دراسات في الشريعة والعقيدة
محمد بن عبد الله الهبدان
alhabdan@email.com
من ظواهر الغربة التي فشت وانتشرت في الأمة فقدان تطبيق سنن النبي
صلى الله عليه وسلم في الحياة اليومية ليس عند العامة، بل حتى عند بعض طلاب
العلم، «وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين أقوام
دون قوم» [1] ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن «من صفات هؤلاء
الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة إذا رغب عنها
الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر
ذلك أكثر الناس» [2] .
روى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن
ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين ليأزر
إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية
من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً فطوبى للغرباء الذين يصلحون
ما أفسد الناس من بعدي من سنتي» [3] .
وروى ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن بكر بن عمرو المعافري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله
حين يترك، ويعلمون [4] بالسنة حين تطفأ» [5] ، وقال أبو بكر بن عياش:
«السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان» [6] ، ويقول يونس بن
عبيد رحمه الله تعالى: «ليس شيء أغرب من السنَّة، وأغرب منها من
يعرفها» [7] .
حال السلف في الشكوى من غربة تطبيق السنة:
لقد تكاثرت أقوال السلف في بيان هذه الغربة في أزمان تُعد من أفضل
الأزمان، وقرون هي من أفضل القرون بشهادة من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا
وحي يوحى، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: «لو خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم عليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة» .
وقال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟
وقال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما أعرف منكم ما كنت أعهده على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قولكم: لا إله إلا الله. قلنا: بلى يا أبا
حمزة! قال: قد صليتم حتى تغرب الشمس، أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ !
وعن ميمون بن مهران قال: «لو أن رجلاً أُنْشِرَ فيكم من السلف ما عرف
غير هذه القبلة» ، وعن سهل بن مالك عن أبيه قال: «ما أعرف شيئاً مما أدركت
عليه الناس إلا النداء بالصلاة» [8] .
وهذه حقيقة واقعة في هذا الزمن، ليس بين عوام الأمة، بل حتى بين طلاب
العلم أحياناً، فإذا ما قام أحدهم بتطبيق سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم
إذا بنظرات الاستغراب تنهال من كل حدب وصوب، وكأنك فعلت أمراً منكراً، بل
أشد من ذلك أحياناً ولا وحول ولا قوة إلا بالله أن يكون المنكر أخف؟ ! ! فكم من
الناس من يرتكب المعاصي ومع ذلك لا تجد من ينكر عليهم، ويحتسب في
مناصحتهم، أما لو طبق سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم فهذا إن سلم
من العقوبة أحياناً فقد لا يسلم من السكوت عنه وأقل الأحوال أن توجه إليه الأنظار!
وهذه القضية ليست في عصرنا فحسب بل حتى في العصور الماضية، فعلى
سبيل المثال: يقول الشاطبي رحمه الله في الاعتصام: «فرأيت أن الهلاك
في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يُغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك
على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليّ الملامة،
وفوّق إليّ العتاب سهامه، ونُسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل
الغباوة والجهالة» [9] ، وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ما يأتي على
الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت
السنن» [10] .
وسأذكر لك أخي القارئ نماذج من هذه الغربة، فمن ذلك:
ما يفعله الإنسان عند الغضب: روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر قال:
كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات
من رأسه؟ فقال رجل: أنا، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه، وكان أبو ذر
قائماً فجلس، ثم اضطجع! ! فقيل له: يا أبا ذر! لِمَ جلستَ ثم اضطجعت؟ ! قال: فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «إذا غضب أحدكم وهو قائم
فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» [11] .
فهذه سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم يغلب على ظني أنها قد هجرت
من كثير من الناس حتى لو أردت أن تفعلها ذات يوم والغضب جِبِلَّة في الناس
لأصبحت محل استغراب الناس، وكأن حالهم يقول: يأتي إليه رجل فيغضبه
ويتكلم عليه أو يكسر له متاعاً، ثم يجلس أو يضطجع على جنبه؟ ! ثم تلحظ
حرص السلف رحمهم الله تعالى على التطبيق العملي للسنة؛ فأبو ذر قبل أن يعلِّم
الناس قام هو بفعل السنة ثم علَّمهم، وهذا يعطينا درساً في تعليم الناس ودعوتهم أن
نحرص على التطبيق العملي لأن تأثر الناس به أكثر.
السنة في المشي حافياً: روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن بريدة أن
رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر
فقدم عليه فقال: «أما إني لم آتك زائراً ولكني سمعت أنا وأنت حديثاً من رسول
الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم. قال: وما هو؟ قال كذا
وكذا، قال: فما لي أراك شعثاً وأنت أمير الأرض؟ قال: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه. قال: فما لي لا أرى عليك حذاء؟
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحياناً» [12] .
وهذه سنة مهجورة، ولو فعلها الإنسان أحياناً لقيل: ما هذا التخلف والرجعية؟
فكيف لو فعلها مسؤول كبير أو أمير أو وزير كفضالة بن عبيد رضي الله عنه؟ !
إعفاء اللحية: من السنن الواجبة إعفاء اللحية لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«وفِّروا اللحى، وأحفوا الشوارب» [13] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
«أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى» [14] ، وغيرها من النصوص الشرعية الدالة
على تركها وإعفائها، ومع ذلك فبعض المجتمعات تكاد ألاَّ تجد فيها من يستطيع
إعفاءها بسبب ما يواجه من ضغط وإكراه، فنسأل الله تعالى أن ينصر دينه، وأن
يخذل أعداءه، وأن يعز أولياءه.
السنة في لباس الرجل: روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال:
«مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء فقال: يا عبد الله! ارفع إزارك. فرفعته، ثم قال: زد. فزدت؛ فما زلت أتحراها بعدُ. فقال
بعض القوم: إلى أين؟ فقال: أنصاف الساقين» [15] ، وروى ابن ماجه في سننه
عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قلت لأبي سعيد: هل سمعت من رسول
الله صلى الله عليه وسلم شيئاً في الإزار؟ قال: نعم! سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: «إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه ما بينه وبين
الكعبين، وما أسفل من الكعبين في النار يقول ثلاثاً: لا ينظر الله إلى من جر
إزاره بطراً» [16] .
ولعلك أخي القارئ تلحظ عدم الاستنكار على من يسبل إزاره، أو على الأقل
تبلد الإحساس لدى الناس، ولكن من رفع إزاره كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛
فانظر ما تجد من ملاحقة الأنظار، ومن العتب والتوبيخ، والله المستعان.
البدء بركعتين في المسجد عند القدوم من السفر: روى البخاري ومسلم من
حديث كعب بن مالك، وفيه: «فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه
ركعتين، ثم جلس للناس» [17] .
إعادة السلام وتكراره إذا حال بينهما شيء ولو يسيراً: روى أبو داود في
سننه عن أبي هريرة قال: «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما
شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه أيضاً» [18] .
تعميم السلام: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام،
وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» [19] ، وهذا حاصل والله المستعان فلو
سلمت على أحد من الناس ورحبت به لقال بلسان الحال أو المقال: لعلك قد شبهت
عليّ! ! وقد جاء في المسند أن سلام الخاصة من علامات الساعة، فروى الأسود
بن يزيد قال: أقيمت الصلاة في المسجد فجئنا نمشي مع عبد الله بن مسعود، فلما
ركع الناس ركع عبد الله وركعنا معه ونحن نمشي، فمر رجل بين يديه فقال:
السلام عليك يا أبا عبد الرحمن! فقال عبد الله وهو راكع: صدق الله ورسوله.
فلما انصرف سأله بعض القوم: لِمَ قلت حين سلم عليك الرجل: صدق الله ورسوله؟
قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة
إذا كانت التحية على المعرفة» [20] .
لعق الأصابع والصحفة بعد الانتهاء من الطعام، ومسح اللقمة إذا وقعت على
الأرض ثم أكلها:
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: «إنكم لا تدرون في
أيه البركة» [21] ، وفي حديث جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها
للشيطان» [22] ، وبعض الناس لو رأى رجلاً يلعق أصابعه بعد الطعام أو يلعق
الصحفة لاستقذر ذلك منه وعدها عادة سيئة، وطريقة رجعية!
أسباب هذه الغربة:
أولاً: الجهل بالسنن: فكما قيل: الإنسان عدو ما يجهل، فينشأ المسلم على
أنها سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم فإذا جاء من يحيي السنة قابله
بالإنكار، ورماه بالجهل والبوار. قال الشاطبي رحمه الله: «سبب الخروج عن
السنة الجهل بها والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على
صاحب السنة أنه غير صاحبها ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله» [23] .
ويقول ابن القيم رحمه الله: «قد غلب الشرك على أكثر النفوس لظهور
الجهل، وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة،
والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام،
واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء، ولكن مع هذا لا تزال
طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، لأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن
يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين» [24] .
وقال محمد بن الفضل البلخي: «ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما
يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من
التعلم» [25] .
ثانياً: التعصب المذهبي: قد يؤدي التعصب للمذهب إلى مخالفة سنة النبي
صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة كثيرة على ذلك [26]
وقد بلغ الأمر في ذلك إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً كبعض
الحنفية حينما أحرج في مسألة رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه،
وذكرت له الأحاديث الصحيحة التي قد تصل إلى درجة التواتر في هذا، وضع
على النبي صلى الله عليه وسلم في عدم رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه،
كل هذا لينتصر لمسألة فقهية، نعوذ بالله من الزلل [27] .
ثالثاً: الانبهار بحضارة الغرب الكافر: أدى هذا السبب إلى ترك بعض
السنن النبوية، وخاصة في هذا الزمن الذي غزا الإعلام الغربي ديار الإسلام
وهيمن عليها، فأصبح يصور للناس أن ما خالف حضارتهم يعد تخلفاً ورجعية،
وتقهقراً ووحشية، ورجوعاً إلى العصور الحجرية، فإذا بفئام من الناس تستحي أن
تطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يوصموا بهذه الصفات، ولذلك
تلحظ عندما يذهب بعض المسلمين إلى ديار الكفر أن بعضهم يتخلى عن بعض
معالم دينه، فإذا بالمرأة مثلاً تدع حجابها، وإذا بالرجل أحياناً يتخلف عن أداء
الصلوات، ويستحي من رفع الأذان في المطارات أو في أماكن عامة كالحدائق
والمنتزهات. والله المستعان.
رابعاً: عدم تعظيم السنة في القلوب: ولذلك يسأل كثير من الناس عن العمل
الذي توجهه إليه: هل هو سنة أم واجب؟ فإذا قلت: سنة. قال: الأمر يسير،
والدين يسر، والله تعالى غفور رحيم. وهكذا يتساهل بسنة النبي صلى الله عليه
وسلم حتى تنعدم بين الناس ويعد من يفعلها غريباً.
خامساً: خوف العجب والشهرة: فبعض الناس قد يترك السنة في زمن
الغربة خوفاً من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة المنهي عنها! فكأنه
يقول: أترك السنة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب [28] ! وهذا لا
شك خطأ فادح؛ فلو قلنا به لتُرِكَ كثير من الأحكام الشرعية بحجة خوف العجب
والشهرة؛ وكما قيل: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك.
سادساً: عدم وجود من يعمل بها: فيخشى من يطبقها الإنكار عليه، وقد
أشار إلى هذا المعنى الإمام الشاطبي حينما قال: «كان بعضهم تسرد عليه
الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام، فلا يجد له معتصماً إلا
أن يقول: هذا لم يقل به أحد من العلماء» [29] .
ثمرات التمسك بالسنة في زمن الغربة:
أولاً: دخول الجنة: فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي» قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال:
«من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» [30] .
ثانياً: مضاعفة الأجر والثواب: روى الترمذي وغيره عن أبي أمية الشعباني
قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟
قلت: قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كَنتُمْ تَعْمَلُونَ] (المائدة: 105) قال:
أما والله لقد سألتَ عنها خبيراً؛ سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً،
وهوى متبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك،
ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل
فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم» . قال عبد الله بن المبارك:
وزادني غير عتبة: قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل
أجر خمسين منكم» [31] .
ثالثاً: أنه لا يُخاف عليه من سوء الخاتمة: من استقام على سنة النبي صلى
الله عليه وسلم فإنه لا يُخاف عليه من أن تختم له خاتمة سيئة. يقول عبد الحق
الإشبيلي رحمه الله: «إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه،
ما سُمِعَ بهذا قَطُّ، ولا عُلمَ به، والحمد لله، وإنما يكون لمن كان له فساد في
العقل، وإصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، أو لمن كان مستقيماً ثم يتغير
عن حاله، ويخرج عن سننه ويأخذ في غير طريقه، فيكون عمله ذلك سبباً لسوء
خاتمته، وشؤم عاقبته والعياذ بالله، قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) [32] .
رابعاً: ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه: روى مسلم في صحيحه عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» بدأ الإسلام غريباً
وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء « [33] .
وعن عبد الرحمن بن سَنَّة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:» بدأ
الإسلام غريباً ثم يعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله ومن
الغرباء؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس» [34] . وفي حديث آخر بلفظ:
«قيل: ومَن الغرباء؟ قال: النُّزَّاع من القبائل» [35] .
خامساً: الهداية والتوفيق: قال تعالى: [وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا]
(النور: 54) ، وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال: «من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى
بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى،
ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم،
ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم» [36] . فتأمل كيف جعل ترك السنة ضلالة! فإذن
التمسك بها هداية وسعادة.
سادساً: قوة الفراسة، والنطق بالحكمة: قال أبو عثمان الحيري [37] : «من
أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على
نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالبدعة، قال الله تعالى: [وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا]
(النور: 54) » [38] ، وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران الجنيد: «من
ألزم نفسه آداب السنة، نورَّ الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة
الحبيب صلى الله عليه وسلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه» [39] ، وقال شاه
الكرماني: «من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات،
وعمَّر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة، وعوَّد نفسه أكل الحلال، لم
تخطئ له فراسة» [40] .
دورنا في إحياء السنن:
أخي القارئ: يبقى علينا تجاه سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: ماذا نفعل لها؟
وما دورنا؟
أولاً: أن نحيي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بنشر العلم بين الناس
وتطبيقها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة
فعُمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن
سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا
ينقص من أوزارهم شيء» [41] .
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: «قوله صلى الله عليه وسلم:
(من سن سنة حسنة) ، (ومن سن سنة سيئة) الحديث؛ وفي الحديث الآخر:
(من دعا إلى الهدى) ، (ومن دعا إلى الضلالة) . هذان الحديثان صريحان في
الحث على استحباب سن الأمور الحسنة، وتحريم سن الأمور السيئة، وأن من سن
سنة حسنة كان له مثل أجر من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان
عليه مثل وزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له
مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى
والضلالة هو الذي ابتدأه، أم كان مسبوقاً إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم، أو
عبادة، أو أدباً، أو غير ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: (فعمل بها بعده) معناه:
إن سنها؛ سواء كان العمل في حياته أو بعد موته. والله أعلم» ، وقال عبد الله
ابن الحسن: قلت للوليد بن مسلم: ما إظهار العلم؟ قال: إظهار السنة، إظهار
السنة [42] .
ثانياً: ترهيب الناس من مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتذكيرهم
بذلك: روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن نفراً من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن
عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم.
وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه، فقال: «ما بال أقوام
قالوا كذا وكذا؟ ! لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن
رغب عن سنتي فليس مني» [43] .
ثالثاً: أن نبين للناس أن الأعمال لا تُقبل إلا إذا وافقت سنة النبي صلى الله
عليه وسلم: لِمَا جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو
رد» [44] ، وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ،
قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: «هذا الحديث قاعدة عظيمة من
قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل
البدع والمخترعات، وفي الرواية الثانية زيادة وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في
بدعة سبق إليها، فإذا احتج عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئاً، فيحتج
عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو
سُبق بإحداثها، وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات،
وإشاعة الاستدلال به» .
رابعاً: أن يبين للناس أن المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم تقتضي متابعته:
قال تعالى: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (آل عمران: 31) ، قال ابن كثير رحمه الله: «هذه الآية
الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه
كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في
جميع أقواله وأفعاله وأحواله» [45] .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.