ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
راوية توفيق [*]
طرحت فكرة المشروطية مع أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن
العشرين؛ حيث ظهر ما يعرف باسم الجيل الأول للمشروطية الذي ركز على آليات
الإصلاح الاقتصادي مدفوعاً بما عانته دول العالم الثالث من أزمات اقتصادية في
ذلك الوقت.
وكان مضمون هذا الجيل الأول من المشروطية هو تبني برامج التكيف
الهيكلي كشرط لتلقي المساعدات من المؤسسات المالية الدولية، ولأن تلك البرامج
عكست اتجاهاً لفرض الليبرالية الاقتصادية على دول العالم الثالث؛ فإنها لم تخل
من بُعد سياسي؛ لأنها هدفت فرض النمط الغربي للتنمية على تلك الدول النامية
وعلى رأسها الدول الأفريقية باعتبارها أكثر الدول النامية اعتماداً على المساعدات
الخارجية.
ومع بداية التسعينيات ظهر الجيل الثاني للمشروطية حيث بدأت الدول المانحة
الأوروبية والأمريكية، والمؤسسات المالية النقدية ممارسة الضغوط السياسية
والاقتصادية على الدول الإفريقية لإقامة نظام ديمقراطي مدني يستمد شرعيته من
إجراء انتخابات تنافسية متعددة الأحزاب، وكانت وسيلتها للوصول إلى هذا الهدف
هي التهديد بإيقاف المعونات والتسهيلات المالية، أو إيقافها فعلاً بهدف فرض نوع
من العزلة والحصار على النظم التي لا تتبع النهج الديمقراطي لإجبارها على السير
في طريق التحول الديمقراطي، وهو ما أصبح يعرف باسم: «المشروطية
السياسية» .
وقد اختلفت الآراء حول أسباب ظهور هذا الجيل الثاني من المشروطية؛
فالبعض أرجعه إلى التغيرات التي شهدها العالم خلال تلك الفترة من تحولات في
دول أوروبا الشرقية، وسقوط الاتحاد السوفييتي والتحول إلى نظام أحادي القطبية.
وأرجعه آخرون إلى إخفاق تطبيق المشروطية الاقتصادية مما أدى بالمؤسسات
المالية إلى إرجاع إخفاق برامج التكيف الهيكلي إلى العوامل السياسية في الدول
المستقبلة للمعونات. واتجه البعض إلى التأكيد على أن الدول المانحة أرادت تسويغ
استمرار معوناتها لدول العالم الثالث أمام شعوبها رغم انتهاء الحرب الباردة، فلم
تجد سوى مسوِّغات دفع المبادئ الديمقراطية والحكم الجيد، أو أن المشروطية
السياسية هي مجرد أداة أيديولوجية تجعل الرأسمالية الليبرالية تحل محل الاشتراكية
على مستوى العالم، وتوفر أساساً من المشروعية للزعامة الجديدة للغرب بإسهامه
في إسقاط النظم غير الديمقراطية [1] .
وبغض النظر عن الاختلاف حول تفسير طرح الدول الغربية والمؤسسات
المالية الدولية للمشروطية السياسية يبقى التساؤل الأهم هو: ما مدى مصداقية الدعم
الغربي للمبادئ الديمقراطية فى القارة الأفريقية؟ وهل هناك فجوة بين المبادئ
المعلنة والسياسات الواقعية؟ وهل تطبق سياسات المشروطية على دول القارة
بصفة عامة أم ان هناك انتقائية في تطبيقها؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات يتطلب في البداية البحث في الفواعل الأساسية
المحركة لقواعد المشروطية السياسية والمبادئ التي تعلنها ثم البحث في كيفية
تطبيقها لهذه القواعد من الناحية الفعلية مع طرح بعض الأمثلة والنماذج التي
مورست عليها سياسات المشروطية، وأثر هذه السياسات وتلك التي لم تتم ممارسة
هذه السياسات عليها وأسباب ذلك.
* أولاً: الفواعل المحركة للمشروطية السياسية:
تعد الدول الإفريقية من أفقر دول العالم، وأعلاها من حيث الاعتماد على
الديون الخارجية، والتي قدرت عام 1999م بحوالي 350 مليار دولار، وهو ما
يوازي ثلاثة أرباع إجمالي الناتج القومي للقارة، وما يقرب من أربعة أضعاف
صادراتها السنوية.
والمديونية هي علاقة سياسية من الطراز الأول؛ فهي تربط بين طرفين:
الدائن والمدين، وتختفي بينهما علاقة المساواة. فالدائن يمارس قوة على المدين،
ويسعى للاستفادة من وضعه بفرض شروط على المدين لا يملك إلا أن يسلِّم بها.
وينطبق هذا المنطق على الدول النامية بصفة عامة والدول الإفريقية بصفة
خاصة؛ وبذلك تسعى القوى الكبرى المانحة للمساعدات المالية لفرض شروطها
على الدول الإفريقية. ويتم ذلك إما عن طريق استغلال المؤسسات المالية الدولية
والتي تسيطر عليها هذه الدول الكبرى بحكم مشاركتها في الجانب الأعظم من
التمويل، وفرض هذه الشروط مباشرة في إطار سياسة هذه الدول الخارجية لمنح
المعونات إلى الدول النامية.
1 - المؤسسات المالية الدولية:
أدى تفاقم مشكلة المديونية إلى دفع الكثير من المنظمات الدولية إلى تكثيف
الجهود لمحاولة الحد من تفاقم الأزمة، والتدخل بصورة مباشرة في إدارة مديونية
الدول النامية؛ على أن هذه المؤسسات لم تنشأ خصيصاً لهذا الغرض، إنما أضافته
إلى مهامها التي كانت تشمل أساساً نوعاً من المسؤولية عن إدارة نظام النقد الدولي
والمدفوعات الدولية، أو تمويل جهود التنمية وتحرير التجارة الدولية (البنك الدولي،
صندوق النقد الدولي، الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية) [2] .
وإذا كان تأثير هذه المؤسسات في سياسات الدول النامية تأثيراً بارزاً فهو أكثر
وضوحاً في الدول الإفريقية نظراً لتفاقم مشكلة المديونية؛ حيث تتميز القارة
الإفريقية بأعلى معدلات الفقر بين الدول النامية، وأقل معدلات للنمو الاقتصادي،
وأعلى معدلات للديون الخارجية؛ فوفقاً لتقرير البنك الدولي 2000م تصل معدلات
الفقر في بعض الدول (نيجيريا - بوركينا فاسو) إلى حوالي70%، ويصل
متوسط الدين الخارجي فى دول أخرى إلى حوالي 280% من الناتج المحلي
الإجمالي (أنجولا - الكونغو برازافيل) [3] ، وتكتسب المساعدات المالية متعددة
الأطراف التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية أهمية خاصة؛ لأنها تمثل الحجم
الأكبر من المساعدات السنوية التي توجه للدول الإفريقية.
وقد بدأ تدخل البنك الدولي في حل مشكلة الديون الإفريقية منذ الاستقلال؛
بينما بدأ تدخل صندوق النقد الدولي منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين.
ومع بداية الثمانينيات بدأت هذه المؤسسات في فرض بعض السياسات
الاقتصادية على الدول الإفريقية المدينة كشرط لتلقي المساعدات في إطار برامج
التكيف الهيكلي من قبيل تعويم العملة، والحد من الإنفاق الحكومي وتحرير التجارة.
ولكن منذ بداية التسعينيات بدأت المشروطية السياسية تقترن بالمشروطية
الاقتصادية، أو ما كان يطلق عليه: (التكيف الهيكلي السياسي) فأصبحت
المعونات مشروطة بالوصول إلى الحكم الجيد، والذي يشير وفقاً لتعريف البنك
الدولي إلى المحاسبية فيما يخص الإنفاق العام، والشفافية عند اتخاذ القرارات،
وحكم القانون [4] . وبذلك تكون هذه المؤسسات قد خرجت عن المسار المحدد لها
وعن الوظائف المسندة إليها منذ نشأتها؛ فميثاق البنك الدولي على سبيل المثال يؤكد
أن البنك يجب عليه عدم التدخل في الشؤون السياسية لأعضائه، ويجب ألاَّ يتأثر
بالاعتبارات السياسية في قراراته؛ فلا يتم الاستناد إلا إلى الاعتبارات الاقتصادية،
ورغم ذلك فإن تقرير البنك الدولي عام 1992م أكد أنه على الرغم من أن البنك لا
يستطيع أن يلعب دوراً مباشراً في تصميم برامج المشروطية السياسية إلا انه ما
زال يمثل قناة رئيسية لتطبيقها.
ولكن ما هو المسوغ الذي تستند إليه هذه المؤسسات في سبيل تطبيقها لهذه
السياسة؟
تستند هذه المؤسسات إلى المنطق القائل بأن الديمقراطية كقيمة في حد ذاتها
تعتبر أداة ضرورية لتوفير مناخ سياسي ملائم دافع للتنمية الاقتصادية، وهذا
المنطق أكد عليه تقرير البنك الدولي؛ حيث تبنى فكرة العلاقة السببية بين
الديمقراطية والنمو الاقتصادي زاعماً أنه ليس من قبيل المصادفة أن تكون كل من
بوتسوانا وموريشيوس هما أعلى دولتين من حيث معدلات الأداء الاقتصادي، وفي
الوقت نفسه تكونان الدولتين الوحيدتين اللتين شهدتا نظاماً تعددياً حقيقياً متصلاً في
القارة منذ استقلالها.
وعام 1991م أقرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بالافتراضات السابقة
بالقول إن هناك دليلاً قوياً أن المجتمعات المنفتحة التي تقدر الحقوق الفردية،
وتحترم حكم القانون، ولديها حكومات منتخبة تتعرض للمحاسبة تقدم فرصاً أفضل
للتنمية الاقتصادية المستدامة من المجتمعات المنغلقة التي تقيد المبادرات الفردية [5] .
وانطلاقاً من هذه المبادئ فإن عدم انصياع الدولة للشروط السياسية التي
يضعها البنك والصندوق يعرضها لوقف الإمدادات والمساعدات المالية إليها بحجة
أنها تفتقد المناخ الديمقراطي الملائم الذي يدفع النمو الاقتصادي، ويمكن الدولة من
تسديد التزاماتها المالية.
ويرى البعض أن وجود هذه المؤسسات يمثل ملمحاً من ملامح عصر العولمة؛
حيث توفر إطاراً مؤسسياً يفرض قواعد ومعايير على الدول المدينة.
وينتقد الكثير من المحللين دورها كأداة لسيطرة الدول الكبرى على مقدرات
الدول النامية بصفة عامة، والدول الإفريقية باعتبارها أكثر الدول تأثراً بسياسات
هذه المؤسسات بصفة خاصة.
فالبعض يعتبر أن هذه السيطرة بمثابة إعادة استعمار للقارة من جديد؛
فالضغوط التي تمارسها الدول الكبرى بواسطة تلك المؤسسات تعيد الذاكرة إلى
عصور الاستعمار، وكل ما تغير أن الدول الاستعمارية قد غيرت استراتيجيتها،
فتبنت أساليب جديدة للوصول إلى نفس الأهداف التي كانت تصل إليها عن طريق
الاستعمار الصريح المباشر، ولكن بأساليب أخرى غير الاحتلال العسكري [6] .
وبذلك يتضح أن المؤسسات المالية الدولية من خلال ما تطرحه من سياسات،
وما تمثله من أداة لتطبيق سياسات الدول الكبرى التي تسيطر على هذه المؤسسات
تفرض تأثيراً على سياسات الدول الإفريقية من خلال دفعها نحو الانفتاح الاقتصادي
والتحول الديمقراطي.
2 - الدول الغربية المانحة:
كانت الدول الإفريقية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى ستينيات القرن
العشرين تقريباً مستعمرات سيطرت عليها الدول الإمبريالية. وبعد رحيل الاستعمار
انزوت معظمها في حروب أهلية عنيفة نتج عنها حكم أقلية محدودة في ظل نظام
الحزب الواحد. وتعرضت إفريقيا لتأثير العوامل الخارجية أكثر ما تعرضت خلال
الحرب الباردة، فشهدت قبل تسعينيات القرن العشرين مساعدات اقتصادية ضخمة
من القوى الأجنبية من أجل جذب الدول الإفريقية إلى النموذج الرأسمالي أو
الشيوعي دون الاهتمام بتدعيم الديمقراطية في حد ذاتها.
وبعد انهيار الشيوعية وقيام نظام أحادي القطبية أصبح الدافع وراء النظام
الجديد للمساعدات الذي يربط المساعدات المالية بالتحول الديمقراطي يعتمد على
الاعتقاد الغربي بأن النموذج الليبرالي الديمقراطي هو النموذج الأمثل للحكم.
وسيتم التركيز في هذا المحور على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في
تقديم المعونات إلى الدول الإفريقية، ثم الأبعاد السياسية للتعاون بين إفريقيا
والاتحاد الأوروبي، مع إشارة خاصة للدور الفرنسي في إرساء قواعد المشروطية
السياسية.
أ - سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في تقديم المعونات إلى إفريقيا:
خلال الحرب الباردة كانت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إفريقيا بصفة
خاصة، ودول العالم الثالث بصفة عامة تحكمها اعتبارات الصراع مع الاتحاد
السوفييتي. فعلى الرغم من صدور قانون المساعدات الخارجية عام 1961م الذي
يشترط عدم تقديم أية مساعدات للدول التي تنتهك حقوق الإنسان، إلا أن الولايات
المتحدة اتجهت للتعاون مع بعض الدول الإفريقية لإقامة قواعد عسكرية (كينيا -
الصومال - السودان) في عهد الرئيس كارتر رغم وجود انتهاكات عديدة لحقوق
الإنسان في تلك الدول. وفي المقابل تم تخفيض المعونات لدول أخرى تذرعاً بنفس
الحجة (زائير) أو فرض عقوبات اقتصادية ومالية (إثيوبيا وجنوب إفريقيا) ،
كما رأت الإدارة الأمريكية في عهد ريجان قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في
إطار سياسة إحاطة الشيوعية في إفريقيا، وكان ذلك واضحاً في مساندة من أسماهم
ريجان بالمقاتلين الأحرار مثل الاتحاد الوطني لاستقلال أنجولا ضد الحكومة
الماركسية المدعومة من الاتحاد السوفييتي.
وبذلك يمكن القول إن اعتبارات سياسة احتواء الاتحاد السوفييتي تغلبت أحياناً
على اعتبارات الديمقراطية في تلك الفترة.
وبعد انتهاء الحرب الباردة تغيرت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إفريقيا
لدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبدأت تلك السياسة مع إدارة الرئيس بوش؛
حيث أوضح مارك نورثرن مبعوث الأمم المتحدة للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان
سياسة الولايات المتحدة تجاه هذه القضايا مؤكداً أن الانقسام الحقيقي في العالم لم يعد
بين الشرق والغرب، إنما بين الدول التي تلتزم بالديمقراطية والحرية السياسية من
ناحية، وتلك التي لا تلتزم بها من ناحية أخرى.
ولم يتضح هذا الاتجاه إلا مع بداية التسعينيات؛ فبينما رفضت الإدارة
الأمريكية عام 1989م تخفيض المعونات لبعض النظم غير الديمقراطية (نظام سياد
بري في الصومال، وموبوتو في زائير) بدأت في الضغط على هذه النظم بفرض
المشروطية السياسية عليها مع بداية التسعينيات. فبدأت علاقة الولايات المتحدة
بكينيا على سبيل المثال تتراجع في هذه الفترة، وبدأت الولايات المتحدة في الضغط
على الحكومة الكينية للسماح بالتعددية الحزبية، فتم تجميد 25 مليون دولار من
المساعدات العسكرية لكينيا، واتبعت نفس السياسة مع دول أخرى مثل مالاوي،
الكاميرون، زائير، توجو، وغيرها.
واستمرت نفس السياسة مع إدارة كلينتون الذي أعلن أن الولايات المتحدة
استمرت لعدة عقود ترى إفريقيا من واقع الحرب الباردة، وأنها ساندت بعض
القيادات لغرض مجابهه الشيوعية دون الالتفات إلى الاتجاهات الحقيقية لهذه
القيادات. وبذلك فإن الولايات المتحدة أغفلت حقائق إفريقيا، وأعلن رغبة بلاده في
دعم التنمية والديمقراطية من أجل إقامة الاستقرار العالمي الذي لا يتحقق إلا باتباع
الديمقراطية، وتجسدت هذه السياسة في رد فعل الإدارة الأمريكية تجاه إلغاء
الانتخابات وقتل المدنيين في ظل نظام أباتشا في نيجيريا؛ حيث قررت قطع
450 ألف دولار من المساعدات العسكرية و 11 مليون دولار من المنح لنيجيريا
[7] .
وظلت سياسات المشروطية حاكمة لسياسة الولايات المتحدة في تقديم
المساعدات إلى دول القارة الأفريقية، وهو ما تجسد من خلال قانون النمو والفرص
في أفريقيا الذي تم التصديق عليه من الكونجرس في مايو 2001م، والذي يقوم
على فرض عدة شروط تتعلق بمحاربة الفساد، وحماية حقوق الملكية الخاصة،
واتخاذ إجراءات متدرجة لتقليل الدعم الحكومي مقابل إعطاء معاملة تفضيلية
لصادرات الدول الأفريقية إلى الولايات المتحدة.
ونتيجة للشروط الصارمة التي وضعها هذا القانون لم يستفد منه حتى الآن
سوى خمس دول أفريقية من مجموع خمس وثلاثين دولة يخاطبها القانون.
ولكن يلاحظ على السياسة الأمريكية خلال تلك الفترة أمران مهمان:
1 - انخفاض المساعدات الأمريكية للقارة الإفريقية؛ فرغم اتجاه العديد من
الدول الإفريقية إلى إرساء إصلاحات سياسية في الاتجاه الديمقراطي، إلا أنها لم
تحصل على القدر الكافي من المساعدات الأمريكية. وقد شهدت بداية التسعينيات
انخفاضاً ملحوظاً في حجم المساعدات الأمريكية للقارة الإفريقية والذي وصل إلى
700 مليون دولار، وهو أدنى مستوى لها خلال عقد الثمانينيات، وهو ما يعكس
تراجع الاهتمام الأمريكي بالقارة آنذاك [8] .
2 - أن المصالح الأمريكية ما زالت تعلو على اعتبارات الديمقراطية وحقوق
الإنسان. فالولايات المتحدة مثلاً لم تستطع فرض عقوبات اقتصادية صارمة على
نيجيريا؛ لأنها من الدول الرئيسية المصدرة للبترول الخام للولايات المتحدة، ولعل
التركيز على تحقيق المصالح الاقتصادية في العلاقة مع إفريقيا هو ما دفع الولايات
المتحدة إلى مجابهة فرنسا للسيطرة على الدول الإفريقية [9] .
وبذلك فإن الولايات المتحدة رغم أنها ترفع شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان،
وتجعل من التزام الدول بهما شرطاً لتلقي المساعدات المالية؛ إلا أن التناقض
يبدو واضحاً في هذه السياسة حيث تتغلب في النهاية الاعتبارات المصلحية التي
طالما حكمت السياسة الخارجية الأمريكية.
ب - الأبعاد السياسية للتعاون الأوروبي الإفريقي:
تربط الدول الإفريقية بالاتحاد الأوروبي علاقات قوية من أبرز مراحلها توقيع
اتفاقيه لومي بين دول الجماعة الأوروبية ودول الجنوب الإفريقي ومنطقة الكاريبي
والمحيط الهادي والتي وقعت في لومي عاصمة توجو في منتصف السبعينيات،
وتم تجديدها عدة مرات إلى أن انتهت في 29/2/2000م وحل محلها اتفاقيه كوتونو
التي أبرمت في يونيو 2000م كما توج هذا التعاون بانعقاد مؤتمر قمة إفريقي
أوروبي بالقاهرة في 3/4/2000م بمشاركة دول الاتحاد الأوروبي مع 52 دولة
إفريقية [10] .
ورغم عجز الدول الإفريقية عن الاستفادة من عضويتها في تلك الاتفاقية نتيجة
الخطوات التي وضعها الاتحاد الأوروبي لتوزيع المعونات ببطء، والتي كانت تمثل
استجابة لتطورات الأحداث الدولية وما نشأ عنها من تهميش القارة الإفريقية إلا أن
أوروبا منذ منتصف التسعينيات كانت أهم شريك تجاري لإفريقيا، واستمرت في
إمدادها بنصف إجمالي معوناتها.
ومن الملاحظ أن دول الاتحاد الأوروبي قد ركزت في شراكتها مع الدول
الإفريقية على البعد السياسي، وربطت ربطاً واضحاً بين السياسة والاقتصاد؛
فبداية من نوفمبر 1991م قرر الاتحاد الأوروبي أن يجعل مساعداته للدول الإفريقية
مشروطة بشروط سياسية هي احترام حقوق الإنسان، والتقدم في المسار
الديمقراطي، والحكم الجيد.
وترتيباً على ذلك فقد تم تعليق مساعدات الاتحاد الأوروبي لبعض الدول
الكبرى مثل نيجيريا، السودان، والكونغو كينشاسا رغم إعلان الدول الإفريقية مع
دول المحيط الهادي والكاريبي رفضها لهذه المشروطية في اجتماع الطرفين في
لومي1997م [11] .
وكان اتفاق لومي الرابع المعدل 1995م يتضمن مبادئ الديمقراطية وحقوق
الإنسان وسيادة القانون باعتبارها عناصر رئيسية في التعاون بين الطرفين، إلا أن
الاتفاق الجديد عبر عن الرغبة في إجراء حوار سياسي، كما نص على آليات
للتشاور والتوفيق بين المصالح بالنسبة لمختلف المشكلات السياسية، وقد أكدت
الدول الإفريقية رفضها مجدداً للمشروطية السياسية خلال الاجتماع الذي عقد في
نيجيريا في مارس 2000م للجنة المشتركة بين الاتحاد الأوروبي، ودول إفريقيا
والكاريبي والمحيط الهادي، وتمسكت بأن يكون الحكم الجيد أحد العناصر الرئيسية
في الاتفاق الجديد، وألا يرقى لمستوى المشروطية؛ بحيث لا يتم تعليق المساعدات
إلا في حالات الفساد الكبرى.
ويرجع هذا التصميم إلى أن الاتحاد الأوروبي يعد الممول الأول للدول
الإفريقية؛ ومن ثم فإن تعليق معوناته سوف يكون له تأثير عميق على اقتصاد أي
دولة [12] .
وفي النهاية فقد جاءت الاتفاقية الجديدة (اتفاقية كوتونو) لتؤكد على قواعد
الحكم الجيد والشفافية وحقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية، بل إنها نصت على
إجراءات جديدة يتم اتخاذها في حالة انتهاك الدول الأفريقية لهذه القواعد، وهي
إجراءات قد تصل إلى تعليق العضوية [13] .
وبذلك يتضح أن قضية المشروطية السياسية كانت إحدى القضايا الخلافية في
العلاقة بين إفريقيا والاتحاد الأوروبي، وأن الاتفاقية الجديدة قد عكست إلى حد
كبير سيطرة الرؤية الأوروبية في هذه القضية.
* الدور الفرنسي:
وعند الحديث عن سياسة المنح والمساعدات تبرز أهمية خاصة لإبراز دور
فرنسا في هذا الصدد لا سيما فى مجال العلاقات الثنائية لمنح المساعدات حيث تأتي
فرنسا كأهم دولة أوروبية مؤثرة داخل المجموعة الأوروبية.
ومنذ انتهاء الحرب الباردة أعلنت فرنسا سياستها الجديدة تجاه إفريقيا والتي
أعلنها الرئيس السابق ميتران خلال القمة الإفريقية الفرنسية السادسة عشرة عام
1990م؛ ومؤداها أن فرنسا سوف تكون على استعداد لتقديم المساعدات للدول
الإفريقية التي تحقق تقدماً على مسار التحول الديمقراطي، بينما لا تلتزم بذلك تجاه
الدول التي لا تتخذ أي إجراءات بهذا الصدد؛ ليس ذلك فحسب إنما أعلنت عدم
التزامها بالمساندة العسكرية للدول الفرانكفونية التي تواجه تمرداً عسكرياً إلا إذا
كانت ملتزمة بنفس الشروط.
وقد ساعد انتهاء الحرب الباردة والتراجع الاقتصادي للقارة الإفريقية وما
صاحب ذلك من تراجع نسبي للوجود الاقتصادي لفرنسا في القارة على إعلان تلك
السياسة.
وقد طبقت فرنسا هذه السياسة بالفعل، فمارست ضغوطاً على دول مثل بنين،
كوت دي فوار، الجابون وتشاد مما ساهم في دفعها نحو التخلي عن نظام الحزب
الواحد وتبني التعددية الحزبية، كما رفضت فرنسا التدخل في جيبوتي بناء على
طلب رئيسها حسن جوليد عام 1991م ضد المعارضة التي تمكنت من السيطرة
على شمال البلاد، واكتفت فرنسا آنذاك بإرسال مائتي جندي كقوة لحفظ السلام في
المنطقة، وهو ما دفع الرئيس جوليد في مارس 1992م إلى إعلان الإصلاح
الدستوري وتبني الانتخابات التعددية وإصدار قرار بالعفو العام في البلاد [14] .
وبذلك فإن الدور الفرنسي كان مؤثراً في تحول بعض الدول إلى الديمقراطية،
وإن كان قد واجه بعض العقبات في دول مثل زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) ،
رواندا، توجو.
ولكن الملاحظ أن الضغوط الفرنسية في بدايتها كانت ضغوطاً معتدلة؛ حيث
أعلنت فرنسا أنها لا تمانع في وجود نظام حزب واحد جماهيري يراعي المبادئ
الديمقراطية؛ وذلك بعد أن واجهت بنين بعض العقبات عند تحولها إلى نظام تعدد
حزبي. ولكن سرعان ما عدلت فرنسا من مواقفها لتكون الديمقراطية التعددية هي
الهدف الأوحد.
وعلى الرغم من ذلك إلا أن سياسة فرنسا ما زالت الأكثر اعتدالاً، ويبرز ذلك
مما أعلنه الرئيس الفرنسي شيراك خلال القمة الإفريقية الأوروبية في القاهرة إبريل
2000م؛ حيث أعلن عدم موافقته على التصريح الأمريكي بأن تكون العلاقة مع
إفريقيا علاقة تجارة وليست علاقة مساعدات، موضحاً أن المساعدات المالية عامل
مهم في تحقيق التنمية لدول إفريقيا [15] .
وبعد هذا العرض الموجز لسياسات المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية
المانحة المعلنة في إرساء قواعد المشروطية السياسية ودعم المبادئ الديمقراطية في
القارة الأفريقية تبدو الحاجة إلى البحث في المصالح الغربية الحقيقية وراء رفع
شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
* المصالح الغربية وسياسات المشروطية:
تعرضت سياسات المشروطية لانتقادات مختلفة من قِبَل العديد من المحللين
الأفارقة تكشف عن آثار هذه السياسات من الناحية الفعلية كما تكشف عن المقاصد
الغربية الحقيقية وراء فرض مثل هذه السياسات ومن أهم هذه الانتقادات:
1 - أن المشروطية السياسية تعمل على تقييد التحول الديمقراطي؛ لأن
مسؤولية النظام في الدولة الأفريقية أمام الجهات الخارجية يتعارض مع المحاسبة
الديمقراطية التي يجب أن تكون في يد المجالس التشريعية والمواطنين في الداخل.
فيصبح تقييم النظام يعتمد على المصادر الخارجية التي قد تضع تقييماً مخالفاً لما
يراه المواطن في الداخل؛ فقد ترى هذه المصادر أن الدولة حققت نجاحاً في مسيرة
التحول الديمقراطي في الوقت الذي لا تشعر فيه الجماهير بأي تغيير يذكر أو أي
تقدم من الناحية الفعلية. كما أن المشروطية تؤدي إلى تراجع سيطرة أجهزة صنع
القرار الداخلية في الدولة على اتخاذ القرارات مما يؤدي إلى تراجع الديمقراطية.
لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون دول مثل بوتسوانا وموريشيوس
وهما الدولتان اللتان تميزتا بنظام ديمقراطي متواصل منذ استقلالهما هما الدولتين
اللتين لم تعتمدا على المساعدات التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية والدول
الغربية المانحة بشكل كثيف، رغم اعتمادها على الاستثمارات الخارجية؛ ومن ثم
فان مثل تلك الدول لم تكن مرغمة على الامتثال لقرارات الجهات المانحة [16] .
2 - أن تدخل الفاعلين الخارجيين في شؤون الدول الأفريقية يجعل الموجة
الثانية للديمقراطية في القارة الأفريقية مجرد موجة للاستعمار الجديد تتزامن مع
النظام العالمي الجديد أحادي القطبية، بالإضافة إلى أن الفوائد الاقتصادية التي تعود
على الدول الأفريقية نتيجة امتثالها لقواعد المشروطية السياسية محدودة؛ والدليل
على ذلك الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها العديد من الدول الأفريقية؛ وهذا ما
دفع بعض المحللين إلى القول بان الدول الأفريقية عليها أن تقطع شوطاً طويلاً
(على مسيرة التحول الديمقراطي) لتجد نفسها تقف في نفس المكان دون تقدم (في
مستوى المعونات التي تحصل عليه والذي لا يكفي إلا عُشر احتياجاتها) .
فعلى سبيل المثال التزم (هوافييه بوانيه) في كوت دي فوار بالإصلاحات
التي طالبت بها فرنسا وتلك التي طالبت بها المعارضة الداخلية، ثم أثبت عن
طريق الانتخابات التنافسية أنه ما زال يحظى بتأييد الجماهير، ورغم ذلك لم يتزايد
حجم المساعدات، ولم يتحسن الوضع الاقتصادي في كوت دي فوار [17] .
3 - وفيما يتعلق بتأثير برامج التكيف الهيكلي التي تفرضها المؤسسات المالية
الدولية فإن بعض النماذج للحكومات التي طبقت تلك البرامج أثبتت أن تلك النظم
غالباً ما تفقد مساندة الجماهير، وبذلك تفقد أساس شرعيتها نتيجة رفع الدعم عن
السلع الأساسية، وخفض الإنفاق على التعليم والصحة وغيرهما من الخدمات
الاجتماعية. فبدلاً من أن توفر تلك الحكومات قدراً أكبر من الاستقرار وتحقق
الآمال والطموحات التي رسمتها الجماهير بعد سقوط الأنظمة القديمة في تلك الدول
تفقد النظم الجديدة أساس شرعيتها نتيجة تطبيق هذه البرامج [18] .
4 - زعم الدول الغربية بالاهتمام بالديمقراطية يفتقد المصداقية؛ فالولايات
المتحدة الأمريكية وإن كانت قد أعلنت تأييد مبدأي الديمقراطية وحقوق الإنسان
كركيزتين أساسيتين للسياسة الخارجية الأفريقية، إلا أن هذه المبادئ مجرد أداة
تستغلها السياسة الأمريكية لتحقيق مصالحها، وليست هدفاً تسعى إلى تحقيقه.
فالمصالح الأمريكية تتجه في بعدها السياسي إلى تطوير العلاقات مع دول القارة
الأفريقية بما يخدم ويعزز المصالح الأمريكية الحيوية في القارة، وتتعامل مع هدف
تشجيع الديمقراطية لدى النظم الأفريقية الحاكمة بمبدأ النسبية؛ حيث ترتبط بمدى
الاهتمام الأمريكي بحالة كل نظام سياسي على حدة تبعاً لطبيعة المصالح التي قد
تختلف طبيعتها من دولة إلى أخرى. كما تهدف الولايات المتحدة بالأساس في
علاقاتها مع أفريقيا تحجيم النفوذ الأوروبي، والانفراد بالنفوذ في القارة من أجل
الحفاظ على الزعامة العالمية.
أما فرنسا فإنها تهدف إلى وجود مراكز قوية سياسية محلية في أرجاء مختلفة
من العالم لا ترغب في إطلاق الهيمنة الأمريكية ثقافياً، وإنشاء تجمع سياسي
فرانكفوني في أفريقيا له هدف سياسي يؤخذ به في الساحة الدولية، وهو ما يعني
بالدرجة الأولى إنشاء تيار سياسي مناهض للتيار الأنجلوسكسوني الأمريكي تجتمع
تحت مظلته جميع الدول الهادفة إلى الحد من الهيمنة الأمريكية [19] .
ولأن هذا الاهتمام بالمبادئ الديمقراطية يفتقد المصداقية فإن تلك الدول لم
تتوانَ عن تغيير شعاراتها عندما تجد ما يهدد مصالحها؛ فعندما طالبت الدول
الغربية دول القارة الأفريقية بتبني نظم تعددية والسماح بإجراء انتخابات تنافسية
أدى ذلك إلى سقوط العديد من النظم الموالية للغرب (حركة يونيتا UNITصلى الله عليه وسلم في
أنجولا، نظام د. باندا في مالاوي، الحزب الوطني وحركة أنكاثا في جنوب
أفريقيا وغيرها من الأنظمة) . ورفضت النظم الجديدة الانصياع لإجراءات التكيف
الهيكلي التي فرضت عليها. لذلك رفعت الدول الغربية ومعها البنك الدولي شعاراً
جديداً وهو الحكم الجيد. وقصد به من الناحية العملية الحكم الذي يقبل الانصياع
لبرامج التكيف الهيكلي والمطالب الغربية الأخرى بغض النظر عما إذا كانت
الحكومة منتخبة في انتخابات تنافسية أم لا. كما بدأ بعض المسؤولين الأمريكيين
في القول إن الدول الأفريقية قد لا تكون على استعداد للديمقراطية الغربية، وأنها
تحتاج إلى حل يتواءم مع طبيعتها. وكان الهدف من ذلك أن تقوم حكومة وحدة
وطنية في كل دولة تضمن مكاناً متميزاً للحلفاء الأفارقة في النظام الجديد بعد أن
أخفق هؤلاء في الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات التنافسية، رغم
استخدام الغرب الدعاية المضادة للقوى التي كانت تنافس هؤلاء الحلفاء (حزب
المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، حركة Frelimo , Mpla في
موزمبيق، وغيرهما) [20] .
ويمكن بذلك استخلاص أنه على رغم الاتجاه إلى تحديد مبادئ التحول
الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان كأهداف أساسية من قبل القوى الغربية إلا أن
معظم المحللين اتجهوا إلى أن هذه المبادئ هي مجرد أدوات تمتلكها القوى المتنافسة
وتستخدمها من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في القارة.
وللتعرف على مدى صحة هذه الآراء النظرية يمكن الرجوع إلى بعض الأمثلة
التطبيقية لمعرفة هل تطبق هذه القواعد على الدول الأفريقية بصفة عامة أم أن
قواعد المشروطية هي قواعد انتقائية؟
* المشروطية السياسية وازدواجية المعايير:
تؤكد متابعة النماذج الواقعية أن الدول المانحة تتبع معايير مزدوجة
عند تطبيق قواعد المشروطية السياسية على الدول الأفريقية؛ فهي تتخذ موقفين
متعارضين من قضية ذات طبيعة واحدة في بلدين مختلفين طبقاً لارتباط هذا البلد
بمصالحها، ويمكن في هذا الإطار المقارنة بين تعامل الدول الغربية مع كينيا
(وهو النموذج الذي تكرر مع العديد من الدول الأفريقية) والنموذج الأوغندي الذي
يعد استثناءً واضحاً من فرض سياسات المشروطية ودليلاً على ازدواجية المعايير.
ففي الحالة الكينية تعرض نظام الرئيس دانيال آراب موي لضغوط خارجية
مطالبة بالإصلاح السياسي مع بداية التسعينيات؛ فقد مارس السفير الأمريكي لدى
كينيا ضغوطاً قوية على الحكومة الكينية؛ حيث هدد بأن مجلس النواب الأمريكي
سوف يشترط لتقديم المساعدات الأمريكية لكينيا ضرورة القيام بإصلاحات سياسية
تسمح بالتعدد الحزبي، وتزايدت حدة الضغوط بعد إصدار الدول الدائنة في منتدى
باريس قراراً في نوفمبر 1991م بوقف مساعدات قيمتها 350 مليون دولار حتى
يقوم النظام الكيني بإجراء إصلاحات سياسية، والسماح لأحزاب المعارضة
بالتنافس في انتخابات تعددية.
وإزاء هذه الضغوط أعلن الرئيس موي فى أحد الاجتماعات الحزبية بعد أيام
من صدور قرار منتدى باريس أن النظام ليس أمامه سوى بديل واحد وهو التعديل
الدستوري، والسماح بالتعدد الحزبي وهي الخطوة التي تم تنفيذها بالفعل في
10/12/1991م، وبنهاية أكتوبر 1992م حل موي البرلمان من أجل الاستعداد
للانتخابات التعددية التي أعلن عن إجرائها في ديسمبر 1992م، وعلى أثر ذلك
أيضاً تم إنشاء عدد من أحزاب المعارضة (منتدى عودة الديمقراطية (فورد) ،
الحزب الديمقراطي، حزب العمل الديمقراطي، المؤتمر القومي لكينيا وغيرهما)
[21] .
وبذلك فإن الضغوط الغربية لعبت دوراً مهماً في أخذ قرار التحول، والسماح
بالتعددية الحزبية، وإقامة انتخابات تعددية، إلا أن هذا الدعم الخارجي للمبادئ
الديمقراطية ولقوى المعارضة في الداخل لم يستمر؛ كما أن الجهات المانحة ركزت
في تعاملها مع النظام الكيني على قضايا الفساد الحكومي، والإصلاح الاقتصادي
على حساب الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية. فبعد أن جمد صندوق
النقد الدولي مساعداته للنظام الكيني عام 1997م نتيجة تزايد معدلات الفساد عاد
لاستئناف تقديمها عام 2000م بعد تدهور الأحوال الاقتصادية في كينيا؛ وذلك
شريطة توافر قدر من الشفافية بدلاً من اشتراط تحقيق استقلال القضاء، أو احترام
حقوق الإنسان وحكم القانون، أو غيرها من المعايير الديمقراطية التي يحتاج النظام
الكيني إلى تدعيمها. وبالفعل فقد أعلن صندوق النقد الدولي عن قرض قيمته 198
مليون دولار للحكومة الكينية، كما أعلنت بريطانيا الحليف التقليدي للنظام الكيني
عن مساعدات قيمتها 42 مليون دولار لمعالجة العجز في الميزانية؛ بينما أعلنت
الولايات المتحدة عن مساعدات قيمتها 34.9 مليون دولار خصص منها 5.8 مليون
دولار فقط لدعم الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي [22] . وتلك الحقائق إنما
تؤكد عيوب المسلك الغربي في التعامل مع النظام الكيني الذي يفصل بين الفساد
والإصلاح الاقتصادي من جهة، والإصلاح السياسي من جهة أخرى.
أما بالنسبة للنموذج الأوغندي فيطرح خبرة مختلفة في كثير من جوانبها عن
النموذج الكيني؛ فمنذ وصول الرئيس يوري موسيفيني إلى السلطة في أوغندا عام
1986م أعلن أن أوغندا ليست مستعدة لتبني التعددية الحزبية، وتبني نظام الجبهة
الائتلافية باعتباره السبيل الوحيد للحفاظ على التماسك الوطني وتحقيق التنمية.
وعلى الرغم من عدم تبنيها للتعددية الحزبية، إلا أن أوغندا تعتبر من الدول التي
تعتمد على المساعدات الغربية بصورة كثيفة، وخلافاً للنموذج الكيني (وغيره من
النماذج) لم يتم التهديد بتجميد هذه المساعدات إذا لم يتم إرساء الإصلاحات
السياسية التي تؤدي إلى تبني التعددية الحزبية، بل وقد تزايدت المساعدات الغربية
لأوغندا زيادة ملحوظة في الفترة ما بين 1989م إلى 1994م، فتضاعفت تلك
المساعدات من 452 مليون دولار عام 1989م إلى 830 مليون دولار عام 1995م،
كما زاد الاهتمام الغربي بالشؤون الداخلية في أوغندا في تلك الفترة.
وقد يظن البعض - للوهلة الأولى - أن الدول المانحة لم تلجأ إلى فرض
المشروطية السياسية على النظام الأوغندي تفهماً للوضع الذي ساد في أوغندا
لفترات طويلة من الحرب الأهلية، أو محاولتها لإعادة البناء، أو أن تلك الدول
اقتنعت بأن الحكومة الأوغندية لديها الاستعداد للتشاور وتبني إصلاحات سياسية
واقتصادية، وأنها بالفعل ساهمت في إرساء بعض الإصلاحات عن سابقاتها من
الحكومات. ولكن هذه الأسباب جميعها لا تفسر وحدها لماذا لم تمارس الدول
الغربية المشروطية السياسية على الحكومة الأوغندية لدفعها نحو تبني التعددية
الحزبية. السببان الرئيسيان اللذان يفسران هذا المسلك الغربي هما:
1- التقدم الاقتصادي لسياسات الانفتاح في النموذج الأوغندي:
فقد تحول الرئيس موسيفيني تحولاً جذرياً في سياساته الاقتصادية من الوقوف
ضد سياسات صندوق النقد الدولي فور توليه السلطة عام 1986م إلى تبني سياسات
الصندوق الاقتصادية عام 1987م إيماناً بأنه لن يستطيع إعادة بناء الاقتصاد المنهار
والبنية التحتية بعد سنوات طويلة من الحرب دون مساندة الدول الغربية. وبدأ
الاقتصاد الأوغندي في الازدهار نتيجة الالتزام بسياسات الصندوق، وكان ذلك هو
ما يهم الدول المانحة لحاجتها أن يكون هناك تجارب اقتصادية ناجحة في إفريقيا
تمثل نماذج يحتذى بها للدول الأخرى، فتسعى تلك الدول لتطبيق مبادئ الانفتاح
الاقتصادي التي تدافع عنها الدول الغربية؛ وذلك في الوقت الذي كانت تواجه هذه
السياسات التي تفرضها الدول الغربية على الدول النامية بصفة عامة، والدول
الإفريقية بصفة خاصة بانتقادات حادة بدافع أنها لا تتلاءم مع ظروف تلك الدول،
ومن ثم فإن توافر نموذج كالنموذج الأوغندي يعني أن الإخفاق في تطبيق هذه
السياسات والبرامج في الدول الأخرى لا يعود إلى عيب في تلك البرامج ذاتها، ولا
يعود إلى الدول الغربية، إنما يعود إلى حكومات الدول الإفريقية.
2 - الدور الإقليمي المحوري للرئيس موسيفيني:
فالدول المانحة وبصفة خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا اعتمدت بصفة
أساسية على الرئيس موسيفيني لتنفيذ أهداف سياستها الخارجية في المنطقة. وقد
أثبت موسيفيني أنه يصلح للقيام بهذا الدور في فترة ما بعد الحرب الباردة. فقد شهد
النصف الأول من التسعينيات عدة أحداث مهمة في القارة الإفريقية منها استمرار
الحرب الأهلية في السودان، النزاعات الدائرة في الصومال، المذابح في رواندا
وبوروندي، وغيرها من الأحداث. وكانت أوغندا هي الدولة التي تتمتع بقدر من
الاستقرار النسبي في وسط هذه الحالة من الفوضى. ولعب موسيفيني دور الوكيل
بالنيابة عن الولايات المتحدة في المنطقة، فكان حليفاً للولايات المتحدة في علاقاتها
ضد السودان؛ بل إن البعض اعتبر أن الحرب في شمال أوغندا لم تكن حرباً بين
الحكومة وجيش الثوار فقط، إنما بين الأوغنديين والحكومة السودانية التي كانت
تدعم هؤلاء الثوار. كما تعاون موسيفيني مع الدول الغربية في توفير محور إقليمي
رئيسي لازم لعمليات الإمداد والتمويل بعد مذابح رواندا 1994م.
وعليه فان الدول الغربية إذا مارست ضغوطاً على حكومة موسيفيني لتبني
التعددية التي يرفضها فإن ذلك يعني المخاطرة بشريك رئيسي للدول الغربية في
المنطقة. لذلك كان على الدول الغربية اختيار مسلك آخر غير المشروطية السياسية
في التعامل مع الحكومة الأوغندية لدفعها نحو إرساء الإصلاحات السياسية [23] .
من مقارنة النموذجين الأوغندي والكيني والتعامل الغربي معهما يتضح أن
الدول الغربية والجهات المانحة يهمها تطبيق برامج التكيف الهيكلي (في شقها
الاقتصادي) باعتبارها من وجهة نظر تلك الجهات المخرج الوحيد للدول الإفريقية
من أزماتها الاقتصادية أكثر من حرصها على تطبيق المشروطية السياسية حتى وإن
كانت تلك الجهات تعلن تمسكها بالإصلاحات السياسية التي توفر مناخاً ملائماً لدفع
التنمية الاقتصادية، وهي بتركيزها على السياسات الاقتصادية تتجاهل تأثير
المشكلات السياسية على الأداء الاقتصادي؛ فالإصلاحات الاقتصادية لا بد أن
يصاحبها إصلاحات سياسية تدعم بعضها البعض إذا سارت في نفس الاتجاه. أما
تجاهل الجانب السياسي فإنه يؤثر سلباً على الأداء الاقتصادي؛ فتصاعد الصراعات
الإثنية، ونمو الجماعات الثورية على سبيل المثال عوامل تؤثر بالسلب على النجاح
الاقتصادي.
كذلك يتضح أن الدول الغربية تضع مصالحها فى المقام الأول عند التعامل مع
قضية التحول الديمقراطي في القارة الإفريقية؛ فلأنها بحاجة للدور النشط الذي قام
به الرئيس موسيفيني في المنطقة لم تمارس ضغوطاً مكثفة لإدخال الإصلاحات
السياسية؛ بينما مارست تلك الضغوط على النظام الكيني وغيره من النظم، وهو ما
يعبر عن ازدواجية المعايير في التعامل مع قضية التحول الديمقراطي في القارة
الإفريقية.
* الخاتمة:
مع أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات بدأت الدول الغربية والمؤسسات
المالية الدولية في فرض قواعد المشروطية السياسية على الدول الأفريقية وكانت
تلك الجهات تركز في فرضها لقواعد المشروطية السياسية على تطبيق الديمقراطية
بنهجها الغربي القائم على التعددية الحزبية إيماناً منها بأن نموذج الديمقراطية
التعددية هو أفضل نماذج الحكم، وهو النموذج القادر على إخراج الدول الإفريقية
من أزماتها الاقتصادية المتلاحقة، وتسوية الصراعات القائمة بها. وبدأت هذه
السياسة مع كينيا 1991م ومالاوي 1992م؛ حيث هددت الدول المانحة بتجميد
المساعدات المالية لهاتين الدولتين إذا لم تتجها إلى الأخذ بالتعددية السياسية وتسعيا
لإقامة انتخابات تعددية مما أدى بهما إلى البدء في مسيرة التحول الديمقراطي، ثم
تبعهما في ذلك العديد من الدول الإفريقية التي بدأت تتراجع عن الأخذ بنظام الحزب
الواحد، وتقيم انتخابات تعددية، كما لجأ بعضها إلى إشراك الجماهير والمعارضة
في صياغة وثيقة دستورية جديدة تؤكد على المبادئ الديمقراطية وتكفل حقوق
الإنسان. إلا أن مراجعة السياسات الفعلية والنماذج الواقعية يثبت أن الانتقائية
وازدواجية المعايير وتغليب المصالح الغربية كانت هي المعايير الحاكمة لفرض
سياسات المشروطية، وهو ما يشكك في مصداقية الدعم الغربي للمبادئ الديمقراطية
في القارة الأفريقية، ويؤكد أن شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان هي مجرد
أدوات تستغلها تلك الدول لفرض نماذج التنمية الغربية في بيئة تختلف كلية عن
البيئة الغربية، ودون مراعاة للخصوصية الثقافية للدول الأفريقية. وهذه الشعارات
هي التي ترفعها هذه الدول أيضاً في مواجهة الدول العربية والدول النامية بصفة
عامة؛ ولذلك يجب العمل معها بشيء من الحذر، والبحث عن مراميها البعيدة حتى
لا تصبح الدول النامية مجرد مستورد للنماذج الغربية للتنمية.