ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
أ. د. حمدي عبد الرحمن [*]
* مقدمة:
لقد كانت (إسرائيل) أول دولة تفتتح سفارة لها في العاصمة الغانية أكرا بعد
أقل من شهر على حصول غانا على استقلالها عام 1957م، ومنذ ذلك الوقت
والدولة العبرية تسعى جاهدة لكسب النفوذ وتعظيم أهداف سياستها الإفريقية بأقل
تكلفة ممكنة.
فإسرائيل ليست دولة غنية بمفهوم الثراء المادي، ولكنها استطاعت من خلال
توثيق عرى التعاون الفني بينها وبين الدول الإفريقية على مدى أكثر من أربعين
عاماً أن يكون لها سفراء معتمدون في أربعين عاصمة إفريقية جنوب الصحراء.
وتحاول إسرائيل جاهدة تقويم سياستها الإفريقية؛ وذلك للاستفادة من دروس
وتجارب الماضي.
وليس بخاف أن دراسة مسيرة التغلغل الصهيوني في القارة الإفريقية تحمل
أهمية بالغة؛ وذلك لعدة اعتبارات لعل من أبرزها:
أولها: أن فرض الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط أدى إلى خلق
نظام إقليمي صراعي بحيث إنه أضحى سمة لازمة للتفاعلات العربية الإسرائيلية.
يعني ذلك أن تحرك إسرائيل في تفاعلاتها الخارجية جعلها ترتبط بهذه الوضعية
التي أخرجت علاقاتها مع دول المنطقة عن مصاف العلاقات الطبيعية بين الدول.
وثانيها: ارتباط وتأثر العلاقات الإسرائيلية الإفريقية بالعلاقات العربية
الإفريقية أدى ذلك إلى النظر إلى القارة الإفريقية باعتبارها ساحة للتنافس والصراع
بين إسرائيل والدول العربية.
وثالثها: ارتباط كل من إسرائيل والعرب والأفارقة بمتغيرات النظام الدولي؛
حيث تأثرت العلاقات بين هذه المجموعات بإرادة وتوجهات النظام الدولي سواء
القديم أو الجديد. وربما يكون التغير الهيكلي الذي شهده النظام الدولي منذ بداية
أعوام التسعينيات وأودى بحياة الحرب الباردة في غير صالح العرب والأفارقة،
وهو ما أفاد يقيناً الدولة العبرية التي راحت تعيد ترتيب أولويات حركتها الخارجية
بما يحقق لها الهيمنة الإقليمية، وأحلامها التوراتية في بناء دولة كبرى.
وتحاول هذه الدراسة تحليل أهم محددات السياسة الإسرائيلية تجاه إفريقيا؛
وذلك لبيان حقيقة الوجود الإسرائيلي في إفريقيا عبر فترات زمنية مختلفة وذلك في
محور أول. أما المحور الثاني، فإنه يركز على تطور العلاقات الإسرائيلية
الإفريقية منذ بداية التغلغل في الخمسينيات والستينيات، ومروراً بالقطيعة الإفريقية
لإسرائيل في السبعينيات، وانتهاء بالعودة الثانية لإسرائيل إلى إفريقيا وما لحق بها
من تغيرات وتحولات على مستوى الأهداف والسياسات. وأخيراً يتناول المحور
الثالث، ركائز السياسة الإسرائيلية في كسب الهيمنة والنفوذ في إفريقيا وانعكاس
ذلك على العلاقات العربية الإفريقية.
* أولاً: محددات السياسة الإسرائيلية في إفريقيا:
1- الصراع العربي الإسرائيلي [1] :
حقيق على أي دارس لتطور العلاقات الإسرائيلية الإفريقية أن يعترف بأهمية
ومحورية الصراع العربي الإسرائيلي في تحديد مسار هذه العلاقات؛ وذلك من
مناحٍ مختلفة:
أولاً: انعكاسات الحرب الباردة على كل من النظامين الإقليميين العربي
والإفريقي بدرجة أدت إلى استفادة إسرائيل بدرجة أكبر من غيرها من الأطراف
الإقليمية.
ثانياً: إدراك (إسرائيل) المتزايد بأهمية أفريقيا بحسبانها ساحة من ساحات
إدارة الصراع العربي الإسرائيلي؛ حيث اعترفت منذ البداية بثقل الصوت الإفريقي
في الأمم المتحدة والذي برز واضحاً في مناسبتين:
الأولى: هي قرار الأمم المتحدة الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية عام
1975م.
والثانية: هي عندما تم إلغاء القرار نفسه عام 1991م في سابقة غير متكررة
عبر تاريخ المنظمة الدولية.
ثالثاً: أن حركة المد والجزر في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية ارتبطت
بتطور الصراع العربي الإسرائيلي؛ فالمقاطعة الدبلوماسية الإفريقية لإسرائيل في
السبعينيات ومعظم سنوات الثمانينيات، ثم العودة الكاسحة لهذه العلاقات منذ بداية
التسعينيات ارتبطت بحدثين هامين في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي:
أولهما: هو حرب أكتوبر 1973م، والثاني: هو انعقاد مؤتمر مدريد للسلام
في الشرق الأوسط عام 1991م.
رابعاً: أن حالة الضعف الاستراتيجي للقارة الإفريقية من حيث عدم وجود
نظام قوي للأمن قد نظر إليها من جانب طرفي الصراع في الشرق الأوسط على أن
إفريقيا ساحة للاستقطاب وتحقيق مكاسب على حساب الطرف الآخر.
ومن الجلي أن نشير هنا إلى أن إسرائيل نظرت ومنذ البداية، وبغض النظر
عن أهدافها ومراميها الأيديولوجية والتوراتية والبراجماتية، إلى إفريقيا باعتبارها
قادرة على القيام بدور محوري في تسوية محتملة للصراع العربي الإسرائيلي؛
وذلك استناداً إلى عدد من الحقائق (وفقاً للرؤية الإسرائيلية) لعل من أبرزها [2] :
أولاً: الصداقة المتبادلة بينها وبين كل من العرب والإسرائيليين.
وثانياً: تحررها من الأبعاد النفسية والأخلاقية الخاصة بطبيعة الصراع في
الشرق الأوسط؛ وبالفعل طرحت عدة مقترحات إفريقية للوساطة بين العرب
وإسرائيل، وكان من بينها مبادرة الرئيس كوامي نكروما غير أنها باءت جميعاً
بالإخفاق.
على أن حرب 1967م مثلت تطوراً مهماً في تاريخ التنافس الإسرائيلي
العربي في إفريقيا؛ حيث نظر الأفارقة إلى إسرائيل باعتبارها قوة احتلال تحتل
أراضي دولة إفريقية. صحيح أن موقف منظمة الوحدة الإفريقية لم يكن حاسماً
بدرجة كافية، ولكنه أكد على تأييد قرار الأمم المتحدة 242 القاضي بعدم شرعية
احتلال إسرائيل للأراضي العربية. وكانت غينيا بقيادة الرئيس أحمد سيكوتوري
هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بعد
عدوان 1967م مباشرة؛ بيد أنه مع تصاعد الدعم العربي لحركات التحرر الوطني
في الجنوب الإفريقي، وخيبة أمل القادة الأفارقة من الدول الغربية لعدم مساعدتها
في تنفيذ الخطة الإفريقية الرامية إلى عزل جنوب إفريقيا والبرتغال وروديسيا فإن
الانتقاد الإفريقي للعدوان الإسرائيلي ازدادت حدته حتى وصل الأمر قبل نشوب
حرب أكتوبر 1973م إلى قطع العلاقات الدبلوماسية. ففي عام 1972م قامت
أوغندا بقطع علاقاتها مع إسرائيل، ثم تبعتها سبع دول أخرى هي: تشاد، ومالي،
والنيجر، والكونغو برازافيل، وبوروندي، وزائير، وتوجو [3] .
وإذا كانت حروب الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل قد أحدثت مزيداً من
التعقيدات في مركب العلاقات الإسرائيلية الإفريقية فكذلك فعلت مبادرات التسوية
السلمية في المنطقة. ففي أعقاب قيام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة القدس
عام 1977م وتوقيعه على اتفاقات كامب ديفيد عام 1979م بذلت محاولات عربية
دؤوبة لعزل مصر إفريقياً بيد أنها لم تنجح مطلقاً [4] .
ففي القمة الإفريقية التي عقدت في ليبيريا عام 1979م قامت ست دول عربية
أعضاء في المنظمة من بينها المغرب، والجزائر، وليبيا بمقاطعة القمة احتجاجاً
على وجود السادات.
وقد عملت إسرائيل حثيثاً على إعادة روابطها الإفريقية، وهو ما اتضح جلياً
في عودة علاقاتها مع زائير (الكونغو الديموقراطية) في 14/5/1982م؛ لأن
الأساس الذي بمقتضاه اتخذت الدول الإفريقية قرار المقاطعة لإسرائيل قد انهار بعد
تبادل السفراء بين كل من القاهرة وتل أبيب [5] .
أياً كان الأمر فإن الإدراك الإفريقي لـ (إسرائيل) باعتبارها دولة صغيرة
محدودة الموارد محاطة بأعداء من كل جانب؛ ومع ذلك استطاعت بناء نموذج
تنموي يمكن أن يحتذى قد تغير بعد احتلالها الأراضي العربية أثناء عدوان 1967م؛
بيد أن هذا الإدراك قد تغير مرة أخرى مع بدء مسيرة التسوية السلمية، وكان ذلك
مرة أخرى لصالح إسرائيل.
2- المكانة الإفريقية في المنظومة الدولية:
على الرغم من أن إفريقيا كانت قارة مجهولة بالنسبة للعاملين في وزارة
الخارجية الإسرائيلية في أعوام الخمسينيات إلا أنها لم تكن كذلك على مستوى
التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي؛ وذلك مقارنة بقارات العالم الأخرى. فأمريكا
اللاتينية مثلت دائرة نفوذ للولايات المتحدة الأمريكية، كما أن إسرائيل وجدت دعماً
ومساعدة من القوى الغربية الرئيسية في أوروبا. وهنا كان عليها في سعيها للبحث
عن الشرعية الدولية أن توجه أنظارها إلى آسيا وإفريقيا.
أما بالنسبة لآسيا فقد كانت أشبه بالقارة «المغلقة» أمامها لعدة عوامل من
بينها:
- وجود دول كبرى قطعت شوطاً كبيراً في ميدان التنمية الاقتصادية.
- وجود دول وجاليات إسلامية كبيرة وهو ما يجعلها أقرب لتأييد الموقف
العربي.
- تضاؤل فرص تسويق النموذج الإسرائيلي في التنمية في ظل وجود دول
مثل الصين واليابان والهند.
وعليه؛ فقد كانت إفريقيا التي تؤهلها مكانتها الجيو استراتيجية فضلاً عن
وجود عدد كبير من الدول بها التي تتطلع للحصول على مساعدات تنموية وتقنية
من الخارج الخيار المناسب أمام صانع القرار الإسرائيلي. هذا بالاضافة إلى قدرة
الدول الإفريقية العددية في المحافل والمؤسسات الدولية والتي تكمن أهميتها [6] في
سياق الوعي بحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي، وإمكانية الاستفادة من الدور
الإفريقي في هذا المجال.
وليس أدل على هذه الأهمية من أنه عندما اجتمعت الجمعية العامة للأمم
المتحدة في منتصف يونيو 1967م في جلسة خاصة بناء على طلب الاتحاد
السوفييتي تأثر الموقف الإفريقي بدور الأطراف الخارجية، ولا سيما الولايات
المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ حيث حاول كل منهما ممارسة الضغوط لصالح القرار
الذي يتبناه. فقد طرح مشروع قرار باسم مجموعة عدم الانحياز قدمته يوغوسلافيا،
ونظر إليه على أنه موالٍ للعرب، كما طرح مشروع قرار آخر باسم مجموعة
دول أمريكا اللاتينية ونظر إليه باعتباره موالياً لإسرائيل [7] .
وبتحليل السلوك التصويتي للمجموعة الإفريقية نجد أن الدول التي ساندت
الموقف الإسرائيلي سواء بشكل حاسم أو غير حاسم تصل إلى عشرين دولة.
بيد أن هذا التوجه تغير تماماً عند مناقشة قرار الأمم المتحدة الذي يعتبر
الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية؛ حيث صوَّت لصالح القرار عشرون دولة
إفريقية من غير الأعضاء فى جامعة الدول العربية (باستثناء الصومال وموريتانيا) ،
كما عارض القرار خمس دول فقط؛ بينما امتنع عن التصويت اثنتا عشرة دولة.
وليس بخاف أن هذين المثالين يعكسان بجلاء الدور الإفريقي في الأمم المتحدة
وهو ما ظهر مرة أخرى عند إلغاء هذا القرار عام 1991م.
3 - الجاليات اليهودية في إفريقيا:
من المعلوم أن إفريقيا تحتضن بين ظهرانيها جاليات يهودية متفاوتة الأحجام
ومتباينة القوة والتأثير [8] .
ففي شمال إفريقيا جماعات من اليهود السيفارديم الذين قدموا بالأساس من
أسبانيا والبرتغال خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
أضف إلى ذلك فقد قدمت إلى إفريقيا جماعات من اليهود الإشكيناز من شمال
وشرق أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
وإذا كان حجم هذه الجاليات، خارج جمهورية جنوب إفريقيا، هو جد
متواضع إلا أن وضعها الاقتصادي في بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء مثل
كينيا يتسم بالقوة والتأثير.
ويمكن القول إن يهود الفلاشا الإثيوبيين يمثلون واحدة من أفقر الجاليات
اليهودية في العالم على الرغم من اعتقادهم الراسخ بأنهم يمثلون القبيلة المفقودة في
التاريخ الإسرائيلي.
وقد تم نقل معظم الفلاشا إلى إسرائيل جواً عبر السودان فيما عرف باسم
«العملية موسى» التي بدأت في عام 1983م ووصلت إلى ذروتها خلال الفترة من
نوفمبر 1984م وفي مارس 1985م [9] .
وبالمقابل، فإن الجالية اليهودية في جنوب إفريقيا تعد واحدة من أغنى
الجاليات اليهودية في العالم.
وطبقاً لأحد التقديرات فإن مساهمة يهود جنوب إفريقيا في خزانة الدولة
العبرية تأتي في المرتبة الثانية بعد مساهمة يهود الولايات المتحدة. بيد أنه إذا أخذنا
بعين الاعتبار حجم كل من الجاليتين فإننا نلاحظ أن تبرعات يهود جنوب إفريقيا
بالنسبة إلى كل شخص تفوق في بعض السنوات تبرعات اليهود الأمريكيين.
ولعل القضية المثيرة للاهتمام عند دراسة أوضاع الجالية اليهودية السوداء في
إسرائيل تتصل بمفهوم الهوية اليهودية السوداء، ونظرهم إلى إسرائيل باعتبارها
جزءاً من التراب الإفريقي؛ إذ كان يقطنها في الأصل شعوب إفريقية داكنة البشرة
[10] .
أياً كان الأمر فإنه لا يمكن التقليل من أهمية متغير الجاليات اليهودية في
توجيه وتخطيط العلاقات الإسرائيلية الإفريقية؛ إذ لا يخفى أن نحو 20% من
إجمالي المهاجرين اليهود إلى (إسرائيل) خلال الفترة من (1948 إلى 1995م)
هم من إفريقيا [11] .
* ثانياً: مراحل تطور العلاقات الإسرائيلية الإفريقية:
شهدت سياسات التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا مردودات متباينة؛ بحيث يمكن
التمييز بين خمس مراحل أساسية في تطور مسيرة العلاقات بين (إسرائيل)
وإفريقيا وهي:
المرحلة الأولى 1948 - 1957م: البحث عن شرعية الوجود وتأمين الكيان:
بعد إعلان قيام الدولة العبرية عام 1948 أوْلى صانع القرار الإسرائيلي
اهتماماً كبيراً بتأسيس علاقات قوية وراسخة مع القوى الكبرى الأساسية في العالم
مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي.
يعني ذلك أن إسرائيل في بحثها عن شرعية الوجود على الساحة الدولية
وتأمين وجودها العضوي لم تنظر إلى المستعمرات الإفريقية، بل انصب جل
اهتمامها على القوى الاستعمارية الأوروبية [12] .
ومن أبرز المؤشرات التي تؤكد هذا المنحى الإسرائيلي أن إسرائيل لم يكن
لديها بنهاية عام 1957م سوى سبع سفارات فقط في العالم بأسره، ست منها في
القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية.
ومن الجلي أن القارة الإفريقية جنوب الصحراء كانت بمثابة أراض مجهولة
incognita terra بالنسبة للعاملين في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ولم ترغب
الدول الإفريقية في إقامة علاقات مع دولة تمتلك العديد من الأعداء. لذلك كان
منطقياً ألا يوجد دبلوماسي إسرائيلي واحد مقيم شمال جوهانسبرج حتى حدوث
الانفراجة في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية مع حصول غانا على استقلالها عام
1957م. على أن نقطة التحول الأساسية التي دفعت إلى حدوث تحول كبير في
الدبلوماسية الإسرائيلية تجاه إفريقيا تمثلت في عقد مؤتمر باندونج عام 1955م؛ إذ
لم توجه الدعوة إلى إسرائيل لحضور هذا الحدث التاريخي الهام، بل ولم يقف
الأمر عند هذا الحد حيث أدان المؤتمر في بيانه الختامي احتلال إسرائيل للأراضي
العربية [13] .
على أن ثمة متغيرات أخرى دفعت إلى توجيه الأنظار الإسرائيلية إلى إفريقيا
وليس إلى آسيا كما ذكرنا آنفا وهو ما أدى إلى دخول العلاقات الإسرائيلية الإفريقية
في الستينيات مرحلة جديدة.
المرحلة الثانية 1957 - 1973م: سياسات التغلغل:
يمكن التأريخ لبداية الانطلاقة الإسرائيلية في إفريقيا بعام 1957م؛ حيث
كانت إسرائيل أول دولة أجنبية تفتح سفارة لها في أكرا بعد أقل من شهر واحد من
حصول غانا على استقلالها [14] .
وقد لعبت السفارة الإسرائيلية في أكرا دوراً كبيراً في تدعيم العلاقات بين
البلدين، وهو ما دفع إلى افتتاح سفارتين أخريين في كل من منروفيا وكوناكري؛
وذلك تحت تأثير إمكانية الحصول على مساعدات تنموية وتقنية من (إسرائيل) .
ومن جهة أخرى فقد تجسدت الرغبة الإسرائيلية في تأسيس علاقات قوية مع
إفريقيا في قيام جولدا مائير وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك عام 1958م بزيارة
إفريقيا لأول مرة حيث اجتمعت بقادة كل من ليبيريا وغانا والسنغال ونيجيريا
وكوت ديفوار.
وثمة مجموعة من المتغيرات الدولية والإقليمية أسهمت في تكثيف الهجمة
الإسرائيلية على إفريقيا، ومن ذلك:
* حصول عدد من الدول الإفريقية على استقلالها في الستينيات أدى إلى زيادة
المقدرة التصويتية لإفريقيا في الأمم المتحدة حيث كان الصراع العربي الإسرائيلي
من أبرز القضايا التي تطرح للتصويت.
* إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963م وضع تحدياً أمام إسرائيل؛
حيث إنها لا تتمتع بالعضوية في هذا التجمع الأفروعربي.
* عضوية مصر المزدوجة في كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة
الإفريقية أعطاها فرصة إقامة تحالفات مع بعض القادة الأفارقة الراديكاليين من
أمثال نكروما وسيكوتوري.
وبحلول عام 1966م كانت إسرائيل تحظى بتمثيل دبلوماسي في كافة الدول
الإفريقية جنوب الصحراء باستثناء كل من الصومال وموريتانيا. ومع ذلك فإن
إفريقيا كانت بمثابة ساحة للتنافس العربي الإسرائيلي [15] .
المرحلة الثالثة 1973 - 1983م: أعوام المقاطعة:
قبل حرب أكتوبر 1973م كانت إسرائيل تقيم علاقات دبلوماسية مع خمس
وعشرين دولة إفريقية. بيد أنه في الأول من يناير عام 1974م تقلص هذا العدد
ليصل إلى خمس دول فقط هي: جنوب إفريقيا، وليسوتو، ومالاوي،
وسوازيلاند، وموريشيوس.
وليس بخاف أن الدول الإفريقية التي قامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع
إسرائيل قد فعلت ذلك تأييداً للموقف المصري بحسبان مصر دولة إفريقية تسعى إلى
استعادة أراضيها من الاحتلال الإسرائيلي [16] .
بيد أن بعض الباحثين يحاول تفسير الموقف الإفريقي أنه كان يرمي إلى
الحصول على المساعدات العربية ولا سيما من الدول النفطية [17] .
وثمة مجموعة من العوامل أسهمت في دعم الموقف العربي في مواجهة الكيان
الصهيوني خلال عقد السبعينيات. فقد شهدت هذه الفترة ظهور تجمعات لدول العالم
الثالث تعبر عن مستوى أو آخر من التضامن مثل منظمة الدول المصدرة للبترول
(أوبك) ومجموعة الـ 77. كما أن إسرائيل جوبهت بسلاح البترول العربي ودعم
كثير من دول العالم الثالث للموقف العربي. ففي عام 1973م أصبح الرئيس
الجزائري هواري بومدين رئيساً لحركة عدم الانحياز، وأثناء مؤتمر الحركة في
الجزائر في العام نفسه اتخذ المؤتمرون قرارات تؤيد كلاً من مصر وسوريا
والأردن في استعادة أراضيها المحتلة، كما تدعو إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع
إسرائيل. وكانت كل من كوبا وزائير وتوجو من أوائل الدول التي تستجيب لدعوة
المقاطعة تلك. وفي عام 1974م رُشح وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز
بوتفليقة رئيساً للجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد استطاع العرب وبمساعدة قوتهم
النفطية إضفاء مزيد من الشرعية الدولية على منظمة التحرير الفلسطينية. لا غرو
أن تتم دعوة ياسر عرفات في 13/11/1974م لالقاء خطاب أمام الجمعية العامة،
وأن يعامل معاملة رؤساء الدول؛ وذلك بشكل غير مسبوق في تاريخ المنظمة
الدولية. إضافة لما سبق فقد نجحت الحملة العربية الرامية إلى عزل إسرائيل
ووصفها بالعنصرية؛ حيث تمت مساواتها بالنظام العنصري في جنوب إفريقيا.
واستفادت الحملة العربية من المواقف والسياسات الإسرائيلية في إفريقيا مثل:
- الدعم الإسرائيلي للحركات الانفصالية الإفريقية على شاكلة بيافرا في
نيجيريا وجنوب السودان.
- دعم وتأييد نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا.
صفوة القول: أن الموقف الإفريقي وإن كانت له دلالات سياسية ودبلوماسية
واضحة من زاوية الصراع العربي الإسرائيلي إلا أن إسرائيل ظلت على علاقة
وثيقة - ولو بشكل غير رسمي - مع معظم الدول الإفريقية التي قامت بقطع
العلاقات معها. وليس أدل على ذلك من أن التجارة الإسرائيلية مع أفريقيا خلال
الفترة من عام 1973م وحتى عام 1978م قد تضاعفت من 54.8 مليون دولار
إلى 104.3 مليون دولار. وتركزت هذه التجارة بالأساس في الزراعة
والتكنولوجيا [18] .
وبنهاية عقد السبعينيات وأوائل الثمانينيات كثفت إسرائيل جهودها من أجل
إعادة علاقاتها الدبلوماسية بإفريقيا؛ حيث قام وزير خارجيتها بإجراء اجتماعات
مباشرة مع الزعماء الأفارقة سواء في الأمم المتحدة أو في العواصم الإفريقية.
ومع ذلك فقد باءت هذه الحملة الإفريقية بالإخفاق، وهو الأمر الذي دفع إحدى
الصحف الإسرائيلية إلى عدم توقع قيام أي دولة إفريقية كبرى بإعادة علاقاتها مع
إسرائيل في المستقبل المنظور.
المرحلة الرابعة 1982 - 1991م: العودة الثانية:
استمرت (إسرائيل) في سياساتها الرامية إلى العودة إلى إفريقيا؛ وذلك من
خلال تدعيم وتكثيف اتصالاتها الإفريقية في المجالات كافة دون اشتراط وجود
علاقات دبلوماسية.
وفي عام 1982م أعلنت دولة إفريقية واحدة هي زائير عن عودة علاقاتها مع
إسرائيل؛ لأن الرئيس موبوتو كان بحاجة ماسة للمساعدات العسكرية الإسرائيلية
ولا سيما في ميدان تدريب الجيش وحرسه الجمهوري.
على أن الدول الإفريقية الأخرى التي حافظت على علاقات غير رسمية وثيقة
مع إسرائيل لم تنهج نفس المسلك الزائيري، وربما يعزى ذلك إلى العوامل الآتية
[19] :
* أن قرار الرئيس موبوتو كان منفرداً، ولم يتم بالتنسيق مع الدول الأخرى.
وقد حاجج البعض بأن قرار قطع العلاقات مع إسرائيل كان برعاية منظمة الوحدة
الإفريقية في أواخر الستينيات، ومن ثم ينبغي أن يكون استئناف هذه العلاقات
بقرار من المنظمة ذاتها.
* أن الدول العربية كثفت من حملتها الدبلوماسية المضادة؛ حيث استخدمت
سلاح المساعدات الاقتصادية والتقنية كأداة للترغيب والترهيب في آن واحد.
* أن إسرائيل قامت في الأسبوع الأول من يونيو عام 1982م بغزو لبنان
وهو ما يؤكد نزعتها التوسعية والعدوانية.
المرحلة الخامسة 1991م: سياسات التطبيع:
لقد شهدت هذه المرحلة إعادة تأسيس العلاقات بين إسرائيل وإفريقيا مرة
أخرى ولا سيما خلال عامي 1991، 1992م؛ وربما يعزى ذلك إلى:
* التغيرات في النظام الدولي وانعكاساته الإقليمية.
* سقوط النظم الشعبوية والماركسية اللينينية في إفريقيا.
* الدخول في العملية التفاوضية بين العرب وإسرائيل منذ مؤتمر مدريد.
وقد تسارعت عودة العلاقات الإسرائيلية الإفريقية؛ حتى إنه في عام 1992م
وحده قامت ثماني دول إفريقية بإعادة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
وتسعى إسرائيل إلى تعزيز سياساتها الإفريقية بدرجة تفوق طموحاتها خلال
عقد الستينيات وأوائل السبعينيات.
وطبقاً للبيانات الإسرائيلية فإن عدد الدول الإفريقية التي أعادت علاقاتها
الدبلوماسية أو أسستها مع إسرائيل منذ مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991م قد بلغ
ثلاثين دولة [20] .
وفي عام 1997م بلغ عدد الدول الإفريقية التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع
إسرائيل 48 دولة.
وتحاول إسرائيل جاهدة الاستفادة من دروس الماضي بما يرسخ أقدامها في
القارة الإفريقية؛ وذلك من خلال التأكيد على الأدوات الثلاثة الآتية:
أولاً: المساعدات الاستخبارية والتدريبات العسكرية:
من الملفت للنظر حقاً أن إسرائيل تمتلك مصداقية كبيرة لدى الدول الإفريقية
في ميادين الاستخبارات والتدريبات العسكرية. فقد ركزت إسرائيل في تفاعلاتها
الإفريقية منذ البداية، وحتى في ظل سنوات القطيعة الدبلوماسية بينها وبين إفريقيا،
خلال الفترة من 1973 - 1983م، على المساعدات العسكرية في مجال تدريب
قوات الشرطة وقوات الحرس الرئاسي لعدد من الدول الإفريقية مثل زائير
(جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) والكاميرون.
وبدهي أن الدول الإفريقية التي تعاني من الصراعات والانقسامات الاجتماعية
والانشقاقات داخل صفوف النخب السياسية الحاكمة تهتم اهتماماً بالغاً بقضايا
المساعدات الأمنية والاستخبارية، وهو ما دأبت السياسة الإسرائيلية في إفريقيا على
التركيز عليه في جميع مراحل علاقاتها الإفريقية منذ أعوام الستينيات. فمع تنامي
المد الناصري في إفريقيا وتعهد الرئيس عبد الناصر بطرد إسرائيل من إفريقيا
قامت إسرائيل بتعزيز تواجدها في إثيوبيا، وأرسلت عملاء الموساد لتدريب قوات
الشرطة الإثيوبية.
ومع سقوط نظام هيلاسيلاسي ومجيء نظام مانجستو ظلت إسرائيل على
علاقة وثيقة بإثيوبيا؛ ولا أدل على ذلك من أن إثيوبيا امتنعت عن التصويت على
قرار الأمم المتحدة عام 1975م والذي يقضي بمساواة الصهيونية بالعنصرية.
ومع دخول القرن الإفريقي أتون الصراعات الإثنية والسياسية أصبح المجال
مفتوحاً أمام التركيز مرة أخرى على أداة المساعدة العسكرية والاستخبارية التي
تمارسها إسرائيل في هذه المنطقة المهمة لها استراتيجياً بسبب ارتباطها بأمن البحر
الأحمر، وكذلك ارتباطها بأمن بعض الدول العربية المؤثرة مثل السودان ومصر.
ثانياً: المساعدات الفنية:
وقد اشتملت منذ البداية على ثلاث مجالات أساسية وهي: نقل المهارات
التقنية وغيرها من خلال برامج تدريبية معينة، وتزويد الدول الإفريقية بخبراء
إسرائيليين لمدة قصيرة أو طويلة المدى، وإنشاء شركات مشتركة أو على الأقل
نقل الخبرات والمهارات الإدارية للشركات الإفريقية.
وتشير الإحصاءات التي نشرها مركز التعاون الدولي التابع لوزارة الخارجية
الإسرائيلية أن عدد الأفارقة الذين تلقوا تدريبهم في إسرائيل عام 1997م وصل إلى
نحو 742 متدرباً إضافة إلى نحو 24636 إفريقياً تلقوا تدريبهم من قبل في مراكز
التدريب الإسرائيلية خلال الأربعين سنة الماضية.
وقد قامت إسرائيل بإعادة تقويم أداء المراكز التدريبية الخاصة بإفريقيا وهي:
- مركز جبل كارمل بمدينة حيفا الذي ينظم حلقات دراسية للمرأة الإفريقية
في ميدان التنمية.
- مركز دراسة الاستيطان الذي يوفر تدريبات في البحوث الزراعية
والتخطيط الإقليمي.
- المركز الزراعي الذي يوفر الخبراء والمساعدة الفنية لتعظيم استخدام
الموارد المتاحة.
- قسم التدريب الأجنبي الذي يهتم بقضايا التنمية الريفية.
- المعهد الأفروآسيوي للهستدروت الذي يهتم بأنشطة الاتحادات العمالية.
وتطرح إسرائيل نموذجاً مهماً بالنسبة للدول الإفريقية في ميدان محاصيل
الأراضي القاحلة وشبه القاحلة.
وعلى سبيل المثال فإن البرنامج الدولي لمحاصيل الأراضي القاحلة والذي
تتبناه جامعة بن جوريون بصحراء النقب بتمويل من اليونسكو ووزارة الخارجية
الفنلندية ومركز التعاون الدولي الإسرائيلي يسعى إلى إقامة مشروعات زراعية في
إفريقيا بغرض محاربة التصحر، وخلق البيئة المواتية للزراعة الدائمة.
ثالثاً: تجارة السلاح والألماس:
من المعلوم أن إسرائيل توفر السلاح للدول الإفريقية بالإضافة إلى التدريب
العسكري، وتفيد الخبرة التاريخية أن إسرائيل تتعامل مع الأشخاص الأفارقة وذوي
النفوذ أو الذين لهم مستقبل سياسي فاعل في بلدانهم.
ولعل حالة الرئيس الكونغولي الراحل موبوتو سيسى سيكو تطرح مثالاً
واضحاً؛ فقد تلقى تدريباً إسرائيلياً، ثم أصبح رئيساً للدولة بعد ذلك بعامين.
ولا يخفى أن إسرائيل تقوم بتزويد العديد من الدول الإفريقية بالأسلحة مثل
إثيوبيا وإريتريا.
وطبقاً لتقارير الأمم المتحدة وبعض التقارير الأخرى فإن هناك تورطاً
لشركات إسرائيلية ولتجار إسرائيليين في التجارة غير المشروعة للألماس.
فمن المعروف أن مافيا هذا الحجر الثمين تقوم بتهريبه من دول مثل الكونغو
وسيراليون وأنجولا عبر دول الجوار ليصل إلى هولندا، ثم بعد ذلك إلى مراكز
تصنيع الألماس في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة بالإضافة إلى
إسرائيل والهند.
على أن هذه التجارة غير المشروعة يوازيها تجارة أخرى غير مشروعة في
السلاح؛ حيث يتم عقد صفقات لشراء الأسلحة وهو ما يسهم في استمرار واقع
الصراعات والحروب الأهلية في الدول الإفريقية الغنية بالألماس، وهو ما يعود
بالنفع المادي على كل المتورطين في هذه التجارة.
بيد أن وجود تجار إسرائيليين أو شركات إسرائيلية لا يقوى دليلاً على اتهام
الحكومة الإسرائيلية بالتورط في هذه التفاعلات التجارية غير المشروعة، وعلى
هذه الشاكلة توجد اتهامات لإسرائيل بدعم بعض الجماعات الإقليمية غير العربية في
دول الشمال الإفريقي مثل جماعات البربر في المغرب العربي، والجيش الشعبي
لتحرير السودان بزعامة جون جارانج.
لكن السؤال يبقى مطروحاً حول مدى مصداقية أو صحة هذه التقارير التي
عادة ما تستند إلى اجتهادات استخباراتية.
بيد أن الخلاصة التي يستطيع المرء أن يصل إليها بكل سهولة ويسر هي أن
إسرائيل استطاعت فعل ذلك بمواردها المحدودة من خلال معرفتها بواقع ومشكلات
الدول الإفريقية؛ وذلك دون كثير عناء وجهد وبعيداً عن الخطابات الأيديولوجية
والبلاغية التي كثيراً ما نأسر أنفسنا بها!
ثالثاً: السياسة الإسرائيلية والبحث عن الهيمنة:
ليس بخاف أن التغيرات الهيكلية التي شهدها النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد
السوفييتي وبروز عصر العولمة الأمريكية وما صاحب ذلك من تغيرات في النظم
الإقليمية ومن بينها منطقة الشرق الأوسط قد جاء بتأثيرات ملموسة على تطور
العلاقات الإسرائيلية الإفريقية. فدخول أطراف الصراع العربي الإسرائيلي مسار
العملية التفاوضية قد أدى إلى إضفاء المشروعية المطلوبة على الكيان الصهيوني
وتأمين وجوده العضوي، ومن ثم فإنه يسعى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى
تحقيق أهدافه التوسعية بحسبانه قوة إقليمية؛ وذلك على حساب النظام الإقليمي
العربي. على أن هدف تحقيق الهيمنة الإقليمية لإسرائيل في المرحلة الراهنة
يقتضي إعادة تقويم واختبار عدد من القضايا الهامة ضمن منظومة العلاقات المتبادلة
بين (إسرائيل) وإفريقيا وذلك على النحو التالي:
1- تأمين البحر الأحمر:
لقد كانت خطورة البحر الأحمر ولا تزال ماثلة في ذهن القيادات الإسرائيلية
المتعاقبة. ولنتذكر أن بن جوريون في حرب 1948م أصدر تعليماته لموشي ديان
بأن يضحي بأي شيء في سبيل موطئ قدم على شاطئ البحر الأحمر. وقد حدث
بالفعل أن حصلت إسرائيل على ميناء إيلات.
ومن الجلي أن الدولة العبرية تصبح بدون هذا المنفذ البحري وقد انقطعت كل
صلة بينها وبين إفريقيا واَسيا، ولعلها اكتشفت هذه الحقيقة في حرب 1973م عندما
تم إغلاق باب المندب في وجهها [21] .
ونظراً لغياب قواعد عربية واضحة تحكم أمن البحر الأحمر، ومع استقلال
أرتيريا عام 1993م وابتعادها عن النظام العربي، فإن إسرائيل في ظل «التسوية
السلمية» سوف تضمن تلبية مطالبها الأمنية الخاصة بالبحر الأحمر. وانطلاقاً من
ذلك سوف تحاول جاهدة الاستفادة لأقصى درجة من أجل تدعيم احتياجاتها الخاصة
بالهيمنة والتوسع.
2- التركيز على دول القرن الإفريقي:
وتسعى إسرائيل من جراء ذلك إلى تحقيق أكثر من هدف واحد انطلاقاً من
المتغيرات التالية:
- وجود جالية يهودية كبيرة في إثيوبيا «يهود الفلاشا» . صحيح أن
إسرائيل تمكنت من نقل معظم الفلاشا إلا أن بعض الإحصاءات تؤكد على وجود
نحو خمسة عشر ألفاً من هؤلاء لا يزالون يعيشون في إثيوبيا.
- ارتباط القرن الإفريقي بالبحر الأحمر والخليج العربي، ومن ثم فهو
يرتبط تقليدياً بمنظومة الأمن الإسرائيلي والسعي من أجل تحقيق اعتبارات التفوق
العسكري والاقتصادي.
- ترتيب التوازن الإقليمي في المنطقة يرتبط بالأمن القومي العربي عموماً
والمصري تحديداً؛ وذلك على ضوء العلاقات الصومالية الإثيوبية والإثيوبية
الأرتيرية. والوجود الإسرائيلي في المنطقة يساعد على تحقيق متطلباتها الأمنية.
ومن الملاحظ أن إسرائيل حافظت على وجودها دائماً في إثيوبيا بغض النظر
عن طبيعة النظام الحاكم [22] . فمع تنامي المخاوف الإثيوبية خلال عهد
هيلاسيلاسي من «ثورية» النظام الناصري في مصر الذي تعهد بطرد إسرائيل
من إفريقيا، سعت الدولة العبرية إلى تدعيم تواجدها في إثيوبيا، وأرسلت عملاء
الموساد لتدريب قوات الشرطة الإثيوبية. ومع سقوط نظام هيلاسيلاسي ومجيء
نظام منجستو ظلت إسرائيل على علاقة وثيقة بإثيوبيا، ولا أدل على ذلك من أن
إثيوبيا امتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة عام 1975م الذي يقضي
بمساواة الصهيونية بالعنصرية. وبدخول القرن الإفريقي في أتون الصراعات
الإثنية والسياسية حيث انقسمت الصومال إلى دويلات وفقاً لمنطق حرب الكل ضد
الكل، وانهمكت كل من إرتيريا وإثيوبيا في صراع مرير تم فتح المجال واسعاً أمام
تدخل أطراف أجنبية من بينها إسرائيل.
3 - التركيز على دول حوض النيل:
وليس بخاف أن هدف إسرائيل الثابت من وجودها في هذه المنطقة هو
الرغبة في الحصول على مياه النهر والضغط على صانع القرار المصري نظراً
لحساسية وخطورة «ورقة المياه» في الاستراتيجية المصرية. وأطماع إسرائيل
في مياه نهر النيل قديمة ومعروفة [23] .
وعندما زار السادات القدس لأول مرة عام 1977م أحيا فكرة مد ترعة من
النيل إلى النقب، وهو ما نظر إليه البعض على أنه تعبير عن الرغبات الأمريكية
الإسرائيلية الحقيقية. وبالفعل تقدمت إسرائيل بعدة مشروعات للحصول على نسبة
1% من مياه النيل. وقد حاولت (إسرائيل) في ظل المفاوضات متعددة الأطراف
الخاصة بمشكلة الشرق الأوسط أن تطرح هذه القضية إلا أنها لم تنجح في ذلك.
ومن المعروف أن (إسرائيل) تلعب دوراً غير مباشر في صراع المياه بين
دول حوض النيل استفادة من نفوذها الكبير في دول مثل إثيوبيا وكينيا ورواندا.
ومع تفجر الصراع في منطقة البحيرات العظمى بعد الإطاحة بنظام موبوتو
في الكونغو الديموقراطية، حاولت إسرائيل المساهمة في إعادة ترتيب الأوضاع
وذلك تحت المظلة الأمريكية التي تقوم بدور نشط في هذه المنطقة مقارنة بالنفوذ
الفرنسي التقليدي [24] . وتكمن الرؤية الإسرائيلية في النظر إلى المنطقة بشكل
شمولي أي بامتداداتها الجغرافية في القرن الإفريقي والبحر الأحمر. ولتدعيم نفوذها
في المنطقة تعمل إسرائيل على:
- تشجيع جيل من القادة الجدد الذين ينتمون إلى الأقليات في بلدانهم
ويرتبطون مع الولايات المتحدة وبالطبع إسرائيل بعلاقات وثيقة، ومن هؤلاء ميلس
زناوي في إثيوبيا، وأسياسي أفورقي في أرتيريا، وجون جارانج في جنوب
السودان، ويوري موسيفيني في أوغندة، وبول كاجامي في رواندا.
- محاصرة الأمن القومي العربي ولا سيما في امتداده المصري والسوداني
وفق استراتيجية «حلف المحيط» أي إقامة تحالفات مع الدول والجماعات الإثنية
والدينية المعادية للعرب هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الاستفادة من وجودها في
المنطقة للتلويح بورقة المياه في مواجهة السياسة المصرية.
4 - الوقوف في وجه الدول والحركات المعادية للغرب:
وفي هذا السياق يمكن تفهم الموقف الإسرائيلي من كل من ليبيا والسودان في
ظل حكم الجبهة القومية الإسلامية. أضف إلى ذلك فإنها تحاول مساعدة الدول
الإفريقية ضد الحركات الإسلامية الأصولية. وتسعى إسرائيل من وراء ذلك إلى
تحقيق أكثر من هدف واحد:
- إذ إنها تقدم نفسها للعالم الغربي باعتبارها المدافع الأول عن القيم
الديموقراطية العلمانية في مواجهة الحركات الأصولية الإسلامية.
- وهي من جهة أخرى تحاول مساعدة الدول الإفريقية في ميادين
الاستخبارات والتدريبات العسكرية، وهي مجالات كانت إسرائيل موجودة فيها
أصلاً، وتمتلك مصداقية كبيرة لدى الدول الإفريقية.
وأياً كان الأمر فإن إسرائيل تولي علاقاتها الإفريقية أهمية خاصة للأسباب
والمحددات السابق بيانها.
وعلى الرغم من دخول الصراع العربي الإسرائيلي منعطفاً تاريخياً مهماً بعد
عمليات «التسوية السلمية» فإن إسرائيل لا تزال تعول في حركتها الخارجية على
استراتيجية إضعاف الخصم موضع التعامل، وقد أوضحت الدراسة مؤشرات تلك
الاستراتيجية من خلال بيان طبيعة الدور الإسرائيلي في مناطق القرن الإفريقي
وحوض النيل والبحيرات العظمى، ومساندة ما يسمى بجيل الزعماء الجدد في
إفريقيا. أضف إلى ذلك فإنها تشجع وتساند جماعات الأقلية، ولا تتردد في هذا
الخصوص في أن تقدم المعونة المادية والخبرة، بل وتتولى تدريب رجالها على
حركات العنف المسلح. ولنتذكر في هذا السياق المحاولات الإسرائيلية الدؤوبة
لنشر الفتن بين الأقليات غير العربية في شمال إفريقيا وجنوب السودان.