دراسات منهجية في النظر والاستدلال
بيان أصول المعرفة في الإسلام
-3-
د. عابد السفياني
لقد جاء عرض أصول المعرفة الإسلامية بما يناسب الفطرة البشرية، وفيه
احترام عظيم للعقل الإنساني يتناسب مع منزلة هذه الملكة التي هي أساس في
الاقتناع.
فلنأتِ على عرضها بما يناسب المقام، ولنتأمل كيف تكون الحجة، وكيف
يكون البيان، ولنجدد العهد بتلك المسلمات التي هي عقيدة تابعي الأنبياء من جميع
الأمم وفى جميع الأعصار.
وإليك الأسس التي جعلها الإسلام لأصوله في المعرفة:
الأساس الأول:
الكون مخلوق والإنسان كذلك، وجميع العوالم محتاجة إلى مَن أنشأها، كما
هي محتاجة إلى من يحفظها ويدبرها، ومنشئها وحافظها ومدبرها يستحيل أن يكون
محتاجاً لشيء، ولابد أن يكون له من صفات الكمال ما يكون به مستحقاً لخضوع
هذه العوالم له - عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم السماوات،
وعالم الأرضين، وسائر العوالم - ولابد أن يكون قادراً على تنظيم أمرها وإبداعها
لتكون صالحة للحياة في غير اضطراب ولا تناقض، بل في ثبات وشمول وتكامل.
ولذلك كان التذكير بآيات الله في مخلوقاته قد أخذ حيزاً كبيراً في القرآن،
وكان متكرراً ومفصلاً في مواضع كثيرة جداً، ويرجع سبب ذلك إلى أن العقيدة
التي سنشير إليها - وهي ما تضمنته أصول المعرفة في الإسلام، وهو جزء من
الألوهية - لا يمكن أن تثبت بحال إلا على قاعدة كل راسخة معرفتها تتمثل في
معرفة صفات الله على وجه اليقين والجزم لينتقل أثرها المباشر فيكون هو تحقيق
توحيد العبادة [1] .
وأي عقل سويّ تعرض عليه هذه المشاهد، ثم لا يستسلم لحكم الله وينقاد؟ ،
ومن هذه المشاهد:
- مشهد السماء المرفوعة بغير عمد.
- مشهد الأرض الممهودة.
- مشهد الجبال المنصوبة.
- مشهد الزروع والثمار، والشجر والدواب والرياح والبحار، والشمس
والقمر، والليل والنهار، والأحياء والأموات، والقبض والبسط، والتصريف
والتدبير.
وكل ذلك في نظام محكم دقيق لا تديره ولا تمسكه إلا قدرة عظيمة لا يمكن
للعقل أن يتصور حدودها، وليس له إلا أن يتدبر ويتفكر في صفاتها التي دلت
عليها الآيات المخلوقة المشاهَدة، وهي كثيرة جداً، وتطارد الإنسان في كل لحظة،
وله أمام كل آية مخلوقة عبرة لو أنه تفكر وتدبر.
وإن كل من تدبر وتفكر سيعلم أنه لابد من تحقق الكمال في الصفات لمن كان
له مثل هذه المخلوقات، ومن ذلك كمال القدرة، وكمال العلم، وكمال التدبير
والحفظ، فهو القادر العليم المدبر الحفيظ، كما أنه السميع البصير ليس كمثله شي،
ولا يعجزه شيء في السماوات والأرض، وقل مثل ذلك في بقية الصفات، فإذا
اتجه القلب الإنساني إلى مَن له هذه الصفات، انتقل معه منهج التربية الإسلامية
الذي يسعى لتقرير أصول المعرفة الإسلامية ويجددها ويؤكد عليها، انتقل معه
خطوة أخرى ليعالج شبهات العقل الإنساني وقصوره، ويحمي الفطرة من احتيال
الشياطين لكي تقف أمام مسؤولياتها كاملة في الحياة الدنيا والآخرة.
الأساس الثاني:
والخطوة الثانية في هذا المنهج هي تعريف الناس بحقيقة الرسالة والرسول،
الذي يدل على الطريق الموصّل إلى خالق السماوات والأرض الموصوف بتلك
الصفات العظيمة التي يتملاها القلب فيحب المتصف بها ويخافه ويرجوه، ويتطلع
إلى رضاه، وهنا يكون ذلك التوجه للقلب البشري قد حددت له الضوابط وعرف
كيف يمضي في ذلك الطريق، طريق العبادة لله.
وهذا أساس عظيم في تلك القاعدة التي سيشيد منهج التربية والدعوة الإسلامية
عليها أصوله في المعرفة.
ولكن إذا علمنا كيف اطمأن العقل والوجدان إلى الأساس الأول، وشعرنا
بحقيقة الإيمان، فإن من حق العقل والوجدان أن يتلمس الحجة والدليل الذي يثبت
صدق الرسول الذي سيدل على الطريق، وستكون الرحلة على هذه الأرض حسب
ما يبلغه لنا، ويكون الجزاء، فيتقدم منهج التربية الإسلامية المعجز بدليل تندك
حوله الشبهات، ويزيد الذين آمنوا إيماناً فيقول:
إن مما يفرق بين الرسول الصادق والدعي الكاذب أن الأول معه معجزة من
ربه وأعظمها (القرآن) وهو كلام الله الموصوف بتلك الصفات الذي توجه إليه القلب
ليعبده ويفوز برضاه.
وللعقل الإنساني أن يتساءل فيقول: فكيف نفرق بين كلام الله وكلام غيره ولِمَ
لا يمكن أن يتقوله بشر؟ كيف نستيقن أنه كلام الله؟ فيقدم منهج التربية الجواب:
فيقول:
إن الكون - كما مر في الأساس الأول - ليس فيه إلا خالق ومخلوق، وهذا
الكلام إما أن يكون كلام الخالق وإما أن يكون كلام المخلوق، فإن كان كلام البشر
فلا يعجز المخلوقون أن يأتوا بمثله أو بشيء من مثله، فهل أتى أحد بمثله أو بشيء
من مثله؟ ، لنستعرض التاريخ:
المعارضون من الجاهلية الأولى وهم عرب أقحاح لا مثيل لهم في الفصاحة
والبلاغة والشعر والنثر - ولم يستطع أحد منهم أن يأتي بآية من مثله، وهم أمام
التحدي ووسط الصراع.
الزنادقة في المجتمع الإسلامي الذين حاولوا التشكيك في القرآن ومنهم مَن
اشتغل بالأدب والعربية - ولم يستطع واحد أن يأتي بآية من مثله، مع حرصهم
البالغ على معارضته وتشكيك الناس فيه.
العصر الحاضر، والتحدي مازال مستمراً لم ولن ينقطع وكثرة خصوم
الإسلام في هذا العصر لا تُحصر ولا تُعد وقد انقطعت حجتهم أمام هذا التحدي
المستمر الظاهر المعلوم.
فإذا كان كلام البشر فأين البشر؟ !
وإذا كان من الأساطير، فأين كَتَبَة الأساطير؟ !
وإذا كان شعراً فأين الشعراء؟ !
وإذا كان سحراً فأين السحرة؟ !
أين هؤلاء وهؤلاء فإنه لم يأتِ أحد بآية من مثله، ولن يأتي، ومازال التحدي
قائماً، والخصومة محتدة، والقرآن مستمر في البيان. [وَإن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ
* فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا ولَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] [البقرة:
23، 24] .
ولم يبقَ أمام العقل الإنساني إذا انكسر المخلوقون وسقطوا أمام التحدي ولم
يستطيعوا، لم يبق أمامهم إلا خالقهم فهو إذاً كلامه، ووحيه إلى نبيه ورسوله،
فالرسول الذي تحدى الناس بهذا القرآن، ومازال يتحداهم، وربى أمة عليه،
ومازال أتباعه قائمين بما قام به من البيان وإظهار الحجة والتحدي - ولم يستطع
أحد أن يعارضه بشيء من مثله أو يعارض أتباعه بمثل ذلك، لا شك أنه رسول
صادق ونبي كريم، أرسله الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وهنا يصل العقل والوجدان إلى تأسيس قاعدة إيمانية بدأت من توجه القلب لله
ثم تلمسه الطريق الموصل إليه فإذا هو أمام كتاب مُعجِز، ورسول صادق، وكل
ذلك وسط آيات محسوسة مشاهدة، وأخبار معلومة ومشاهَدة أيضاً، ومازالت تلك
الآيات والمشاهد والأخبار تسير مع الحياة والأحياء، تحفظ البناء الذي شيده منهج
التربية الإسلامية، وتمده دائماً وأبداً باليقين والحجة والثبات.
وإليك الآن محاورة بين العقل المؤمن والوجدان اليقظ، تستبين بها أصول
المعرفة في الإسلام.
محاورة بين العقل والوجدان:
العقل: الآيات المخلوقة، والمشاهد العظيمة لا يمكن أن يتصور وجودها،
ويستمر حفظها إلا بعلم شامل محيط، وحكمه وإبداع وتدبير، ورحمة وعدل وقدرة
لا يعتريها نقص ولا معقب لحكمها، وليس فيه تناقض ولا اختلاف.
الوجدان: إني لأجد ذلك وأحسه، إني متوجه من قبل إلى الذي فطر
السماوات والأرض ... ولكن الشياطين تضلني وتغويني، تقول كيف تعبد ما لا
تبصر؟ ! ، فأعود وأقول: من الذي يقضي لي الحاجات، وهو ملجئي وملاذي
عند الكربات؟ ، إنه الله، فكيف لا يكون علمه محيطاً، ورحمته شاملة، وعدله
عظيماً، وقدرته لا تُحَدّ، إنه الله المعبود بحق دون سواه، لا معقب لحكمه ولا
تناقض فيه ولا اختلاف.
العقل: نعم، هذا هو الحق الصراح، ولكن لقد سمعت عجباً، مشارب كثيرة
في الفكر والنظر، واختلاف عجيب بين أهل الملل والنحل، وقيل وقالوا، وظن
وخرص يقتتل عليه الناس، مع أنه يضرب بعضه ببعض، ويكذب بعضه بعضاً،
ينتقض ويغير، ويزاد فيه وينقص، أمره جد مضطرب، وأهله في قول مختلف.
أفلا يسمعون؟ ! ، أفلا يبصرون؟ ! ، أفلا يعقلون؟ ! ، أفلا يتدبرون؟ ! ،
أين هم عن الرسول الصادق والكتاب المعجز الذي لا اضطراب فيه ولا اختلاف؟ !
فإن أرادوا خبر صدق عند الأمم السابقة وجدوه، وإن أرادوا خبر صدق عن
المستقبل ينفعهم لم يعدموه، وإن أرادوا علماً عن صفات خالقهم جاء من البيان ما
يكفيهم، وإن أرادوا بياناً عن الحلال والحرام والمباح كشف لهم عنه مفصلاً فعرفوه.
الوجدان: الحمد لله الذي ردني إلى ما شهدت به في أصل فطرتي وأقررت
[وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ برَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى] [الأعراف: 172] .
وهنا يتعانق العقل المستسلم للوحي والوجدان الحي فيقولان:
أصل المعرفة في الإسلام: (الله) الموصوف بصفات الكمال المطلق المنزه عن كل ما يضاده، هو ربنا ورب كل شيء، أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالوحي - الكتاب والسنة - ليبين لنا كيف نعبده، ونتربى عليه،
ونحكم به حكماً صادقاً عدلاً على جميع الأحداث والأشياء، ويكون لنا موقف أهل
الحق في إقامة الحياة الصالحة على الأرض؛ فآمنا وصدقنا وخضعنا وعملنا بكل ما
تضمنته شريعته من العقائد والأحكام، والقواعد والأخلاق؛ ليكون ذلك منهاجاً
ربانياً ثابتاً نحيا به ونموت عليه، ونورثه مصدراً للمعرفة لمَن يقبله منا ويتبعنا
عليه، وليكون ذلك حجة لنا عند ربنا حين نلقاه جزاء أن جعلناه حجة علينا في
الدنيا في جميع الأمور والأحوال.
فأصلنا المعرفي ثابت، ثبات النوع البشري على الأرض، وثابت ثبوت
التكليف، ودائم ديمومة الحياة، لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، ولا يتصور له
نسخ ولا تخصيص ولا تقييد ولا معارضة من فطرة سوية ولا عقل راشد، وهو
أصل لا نقبل ما يعارضه من الملل والأهواء والنحل.
هذه أصولنا في المعرفة، ندعو جميع المخالفين إليها، ونعلمهم أنه لا يثبت
قدم الإسلام إلا عليها، بها جاء رسول الإسلام محمد - عليه الصلاة والسلام - من
ربه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.