ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
محمد بن حمد الخميس [*]
لقد وصل الإسلام إلى إفريقيا قبل أن يصل المدينة المنورة؛ وذلك عندما
هاجر مجموعة من صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة بعد البعثة
بخمس سنوات، ثم بدأت الفتوحات الإسلامية لإفريقيا في عهد الفاروق عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - حيث فتحت مصر ثم استمر الفتح الإسلامي لشمال
إفريقيا خلال القرن الهجري الأول حتى وصل إلى المحيط الأطلسي غرباً.
ولهذا نستطيع القول بأن الجهاد كان سمة أساسية لانتشار الدعوة الإسلامية في
الشمال الإفريقي.
أما في شرق أفريقيا فإن الأمر مختلف تماماً؛ فهجرات المسلمين وازدهار
التجارة مع بلاد المسلمين يمثلان أهم عوامل نشر الدعوة الإسلامية.
وبعد أن تمكن الإسلام من قلوب شعوب الشمال والشرق الأفريقي بدأ ينطلق
وبقوة حيث عبر الصحراء الكبرى حتى وصل إلى الغابات الاستوائية على الساحل
الغربي للقارة، كما توغل من الشرق إلى الوسط والجنوب، وقامت في أفريقيا
ممالك إسلامية عظيمة في الشرق والغرب والوسط.
وبهذا أصبحت القارة تدين بالإسلام، واستمرت على ذلك قروناً عديدة حتى
جاء الاستعمار خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وعزل المسلمين بأفريقيا عن العالم
الإسلامي، وحارب انتشار اللغة العربية، وغيَّر كتابة كثير من اللغات الأفريقية من
الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وكان العالم الإسلامي وقتها ضعيفاً إلى درجة
أنه لم يستطع مساعدة إخوانه في أفريقيا أمام هذه الهجمة الشرسة من الاستعمار الذي
فتح الباب على مصراعيه للبعثات التنصيرية التي دخلت إلى كل مكان في أفريقيا
وشيدت الكنائس في عواصم أفريقيا ومدنها وقراها حتى يخيل إليك أحياناً أن
النصارى أغلبيه وهم ليسوا كذلك.
ففي دار السلام عاصمة تنزانيا حيث الغالبية المسلمة دون منازع؛ ومع ذلك
فإنك تشاهد الصليب مرفوعاً على الكنائس الضخمة في معظم مداخل المدينة البرية
والبحرية وفي شوارعها الرئيسية، وفي زنجبار التي يدين 98% من شعبها
بالإسلام ترى الكنائس في أماكن متفرقة من الجزيرة بحجة الحرية الدينية، وفي
كثير من مدن وقرى شرق وشمال كينيا حيث سكانها من أصول صومالية مسلمون
100% وليس فيها نصارى إلا الحاكم أو أفراد الجيش أو الشرطة أو العاملون في
السلك الحكومي ومع ذلك تتجول في المدينة، وترى أحياناً أن عدد الكنائس يفوق
عدد المساجد، وأذكر أني زرت قرية في جنوب مدغشقر اسمها قرية (مكة) وإذا
كنيسة على مدخل القرية، فسألت عن نسبة النصارى فيها، وإذا بالإجابة أنه لا
يوجد فيها نصراني واحد.
ولم تقف الكنيسة عند هذا الحد من صدها للدعوة الإسلامية في أفريقيا، وإنما
قامت وساهمت وبدعم من المستعمر الأوروبي بتجهيل قبائل مسلمة وإبعادها عن
الإسلام حتى أصبحت وثنية أو لا دينية لا تعرف عن الإسلام حتى اسمه، ولا
تستغرب إذا قلت لك إن قبيلة السكلافا ذات الأصول الإسلامية في محافظة ماجونقا
بشمال مدغشقر لديهم مكان للعبادة يسمونه: «الدعاني» أي بيت الدعاء يطوفون
حوله بإزار ورداء أبيضين متجردين من الملابس الداخلية وحاسري الرؤوس، وبعد
الطواف يتبركون ويشربون ماءً ثم ينحرون الهدي.
وفي شمال كينيا حيث تعيش قبيلة الغبرا يصومون رمضان ويحتفلون في
شهر ذي الحجة احتفالاً يسمونه احتفال أرفه، ويتوجهون بطقوس تعبدية إلى جهة
القبلة خمس مرات في اليوم ومع ذلك فهم لا يعرفون ديناً اسمه الإسلام.
وقبيلة البورنا في شرق أفريقيا يؤمنون بوجود الله عز وجل، ويقومون
ببعض الممارسات التي تدل أنهم كانوا مسلمين في يوم من الأيام، ولكنهم يعبدون
غير الله كالجبال أو الأشجار وغيرها.
وبالرغم من هذه الهجمة المنظمة على الإسلام في أفريقيا من قِبَل الاستعمار
والكنيسة، إلا أن هذه القارة ظلت تدين بالإسلام؛ حيث تشير إحصاءات عام
1988م أن عدد سكان القارة الأفريقية بلغ 611 مليون نسمة، منهم 52.8%
يدينون بالإسلام، والباقي 47.2% تشترك فيه المسيحية والوثنية والديانات
الأخرى [1] .
ومما يشهد على ذلك أن عدداً لا بأس به من برامج الكنيسة التي وجهت إلى
قبائل معينة باءت بالإخفاق، وقد كتب الشيخ موسى الطارقي مقالاً رائعاً في مجلة
الكوثر الكويتية بعنوان: «لماذا لا يحتفل المسلمون بفشل أشرس غارة صليبية
على أفريقيا؟» وذكر أن البرنامج التنصيري الموجه إلى قبيلته «الطوارق» كلف
الكنيسة خلال ثلاثين سنة مئات الملايين من الدولارات، وكانت النتيجة هي تنصير
خمسة أشخاص فقط من القبيلة وذكر أسماءهم [2] .
ولا يعني هذا أن هذه الهجمة الكنسية على أفريقيا، وهذا الغزو الصليبي لم
يؤثر عليهم سلباً؛ فهناك مسلمون تنصروا بسبب حاجتهم لإمكانات الكنيسة وما
تقدمه إليهم، والبعض قد يكون عن جهل. وهناك عدد كبير من القبائل الأفريقية
تحولت من الإسلام إلى الوثنية أو اللادينية مثل قبائل: الأنتيمور والسكلافا
والكريو والبورنا وغيرهم، ويقدر عددهم بـ 40 إلى50 مليون نسمة [3] .
وهناك مسلمون تأثروا بالفكر الصوفي، وآخرون أدخلوا في الدين من البدع
ما لم ينزل به الله سلطاناً.
واستمر هذا التأثير السلبي يدب في جسد القارة الأفريقية وينهك قدرتها على
مقاومة الكنيسة ولا سيما أن العون الخارجي المادي أو الدعوي كان شبه معدوم؛
حيث كان الاعتماد بعد الله على الجهود الدعوية الذاتية لأبناء القارة الذين تلقوا
ثقافتهم الإسلامية في ظل هيمنة الاستعمار على بلدانهم، والذي كان يحرص أشد
الحرص على عزلهم عن العالم الإسلامي.
ومما زاد الطين بلة نجاح بعض الحركات الثورية المدعومة من الشيوعين
التي أوصلت زعماء إلى سدة الحكم حاربوا الإسلام علانية، وأظهروا الكراهية له
كما حصل في أثيوبيا والصومال وتنزانيا وغيرها من البلدان الأفريقية.
وخلال الثلاثين سنة الماضية تحررت معظم الدول الأفريقية من حكم
الاستعمار، ووصلت الصحوة الإسلامية إليها كما وصلت إلى غيرها، وساهم فيها
خريجو الجامعات الإسلامية ولا سيما الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وساهموا
في نشر المدارس الدينية والخلاوي القرآنية.
وتشير بعض الإحصاءات أنه في جزيرة زنجبار ذات المليون نسمة يوجد ما
لا يقل عن 1800 مدرسة دينية، وفي مقديشو توجد 3830 خلوة قرآنية [4] . وهذه
المدارس والخلاوي وإن كانت تعاني من الضعف المالي والإداري، وتفتقر إلى
أدنى درجات التنظيم والترتيب إلاَّ أنها ساهمت في الحفاظ على هوية المسلمين
واعتزازهم بدينهم؛ حيث تستوعب هذه المدارس أحياناً أكثر من 80% ممن هم في
سن التعليم.
وفي هذه الفترة من الزمن بدأ العمل الخيري المؤسسي في الخليج والبلدان
الإسلامية الأخرى، وامتد نشاطه إلى القارة الأفريقية مما ساهم في تعزيز الدعوة
الإسلامية.
ولكن مع الأسف فإن عدداً كبيراً من المؤسسات الخيرية الإسلامية اقتصر
دعمه على المدارس الدينية والخلاوي القرآنية، وأغفل المدارس النظامية التي لا
تقل أهميتها عن المدارس الدينية؛ فكما هو معلوم أن الإسلام نظام كامل لحياة البشر
يشمل جميع مجالات الحياة، وكما أن الأمة تحتاج إلى العالم والداعية والإمام فهي
بحاجة إلى الطبيب والمهندس والاقتصادي والسياسي والإعلامي.
ونتيجة لهذا الإغفال أقصد إغفال إنشاء مدارس نظامية للمسلمين أصبح
المسلمون مهمشين في دولهم وإن كانوا أغلبية؛ فعادة ما يكون الوزراء ونواب
البرلمان ومدراء العموم وأصحاب النفوذ في كل بلد من الحاصلين على شهادات
ومؤهلات دراسية، وهذا في الغالب يتوفر لدى النصارى، ولذلك تجدهم يسيطرون
على هذه المقاعد المهمة وإن كانوا أقلية في البلاد، لهذه الأسباب وحسب تجربتي
المتواضعة في لجنة مسلمي أفريقيا بدأت ألمس أن بعض مؤسسات العمل الخيري
في أفريقيا سواء كانت أجنبية أو محلية أخذت بالاهتمام في بناء وتشييد وتسيير
مؤسسات تعليمية في التعليم العام تطبق المناهج المعترف بها من قبل وزارة التربية
والتعليم في الدولة المعنية، وتضيف إليها من المناهج الشرعية واللغة العربية ما
تشاء، وهي بهذه الطريقة تستفيد من تعليم المناهج النظامية لتخريج طلاب في
مجالات عديدة دون أن تفقد التعليم الديني الذي كانت مقتصرة عليه في السابق.
وأرى من خلال متابعتي للمدارس النظامية التي تديرها اللجنة في شرق
أفريقيا أن هذا الاهتمام ليس فقط من قِبَل مؤسسات العمل الخيري، ولكن الوعي
لدى الآباء بأهمية تدريس أبنائهم هذا النوع من التعليم بدأ يتنامى حتى إن بعضهم
يقطع جزءاً من لقمة عيشه على تواضعها ويسدد بها الرسوم الدراسية لأبنائه.
وهناك مؤسسات خيرية قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال، وبعد أن لمست
نجاحات متعددة في التعليم العام بادرت بإنشاء مؤسسات للتعليم العالي بعد أن كانت
حكراً على الكنيسة لعقود مضت؛ وذلك من أجل توفير الدراسة الجامعية للطالب
الأفريقي المسلم في بلده وبين أهله ليساهم في تنمية نفسه وبناء أمته محصناً بالعلم
الشرعي؛ وهذه المؤسسات وإن كانت قليلة ولا زالت تعتمد على تبرعات المحسنين
في التسيير، ولكنها خطوة في الطريق الصحيح إن شاء الله لإيجاد المسلم القادر
على خدمة قضاياه المصيرية في زمن العولمة.
وأذكر بعض هذه المؤسسات على سبيل المثال لا الحصر:
- جامعة مقديشو.
- جامعة زنجبار.
- كلية التربية بزنجبار.
- كلية الحديث وأصول الدين في ممباسا.
- كلية ثيكا للدراسات الشرعية.
- المعهد الصومالي للتنمية الإدارية.
ولذلك فإن الدعوة الإسلامية في الوقت الحاضر أمامها تحديات كبيرة لا يمكنها
أن تتطور إلا بتجاوز هذه التحديات التي أرى أن من أهمها:
1 - توحيد الجهود والتنسيق الحقيقي لا الصوري بين مؤسسات العمل
الخيري الإسلامي لمواجهة أكبر هجمة غربية تهدد العمل الخيري ولا سيما بعد
أحداث سبتمبر.
2 - التوسع في إنشاء المدارس النظامية والمعاهد والكليات والجامعات
الإسلامية وبتخصصات مختلفة تخدم المسلمين في جميع المجالات.
3- توحيد مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية التي تضاف للمدارس
النظامية.
4- اعتماد سياسة التسيير الذاتي لهذه المؤسسات التعليمية من خلال الرسوم
حتى لا تكون عرضة للانهيار إذا ما توقف دعم المتبرعين، وهذا الأمر ليس ضرباً
من الخيال أو صعب المنال في أفريقيا؛ فلدينا في اللجنة مؤسسات للتعليم العام
والعالي وصلت بفضل الله إلى هذه المرحلة، ولولا الإطالة لأسهبت في ذكر بعضها.
5 - تأهيل وتدريب العاملين في حقل الدعوة والسلك التعليمي والإداري في
العمل الخيري الإسلامي.