دراسات في الشريعة والعقيدة
بلاغ الرسالة القرآنية
معالم في المنهج الدعوي
د. فريد بن الحسن الأنصاري [*]
[هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]
(إبراهيم: 52) .
مقدمة:
عندما نهمل التدبر لبعض المنطلقات المنهجية للعمل الإسلامي بحجة أنها من
البَدَهِيّات الإسلامية، ومن المعلومات من الدين بالضرورة؛ فإننا كثيراً ما نقع في
الانحراف عنها تدريجياً، فلا نشعر بذلك إلا بعد فوات الأوان!
ذلك أن الانغماس في الشأن اليومي السياسي، والنقابي، والاجتماعي العام
للحركة الإسلامية؛ قد يصنع مناخاً سيئاً لتربية الخَلَف من النشء الإسلامي.
وكذلك الدوران الداخلي حول الذات الحركية عندما تثقل أعباء العمل الإدارية
والتنظيمية الداخلية؛ فكل ذلك قد ينسي الجيل الجديد أنه يشتغل ضمن حركة
إسلامية قامت أساساً على أصل تعبدي، وقد يعصف الصراع السياسي الدائر في
المجتمع بالبقية الباقية من الإحساس التعبدي في العمل لدى كثير من الشباب، فتبدأ
النتوءات المنحرفة في الفكر والممارسة تبدو من هنا وهناك، وهو ما لاحظناه فعلاً
في بعض القطاعات الطلابية والنقابية والسياسية التي أنشأها العمل الإسلامي أساساً
لإقامة الدين وعدم التفرق فيه؛ مما يفرض على ذوي الرأي والتوجيه في الحركة
الإسلامية ضرورة الحرص في العمل التربوي على تجديد الوعي بالمنطلقات
المنهجية، والثوابت الدينية في كل عمل يراد له أن يكون إسلامياً.
وأحسب أن أول ما ينبغي أن نأخذه من المفهومات بقوة، هو:مفهوم (القرآن) ؛
من حيث هو المتن الرئيس لرسالة الله إلى الناس، والمؤسِّس لمقاصد التعبد في كل
عمل.
هذا خطاب الشباب اليوم في المنتديات، والجامعات، وسائر أنواع التجمعات،
هو في أغلبه خطاب فكري متخشب، لا نداوة فيه ولا طراوة. فيه كل شيء من
النصوص والاستشهادات والمرجعيات إلا آيات القرآن العظيم ونصوص السنة
النبوية! تفرقت بهم الأهواء بين أقوال المفكرين والسياسيين من الزعماء والعلماء،
حتى أحلُّوها في أنفسهم في بعض الأحيان محل القرآن، تقديساً وتوقيراً، ولو
ذكرت له: (قال الله، قال رسوله) لوجدت منه استهجاناً على المستوى النفسي
والعياذ بالله قد لا يشعر به هو نفسه؛ لأنك إنما تحدثه بما هو (معروف) ،
وبما هو (متداول) لا بما هو (جديد) ، هكذا!
ولقد بلغ الزيغ والضلال ببعض النابتة ممن يُحسَبون على الحركة الإسلامية
أن صاروا إلى تمجيد كتابات بعض العلمانيين المتلبسين بالمسوح الإسلامية، من
أمثال الدكتور نصر حامد أبو زيد، والدكتور حسن حنفي! أما النهل من كتابات
الروافض خاصة في الظروف السياسية الراهنة المعروفة فحدث ولا حرج! فماذا
إذن تنتظر من حركة ينهل شبابها من كتابات أمثال هؤلاء؟ ! إن عدم توحيد
المرجعية، وعدم ضبط المنطلقات لن يضمن استمرار التوجه الإسلامي الصرف
لأي حركة قامت في الأصل على منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
ثم غفلت عن (بدهياتها) .
إن القول بوجوب رجوعنا إلى القرآن الكريم ليس بمعنى تزيين الكلام بآية أو
أخرى هكذا اعتباطاً، ولكنه رجوع منهجي مبدئي يجب أن يتقرر في الأذهان،
ويستقر في الوجدان؛ ليكون فعلاً نوراً يمشي به المسلم في طريقه إلى الله، ويبقى
ذاكراً جيداً أنه بهذا العمل السياسي، أو النقابي، أو الاجتماعي، أو الإعلامي ...
إلخ، إنما يعبد الله. هذا هو الأصل العظيم الذي كثيراً ما يغيب، فيغيب معه كل
شيء؛ لأنه (الفصل الجوهري) على حد تعبير المناطقة الذي يَسِمُ العمل بوصف
(الإسلامية) .
الإسلام بلاغ:
من أخطر مزالق العمل الإسلامي أن يغيب عنه في خضم الصراع السياسي،
والتدافع الاجتماعي، أن طبيعة مشروعه قائمة أصلاً على أنه (رسالة ربانية)
بالقصد الأول، وجب على حملتها الانضباط إلى شروط الأمانة في تبليغها، كما
تقتضيه شروطها هي، لا كما تقتضيه أمزجتهم هم حسب أغراضهم وأهوائهم.
إن (البلاغ) بمفهومه القرآني هو أصل العمل الدعوي؛ ذلك أنه بصيغته هذه
مشترك الدلالة بين معنيين: لازم، ومتعد. فهو بلاغ في ذاته، أي أنه مضمون
رسالي جاء من رب العالمين يحمل عدداً من البلاغات الربانية إلى الناس أجمعين،
ثم هو مقصود بـ (البلاغ) تكليفاً، أي بالتبليغ؛ ذلك أن (البلاغ) يرد في
العربية بمعنى (التبليغ، والإبلاغ) أيضاً؛ فهو لفظ مزدوج الدلالة، وكذلك ورد
في القرآن كما سترى بحول الله. جاء في لسان العرب: (والبَلاغُ: الإبْلاغُ. وفي
التنزيل: [إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ] (الجن: 23) ، أي لا أَجِدُ مَنْجى إلا
أن أُبَلِّغَ عن اللهِ ما أُرْسِلْتُ به. والإبلاغُ: الإيصالُ، وكذلك التَبْلِيغُ، والاسم منه
البَلاغُ) [1] .
قلت: هذا أصل عظيم في الدين وجب الثبات على تذكره والتذكير به، بلا
ملل ولا خجل، والتأكد من سلامة استقراره في الوجدان الحركي للعمل الإسلامي؛
ذلك أن دوَّامة التدافع الدولي والاجتماعي المعاصر كفيلة بجرف الماء عن أبسط
منطلقاته، وأوضح مبادئه، في أي لحظة من لحظات انغماسه الإداري والتنظيمي
في وطيس الاستفزازات السياسية، والمنافسات التنظيمية، إلا أن يعتصم بالمناط
الرسالي لعمله، يدور معه حيث دار وجوداً وعدماً، في كل أمره، جليله وحقيره،
وبيان ذلك كما يلي:
سألني أحد المحبين يوماً في غمرة الحيرة التي انتابته؛ إذ لاحظ ما آل إليه
الوضع الإيماني من انحطاط، في بعض مظاهر العمل الإسلامي الراجعة إلى نوع
من الاستفزازات، وبعض ردود الأفعال، قال: كيف نجدد ديننا؟
قلت: هناك سؤالان كبيران يرتبطان بوجود الإنسان في الكون، ويحددان
مصيره فيه، وهما أول الخطو في طريق المعرفة الربانية التي هي مرجع كل عمل
إسلامي، وأساس كل تجديد ديني، لكن قلما نضعهما نحن المسلمين اليوم على
أنفسنا؛ لأننا نزعم أننا نعرف الجواب بداهة؛ فهل حصل لك أن جردت نفسك من
نفسك وسألتها يوماً كأنها شخص آخر:
السؤال الأول: هل تعرفين الله؟
السؤال الثاني: هل تعرفين القرآن؟
المشكلة هي أننا عندما نكتفي بـ (نعم) نكف بها عن البحث، وننقطع عن
السير في طريق المعرفة الربانية، واستكشاف هذا القرآن العظيم؛ ومن ثم نفقد
بوصلة الصراط المستقيم في عملنا الدعوي.
افترض إذن أنك مثلي لا تملك الحقيقة كاملة، ولنتابع البحث معاً:
ألسنا مسلمين؟ ألسنا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ بلى طبعاً.
هذا شيء حسن؛ فدين الإسلام الذي هو باب النجاة يوم القيامة إنما ينبني بعد
الإيمان بالله على شهادة أن محمداً رسول الله. هذا بدهي، ومعلوم من الدين
بالضرورة، نعم، ولكن تأمل: عبارة (رسول الله) ، هذا الوصف للنبي محمد
صلى الله عليه وسلم هو مناط الدين الذي قال عنه الله عز وجل: [إِنَّ الدِّينَ عِندَ
اللَّهِ الإِسْلامُ] (آل عمران: 19) ، [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] (آل عمران: 85) . فكل الإسلام قائم على
شهادة أن محمداً رسول الله؛ فنتج عن هذا الوصف (رسول) أن الدين كل الدين
أعني الإسلام هو عبارة عن (رسالة) . وهذا شيء عظيم جداً، ندرك رسمه،
وقلما نتذوق حقيقته. وإليك البيان:
عندما نقول: (محمد رسول الله) فإن الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية
كلتيهما تقتضيان أن محمد بن عبد الله قد جاء برسالة معينة؛ أي أنيطت به مهمة
يقوم بتبليغها، فكان بذلك (رسولاً) ، ولولا ذلك لما كان له شأن في الكون ولا في
التاريخ.
نعم هذه بدهيات.. ولعل عدم تأملنا لهذا الذي نسميه (بدهيات) ، أو
معلومات من الدين بالضرورة، هو سبب شرودنا بعيداً عن حقائق الإسلام.
إن (الرسالة) أي رسالة، مهما كانت لها أربعة أركان هي:
الأول: المرسِل وهو من قام بإرسال الرسالة.
والثاني: المرسَل إليه، وهو الطرف المعني بها والمخاطب
بفحواها.
والثالث: الرسول، وهو حامل الرسالة المبلغ لها، بتكليف من المرسِل.
ثم الرابع: وهو الخطاب المرسَل وهو مضمونها، أي متن الرسالة،
ونصها اللغوي الحامل لمقاصد مرسلها.
وهذا كله لو تدبرت منطبق على الإسلام من حيث هو رسالة.
فالخلاصة إذن، هي أن الإسلام: رسالة مضمنة في متنها، أي في خطابها
الحامل لمضمونها الرسالي، وهو القرآن الكريم الذي هو متن الرسالة، ثم السنة
النبوية التي هي ملحقها الشارح، تلك هي أول مراتب [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ]
(الفاتحة: 6) ، لو تدبرت قليلاً.
إنك لو قرأت القرآن بهذا المنطق لوجدت عجباً!
إن تجديد الدين يقوم أساساً على تبين ما [الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] (الفاتحة:6)
ثم كيف الاستقامة عليه؟ وبغير ضبط (الحقيقة الرسالية) للقرآن يكون كل
فعل من محاولات التصحيح خارج {الصٌَرّاطّ الًمٍسًتّقٌيمّ} . وليس عبثاً أن يكون ذلك
هو دعاء المسلم في كل صلاة، سبع عشرة مرة في اليوم والليلة على الأقل.
مهم جداً أن تستحضر في ذهنك ووجدانك أن القرآن يخبرنا عن نفسه، أنه
رسالة، جاءت تحمل (الهداية) للناس الحيارى وكل الناس لولا الدين حيارى
ويرسم لهم معالم الصراط المستقيم، فتدبر قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً
مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ
مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ] (الشورى: 52-53) .
هذه أول درجات الوعي التي يجب أن تحققها لذاتك وللآخرين: (الإسلام
رسالة) ، متنها القرآن. إن الشعور بالمعنى الرسالي للقرآن إنما يتحقق لك على
المستوى النفسي إذا تصورت طبيعة الوجود البشري؛ ذلك أن الإنسان وقد جاء من
عالم الغيب، قد أحاطت به حجب عالم الشهادة ففقد الاتصال بأصله الغيبي إلا ما
كان من نداء الفطرة الخفي في قلبه. إن ميلاد كل شخص من بطن أمه ونزوله إلى
الدنيا هو كنزول آدم عليه السلام من الجنة في عالم الغيب إلى الأرض؛ حيث تبدأ
حجب الحياة الدنيا تنسج عليه غلائل النسيان وتغرقه في جزئياتها اليومية،
فيضرب بعيداً عن استشراف السماء مرة أخرى؛ ومن هنا اقتضت رحمة الرب
العظيم وهو الرحمن الرحيم أن يرسل الرسل إلى الناس: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ] (البقرة: 21-22) ، جاءت الرسالة من عالم الغيب لتربط
الإنسان بأصله الحقيقي، ولتشعره بسعة الكون، وربوبية الخالق عز وجل المحيطة
بكل شيء ثم لتعلمه بقصته كاملة من النشأة حتى المصير، وما له في ذلك كله وما
عليه، فجاء القرآن لذلك في صورة (بلاغ) رباني. هذا مصطلح مهم جداً
للتعرف إلى طبيعة القرآن: إنه (بلاغ) فيه دلالة عميقة جداً على (قصد التبليغ)
لمضمون الرسالة؛ حتى يتم العلم بها على التمام عند من قُصدوا بالتبليغ والإعلام،
قال عز وجل: [هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (إبراهيم: 52) .
بلاغ قادم من عالم الغيب، من فوق سبع سماوات إلى عالم الشهادة، إلى
الإنسان المتحرك فوق هذه الأرض، وبين العالمَيْن مسافة رهيبة، لا تستطيع
النفس استيعابها مهما أوتيت من قدرة على الخيال، فجاء القرآن رسالة تعبر تلك
المسافات كلها لتلقي على الإنسان خطاباً ربانياً عظيماً يحمل قضايا محددة قصدَ
(إبلاغها) للإنسان، قضايا أو إن شئت فقل: (بلاغات) هي مناط مسؤوليته
ووظيفته في الأرض.
ولقد كان أول هذه البلاغات هو القرآن نفسه، أعني أن أول ما جاء القرآن
ليبلغه إلى الناس هو هذا المعنى الرسالي للقرآن، حتى لا يقرأه أحد أو يستمع إليه
بعيداً عن هذه الحقيقة الكونية الكبرى، فلا يستفيد من بلاغاته الربانية شيئاً.
إن أول ما يجب أن يعرفه الإنسان من القرآن هو طبيعة هذا القرآن، من
حيث هو رسالة رب الكون مرسلة إلى واحد من أهم سكان الكون: أنت، وأنا،
وكل إنسان.. فكان ذلك هو البلاغ الأول للقرآن.
ومن هنا فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله إلا بهذا القرآن
استجابة لقوله تعالى: [فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً] (الفرقان:
52) ، وكذلك كان صحابته الكرام على هديه؛ فما أسلم أغلب من أسلم من
الصحابة إلا بعد سماع القرآن، وهذا أمر متواتر في كتب السنن، وكتب السير
والمغازي لمن استقرأه وتتبعه، ومن أشهر الأمثلة على ذلك قصة مفاوضة قريش
للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ بعثت إليه ممثلها الوليد بن عتبة، فكلمه في أن يكف
عن تسفيه أحلامهم، حتى إذا فرغ من مقالته قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:
«أفرغتَ؟» قال: نعم! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حم *
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] (فصلت: 1-2) حتى بلغ: [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ] (فصلت: 13) [3] .
وكذلك كانت سفارة النبي صلى الله عليه وسلم في البلاد؛ إذ يرسل صحابته
إلى الأقاليم والأمصار؛ فإنما كانوا يدعون الناس بالقرآن، كما هو الشأن في بعث
أصحابه إلى المدينة؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «أول من قدم
علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم
فجعلا يقرئاننا القرآن» [4] .
في اكتشاف البلاغ القرآني تدبراً وتفكراً:
لا سبيل إلى معرفة الحقيقة إلا عبر هذا القرآن أولاً، ولا يكون ما دونه من
طرق المعرفة إلا توابع له وملاحق؛ فهو متن الرسالة التي أرسلها رب العالمين
إلى الخلق، وما سواه شروح وتفاسير، ويا لتعاسة من ضل عن هذا الأصل العلمي
العظيم! إذن يضرب في التيه على غير هدى.. قال عز وجل: [إِنَّ هَذَا القُرْآنَ
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً *
وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً] (الإسراء: 9-10) . وقال
مستدركاً بقوة على الذين حرفوا وبدلوا وغيروا: [مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ
الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) . ذلك
سبيل الربانية الأوحد، لا سبيل سواه، فتدبر.
ومن هنا وجب أن تكون خطوتك الأولى في طريق المعرفة الربانية أن
تتعرف إلى القرآن، بل أن تكتشفه؛ ولذلك جاء الخطاب القرآني يحمل أمر القراءة
للقرآن تلاوة وترتيلاً، وأمر التعلم للقرآن مدارسةً وتدبراً.
والتدبر هو غاية كل ذلك ونتيجته؛ ولذلك قال عز وجل: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (ص: 29) . فجعل غاية
الإنزال للقرآن التدبر والتذكر، ولولا التدبر لما حصل التذكر الذي هو يقظة القلب،
وعمران الوجدان بالإيمان؛ فالتدبر هو المنهج القرآني المأمور به لقراءة القرآن
العظيم؛ ومن هنا زجره تعالى للناس الذين لا يتدبرونه. قال سبحانه: [أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد: 24) ، [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] (النساء: 82)
فما التدبر إذن؟
تَدَبَّرَ الشيء في اللغة يَتَدبَّرُه: تتبع دبره، أي نظر إلى أواخره وعواقبه
ومآلاته، كيف هو إذا صار إليها؟ وكيف يكون؟ جاء في لسان العرب: (ودَبَّرَ
الأَمْرَ وتَدَبَّره: نظر في عاقبته، واسْتَدْبَرَه: رأى في عاقبته ما لم يرَ في صدره،
وعَرَفَ الأمْرَ تَدَبُّراً أي بأَخَرَةٍ. والتَّدْبِيرُ في الأمر: أن تنظر إلى ما تَؤُول إليه
عاقبته. والتَّدَبُّر: التفكر فيه) [4] .
فتدبر القرآن وآيات القرآن: هو النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي
المجتمع؛ وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله، فتنظر إن كانت متعلقة بالنفس إلى
موقعها من نفسك، وآثارها في قلبك وعملك، تنظر ما مرتبتك منها؟ وما موقعك
من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك كله في نفسك، وما تعانيه من قلق
واضطراب في الحياة الخاصة والعامة؟ تحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها،
باعتبارها مقياساً لوزن نفسك وتقويمها، وتعالج أدواءك بدوائها، وتستشفي
بوصفاتها.
وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع، فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف
تراها اليوم تقع؟ وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها، عند
المخالفة وعند الموافقة؟ ثم تنظر ما علاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير؟ وهنا
تلج إلى باب آخر من أبواب القرآن رديف للتدبر، بل هو منه، ذلك هو: التفكر.
إن التفكر غالباً ما يرد مذكوراً في القرآن في سياق النظر في خلق الله، والتأمل في
بديع صنعه، كما في قوله تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا
سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ
إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ] (آل عمران: 190-194) ؛ فكل هذه الأدعية العابدة،
الحارة، الخاشعة، الباكية؛ إنما هي نابعة عن الإحساس الحاصل للعبد بُعَيد التفكر
في خلق الله، فاقرأ الآيات وتدبر تجد أن المؤمن لمَّا يسيح في جنبات الكون الفسيح
فإنه يشعر بعظمة الله الواحد القهار، وتأخذه الرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه،
فيسرع هارباً إلى مساكن رحمته، وجمال غفرانه.
وبما أن القرآن كتاب يحيل المتدبر له إلى امتدادات الكون، ويرجع به إلى
كشف كثير من أسرار الوجود، وغرائب الخلق؛ فإن (التدبر) الذي هو المنهج
الرباني لقراءة القرآن، يحيل الإنسان إلى (التفكر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة
الكون، فيكون كل متدبر للقرآن متفكراً في الكون، فيقرأ بقراءة القرآن كل آيات
الله المنظورة والمقروءة سواء.
هكذا وجب أن تقرأ القرآن آية آية، اقرأ وانظر.. عسى أن ترى ما لم تر،
وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل، فتكون له متدبراً.. فتدبر.
ولنسأل الآن: ما القرآن؟ ما هذا الكتاب الذي هزَّ العالم كله، بل الكون كله؟
أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه (كلام الله) ، واختلفوا بعد ذلك في
خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف
الصالح. وإنما المهم عندنا الآن ها هنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين:
(القرآن كلام الله) . هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلاً.
الله جل جلاله خالق الكون كله، هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا
الكون في الآفاق؟ طبعاً لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى؛
فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل
البشري المحدود.. هذه الأرض وأسرارها، وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك
النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع
وأطباقها، إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية.
أين أنت الآن؟ اسأل نفسك.. أنت هنا في ذرة صغيرة جداً تائهة في فضاء السماء
الدنيا: الأرض. وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء، هو محيط بكل شيء قدرة
وعلماً.. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان،
فكلمك بالقرآن.. كلام الله رب العالمين، أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب
الكون يكلمك [فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى] (طه: 13) ، أيُّ وجدان، وأيُّ قلب، يتدبر
هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجداً لله الواحد القهار رغباً ورهباً؟ اللهم إلا إذا كان
صخراً أو حجراً. كيف، وهذا الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟ [لَوْ أَنزَلْنَا
هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (الحشر: 21) ، وهي أمثال حقيقية لا مجاز، ألم تقرأ
قول الله تعالى في حق داود عليه السلام: [إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ] (ص: 18-19) ، وقوله تعالى:
[فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ] (الأعراف: 143) .
كلام الله هو كلام رب الكون، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عَلُ: أي من فوق؛
لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى فوق كل شيء، محيط بكل شيء علماً وقدرة. إنه
رب الكون.. فتدبر، [أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ]
(فصلت: 54) . ومن هنا جاء القرآن محيطاً بالكون كله، متحدثاً عن عجائبه.
قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: [فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ
لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ
المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ] (الواقعة: 75-82) . سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك
نكذب.
ذلك هو القرآن.. كلام من أحاط بمواقع النجوم؛ خلقاً، وأمراً، وعلماً،
وقدرة، وإبداعاً، فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم،
من بعدما هيأه لذلك، وصنعه على عينه سبحانه وتعالى فقال له: [إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: 5) . ومن هنا لما كذَّب الكفار بالقرآن نعى الله
عليهم ضآلة تفكيرهم، وقصور إدراكهم، وضعف بصرهم، عن أن يستوعبوا بُعده
الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: [وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا
فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ
كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً] (الفرقان: 5-6) ، وإنه لرد عميق جداً؛ ومن هنا جاء
متحدثاً عن كثير من السر في السماوات والأرض. قال عز وجل: [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا
فِي هَذَا القُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً] (الكهف:
54) . وقال: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ
لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُّحِيطٌ] (فصلت: 53-54) .
فليس عجباً أن يكون تالي القرآن متصلاً ببحر الغيب، ومأجوراً بميزان
الغيب، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والحرف إنما هو وحدة صوتية لا
معنى لها في اللغة، نعم في اللغة، أما في القرآن فالحرف له معنى، ليس بالمعنى
الباطني المنحرف، ولكن الرباني المستقيم، أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به
الله؟ إذن! يكفيه ذلك دلالة وأي دلالة! ويكفيه ذلك عظمة وأي عظمة! فعن ابن
مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفاً
من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن
ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» [5] ، [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (الجمعة: 4) .
إنه تعالى تكلم، وهو سبحانه وتعالى متكلم، سميع، بصير، عليم، خبير،
له الأسماء الحسنى والصفات العلىا، نثبتها كما أثبتها السلف، بلا تأويل ولا
تعطيل ولا تشبيه. لقد تكلم عز وجل، وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه
الأمة المشرفة أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فكان صلة بين العباد وربهم، صلة
متينة، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، طرفه الأعلى بيد الله، وطرفه
الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين.
قال عليه الصلاة والسلام في خصوص هذا المعنى، من حديث لطيف تشد
إليه الرحال: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» [6] ، وقال
في مثل ذلك أيضاً: «أبشروا.. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم،
فتمسكوا به؛ فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبدا» [7] . وروي بصيغة أخرى
صحيحة أيضاً فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عليه وسلم: «أبشروا.. أبشروا..
أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قالوا: نعم! قال: «فإن هذا
القرآن سببٌ طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به؛ فإنكم لن تضلوا، ولن
تهلكوا بعده أبداً» [8] .
ذلك أن القرآن جاء وهو من رب العالمين بلاغاً إلى الناس أجمعين، يحمل
رسالة ذات مضامين من النبأ الرباني العظيم، نبأ الخلق، ونبأ الكون، ونبأ الغيب،
ونبأ الشهادة، ونبأ الحياة، ونبأ الموت، ونبأ البعث القريب، ونبأ الأمر الإلهي
الحكيم في ذلك كله، وكلف رسوله ببلاغه جميعاً إلى الناس، فقال له عز وجل:
[يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ] (المائدة: 67) ، وقال أيضاً:
[قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً] (الجن:
22-23) ، وقال سبحانه: [هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (إبراهيم: 52) ، وقال: [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ
وَعَلَيْنَا الحِسَابُ] (الرعد: 40) ، ومن أشد المعارض القرآنية لهذا المعنى وقعاً
على النفس، قوله تعالى للمؤمنين من هذه الأمة بعد آية تحريم الخمر مباشرة:
[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ
المُبِينُ] (المائدة: 92) ، ونحو ذلك كثير في القرآن الكريم مما ينطق عن
طبيعته (البلاغية) بالمعنى الرسالي للكلمة، وما ينتج عن ذلك كثير من إعذار
وإنذار، ومن ثقل الأمانة الملقاة على عاتق كل مسلم، بل كل إنسان (بلغته)
الرسالة.
ها هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان؛ فاحذر أن تظنك
غير معني بها في خاصة نفسك، أو أنك واحد من ملايين البشر، لا يُدْرَى لك
موقع من بينهم؛ كلا، كلا، إنه خطاب رب الكون، فيه كل خصائص الكلام
الرباني من كمال وجلال. أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد،
ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد، [قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ
تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
(آل عمران: 29) ؛ فهو سبحانه جل جلاله لا يشغله هذا عن ذاك، وإلا فما
معنى الربوبية وكمالها؟ وكما أنه قدير على إجابة كل داع، وكل مستغيث، من
جميع أصناف الخلق، فوق الأرض وتحت الأرض، وفي لجج البحر، وتحت
طبقاته، وفي مدارات السماء ... إلخ، كل ذلك في وقت واحد وهو تعالى فوق
الزمان والمكان لا يشغله شيء عن شيء، له الملك، وله الحمد، وهو على كل
شيء قدير، فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات،
وكأنه لا يخاطب أحداً سواك، فاحذر أن تخطئ هذا المعنى.. تذكر أنه كلام الله،
وتدبر.
قال جل جلاله: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]
(محمد: 24) ، [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً] (النساء: 82) .. فتدبر!
ذلك هو القرآن: الكتاب الكوني العظيم، اقرأه وتدبر؛ فوراء كل كلمة منه
حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة
والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرهاً نحو نهايتها، فتدبر؛ فإن فيه كل
ما تريد. ألست تريد أن تكون من أهل الله؟ إذن، عليك بالقرآن، اجعله صاحبك
ورفيقك طول حياتك، تكن من (أهل الله) كما في التعبير النبوي الصحيح. قال
صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى أهلين من الناس: أهل القرآن هم أهل الله،
وخاصته» [9] .
هذا غاية ما عندي عن القرآن، فلا تغتر بما عندي، إنه لا يحدثك عن
القرآن إلا القرآن، فتدبر.. اقرأه آية فآية، وتدبر.
خاتمة:
القرآن إذن هو متن رسالة الله يمنحك أول مقاصده الإرسالية: معرفة الله،
مرسل الرسالة إلى الخلق، تلك حقيقته الأولى، وهي أول ما يرفع بصيرتك إليه،
عسى أن تبصر جمال الخالق جل جلاله، فتكون له من العابدين.
فاسأل نفسك: هذه هي الرسالة: القرآن، ولكن هذا المرسل.. من يكون؟
ومن هو؟
هذا أول المعرفة الربانية، وهو في مقاصد؛ الخطاب القرآني، البلاغ الأول
من بلاغات القرآن، ذلك من حيث الرتبة لمقاصد الإرسال، وهو ها هنا من حيث
ترتيب السير المنهجي في التعرف إلى معالم الطريق، ومنازل السير يحتل الرتبة
الثانية منهجياً لا مقاصدياً؛ إذ لا يعرف الله إلا بمعرفة القرآن، كما أنه لا يمكن أن
يعبد الله عملياً إلا باتباع رسوله، وإن شئت فقل: معرفة الله وتوحيده هو غاية
الغايات، ومنتهى الخطوات، ولكن أولاها قطعاً وإنجازاً هي معرفة القرآن، فإذا
أنت عرفت ما القرآن؟ وبدأت تغرف من مأدبة الله، وجدت الله جل وعلا أول
المقاصد التي يدعوك القرآن لتعرفها، ومن هنا لم تكن الأمة لتنبعث من جديد إلا
ببعث القرآن فيها من جديد؛ ذلك صمام الأمان لسلامة السير في كل عمل إسلامي،
والمقياس الفاصل بين الحق والباطل في كل استقامة أو انحراف عن الصراط
المستقيم من المنهج الدعوي العام، والله الموفق للحق والمعين عليه، فتدبر!