استراتيجية للولايات المتحدة
كتلك التي ذكرناها بشأن العراق.
14 - في حال انتصار الولايات المتحدة في تلك الحرب فإن الدولار
الأمريكي سيرتفع، وستحقق أمريكا اكتساحاً اقتصادياً هائلاً على المستوى العالمي.
15 - بعد الحرب مع إيران، إذا انتصرت أمريكا، فإن تقسيم العراق
سيكون ليس فقط متاحاً بل هو مطلب ملح. وسيقسم العراق عندها إلى قسمين:
شيعي في الجنوب وسني في الوسط والشمال، وفي مرحلة لاحقة ربما تقسم المنطقة
السنية إلى دولتين: واحدة في الوسط والأخرى في الشمال. وبمجرد حصول
التقسيم الأول فإن الحروب لن تهدأ بين هذه الأقسام؛ مما يتيح الفرصة الكاملة
لإتمام المشروع اليهودي في تحقيق حلمهم بامتداد دولتهم من الفرات إلى النيل.
16 - بسقوط كل من سوريا ولبنان والعراق في أوحال معاهدات السلام، فإن
الهم اليهودي سيتجه حتماً نحو تحطيم القدرات العسكرية المصرية، خشية من أن
تتبلور أمور المستقبل باتجاه وقوع سلطة الحكم في أيدي الإسلاميين؛ وسوف توجِد
(دولة العدو الصهيوني) في حينها من المسوغات ما تتجاوز به نصوص اتفاقيات
كامب ديفيد. وربما سيستخدم الكيان اليهودي الأداة الأمريكية لتحقيق غرضه، كما
استخدمها بنجاح في حال العراق.
* الإجراءات اللازمة لشن الحرب:
شرعت الولايات المتحدة في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لشن حرب على
العراق تحقق لها أهدافها. وفيما يلي مرور سريع على تلك الإجراءات فيما يلي.
1 - الإجراءات السياسية: هي ذات شقين:
الشق الأول: إجراءات داخلية.
ولها مستويان: شعبي ورسمي. فأما الشعبي فتكفلت به أجهزة الإعلام التي
سخرها الجمهوريون لحشد الرأي العالم الأمريكي خلف قرار الرئيس بوش بشن
الحرب. وكذلك الزيارات التي قام بها بوش نفسه وآخرون من أركان حزبه
لمختلف الولايات لإلقاء الخطب في الجماهير للحصول على تأييدها. وأما الرسمي
فإنه لا يتم إلا من خلال الكونغرس. وقد بذل بوش جهوداً كبيرة للحصول على
سلطات واسعة لنزع أسلحة العراق بما في ذلك سلطة إعلان الحرب عليها وإسقاط
نظامها. وقد نجحت جهوده في الحصول على مراده. والخطوة الأخرى من
الكونغرس هي إصدار قانون يخول الرئيس القيام بذلك الفعل، وقد تم ذلك. ويهمنا
في هذا المبحث أن نسوق أبرز النقاط التي دار حولها النقاش، وذلك لأهمية بيان
هذه المسألة.
لقد تمحور التباحث في الكونغرس حول الإجابة عن ثمانية أسئلة:
السؤال الأول: هل يمكن «احتواء» صدام و «ردعه» ؟
الجواب: يرى الخبراء أن هذا الأسلوب قد نجح سابقاً مع دول أخرى عندما
رافقه تهديد بالرد المدمر. وأن استخدام هذه الاستراتيجية بقوة ضد العراق يمكن أن
يحقق النجاح. ويدعو «مورتون هالبرن» من مجلس العلاقات الخارجية إلى
تبني سياسة أكثر صرامة في التفتيش على الأسلحة العراقية، وإلى اتخاذ إجراءات
حظر تجاري مؤثرة لتشديد الاحتواء. مع أن بوش لا يرى ذلك كافياً بعد الحادي
عشر من سبتمبر.
السؤال الثاني: هل لدى صدام علاقة بالقاعدة؟
الجواب: لم يثبت هذا الأمر. دانيل بنجامين المدير السابق لإدارة مكافحة
الإرهاب في مجلس الأمن القومي له رأي خلاصته أن العراق العلماني والقاعدة
الأصولية غريمان: أي لا يجتمعان.
السؤال الثالث: هل نزع السلاح ممكن دون تغيير النظام؟
تيار الصقور بقيادة رامسفيلد وزير الدفاع لا يرى ذلك ممكناً، بينما تيار
الحمائم بقيادة كولن باول وزير الخارجية يرى إمكانية ذلك إذا توفرت شروط إرغام
قوية.
السؤال الرابع: كيف سيتصرف الجيش العراقي في حالة الحرب؟
الجواب: سيأتي لاحقاً عندما نتحدث عن الاحتمالات.
السؤال الخامس: كيف سيتصرف الشعب العراقي؟
الجواب: سيكون ممتناً للقوات الأمريكية؛ لأنه لا يرغب بوجود صدام!
السؤال السادس: كيف ستكون ردة فعل الشرق الأوسط تجاه الحرب والسلام
الذي سيعقبها؟
الجواب: المسلمون العاديون لن يرضوا بهذه الحرب ضد العراق. ويثير
مارك باريس السفير الأمريكي السابق لدى تركيا احتمال قيام حرب تندلع بين
الأتراك والأكراد حول مدن الموصل وكركوك النفطية، واهتزاز حكم بلدان
مجاورة.
السؤال السابع: هل ستساعد الحملة العسكرية ضد العراق الحرب ضد
الإرهاب أم تضرها؟
الجواب: كثيرون يرون إمكانية ازدواجية الحملة العسكرية ضد القاعدة
والعراق في آن واحد. لكن الخوف هو أن تضر هذه الحرب روح التعاون مع
العديد من الدول، ومن بينها دول عربية، تساعد في الحملة على الإرهاب.
السؤال الثامن: هل ستكون الولايات المتحدة في نهاية الأمر أكثر أمناً؟
الجواب: إذا لم يمكن ردع صدام فلا بد من اسئصاله بالحرب. وعندها
ستكون الولايات المتحدة أكثر أمناً [1] .
والخلاصة أن بوش نجح في إجراءاته الداخلية للحصول على تفويض وتأييد
لشن الحرب على العراق؛ رغم أن هناك بعض المعارضات من رؤساء سابقين مثل
كارتر وكلينتون ونائبه آل جور وبعض الفعاليات في الحزب الديمقراطي،
ومعارضات خفيفة في داخل الحزب الجمهوري، وبعض المظاهرات هنا وهناك.
الشق الثاني: إجراءات عالمية.
كثير من الدول لا تزال تعارض الولايات المتحدة في شن حرب على العراق
بحجة إزالة أسلحة الدمار الشامل لديه. وترتكز هذه الدول على أن المعيارية
الأمريكية غير متوازنة؛ إذ إن كثيراً من الدول لديها أسلحة دمار شامل ومن أبرزها
الدولة اليهودية ولم تتخذ ضدها أي إجراءات وقائية. ومن أبرز الدول التي تضاد
الاتجاه الأمريكي دول الاتحاد الأوروبي وخاصة ألمانيا وفرنسا، ومن خارجه كل
من روسيا والصين وبعض الدول العربية والإسلامية، وطالبت جميع تلك الدول
بأن لا يتخذ أي إجراء عسكري ضد العراق إلا بتخويل من مجلس الأمن.
لقد اضطرت أمريكا للموافقة على ذلك، لكنها قالت إن العراق يشكل خطراً
مباشراً عليها، ولذلك فإنها ستتخذ إجراءً أحادي الجانب وتقوم بعمل منفرد ضد
العراق إن لم يتمكن مجلس الأمن من إصدار قراره بالتفويض الدولي لشن تلك
الحرب. إن الدولة الوحيدة التي تؤيد الولايات المتحدة في اندفاعها هي بريطانيا
رغم المعارضة الداخلية. العراق بدوره أحرج الإدارة الأمريكية عندما وافق على
عودة المفتشين الدوليين دون شروط ثم وافق على أن يكون ذلك بقرار جديد من
مجلس الأمن. لكن الإدارة الأمريكية كانت قد رفعت سقف مطالبها إلى إسقاط النظام
الحاكم في العراق إما طواعية أو بالحرب.
2 - الإجراءات العسكرية.
منذ شهر فبراير عام 2002م بدأت الولايات المتحدة في تنفيذ خطة حشد
عسكري للدخول في حرب مع العراق؛ مما يدل على أن هذا القرار كان قد اتخذ
منذ ما لا يقل عن ثمانية شهور من الآن (أكتوبر 2002م) . وقد بلغت الحشود
العسكرية ذروتها. وأعلن القادة الميدانيون أنهم الآن مستعدون تماماً وفي انتظار
الأوامر الرئاسية. وقد تمت المناورات المختلفة استعداداً لهذه المواجهة، ووضعت
جميع القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة تحت حالة الإنذار، وكثفت الطائرات
الأمريكية والبريطانية من طلعاتها الجوية على شمال وجنوب العراق، وما لم تحدث
«معجزة» - كما يقول البروفيسور علي مزروعي مدير معهد الدراسات الثقافية
العالمية والأستاذ بجامعة نيويورك فإن الحرب واقعة لا محالة!! (وربما تكون
الحرب قد وقعت عندما تكون هذه الدراسة بين يدي القارئ) .
3 - الإجراءات الاقتصادية.
الاستعدادات العسكرية الأمريكية التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر
تمت بدعم مباشر من الكونغرس الأمريكي عندما رفع سقف ميزانية وزارة الدفاع
إلى ما يزيد على الأربعمائة مليار دولار. ورغم أن مؤشرات تراجع الاقتصاد
الأمريكي منذ تلك الأحداث لا تزال في ازدياد، ورغم إشهار كثير من الشركات
الأمريكية الكبرى إفلاسها، فإن ذلك لم يفتّ في عضد الإدارة الأمريكية في مواصلة
إجراءاتها لخوض غمار الحرب ضد العراق، خاصة أنها تأمل تعويض كل ذلك من
الاستثمارات النفطية الكبرى التي سوف تحصل عليها الشركات الأمريكية من
استثمار النفط العراقي. ومن المعلوم أن الاستثمارات النفطية التي يمتلكها بوش
وآخرون في مجلس الأمن القومي قد فتحت عليهم أبواب التوجس ووجهت إليهم
أصابع الاتهام بأنهم من الزاوية الشخصية البحتة سيكونون من أول المستفيدين من
إسقاط النظام العراقي، فنائب الرئيس ديك تشيني كان رئيساً تنفيذياً لشركة
هاليبورتون Hصلى الله عليه وسلمLIرضي الله عنهURTON التي نفذت عقوداً لإعادة بناء منشآت نفطية دمرتها
حرب الخليج الثانية، ومستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس عملت في مجلس
إدارة شركة «شيفرون» SHIFRON لأكثر من عشر سنوات قبل أن تنضم
لإدارة بوش، ووزير التجارة الملياردير دونالد إيفانس عمل مديراً لشركة دينفر
عز وجلصلى الله عليه وسلمNVصلى الله عليه وسلمR للنفط والغاز، وهلم جراً.
فالإجراءات الاقتصادية التي تتخذها إدارة بوش لها وجه من الانتفاع
الشخصي الذي ستعود به الحرب على المستفيدين.
* نتائج الحرب المتوقعة بين رأيين:
ما هي احتمالات نتائج الحرب الأمريكية البريطانية ضد العراق؟
في نقاش الكونغرس الأمريكي لهذا الموضوع وردت السيناريوهات التالية:
الأول: يقوم الجيش العراقي بإطلاق الأسلحة الكيماوية والبيولوجية باتجاه
(الدولة العبرية) لإشعال حرب عربية إسرائيلية، وإطلاق قنابل غاز على القوات
الأمريكية المتقدمة.
الثاني: يرفض الضباط العراقيون ارتكاب جرائم الحرب هذه عند مواجهة
هزيمة وشيكة، ويقومون بانقلاب على النظام المتداعي. واستبعد الجنرال توماس
مالكينرس حصول حرب مدن.
الثالث: ذكره الجنرال هورفيري وهو: إن سيناريو الرعب يقوم على وجود
ست وحدات من الحرس الجمهوري، وست وحدات ذات أسلحة ثقيلة معززة بآلاف
قطع المدفعية المضادة للطائرات للدفاع عن بغداد، والنتيجة ستكون وقوع عدد كبير
من الضحايا على الجانبين وبين المدنيين.
هذا ما ذكروه، لكن ما أود إيراده هو أن احتمالات نتائج الحرب في نظري
كالتالي:
الاحتمال الأول: انتصار الولايات المتحدة في الحرب. وسيترتب على ذلك
تحقيق معظم أو جميع الأهداف التي ذكرناها سابقاً. لكن هذا الانتصار سيكون عبر
معارك شديدة وإزهاق أرواح كثيرة، خاصة من المدنيين، وتدمير كم هائل من
البنية التحتية العراقية، وخاصة أن القيادة الأمريكية لا تتوقع أن تزج بجنودها في
مواجهات إلا بعد أن تكون الطائرات والصواريخ الأمريكية قد دكت العراق دكاً عبر
عشرات الآلاف من الطلعات الجوية لمدة قد تستغرق أسابيع عديدة، ربما تتجاوز
شهراً إلى شهرين أو أكثر. فإذا حصل ذلك فإن دماء المسلمين المدنيين ستسيل
أنهاراً، وأعداد قتلاهم ستبلغ آلافاً؛ فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الاحتمال الثاني: إخفاق الحملة العسكرية الأمريكية. وهو احتمال يستبعده
الكثيرون. غير أن محاكاة هذه الحرب والتي أجريت عبر الكومبيوتر انتصر فيها
النظام العراقي مرتين: الأولى: عندما طبقت خطة احتلال المحافظات العراقية ثم
الإطباق على بغداد، والثانية: عندما طبقت خطة احتلال بغداد أولاً ثم الانتشار إلى
باقي المحافظات. وفي هاتين الخطتين لم يستعمل الجيش العراقي أسلحة الدمار
الشامل، بل اعتمد خطة الانقضاض بالانتحاريين واستخدام وسائل الاتصال المباشر
(ذكرت ذلك الصحافة اعتماداً على تصريحات أمريكية) . وبناء على نتائج هذه
المحاكاة فقد تم إدخال كثير من التعديلات على خطط الحرب المعدة.
لكن ما يمكن قوله أن العراق إذا استخدم أسلحة الدمار الشامل ضد القوات
الأمريكية فإن أحداثاً مروعة يمكن أن تقع، كأن تستخدم الولايات المتحدة القنابل
الذرية المحدودة ضد بغداد وهذا غير مستبعد؛ لأن الولايات المتحدة فعلتها سابقاً في
هيروشيما وناجازاكي فإن حدث ذلك فقد تحدث مفاجآت أخرى في الحرب تؤدي
إلى اضطرار القوات الأمريكية إلى عدم متابعة الحملة العسكرية. ومعروف أن
دخول الحرب معلوم، ولكن الخروج منها غير معلوم. مما سيصيب الأوضاع
الدولية باضطراب شديد على جميع المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية،
وخاصة في الخليج والشرق الأوسط. ولا شك أن صفحة جديدة من إعادة هيكلة
الوضع العالمي ستفتح باتساع.
الاحتمال الثالث: استطالة الحرب: حيث يخفق طرفا النزاع في حسم الحرب
لصالح أي منهما. وفي هذه الحالة ستتحول الحرب إلى نمط استنزافي يحتذي
النموذج الفيتنامي. هذا الاحتمال، إن وقع، فإنه سيؤدي إلى سقوط مرشح الحزب
الجمهوري في الانتخابات الأمريكية القادمة وخاصة إذا أعاد بوش ترشيح نفسه،
كما أنه سيؤجج المعارضة الشعبية للحرب في المجتمع الأمريكي، وسيدفع
الذكريات المؤلمة للحرب الأمريكية الفيتنامية إلى السطح لتحتل الواجهة الإعلامية
في كل مكان، وستكون له تبعات شديدة في تتابع التداعيات السياسية والاقتصادية
والنفسية، وسترتفع الأصوات المنادية بانكفاء الولايات المتحدة نحو الداخل والتخلي
عن سياسة دس الأنف في الدول الأخرى، كما أنه سيسقط الهيبة الأمريكية على
المستوى العالمي، ويهشم عرش الغطرسة الذي تتبوؤه الآن. ولا يستبعد أن يؤدي
استمرار الحرب واستطالة مدتها إلى بدء حالات تململ في الولايات المتحدة
الأمريكية قد يتصاعد ليبلغ حد التمرد على القرارات الفيدرالية؛ مما سيمهد إلى
ولوج طريق التفكك الذي انخرط في متعرجاته الاتحاد السوفييتي فتشرذم إلى خمس
عشرة دولة. وبسبب وجود الميليشيات المسلحة في كل ولاية من تلك الولايات
الأمريكية فإن احتمال حصول الاحتكاكات الدموية بين الولايات وارد في الذهن،
وبناء عليه فإن التفكك الأمريكي سيكون تفككاً دموياً وليس سلمياً كما حصل في
الاتحاد السوفييتي. من جهة أخرى إذا استطالت الحرب فإن أسعار النفط سترتفع
تدريجياً لتبلغ مستويات قياسية، في حين تنخفض قيمة الدولار الأمريكي إلى
الحضيض وسيكون ذلك لصالح اليورو الأوروبي. كذلك فإن جميع العملات الدولية
المعتمدة على سلة الدولار الأمريكي ستنحدر قيمتها باضطراد. ولا مجال هنا
لمتابعة الحديث عن مختلف التداعيات الناشئة عن هذا الاحتمال.
* لكل احتمال من الاحتمالات التي ذكرناها أوجه منوعة حيال المنتهيات التي
ستنجم عنها:
ولكن إذا نظرنا إلى أي من تلك الاحتمالات فإننا نستطيع تبويبها تحت عنوان
«المندرجات» ؛ أي مجرد نتائج تندرج في طريق الصراع الذي يتواصل احتدامه.
وأما المنتهيات التي نعنيها فهي آخر ما سينتهي إليه الأمر. ولما كان ذلك من علم
الغيبيات فإن استجلابه غير تابع للعقليات بقدر ما هو تابع للسمعيات، وبالذات
البشارات، والتي لا بد أن تتقدمها المعطيات.
لقد بشر الله تعالى هذه الأمة بأنه سينصرها في منتهى الأمر نصراً عزيزاً
مؤزراً باهراً. قال تعالى: [يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن
يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 32-33) .
وعن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا
وبر إلا أدخله هذا الدين، يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً
يذل الله به الكفر» [2] .
ولا شك أن الطريق إلى ذلك إنما يكون بمقارعة أهل الكفر والباطل بالجهاد
في سبيل الله، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تزال طائفة من
أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة» [3] . وفي رواية: «لا تزال
عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم،
حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» [4] . وللحديث طرق كثيرة أخرى.
ولما كان القتال في سبيل الله هو سنام الإسلام؛ فإن المنتهى إليه لا يكون إلا
بالعلم والعمل وهما ساعدا الدعاة اللذان يُمضى بهما إلى ساحات الجهاد.
إن البؤر الجهادية المعاصرة في فلسطين والشيشان وكشمير وأفغانستان
والفلبين وأرتيريا وغيرها لهي مصابيح نور تبدد الدجى وتحيي آمال المسلمين.
ورجعة لموضوع أمريكا والعراق؛ فإن أي احتمال من الاحتمالات التي
ذكرناها وقع فإن الجهاد لن يخبو ضوؤه ولن تنطفئ شعلته، وهو السبيل الذي
سيبقى في كل الأحوال سالكاً رغم العقبات والنكبات.
* وقفات وتعليقات:
الوقفة الأولى: إن شرر الحرب إذا اندلعت بين الولايات المتحدة والعراق
سيتطاير في كافة الاتجاهات، وستكون له آثار سياسية واقتصادية وعسكرية مباشرة
على منطقتي الخليج والشرق الأوسط وتركيا وأوروبا وروسيا وآسيا عموماً،
بما فيها رباعي الصراع باكستان والهند والصين وأفغانستان، فضلاًُ عن أندونيسيا
وماليزيا وتايلاند وسنغافورة والفلبين واليابان، إضافة إلى دول شمال إفريقيا
وهلم جراً. كل سيصاب بنوع ما من الشرر المتطاير.
الوقفة الثانية: الحجة الرئيسة التي تستند إليها أمريكا في التجهيز لشن حرب
على العراق هي امتلاك الأخير لأسلحة الدمار الشامل. لكن العراق ينفي ذلك بشدة.
ففي رده على سؤال بهذا الشأن وجهته إليه مجلة «آخر ساعة» المصرية قال
وزير الخارجية العراقي ناجي صبري الحديثي: «الأمريكان يعرفون أكثر من
غيرهم أن العراق خال تماماً من أسلحة الدمار الشامل، كما أن فرق التفتيش التي
فتشت كل شيء وكل مكان في العراق على مدى سبع سنوات وسبعة أشهر، لم
تعثر على أسلحة أو أي نشاط محظور خارج ما سلمته الجهات العراقية لها في عام
1991م، وكان إيكيوس رئيس اللجنة الخاصة قد اعترف منذ عام 1994م أن
العراق نفذ التزاماته بشأن أسلحة الدمار الشامل بنسبة 95%، كما أكد الأمريكي
سكوت ويتر أحد أبرز عناصر التفتيش أن العراق نفذها بنسبة 98% والنسبة الباقية
قصد بها بعض أسئلة تدور في أذهان المفتشين وليس أسلحة متبقية. إن الولايات
المتحدة تريد في تركيزها على عودة المفتشين توفير جواسيس على الأرض يحدثون
لأجهزتها العسكرية والاستخبارية المعلومات اللازمة عن منشآت العراق الاقتصادية
والعسكرية والأمنية لاستخدامها في أعمالها العسكرية العدوانية ضد العراق» انتهى.
وتعليقي على ذلك هو أن الحرب إذا وقعت فستتبين الحقيقة.
الوقفة الثالثة: المعارضون للحرب عددهم كبير ولكل مسوِّغاته، وكل من
موقع تخصصه وزاوية نظره. وأسوق أدناه أقوالاً مهمة لثلاث شخصيات ذات نفوذ:
1 - بول بيفر المعلق والمحلل العسكري المشهور يقول: «الحرب ضد
العراق ستدمر جميع النوايا الحسنة التي تمكنت من بنائها الولايات المتحدة
وبريطانيا مع العالمين العربي والإسلامي. الحرب ستكون كارثية، لا سيما أنه لا
توجد ضمانات أن هذه الحرب ستؤدي إلى تغيير النظام في بغداد، فضلاً عن أنه ليس
هناك أي فكرة عن البديل الذي سيخلف صدام. ولكن إذا كان لا بد من نشوب الحرب
فيجب أن تتوفر مسوغات قانونية، وعلى حد علمي لا توجد مثل هذه حتى الآن» .
2 - جيسيكا ماثيو رئيسة مؤسسة كارنيجي للسلم العالمي تقول: «إن آخر
ما نريد أن نراه في المدى البعيد هو أن نعيش في عالم تتخذ فيه بعض الدول
قرارات بشن الحرب أو الإطاحة بحكومة أو حكومات أخرى لمجرد أنها تعتبرها
حكومة شريرة. إن مصلحتنا تحتم علينا أن نعيش في عالم يحترم القانون، إنها
مسألة مهمة بالنسبة للولايات المتحدة وضع تصرفها تحت سيطرة القانون. إن
الإدارة لم تظهر حتى الآن غير عدم الاكتراث واحتقار آراء الآخرين على أساس
أننا نحن فقط الذي يقرر» .
3 - شاك هاغل، السيناتور الجمهوري ممثل نيبراسكا يقول: «كيف يمكننا
استكمال مهمة تغيير النظام في بغداد في ظل الأوضاع المعقدة في المنطقة؟ الأزمة
الفلسطينية الإسرائيلية مستمرة، علاقاتنا مع سوريا متوترة، لا توجد لنا علاقات
مع إيران، إضافة إلى أن مصر والسعودية وتركيا والأردن قد حذرونا من تبعات
الحرب الخطيرة فيما لو اتبعنا سياسة متفردة ضد العراق، فضلاً عن أن الحرب في
أفغانستان لم تنته بعد. إنني لا أستطيع أن أرى أي إمكانية لنجاح الولايات المتحدة
في مثل هذه العملية المعقدة من دون دعم التحالف الإقليمي والدولي» .
جميع هذه التوجهات ضد الحرب تضرب بها الولايات المتحدة عرض الحائط.
حتى ريتشارد هاس، مدير إدارة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية
يؤكد تعنت وعناد الولايات المتحدة فيقول: «لا بد من إنهاء ملف أسلحة الدمار
الشامل مهما كلف هذا الأمر الجانب الأمريكي.. وإذا استمر الموقف العراقي على
ما هو عليه من دون إحراز تقدم؛ فإن واشنطن ستسعى إلى توفير الغطاء الدولي
لردع النظام العراقي بالتعاون مع بريطانيا، مهما كلف الأمر!!» [5] .
الوقفة الرابعة: أشرنا في هذه الدراسة إلى أن من أهداف الحرب نشر
الديمقراطية. تأكيداً لذلك أسوق ما ذكره جيمس وولسي مدير وكالة الاستخبارات
المركزية السابق بهذا الصدد، يقول: «إذا تمكنا من تغيير النظام في بغداد ونشر
الديمقراطية في العالم العربي، فإننا سنغير وجه الشرق الأوسط بأكمله، قد نواجه
بعض المعوقات هنا وهناك، ولكن العالم سيكون في حال أفضل إذا ما بدأنا التحرك
نحو الديمقراطية في هذا الجزء من العالم» .
الوقفة الخامسة: ما هو مستقبل النفط العراقي؟! روبرت مابرو مدير معهد
دراسات الطاقة في جامعة أكسفورد بريطانيا يقول: «إن جماعات الضغط
الأمريكية الكبرى تريد إضعاف الدور الرائد للمملكة العربية السعودية في سوق
النفط الدولية، وتقليص حقها من صادرات النفط في العالم ... كخطوة مبدئية
ستحاول الحكومة العراقية الجديدة مضاعفة حجم الإنتاج النفطي.. ولا شك أن
مضاعفة الإنتاج في وقت تكون فيه السوق النفطية في حالة إغراق يمكن أن تؤدي
إلى انهيار في الأسعار» .
ملحم كرم، في مجلة «الحوادث» يسلط الضوء على الموضوع من زاوية
أخرى، يقول: «إن تقارير دبلوماسية محدودة التداول أشارت إلى هدف نفطي
كبير يتمثل في السيطرة على حقل» القرنة «الذي يقدر احتياطياته الخبراء بأنها
تفوق أي مخزون آخر في الجزيرة العربية. وقد تعاقدت بغداد مع شركات روسية
لاستثمار جزء من هذا الحقل الخرافي، وهو الأمر الذي أسال لعاب شركات
أمريكية مرتبطة بالرئيس بوش الذي تعهد بأن تصبح» القرنة «تحت مظلتها
الاستثمارية بعد إسقاط النظام» (هكذا إذن) . إن هذا الكلام يؤكد ما ذكرناه من
أهداف الحرب الأمريكية على العراق.
الوقفة السادسة: هل ستدخل إيران الحرب؟!
الجواب: لا، بل إن وزير دفاعها أشار إلى أن إيران لن تتعرض للطائرات
الحربية الأمريكية إذا انتهكت المجال الجوي الإيراني خطأ. ولكن ينبغي لإيران أن
تعلم أن الدور سيكون عليها فيما بعد، وأن تدمير مفاعل بوشهر على الأجندة
الأمريكية الإسرائيلية. وإذا قام في العراق نظام حكم موال لأمريكا، فرغم أنه
سيكون عازلاً بين إيران وحليفتها سوريا ثم حزب الله في لبنان، فإن العقلية
اليهودية تتجه بسرعة إلى التخلص من القوى الإيرانية المسلحة؛ لأن من سياسة
(الدولة العبرية) أن تمنع وجود دولة قوية عسكرياً بالقرب من حدودها كإيران مثلاً
حتى وإن كانت في وفاق علني أو سري معها. وإذا انتصرت أمريكا على العراق
في الحرب التي يتم التجهيز لها على قدم وساق فإن إيران ستكون محاصرة أمريكياً
من الجهات الأربع، ومن ثم ستكون ساقطة عسكرياً حكماً. لكن لو وقفت إيران
الآن مع العراق عسكرياً فإن المعادلة ستتغير بالكامل، ولن يكون من السهل على
أمريكا أن تخوض حرباً مع الدولتين في آن واحد، وبذلك سيخفق المخطط
الأمريكي في شن الحرب على العراق.
الوقفة السابعة: من هو كرزاي العراق؟!
ليس ثمة اسم محدد بشكل قاطع؛ لكن هناك تكهنات تتحدث عن إعادة
الهاشميين. غير أن المنصب التنفيذي المهم هو منصب رئيس الوزراء؛ فمن
سيكون؟
أرجح الأقوال أنه الدكتور أحمد جلبي زعيم المؤتمر الوطني، وستوفر له
الحماية الأمريكية والبريطانية، حيث إن المطروح بقاؤه خمس سنوات دون إجراء
أي انتخابات باعتبارها فترة انتقالية. ولكن هل سيحدث ذلك في ظل النزاعات
المتوقعة بين مختلف الفصائل العراقية؟ وقفات كثيرة، وأسئلة وفيرة.. ولكن
الغيب يعلمه الله وحده.
وختاماً، فقد طفنا في جولتنا السريعة هذه بمختلف المؤثرات التي نرى أنها
ستصوغ الأوضاع العالمية إذا شنت الولايات المتحدة حربها المدمرة الموعودة على
العراق.
أسأل الله تعالى أن يرد هذه الأمة إلى دينه رداً جميلاً، ويؤيدها بقوته ونصره
وأن يكفيها شر أعدائها المتربصين بها.