من أعلام أهل السنة والجماعة
-2-
د.محمد بن مطر الزهراني
ثانياً: جهاده:
كانت حياة ابن المبارك كلها جهاداً في سبيل الله بنفسه وماله وعلمه. فكان -
رحمه الله - يرابط في الثغور كثيراً، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، وما نزل بلداً
في رحلته لطلب العلم ثم سمع منادي الجهاد إلا تجهز وخرج للغزو.
وكان - رحمه الله - يدعو إلى الجهاد ويحث الناس عليه لنصرة دين الله
وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
كما كان ينعي على النساك القاعدين عن الجهاد كسلهم وخمولهم وسوء فهمهم
لمعنى العبادة، فهو يقول:
أيها الناسك الذي لبس الصو ... ف وأضحى يُعد في العباد
الزم الثغر والتعبد فيه ... ليس بغداد مسكن الزهاد
إن بغداد للملوك مَحَل ... مناخ للقارئ الصياد [1]
وهاهو يراسل الفضيل بن عياض من ثغر من الثغور:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
لقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأه الفضيل ذرفت عيناه ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح [2] .
وكان ابن المبارك فارساً شجاعاً ذا خبرة في فنون القتال والمبارزة مع حرصه
أن لا يُرى موقعه من القتال، كل ذلك ورعاً وحسبة لله (سبحانه وتعالى) .
روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا في
سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان
خرج رجل من العدو فدعا إلى البِرَاز، فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله، ثم دعا
إلى البراز فخرج إليه ابن المبارك، فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس
فكنت فيمن ازدحم إليه، فإذا هو يلثّم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا
هو عبد الله بن المبارك، فقال: وأنت - يا أبا عمرو! - ممن يشنع علينا! [3] .
وأخرج الذهبي بإسناده إلى محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن سنان قال: كنت مع ابن المبارك ومعمر بن سليمان - بطرسوس - فصاح الناس: النفير،
النفير؛ فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج علج رومي
فطلب البراز فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله ... حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلى ابن
المبارك، فقال: يا فلان إن قُتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالج
معه ساعة، فقتل العلج، وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل ستة
علوج وطلب المبارزة، فكأنهم كاعوا - أي جبنوا - عنه، فضرب دابته وطرد
بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشيء، فإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال
لي: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحداً وأنا حي ... فذكر كلمة ... ! ! [4] .
قال صاحب مفتاح السعادة: كان ابن المبارك يقضي جل وقته في الجهاد في
سبيل الله، وكان يقاتل ويبلي بلاءً حسناً، فإذا جاء وقت القسمة غاب، فقيل له في
ذلك، فقال: يعرفني الذي أقاتل له [5] .
هكذا تكون النية في الجهاد، إنه لأجل إعلاء كلمة الله وابتغاء مرضاته -
سبحانه وتعالى - لا لمنصب ولا لجاه ولا لمال، إنما يكون الجهاد لنشر دين الله
بين الناس، وإقامة العدل في الأرض بتحكيم الكتاب والسنة، حتى لا تكون فتنة
ويكون الدين كله لله، لا لمجرد تسلُّم السلطة لذاتها، ولا من أجل تغلب حزب على
حزب أو فئة على فئة.
ثالثاً: في مجال العلم:
تلقى ابن المبارك العلم على مشايخ بلده ثم رحل في طلب العلم على غيرهم
كعادة الأئمة من السلف الصالح في طلب العلم [6] .
وكانت سنه آنذاك عشرين سنة عند رحلته، وأخذ العلم عمن أدرك من
التابعين ومن بعدهم، وأكثر من الترحال والتطواف إلى أن مات في طلب العلم
والغزو، قال الذهبي: روى العباس بن مصعب في تاريخه عن إبراهيم بن إسحاق
عن ابن المبارك قال:
حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ، فرويت عن ألف منهم.. [7]
قال الذهبى: وحدث عنه خلق لا يحصون من أهل الأقاليم، فإنه من صباه ما
فتر عن السفر.. [7] .
وقال الحافظ ابن معين: كانت كتب ابن المبارك التي حدث بها نحواً من
عشرين - أو واحد وعشرين ألف حديث [7] .
وقد كان لابن المبارك جهود ومشاركات في خدمة منهج أهل السنة والجماعة
من خلال مجال العلم والتعلم، ويمكن إيجاز تلك الجهود والمشاركات فيما يلي:
1- منهج التعلم والتعليم.
2 - علوم الحديث.
3- مؤلفاته.
أولاً: منهج التعلم والتعليم:
لسلفنا الصالح منهج في تعلم العلم، إذ لم يكن عندهم فوضى علمية كما
نشاهدها في عالمنا اليوم ضاربة أطنابها.
وهذا المنهج يقوم على أسس ومبادئ ثابتة، ومن لم يسلكها يكون تعلمه ناقصاً
قاصراً وربما كان علمه عليه لا له، وهذه بلية كثير من طلبة العلم اليوم، نسأل الله
العافية.
وهذا الإمام العالم الرباني عبد الله بن المبارك - رحمه الله - أحد مؤسسي
ذلك المنهج وواضعي مبادئه الثابتة يوضح لنا ذلك المنهج قولاً وعملاً [8] .
- قال ابن المبارك: طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة،
وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم [9] .
-قيل له بالشام: إلى كم تطلب العلم؟ فقال: أرجو أن تروني فيه إلى أن
أموت، أليس يقال له - طالب العلم - يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء،
أفلهذا مترك؟ [10] .
وقال أيضاً: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا [11] .
- قال أبو صالح الفرّاء: سألت ابن المبارك عن كتابة العلم فقال: لولا
الكتابة ما حفظنا [12] .
- وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: عجبت لمن لم يطلب
العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة [13] .
- قال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لِمَ لا تجلس معنا؟
قال: أجلس مع الصحابة والتابعين أنظر إلى كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ ؛
أنتم تغتابون الناس [14] .
وقال ابن المبارك: إن أول العلم النية ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ
ثم النشر [15] .
هذه أوجز وأدق عبارة تضمنت الأسس، والمبادئ الأساسية الثابتة لمنهج
التعلم والتعليم عند السلف، وهى نفسها عبارة الإمام سفيان الثوري - أمير المؤمنين
في الحديث - حيث قال - وهو يوجه تلاميذه -: تعلموا هذا العلم، فإذا تعلمتموه
فتحفظوه، فإذا حفظتموه فاعملوا به، فإذا عملتم به فانشروه [16] .
ولا غرو فابن المبارك والثوري، كلاهما تلقيا هذا المنهج عن السلف الصالح، والسلف تلقوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي بُعث معلماً للخير ومتمماً
لمكارم الأخلاق، وكل منهج للتعلم يخالف ذلك المنهج فهو منهج خاطئ.
- قال ابن المبارك: كاد الأدب يكون ثلثي العلم [17] .
ومر من قبل قوله: (طلبت الأدب ثلاثين سنة، والعلم عشرين سنة، وكانوا
يطلبون الأدب، ثم العلم) .
وهذه ركيزة من ركائز التعلم الأساسية عند السلف وهى البدء بالأدب أولاً ثم
العلم ثانياً، وهذا معنى قول الحسن البصري وابن سيرين والشافعي: (كانوا
يتعلمون الهَدي أولاً ثم العلم) [18] .
أما نحن اليوم فأحسننا حالاً الذين يعكسون هذا المبدأ، أي أنهم بعد أن يفرغوا
من طلب العلم يبدأون بطلب الأدب، والغالبية العظمى لا يعرفون أدب الطلب ولا
أدب العلم والتعلم، فضلاً عن أدب الخلاف، وأدب الفتوى وطرق الاستنباط
والاستدلال، فقد دُفن أصحاب ذلك الأدب وذلك المنهج منذ قرون خلت (رحمهم الله
وأجزل لهم الثواب) .
- وعن محبوب بن الحسن قال: سمعت ابن المبارك يقول: من بخل بالعلم
ابتلُي بثلاث: إما موت يُذهب علمه، وإما يُنسى، وإما يلزم السلطان فيذهب
علمه [19] .