خواطر في الدعوة
حديث في البناء
محمد العبدة
تغص الساحة الإعلامية أحياناً بالمناقشات، والأخذ والرد، وليست الغاية من
وراء ذلك الوصول لنتائج، ثم وضعها موضع التنفيذ، فهذا ينحاز لمذهب معين في
الأدب، وهذا يخالفه، وذاك ينحاز لمدرسة فكرية معينة، وآخر يرد عليه، وتسود
الصفحات في المجلات والكتب، وتبدأ المعارك، ويرتاح البعض ظناً منهم أن هناك
حركة، وأن الدنيا بخير والحمد لله، وينام قرير العين ملء جفونه، وبعضهم يحب
هذه المعارك، كأنه يشاهد لعبة مصارعة يقضي معها وقتاً ممتعاً!
هذه المعارك وهذا السجال يذكرني بما كان يطلب منا ونحن في المرحلة
الابتدائية أن نكتب مواضيع في الإنشاء: (أيهما تفضل الصيف أم الشتاء؟) أو
(قارن بين الليل والنهار) أو (بين السيف والقلم) ... وعندما كبرنا كانت المناقشات:
هل الوحدة العربية أم الوحدة الإسلامية؟ - مع الأسف لم تتحقق واحدة منهما -
وأمثال هذه المقارنات التي تستسهل الأمور، وكأنها لا تحتاج إلى دراسة واعية
متأنية كما تحتاج إلى تفصيل وتحقيق، ومن ثم إلى تطبيق وتنفيذ.
وإنني أخشى أن يكون كل هذا من قبيل تفريغ الطاقة وإرضاء النفس، أو
الهروب من الواقع؛ لأننا بهذا نشعر أننا نتحرك، ولكنها حركة في المكان، بل
أخشى أن يتحول هذا إلى مرض (الكلامولوجيا) .
هل تُقضى الأعمار ونحن نتساجل في مواضيع تحتاج لدراسات من متخصصين أذكياء، متى - إذن - نؤسس مدرسة تربي الأجيال على
الخلق القويم والعلم المفيد، وتنقذهم من طرق التعليم التي تستهلك طاقاتهم بحفظ
معلومات ثم صبها في نهاية العام على أوراق الامتحان، ثم تنسى، والشباب ثروة
لا تقدر؟ فأين استغلال طاقاتهم؟ .
ومتى نبني مصنعاً نستغني فيه عن إنتاج الشرق والغرب، ومتى نؤسس
شركة تستثمر أموال المسلمين المكدسة التي لا يعرفون كيف يستثمرونها، وتتيح
فرص العمل لمئات من الشباب الجامعي، بل متى يكون عندنا مؤسسات علمية
تشجع الإنتاج العلمي في كل شيء، وتستفيد من طاقات العلماء والخبراء في شتى
فروع المعرفة، ويجد المبدعون بواسطتها طريقاً لتحقيق إبداعهم.
نعم، لابد من الردود والمناقشات - ولكن بقدر - كرد على مبتدع أو طالب
علم أخطأ في أمور علمية ونشرها بين الناس، أو رجل مستهتر بأخلاق الأمة
وآدابها، كما أن المناقشة العلمية الهادفة التي نصل فيها لنتائج محققة - هي شيء
طيب ومقبول، وقل مثل ذلك في الحوار الهادف، إذا حسنت النيات واستُخدمت
الأساليب المعقولة، ولم يتحول إلى جدل عقيم، القصد منه المغالبة وتسجيل
الأهداف.
هذا هو المنهج الذي جاء به القرآن الكريم، فلم يدخل في جدل عقيم مع
النصارى، بل قال: [تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ] [ال عمران: 64] ،، وهذا ما
فهمه الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - حين رفض مناظرة أبي يوسف بحضور
الخليفة هارون الرشيد؛ لأنه ليس من منهج الإسلام أن يتحول الدين لمناظرات،
والمتفرجون يشاهدون: مَن يغلب؟ .
فالأصل هو البناء، وبناء المؤسسات.